كأنها لم تكن على الأرض في سابق الزمان. شَعرها طال كثيراً.وثمة نظرات باردة تتلألأ بالعينين. وجسم غُطي بتنوره قصيرة من الإستبرق مع قميص شبيه بالغيوم .وبدلاً من الحقيبة اليدوية،كانت تمسكُ بكتاب الزمان الضيق ،نجدةً لرغبة ما تزال تكبس على نفسها،كما تفعل الشمسُ بحرارتها على صفحات الأرض.
لم نتعرف عليها في اللحظات الأولى من تلك المتابعة،ولكننا ،وبعد التدقيق والبحلقة التي أخذت وقتاً طويلاً، توصلنا بشق الأنفس إلى نقطة الاتفاق ،بأن المرأة تلك ،ليست إلا الشاعرة السورية سنية صالح صاحبة حبر الإعدام.
وما أن تأكدنا من وجودها في ذلك المكان،حتى هَرَعنا خلفها لعرض فكرة هذا الحوار عليها،لكننا لم نلحق بها لتنفيذ ما كنا بصدده. لذلك حاولنا معرفة اتجاهها ،لكنها سرعان ما أوقفت طائراً شبيهاً بالنعام،سرعان ما امتطتهُ ،ليمضي بها بعيداً، فيما كانت هي تغني على ظهره بصوتها المتهدج أغنيةً شعبية لم نلتقط منها سوى إيقاعها الموسيقي، ربما كان الريش يتطاير خلف ذلك الحيوان.
لم يكن أمامنا إلا أن نفعل الشيء نفسه، استوقفنا طيراً من موديل آخر،وقمنا بالمطاردة ،للحاق بها بعد أن اجتازت جسر (الأفاعي الزرقاء)، حيث تمكّنا منها لإجراء هذا الحوار الذي فضلت الشاعرة أن يكون مُسجلاً بالصوت وعلى الورق.
وافقنا على الشرط.ولكنها سرعان ما تراجعت عن الموافقة ،تحت ذريعة أنها متألمة من وجع بقدمها الأيسر،ولأنها أيضاً، كانت مرتبطة بموعد حفل زفاف الشاعرة الخنساء المعقود قرانها على الشاعر الفرنسي جاك بريفير منذ سنوات.
آنذاك وافقت سنية صالح على دعوتنا لحضور فرح الخنساء.وسرعان ما وجدنا الأسئلة تتحرك في هذا الحوار مع حركة الأقدام التي كانت تذهب بنا صوب ذلك الاحتفال.وفي البدء قلنا لها:
س/الزمان الضيق:هل كان عنواناً على غلاف أم جرحاً في جسد؟
ج/ربما هما الاثنان معاً .فقد سبق وأن لبستُ الزمن لبوساً ،فكان فستاناً ضيقاً على روح كانت تطير من داخلي مبتعدة عني نحو أفق لم يكن منظوراً بالنسبة لي في بداية الوجد الشعري . وكذلك فهو عنوانٌ لجرح في جسدي.
س/هل كنت بروح واحدة مثلاً؟
ج/عشتُ بأرواح متعددة،وكلها ذهبت مع الريح.
س/نتيجة وجود سياط القسوة؟
ج/تماماً.فأنا خرجت من الرحم الأول ،لأتحمل مشقات ما كانت الأرحامُ تنتجه من قبل وجودي في ذلك العالم الذي ولدت على ترابه.كل شيء كان متورماً بنوع من الآلام.
س/هل كنت تدركين تلك الآلام بوعي سياسي أم بوعي بيولوجي محض؟
ج/أنا ولدت سمكةً في حوض من الكآبة.
لذلك كان الماء في الحوض أو الأكواريوم القديم، ليس مالحاً وحسب،وإنما ساماً إلى درجة ما. أعني إلى درجة تمنع السّمَ أن يفعل بالجسد فعلتهُ فيقتل.
من هناك يمكن القول، بأنني وجدت نفسي خليطاً إيديولوجيا بيولوجياً مشتركاً ، أراد أن يجد لنفسه موطئ قدم على تلك الأرض.
س/وهل وجدتْ الشاعرة سنية صالح تلك البقعة من التراب؟
ج/نعم.ولكنها كانت ضيقة على قدمي.
س/هذا كلام كبير على شاعرة لم يتفق النقاد على وزن أو أهمية معادنها الشعرية في تربة اللغة العربية.فكيف كانت الأرض ضيقة على قدمك؟!
ج/منذ كتاباتي الشعرية الأولى،حاولت الاستغناء عن النقاد أو العمل النقدي ،لأستطيع التشكل مع الشعر ومع نفسي أولاً وقبل كل شيء آخر.
س/ربما يمكن القول بأننا لا نعتقد بذلك. فلقد تجمهر حول سنية صالح أكوامٌ من النقاد في بيروت. ومن خلال نوافذهم وأبواقهم ومصطلحاتهم برزت سنية كزهرة شعرية متوحشة الآلام.هل كان كل ذلك محاباة للشاعر الزوج محمد الماغوط .ما رأيك؟
ج/ لا استطيع حذف الماغوط من حياتي الشعرية أبداً،فهو من أهم عناصر طيراني اللغوي صورة تشكيلاً وأبعاداً إيديولوجية .إلا أنني كنت من أهم مصادر بناء قصائده ومكوناتها.لم أكن ملهمته كما يحاول البعض التعريج على ذلك،ولكنني كنت رحم تلك القصائد الجميلة والعملاقة التي سرعان ما تدهورت بعد موتي لتموت كما في كتبه الأخيرة التي لا يصح أن تلصق بتاريخ الماغوط الشعري كما كان هو في كتبه الثلاثة:
سياف الزهور
شرق عدن غرب الله
البدوي الأحمر
س/ولكن قد يكون التردي الذي لاحق الشاعر الماغوط في مؤلفاته الأخيرة ، بسبب الشيخوخة ليس إلا ،وليس بسبب غيابك؟!!
ج/كان الماغوط كحولياً (يقفش) الصور العابرة للخيال، بينما أنا ،فقد كنت أتكفل بإنتاجها شعرياً على مستوى طبخها بـ ((بهارات) القاع والأرصفة والسعال والتشرد والخيانة والتذمر واليأس، حتى وإن كان هو في أعلى مراتب بهجته السوداء غير القاتلة.
بعد موتي،أرسلت لمحمد أكثر من رسالة ، دعوته فيها للتوقف عن نشر ما كان يكتبه في أثناء غيابي،ولكنه لم يقرأ تلك الأيميلات .كان مشغوفاً باسترجاع أيام البطالة والكسل والكحول والسعال والانعزالية المتوحشة التي أصيب بها جراء السجون والملاحقات والتخفي التي مرّ بها في حياته.
س/ هل يعتمدُ قولك هذا على جواب الماغوط على سؤال من أسئلة الصحفية والشاعرة وفاء كمال في حوار كان قد أجرته معه لمجلة (بيروت المساء) اللبنانية ،عندما سألته:
مهما حاول الإنسان الانسلاخ عما حوله،فإنه يظل مرتبطاً بماضيه وحاضره ومستقبله.فلماذا تخفي حزنك على الماضي وعلى زوجتك المرحومة الشاعرة سنية صالح .ولماذا تخفي قلقك على المستقبل؟
فأجابها الماغوط معترفاً بقوله في الحوار المنشور في مجلة بيروت المساء اللبنانية بتاريخ 6 تموز عام 1987قائلاً :
كلمة مرحومة تذكرني بالقبر والمشيعين وأمسيات التعزية مثلها مثل أي ميت آخر.لكن سنية لم تكن ميتة في يوم من الأيام بالنسبة لي ،فقد كانت قارئتي الأولى ومعلمتي الأولى في الشعر.ومن المؤلم أن النقاد لم يأتوا على ذكرها في مسار الشعر العربي المعاصر أكثر مما يأتي الملحدون على ذكر الله.*
ج/ يمكنك الاستنتاج من ذلك بنفسك ،كأن تعتبر ذلك تكريماً لي من باب التعزية أو من باب التخلص من الإحساس الذنب.
س/ولكنه كتب شعراً قبل تعرفه عليكِ !!
ج/قد يكون ذلك خطأه التاريخي ليس إلا .
س/في شعر سنية صالح مقابر متناثرة..هل كان جميع سكان تلك القبور من معارفكِ ؟
ج/لم أعتبر الشعر يوماً إلا مقبرة بفم فاغر ودون أسنان ،ليس لاحتواء قطع غيار الجسد وحدها،بل لدفن اللغة التي لم تنقذ أحداً يوماً ،لا شاعراً مهماً مثل رامبو ولا راعيا من الرعيان الذين يجوبون الحقول والصحارى بقطعانهم بحثاً عن الكلأ.
س/ هل الشعر في الخلاصة:مقبرة؟!!
ج/ نعم.تلك هي إرادة الروح التي عادةً ما أغني معها نوعاً من ذلك الطرب السرّي ،بعدها أتعب محتضنةً الليل ،لأنام معه على وسادة من حجر.
س/أحس بأن ثمة نسبة عالية من الرطوبة الكافكوية في مخزونك المعرفي الداخلي.هل هو بفعل التأثر أم بفعل التجربة؟
ج/قرأت كافكا بقرف،ثم ما لبثت أن أبعدت كتبهُ عني، لاستأثر بنفسي كغبار يخرج مما كان يتفتت بين رحى طواحيني التي كانت تعمل دون توقف.
س/هل كان الماغوط مصدر كل تلك الآلام التي كانت تتصارعُ وتتفتتُ في قاع سنية صالح ؟
ج/هو بعضها.
س/كيف؟
ج/ كان محمد حانقاً على العالم بشكل دائم،وسرعان امتدت ظلال ذلك الحنق علىّ ،فنالت مني قسوته .بعبارة أدق:شملني حقده وحنقه،حتى غرقت بمياهه السوداء لفترات مظلمة طويلة على الرغم من قلبه الايجابي في الكثير من الأحايين .
س/بعد انتقالك إلى السموات ،هل اجتمعت بالزوج الماغوط؟
ج/أجل .اجتمعتُ به ،ولكنه فضل عدم التعرف علىّ متنكراً حصول زواج بيني وبينه. وعندما حاولت تذكيره بابنتيه (سلاف وشام) قال عنهما :أنهما نجمتان يهديانه لقراءة ما على الأرض من ياسمين وحوادث وشعر حديث.
س/ولم يقم بلمّ شملكِ زوجة كانت له، أو يدعوك إلى فنجان قهوة أو كأس في أحد هذه الأمكنة الفاخرة؟
ج/بالعكس .تكلم معي بلغة ترابية باردة،وأخبرني بأنه خرج من سجنين كانا بحياته في سوريا:سجن المزة وسجن سنية.بعدها أطلق ضحكةً لم أعهدها عنده من قبل،ثم اختفى بين الأعشاب التي كانت في ذلك الساحل.
س/كأن الشاعرة سنية صالح تحاولُ الانتقام من الزوج الماغوط ؟!!
ج/لست في ذلك الوارد.فأنا هنا بلا تلك الحيوانات السرطانية.لذلك تراني أجلس في هذا الجناح المخصص لي مع العنادل ،وكلما شعرت بتنمل يجتاح يدي،أفتح خطاً هاتفياً مع من تركتهم يتعذبون من أجلي على الأرض الأولى.
س/اشعر بأنك تحاولين الانتقام من البعل القديم!
ج/ لا .فبقدر ما حطمني في الزمن القديم،فأنا لا أملك الرغبة بتحطيم تمثاله هنا أو هناك. ولا بعبادته كقديس خالٍ من الذنوب والخطايا.
س/قد يكون أدونيس وراء تلك القسوة التي تطبعت بها روح الماغوط هنا. هل تعتقدين بشيء من ذلك القبيل ؟
ج/ أنا لا أجد حرجاً بالإعلان عن أن شعري كان مستفزاً للماغوط وسواه من شعراء الرعيل الأول لقصيدة النثر في العالم العربي .
ولكنني في الواقع الشمولي العام،كنت امرأة سميكة الأحلام،سرعان ما استعملت كل ما لديها من طاقات حطباً لتدفئة الآخرين.
س/هل مرّت الشاعرة سنية صالح بتجربة السجن كعاشقة أم كسياسية؟
ج/ أنت تذكرني بأولى أحجار الجحيم التي يبني المعذبون بها منازلهم في الوجود الإنساني. ماذا يمكنني القول ،غير أن الحبّ كان من أولى علامات السجن كوجود.
س/هل سبق وأن خُدعت بفكرة أن يكون الشيطان أقوى من الشاعر بتأليف القصائد وتخريب حياته الخاصة ؟
ج/عندما كنت ألجأ إلى نفسي في البيت،سرعان ما تولد في بدني صحراء واسعة،أقوم فجأة بالركض على رمالها في محاولة مني للقبض على ذلك السراب .كنت أريد غرس أناملي بجسده الهشّ،ومن ثم القبض عليه للانتهاء من كوابيس السراب التي تفحمت بها أيامي على طول التاريخ .
س/ولماذا كان على سنية أن تفعل ذلك دون شيء آخر.
ج/لأنني كنت أقوم بسقاية قصائدي بتلك المياه الوهمية التي لم تُنبت غير الأشباح في أعماق الورق الذي كنت أستعمله في الكتابة.
س/هل حدثت تلك الكوابيس معك في أثناء كتابتك للقصص أيضاً؟
ج/نعم.طالما حدث الشيء نفسه معي وأنا أكتب تلك القصص .
س/وكنت تؤمنين بالسحر والشيطنائيات على سبيل المثال؟!
ج/لم أكن أؤمن بذلك،لأنني كنت جزءاً من السحر .هل تصدق فيما لو أخبرتك بأن سنية صالح كانت تمارس بعض الألعاب وبعض الأدوار مع الشياطين والجِنّ!!
لقد تعمقت كثيراً بتلك الطقوس ،وهو ما تسبب بحدوث الكثير من المشكلات مع محمد الماغوط الذي كان يتعايش مع جِّنياته اللاتي سرعان ما يتخلص منهنّ بمجرد الانتهاء من كتابة لقطاته الشعرية وتسطير جمله الهاربة منه إلى أرصفة ،عادة ما كان يتصورُ الشياطين تتسكع عليها قبيل دخولها بارا من البارات.
س/وهل بسبب كل هذا ظهر التوحش والوحشية على البناء العام لمجمل قصائدك؟
ج/ لست وحدي من تمتع بتلك الوحشية في شعره أو في قصصه أو رواياته أو لوحاته التشكيلية،كان المبدعون مثلما هم الآن على تلك الأرض،جزءاً من حالة الفصام مع السعادة والفرح.فهؤلاء ينتمون إلى العزلة.إلى العذابات المتدفقة عليهم من كل حدب وصوب.
بعبارة أدق:كنت مع جيلي في مجرى الوحش الذي يوزع على الشعوب الماء والكلأ والصمت والموت باعتباره السماد الذي يليق بجميع مكونات الآداب والفنون عند السلاطين العرب.
س/ما الذي تفعلينه الآن هنا ؟
ج/أنتظر قطار الثانية لينقلني إلى جبال التأملات في السماء الثانية.
س/تتأملين أم تفكرين ؟
ج/أنا ذاهبة لأتأمل (سلاف وشام) ليس إلا.فهما البنتان الوحيدتان قدرة على طرد الذعر من أعماق صدري حتى في هذه الأمكنة الغريبة.
س/ومحمد الماغوط. هل عثرت عليه هنا؟ بل وهل ما زال بعلاً ؟
ج/هنا تنتفي شروط ((البعلنة)) الزوجية، لتحلّ مكانها نظرية عدم الولاء للمفاهيم والعادات والتقاليد القديمة. فبمجرد وصول المرأة إلى هنا، حتى تتحول إلى نسخة من الحور العين.بعدها تبدأ الاحتفالات بتوزيع النساء والكؤوس…
س هل ثمة ما يقلق في هذه المناطق ؟
ج/يمكنني القول بأن القلوبَ الذكورية،هي هي. ما زالت تتمتع بميزاتها القديمة ،وكأن رجال الأرض هم أنفسهم رجال السموات مع الأسف.
غالبيتهم،لم تكرّس عقولها للكتب المقدسة، ولم تعط للأنبياء الآذن الصاغية. ما زالوا وحوش جنس وملذات فقط.
بالأمس استوقفت الكاتبة سيمون دي بوفوار وهي في طريقها إلى حقول الينسون المنتشرة في المنطقة المنفرجة على البحر الصامت، وسألتها عن المصيدة الحديدية التي كانت تحملها بيدها ..فأخبرتني بأنها ترغب باصطياد صديقها الفرنسي جان بول سارتر،بعد أن تعرفت على دار نشر يريد أن يطبع له مؤلفاً جديداً،يتحدث فيه عن عطر جسدي .تصوري أنه أسماني بـ ((أم العطر الفاسد)) !!
س/لابد أن سيمون دفعتك إلى التفكير بالانتقام من خيانات أحد ما . هل سيخطر على بالك يوماً استعمال حبر الإعدام ضد الماغوط على سبيل المثال؟
ج/ الماغوط لا ينفع معه حبر ولا سم. هو شاعر تمت صياغة جسمه بطريقة عجيبة.ولا أظن بأنه لا يتحمل ما أفعله به من عقوبات فيما لو قررت ذلك مستقبلاً .
س/ولكنه حرٌّ عند الربّ الآن؟
ج/سأقوم بمحاكمته فرضياً ،فيما لو استعصى عليّ وجوده بين هاتين اليدين مرة ثانية بعد الموت.
س/كأنك تستمرين بلباس المرأة التي ولدت وماتت من أجل الحفاظ على هشاشتها أمام الرجل؟!! هل يحدث معك هذا الشيء في الآخرة هنا ، أي بعد تحرر سنية من ديكتاتوريات الشرق البعيد ؟
ج/يمكنك اعتبار سنية صالح مجموعة شرايين وأوردة تقطعت على مراحل من تلك الحياة،لتنشدّ لبنات جنسها من المضطهدات بكل ما تملك من تدفق، حتى لو كان ذلك تدفقاً صورياً.
فالمهم أنني شاعرة معادية لهشاشة العظام في جسد المرأة وعقلها الذي ما يزال الماكياج فيه أكثر وزناً من المعارف.
س/ولكن الديانات في عمومها ،ربما لا تريد من المرأة إلا أن تكون رحماً رطباً وسريراً دافئاً وفماً مغلقاً لا يستجيب إلا لنداءات الذكور!!
ج/ هل تريد توريطي بتعذيب مشابه لما وقع لي على تلك الأرض؟
أنا هنا بحاجة لمنظفات الآلام أولاً،وقبل الخوض بموضوع الأديان.فما من ملاك في هذا المكان ويشعر بالفراغ.الجميع يتقدمون خطوة خطوة للامتلاء بمواد التاريخ السماوي الجديد.ونحن النساء قد تدفعنا أقدارُنا إلى التَحوّل البيولوجي السريع،للانضمام إلى جنس الرجال أو ندخل المختبر الإلهي لإعادة إنتاجنا أو تكريره من جديد،كي نصلح للانخراط إلى سلك الحور العين أو إلى أي نوع آخر من مراتب الملائكة أو الشياطين .
س/ هل تمارسين الكتابة الآن؟
ج/أحاول الانصهار بكل الطقوس الهائلة في هذه العوالم .هذا كل ما يمكنني قوله.ثم أنني بحاجة إلى أدوات جديدة تلبي طموحاتي هنا.
س/ورقة وقلم مثلاً؟
ج/ ليس قبل الحب .فقد لا تعرف المرأة الكتابة أو الاقتراب من الأقلام والأوراق دون ذلك العطر الذي يسبق الأنثى إلى التأليف.عكس الرجل الذي ربما يستطيع،أو يقدر على كتابة ديوان من الشعر الغرامي الرومانسي،وهو يتنقل كالديك من قن امرأة إلى أخرى.
س/تكتب عنك شقيقتك خالدة سعيد:
( في شعر سنية صالح عالم معطوب ورؤيا جامحة ، حتى أنها قادرة في توترها على الضحك وقادرة على التشعث . في شعرها فوران سديم وأحشاء غاضبة وخيال طفولي . أقول هذا لمجرد التوكيد ، مرة ثانية ، على اختلاف هذا الشعر وجدته وخصوصيته دون أي استهانة بما عداه . إنها من هؤلاء الشعراء الذين الشعر عندهم كالأمومة ، فعل وجود . وهي ألقت بكيانها في الشعر . كان فعلها السياسي والعاطفي وكان حربها وصراخ جسدها وروحها . كان ثأرها وخشبة الخلاص . هو شعر على حدة لا يشبه أحدا وليس منضويا في تيار . شعر لحزن مستوحش ينبجس من الجوهر الأنثوي الخالق المطعون المسحوق عبر التاريخ . شعر هو صيحة جسد الأنثى نبع الحياة ، الجسد الذي عبر فوقه الأباطرة والبطاركة .. وكل ذي سلطان . ولسجنه واستغلاله وحتى تشويهه ووصمه بالنجاسة أو الخطيئة غيّروا حكمة الطبيعة وجيّروا كلام الشرائع . هذا الشعر بقدر ما ينشد حكاية المغدورين يتقدم كصيحة للجسد الذي انتهى بين المباضع وأسرة المشافي)
س/ هل أنتِ كل هذا الفيض الجهنمي يا سنية؟
ج/خالدة تكتب بأدواتها النقدية الرتيبة التي تمسكت بها منذ زمن طويل،دون أي تحديث.
هناك أسماء محددة تدورُ أفكارُها حولهم ،وكأنها تحاول إنقاذ كتاباتهم من التلف ،ومن ثم لتحرير كتبهم مما علق بها من رداءة وسوء وانحدار. بعبارة أدق:خالدة مُستلبة من الكلاسيكيات ،وتزج بنفسها في مجرى حداثة العصر حسب الطقوس والبرمجة النقدية .
وعندما تكتب عني أختي ،فربما لأنها تريد التكفير عن ذنب قديم ،كانت قد ارتكبته بحق العائلة، حينما قامت بدفن اسم شجرة «صالح» لتنضم إلى عائلة سعيد –تابعية بعلها – علي أحمد سعيد إسبر.
س/ ولمَ تجدين في ذلك نقصاَ ؟!
لماذا لا تعتبرين ما فعلته خالدة حبّاً زوجياً ،دفعها للانفصال عن شجرة عائلتها والانضمام إلى العائلة الأكثر شهرة وتوهجاً وغرابةً وعشقاً -عائلة أدونيس- ؟؟!!
ج/الحبُّ عند الكتّاب والأدباء والبالغين ثقافياً، لا يعني الاستلاب .كما لا يدعو إلى السقوط في عقدة النقص.
المهم أن السيدة خالدة ،لم تر بي غير تلك الأنثى التي توحش حزنُها،فراح بالتهام لحمها وأعشابها ونصوصها وثيابها،وكأن أسطوانة غاز انفجرت بوجهي في مطبخ البيت ،فأحالتني قوتها الضاربة إلى كومة رماد يثير الشفقة .
س/طيب. إذا كانت نصوصك على الأرض منتجة ً لكل تلك الآلام هناك ،فما الذي استجد هنا. هل ما زلت تواصلين البكاء والخراب النفسي على أيام الأرض المثقلة بثياب الأسى الحارق؟
ج/ أنا أنتظر تركيب قلب جديد لجسدي.وبمجرد أن أحصل على ذلك ،سأتخذ المزيد من الخطوات الجريئة.سأقلب حياتي رأساً على عقب ،وأكون الـ ((سنا )) بذاته، خارج المصابيح المعتادة التي كنت أمر تحت أعمدتها في ذلك الزمن القديم.
س/ وماذا لو جاء إليكِ أحدهم بمرآة ضخمة ، وترككِ تنظرين بها إلى نفسك في هذه اللحظة،ما الذي ترينه على زجاجها ؟
ج/ لكنت قد رأيت صورة سنية في خط الهجوم.
كتابة وحوار: أسعد الجبوري