في عالم الأبراج يدور الفلك وتبقى النجوم المزدانة بلمعانها معلقة في عتمة السماء لتتعلق معها قلوب الملايين من ذوي الإحساس النابض بالحياة في هذا العالم السرمدي المترامي الأطراف والذي يشبه الوهم الضاج بغربة الترحال إلى المجهول في نهايات أخرى…!
لم أكن أؤمن بعلم الأبراج ولا بقراءة الطالع والكف والقدم ولا حتى بمجرد محاولة فك شفرة بعض الوجوه المبهمة ذات الإيماءات الغارقة بالغموض والتي تلاحقني بنظراتها الحارقة باستغراب بين الفينة والأخرى حيث لم يعد للفراسة مكان في أجندة حساباتي اليومية المثقلة بأتعاب عمل مضنية، فقط كل ما أعرفه اليوم أنني قابلت بصارة غجرية عجوز في إحدى الليالي البيروتية الصاخبة كانت تفترش الرصيف عند مدخل الفندق الصامد بهيئته المتهالكة والمحاذي للطرف الآخر البعيد مقابل صخرة الروشة التي ما زالت تطفو بدلعٍ حثيث على الشاطئ الفينيقي القديم هناك .
ساعتها قالت لي وبهمسٍ مسحور :
– ستصبح ذا شانٍ عظيم!
انتظرت طويلاً وما بت أتحين قدوم هذا الشأن في كل لحظة من حياتي والذي سيجعلني عظيماً يوماً ما؟!
في لحظات السكون يحلق بي الفضول إلى البحث عن هذا الشأن الموعود نحو الأعالي الشاهقة لأنبش عوالم البخت والحظ بحشر أنفي بين قصاصات الصحف المتناثرة حولي يمنةً ويسرة في غرفتي التي تئن من قلة الترتيب على سطح منزلنا الرابض ببؤس مقيت بين جنبات بيوت الجيران الصامتة كالأموات في أطراف شارعنا الكئيب!
دلو.. قوس.. ميزان.. أغوص في أبواب النجوم ونوافذها المفتوحة بأمل ويأس على صفحات جرائد الأمس.. واليوم.. والغد..!
– مرزوق.. تعال التلفون يبيك..!
صوت والدتي المتهدج بحسرة يلاحقني أينما كنت.. أحس بقدميه المتوثبة تصعد درج السطح خطوة خطوة.. لتصل إلى مسمعي مخترقة بإنكسار جدار أُذني الهش..!
أنزل من على عتبات السلم بحذر فمنظره المتهالك يثير في نفسي الرعب.. ويطرح في رأسي عشرات الأسئلة.. والأسئلة..
لماذا لا يصر والدي على إصلاحه..؟!
هل نحن فقراء إلى هذه الدرجة..؟!
أتذكر بحنق سقوطي منه ذات ليلة ساخنة مظلمة حينما انقطع التيار الكهربائي عن حارتنا المنسية فجأة حيث ما زلت أتحسس بعمق مواضع الألم التليد على وجه فخذي الأيسر بآثارها المنحونة كجداريات خالدة بمهارة..!
سند صديقي المزعج هو من كان على الطرف الآخر للهاتف الأثيم.. أعرفه جيداً.. يؤمن بالأبراج وعالمها العجيب إلى حدٍ كبير.. فهو من أسقطنا في وحل خرافاته المتلاحقة.. لقد كان حديث الديوانية وشغلها الشاغل بفضل معتقداته الموغلة بالطلاسم دائماً.. فحبه لمعرفة الغرائبيات بسذاجة كانت محل تندر الجميع وسخريتهم منه أحياناً.. ولكنه وفوق كل ذلك يصر على التمسك بها أكثر وأكثر.. فيا للعجب بحق..!
– هاه.. قريت برجي.. بَشر..؟!
– إيه قريته..!
– هاه.. شنو فيه.. قول خلصني..؟!
– هدوء نسبي.. وفرصة كبيرة لتحقيق أحلامك المستقبلية.. ورقم الحظ ( 3 ).. ومن قدك الحين يا عم.. بس تفاءل طال عمرك ويصير خير إن شاء الله..!
انتهت المكالمة وانطفأ معها سؤال صديقي سند اللاهث خلف إجابات تسبح بشبق في فلك النجوم ودهاليزها الموصدة بسرمدية باهتة.. أعود مرتعشاً بكسلٍ متثاقل إلى حجرتي العلوية أو برجي العاجي كما تحب أن تسميها والدتي في لحظات زعلها الكثيرة علي آنذاك.. الفضول يطرق بسادية بوابة صمتي الكبير مرة أخرى.. ويشتت نظراتي الجائعة دوماً لمعرفة المستحيل هنا وهناك.. أفتش عن برجي الذي نسيت أن أقرأه في هذا الصباح البارد بفتور..!
– الحوت : هموم قليلة ستعكر صفوك في الأيام المقبلة.. عليك بالصبر.. ورقم الحظ ( 7 ).. الله يعينك يا مرزوق.. يبدو أن الفأر بدأ يلعب بعبي فعلاً..!
أشعر برأسي ينكمش.. دوار.. دوخة.. أفقد السيطرة على نفسي.. أمد يدي بحركة لا شعورية صوب كأس الشاي البارد الذي طال وقوفه على المنضدة الخشبية البالية والمثبتة بنزق أمامي.. أرتشف منه قطرة كالحة.. قلبي ينتفض بحرقة ليطرد غبار النوم عن عيني الجافية..!
– أية هموم تلك التي تنتظرني بعد؟!
لقد جربت كل أنواع الهموم المتوفرة هنا بمرارة.. وأحياناً كنت أستورد كمية أخرى من الخارج.. أعيد حساباتي ببطء.. أسترجع ذكرياتي الراحلة.. باحثاً عن مفتاح تلك الخزينة السحرية في صندوق تجاربي القديمة والتي تمعن بإغفال خيالي وتحيل يومي الرتيب إلى سراب مرير.. أخرج من باب غرفتي بثقة عمياء متمنياً أن يكون لي من اسمي نصيب لأول مرة.. ممسكاً بقصاصة الجريدة التي تحمل تفاصيل برجي.. تلك التي تحمل همومي الموعودة بوجل.. أمزقها بطريقة مسعورة بفرح طفولي.. أقطعها إلى أوصال.. وأفتتها إلى قطع صغيرة.. قطعة قطعة.. ونتفة نتفة.. وأرميها بسعادة من أعلى السطح.. تتساقط الأوراق الهزيلة محاولة استجماع قواها بضعفٍ واضح ملحوظ.. تتساقط أمام عيني أكثر وأكثر.. كأنها أوراق مصفرة لشجرة صفصاف تنتحب للتو وقد لفحتها ريح عابرة مجنونة في خريف أيلول المغبر.. تتساقط بوهن مرة أخرى.. وتتساقط همومي العالقة بنكوص على جدران راحتي معها.. وتتساقط الأوراق والهموم متبعثرة في حوش منزلنا الفسيح.. وصوت والدتي الشاحب يصيح بي متذمراً من جديد..!
– انزل من برجك يا مرزوق..؟!
أنزل من على عتبات درج السطح بخطوات سريعة.. أهرب من صوت أمي.. وأسقط متعثراً بهمومي مرة أخرى.. فيما كانت الأوراق تتساقط هي الأخرى أمام عيني مرات ومرات.. وتتساقط.. وتتساقط.. وتتساقط..!