إلى أبي العلاء المعري
ظلامُ هي الدنيا ظلام
أراها بالبصيرة والبنان
أزجرها حين تستيقظ
وأتأملها حين تنام
وكأنني قمر
ينير دجاهاوهو لا يراها
ذهبت إلى بغداد طلباً للعلى
فعدت منها بالأسى
وبما يكفكف دمعتي
وما عيناي إلا ثقبان أبيضان
منهما ينحدر الدمع
وكأنني أصبت بالعمى
من كثرة البكاء في رحم أمي
ولم لا أبكي؟
هل سأخشى من دمعي على بصري؟
لم أملك في هذه الفانية
سوى محراب في معرة النعمان
في الليل مضجع راهب
وفي النهار درس عالم
وأقفلت بابي دون العالمين
سوى لطالب علم
أو أديب ينادم
«أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث»
أغوص في ظلامي وفي حزني وغمي
وحيد أعانيها بغير عيال
فلم يقبل وجهي المجدور غير أمي
حتى شكرت الله على العمى
مثلما شكره المبصرون على البصر
وما جسدي إلا قبر لروحي
أعذبه بالصيام لعله يهلك فتصعد روحي
وببصيرتي رأيت ما خلف الحجب
وجدت الحظ في الدنيا مثل أعمى
يرى بأنامله في الزقاق
يصيب أحدهم فيغنى
ويدفع الباقين إلى الإملاق
وما خيرتني الدنيا لأختار
سوى أن أعاشرها بالطلاق
وما الدنيا إلا قضاء وجبر
وحاكم ومحكوم
وقهر وظلم
وما الموت إلا أعمى بالسيف يضرب
فيقتل من أصاب
ويرجي الناجين إلى حين
وإذا كان طعم الموت مرَاً
فليس أمرَ من طعم الحياة
نشربها حتى الثمالة
ظلما وقهرا وذلاً
وفي قطرتها الأخيرة
نذوقه ويذوقنا الموت
وما الحب إلا أعمى
يغشى القلوب بلا بصر
فإذا أبصر يتحول إلى بغض وحقد
يدَب الموت فينا منذ أن نولد
كما يدَب الدودُ في الأرض
فإذا غشانا نعود مرة أخرى
إلى الأرض والدود
«فخفف الوطء فما أظن أديم الأرض
إلا من هذه الأجساد»
حرمت أكل اللحوم وأكلتم ما نبت
وكل ظلام أغوص فيه
أضيئه بسقط زندي
وما فكرت في أمر عظيم
إلا وفككته تحت ظنوني وشكي
ومن شدة زُهدي في الحياة
زهدت حتى في النشور والحشر
لم أر من الألوان إلا لوناً واحداً
فكأنني في جهنم الحمراء نُشرت
«عللاني فإن بيض الاماني
فنت والظلام ليس بفاني»
آمنت بالله الواحد الأحد
وكفرت بغيره
لم أعبده إلا بعقلي وصومي
خفيف الظل مشكور الخصال
كبير العقل قليل حاسدي
انتظرت موتي دون رجاء
وفاجأني وأنا في السن طاعن
لم يبق تحت أسمالي سوى جلدي وعظمي
فقلت له تأخرت كثيراً
فمرحبا بك يا قاتلي
ارحني من هذا الظلام
وأرحني من سود خواطري
تمنيت أن تحرق جثتي
فلا يبقى بعدي لا قبر ولا لحد
لم أترك ورائي أرملة ولم أترك ولدا
«هذا ما جناه أبي عليَ
وما جنيت على أحد».