أمل المغيزوية
قاصة عمانية
خاض البحر معظم سنين حياته، قبل أربعين عامًا، كان ينتظر الصباح بفارغ الصبر؛ ليجهز قاربه؛ وليحمل التمر في طاسة صغيرة، وبعدها يتأكد من وجود الماء، ومن جاهزية عدة صيده، وينطلق ليمتزج بالأمواج من حوله، لم تتغير علاقته بالبحر صيفًا ولا شتاءً، فحين تبدأ بوادر الصيف والحرارة كان يخفف من عدد تلك الثياب التي يضعها شتاء لتحمي جسده الهزيل.
ألِف البحر واندمج معه اندماجًا كليًا، كم تخيل نفسه نورسًا يحلّق دون توقف في جماعات متقاربة من بعضها البعض، وكم رأى أنه تحوّل إلى موجة كبيرة تطارد الرمل والأصداف في حركة دؤوبة لا تعرف الكلل.
كان صدره يتسع بحجم البحر الممتد أمام ناظريه، فيشعر بالاعتداد والرفعة، ويغتبط حين تلامس الأمواج أطراف قدميه، كأنها تقدم له تحية من نوع خاص.
لم يشعر بملوحة البحر، رغم تدفقه عدة مرات على وجهه وفي فمه، كان يكتفي بالمضمضة من إناء الماء العذب الذي يحمله معه دائمًا.
أمضى ساعات كثيرة يحدثه ويخاطبه، يثرثر له بمشاكله اليومية، ويخبره بأسرار حياته، عن أطفاله وعن زوجته القاسية، كان يشعر بأن البحر يسمعه ويخفي أسراره بعيدًا عن أعين الفضوليين.
كان يجلس على رماله الناعمة، ويمتزج معها، يضع يديه بين حبيبات ترابه الممزوجة بالماء والأصداف، يتحدث إليها، وتمتزج كلماته بصوت البحر وحركة المد والجزر التي تسير بلا نهاية.
يتذكر تلك الأيام حين تحوّل ماؤه إلى اللون الأحمر، وصدرت عنه رائحة كريهة، لم يثنه ذلك عن القدوم إليه، وجده مريضًا يحتاج إلى العناية، لم يخرج بقاربه، غير أنه جلس يحادثه، ويخفف من أوجاعه، ولم يشعر بالارتياح كما أحس ذلك اليوم حين بدأ اللون الأحمر ينحسر ليعود لونه الأـزرق، وترجع رائحته الطبيعية تملأ الأجواء من حوله.
عاد بقاربه ليشق الموج ويبحث عن رزقه، تنفس بعمق عدة مرات فرحًا وسرورًا بعودة صديقه القديم، وكان الفرح صديقه حين عاد برزق كبير ذلك اليوم من الأسماك المختلفة.
كبر حجم البحر في قلبه بحجم السنوات التي مرت فانتقل من جمع أصدافه واللعب على رماله، إلى مخاطبة نوارسه وأمواجه، والثرثرة اليومية معه دون توقف.
في مرات كثيرة كان يخاطب تلك الأسماك التي تملأ قاربه، عرفها وحفظ أسماءها عن ظهر قلب، كان يرى في عيونها الشفافة ملامح الكون بأسره، ويشاهد في حركتها الانسيابية بين الأمواج جمال الحياة وبهجتها، واستغنى بها عن الكثير من العلاقات الباهتة التي تجمعه ببني جنسه.
سُمي بابن البحر، أول مرة سمع فيها هذا اللقب، حين كان جالسًا فوق رماله يصلح شباكه التي مُزقت، أعجبه اللقب رغم أنه طمس اسمه الحقيقي، وغيّبه لعدة سنوات، فأصبح ملتصقًا بالبحر وأصبح البحر ملتصقًا به.
كل رحلة صيد كان لها حكاية يقصها في داخل روحه قبل أن ينام، يهرب بها من ضوضاء زوجته وأصوات أطفاله، يتذكر تفاصيل الرحلة والأسماك التي التصقت بشباكه، فيعدد بحبور أسماء سمك الهامور والكنعد والجيذر، ويتذكّر أسماك السردين الكثيرة التي ملأت القارب فباع قسمًا منها، وجفف الآخر على بسطة فرشها فوق الرمال.
ما زال يتذكّر سمكة السهوة الكبيرة التي اصطادها، والتي أصبحت حديث الحارة لأسبوع كامل، كانت ضخمة أنهكته حتى استطاع سحبها، حملها بمعية النوارس والأطفال، شعر بزهو كبير يتردد مع أنفاس صدره المتعب.
حلّق في ذلك اليوم كما حلّقت النوارس فوق رأسه، شعر بخفة لم يشعر بها من قبل، ونام وهو يستعيد تفاصيل ذلك الصيد المثير، منى نفسه بصيد أكبر، فالبحر صديقه، وهو يتقن أسراره ومعانيه.
في طفولته تتبع خطى جده، كان يساير خطواته المنبثقة مع خيوط الفجر الأولى، ينصت للأدعية التي يفيض بها لسانه، يراقب حركاته وسكناته، أحب جده، وأحب البحر الذي يعشقه جده.
الحمى التي أصابت جده في تلك الليلة الشتوية لم تزده إلا إصرارًا على ركوب البحر وخوض غماره، جلس بجانب جسد جده المسجى على فراش حالك اللون، كان يتنفس بصعوبة، مد يديه نحوه فسمع صوت البحر والنوارس، وذاق طعم الملح حين قرب يديه المتشققتين من فمه، طفرت دموع ساخنة من عينيه، تبعها نشيج حاد لم يتوقف حين رحل مع الجموع التي نقلت جثمانه الهزيل إلى مقبرة القرية القريبة.
أصبح يجلس في قارب جده لساعات طويلة يبحث فيه عن رائحته، ويعبث بشباكه ليشعر بملمس يديه، حين دخل البحر في أول رحلة كان صخب النوارس طاغيًا على المشهد من حوله كأنها تدعوه للدخول إليه.
تلبسه إحساس بالفخر، ومن بين الأمواج ظهرت له صورة جده وهو يبتسم ويمد ذراعيه كما كان يمدها دائمًا.
اليوم بعد أربعين عامًا من تلك الرحلة الأولى انتابه شعور مبهم لم يستطع تفسيره، شعر بالملح يتسرب إلى جميع خلايا جسده، وبطعم شديد المرارة يمتزج بروحه وقلبه، حين دخل البحر اليوم فقد الإحساس بالزهو والاعتداد الذي كان يرافقه طوال رحلاته الكثيرة والمستمرة، كان صوت النوارس صاخبًا، لمح سواد جسده في أماكن متفرقة إثر الحرارة والشمس، شعر بأن تلك الرمال التي تمتزج بجسده تثير حنقه وغضبه. ركن قاربه بعيدًا، وأدرك بأنه آن الأوان ليضع عصا الترحال والتنقل بين الأمواج والمياه.
نام على الحصير، نظر إلى السماء الزرقاء شاهد سنوات عمره التي انقضت بلمح البصر بين ركوب موجة، وإصلاح شباك، وصيد سمكة، تنهد بصوت مسموع، بدأت موجة من الحرارة تسري في جسده، أحس بثقل ينتابه، وانتقلت تلك الحرارة من صدره إلى جميع كيانه، نهض وهو يترنح، لم يشاهد القارب ولم يركز في الشباك المهملة على الرمال، كان يريد أن يصل إلى البيت بأقصى سرعة؛ ليضع رأسه المتعب على الوسادة في نفس المكان الذي نام فيه جده منذ أربعين عامًا.