ثمة تصور ما حول ماهية الطريق مهما ضاق من الجانبين، ومهما انحرف أو التوى. إنّه التصور الذي يُشبه كتابة القصص تماما. فحيثُ لا يُحتمل التوقف عند إشارة حمراء، لا يُحتمل أيضا إلا المغامرة بإنجاز مشروع الكتابة، وحيث تُبطئنا المطبات في الطريق، يُبطئنا التفكير بمصائر الشخصيات وتوتر الحدث وتصاعده وانضاج التفاصيل على مهل. وحيث يعي أحدنا جيدا أن الطريق الضيق هو الأقل سُلوكا والأكثر انتقادا يعي الكاتب أنّ الكتابة هي أيضا لا تقل عن تلك المشقة بشيء.
رغم هذه المقدمة المُخاتلة “انتبه أمامك دوار”، لا يُمانع القاص العُماني مازن حبيب في مجموعته القصصية الأخيرة “البطاقة الشخصية للعمانيين”، والصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي، لا يمانع مسألة الاستمرار في هذا الطريق، مُدركا أنّه ليس في سباق مهما بدا له ذلك، بل وقد تتركه الكتابة على مُفترقات الاختيار الصعبة، ليُقرر لحظتها ما عليه فعله بدقة، يحصل أيضا أن يُمزق مشروعا أوشك على اتمامه، كما قد يعود من الطريق قبل بلوغ نهايته، فمن يدري لعلها الحكمة والشجاعة من تقوده لذلك.
يبدو ذلك مُقدمة جيدة لدخول عوالم، “البطاقة الشخصية للعُمانيين”، كما تبدو هذه القصة أيضا عنوانا موفقا للمجموعة القصصية بأكملها، لأسباب أبعد من الغرائبية أو المخاتلة التي يمتاز بها العنوان، فهذا العنوان يُحيلنا إلى فكرة الصورة الجاهزة. بدقة أكبر يُحيلنا للصورة الرسمية التي يعرفها من حولنا عنّا، وليس بالضرورة أن تكون نحن واقعيا. فأغلب قصص هذه المجموعة تنهض على هذه اللعبة.. الخشية من “الصورة” والخشية على “الصورة” لدى التورط بكشفها، تلك الصورة التي لا يريد أحدنا أن يخرج منها، لكونها الحيز الآمن والمرآة العاكسة التي تكوّن وجهة نظر الآخرين عنا. ولكن في لحظة ما، لحظة بالغة الحدّة والتوتر، تجتاح هذه الشخصيات الرغبة في التغيير والانقلاب على الصورة.
في قصة “البطاقة الشخصية للعمانيين”، تنتهي البطاقة في اليوم الذي يتصادف مع تاريخ الوفاة. فتاريخ الميلاد هو تاريخ تقريبي وغير حقيقي. أما محل الميلاد فهو صحم، بينما ولد حقيقة في صحار، حيث زرع والده شجرة مانجو قرب المكان الذي باغت الأم فيه المخاض، حتى الاسم في البطاقة لم يكن هو الاسم الحقيقي، بل إنّ الشك وصل إلى فئة الدم المُسجلة. الحقيقة الوحيدة في هذه القصة هي صورة الموت المؤكد.
المذيع في قصة “النبأ الأخير” أراد أن يكشف عن صورته الحقيقية، فقد كان دائما بصورة واحدة ومُحايدة وهو ينقل أخبار الحرب والموت. الصوت الرخيم المتخم بالرزانة والاتزان، ثم قرر فجأة أن يكشف عن وجهٍ آخر لأنّه اكتشف أنّه لم يعد يُشبه نفسه، ولم يعد يناسبه الاختباء وراء صورة مُحايدة، أو وراء اللامبالاة. إنّه يمتلك بعضا من الشجاعة ليكون “هو” لمرة واحدة حتى وهو يعلن عن رغبته بإنهاء حياته. أراد أن يكسر المعتاد عنه: “لا أجيد التعبير عمّا أرغب قوله بسرعة.. لم نعتد أن نقول ما نفكر به دائما من دون تردد”.
وعلى الجانب الآخر من اللعبة، هنالك دائما من يُجابه ظهور الصور الحقيقية عنا، ولذا كان هنالك من يحاول تشويش بث حقيقة المذيع .
في قصة (حياة صغيرة قصيرة) كانت الأمّ تعي مُبكرا، “أنّ الملعب لا يرحم”، ولذا كان لا بد لها أن توقف الزمن عن التقدم، حتى لو كلّف ذلك إنهاء حياة الطفل الصغير بالضغط على أنفه، لكي لا تهزمه صورته وتعذبه كل يوم، فالطفل لم يختر صورته، ولكن صورته كانت مُختلفة عن المُتوقع، صورة تمكثُ وراء ذنبٍ لن يغفره المجتمع ولن يقبله بسهولة، لذا حاولت الأمّ تغيير صورة المستقبل الذي تصورته بإيقاف زمن المولود الجديد، وإيقاف الصورة قبل أن تكبر، وتأخذ سياقات أخرى في المجتمع.
“الحارس”، الذي يعمل في المستشفى، يستعير هو الآخر صورة السُلطة على من يجرؤ على تجاوز شروط الزيارة، فيبتز الحارس النساء ويتفاوض معهنّ ليقترب منهن. ويبتز الرجال ليسمع حججهم وقصصهم رغم تأكده من كونها أكاذيب. بينما هي في حقيقة الأمر، محاولة للتحايل على صورة الحارس، الموظف الصغير، فقد كان أكثر ما يُشعره بالاستياء والضيق، وصفه بالحارس، تلك الكلمة التي تكشفه وتُعريه، ولذا كان يمارس سلطة المنع، مدعيا أنّها النظام وواجب المسؤولية، ويتسلى بالطرف الآخر الذي يتحايل عليه بطرق شتى ليُغذي ذلك الإحساس العميق بامتلاك قرار العبور أو عدمه. لدرجة أنّه بات يتذكر وجوه الزوار أكثر من أي شيء آخر. إلى أن تُعذبه صورة ذلك الوجه الذي يُطارده ولا يتمكن من تذكره. فالوجه الذي استولى عليه، عكس معادلة القوة والضعف. وجه غاضب غضب من يشعر بالظلم، فيقع الحارس في شرك التوقعات، ويُخرجه ذلك الوجه من رتابة صورته وينغص عليه سلطته المتوهمة.
يعيش الرجل في قصة “اليوم الذي انكسرت فيه الشماعة”، خلف صورة زوجته التي ظنت أنّه لن يستطيع تدبير أمره من دونها، لذا كانت تتخذ كل القرارات نيابة عنه، فهي تمتلك الرأي الأرجح في وضع قطع الأثاث، وتترك بصماتها على كل شيء، حتى على الطعام الذي يأخذه معه إلى العمل، وكان دوره الوحيد توفير المادة والانصياع التام للأوامر. الزوجة هي الأخرى لم تكن تلك هي صورتها الحقيقية، ولكن لأنّها كانت تريد أن تغير وجهة نظر أهل زوجها، التي تنظر لها وكأنها امرأة غير مرغوبة. “فقد كانت من بيت غير معروف”، كانت ترغبُ في أن تعزز شعورا في ذهنه قبل أن يعززه هو في ذهنها بأنّه في حاجة ماسة لها.
ولكن انكسرت الصورة عندما انكسرت شمّاعة الملابس، فتحرر من اطار صورته وعلى الرغم من أنّه قرار صغير جدا، قرار بسيط وعادي أن يصف ملابسه في دولابه الخاص. ولكنه كان كفيلا بإخراج صورة جديدة للزوج وأخرى للزوجة. “لقد حلّ اليوم الذي انكسرت فيه الشماعة، ولم يعد يلزمني غيرها قط”47
ولدى قراءة “النص الناقص لرسالة لم ترسل تحكي قصة غير مكتملة”، ينتابنا شعور أوليّ أنّ البطل رجل يرسل رسالة إلى حبيبة بعيدة، ولكننا نكتشف أنّها رسالة من امرأة لأخرى. قتنقلبُ الصورة في أذهاننا وتجبرنا الأسطر الأخيرة على إعادة قراءة النص من جديد، لتعديل الصورة التي توهمناها أولا. يرسم مازن حبيب ملامح وتفاصيل لصورة الحب الذي قد يكبر بين امرأتين، والوسيط المادي لهذا الحب هو تلك الصورة التي تحتفظ فيها احداهما للأخرى، “الصورة التي انثنت أطرافها من فرط لمسها وتحسسها واخفائها في الأظرف وبين صفحات الكتب المخبأة وبين صفحات الكتب المغلقة”، فالبطلة في حديث طويل مع الصورة التي تحتفظ بها لصديقتها، “تبقين صورة منثنية الأطراف في حقيبة مُغلقة لا تفتح مرة أخرى ولا تنظر إليها عينان سوى عينيّ”.
وأظن أنّنا كنا أمام جملٍ من قبيل “أحبكِ بطريقتي وحدي” و “تزيحك الأيام عن عيني وقلبي شيئا فشيئا” و “لم أكن ولن أطالبك بمبادلتي الحبّ”، كانت كفيلة بإثارة الأسئلة ورفع سقف التوقعات عاليا، ولكن جاءت كلمة “مُثلى” التي وُقعتْ بها نهاية الرسالة، لتكسر ذلك الحدس، لنُصبح فجأة أمام صورة أحادية لا تقبل المزيد من التأويل!
بينما “الرجل الذي تجرّد من ذاته”، يخشى أن لا يُفهم وجهه الآخر على النحو الذي استطاع هذا الوجه أن يفعل. فهو يحمل في داخله ما لا يمتُ بصلة إلى ظاهره، حيث لا يجد نفسه إلا مسجونا فيه. وهنا يغدو “التعري” المادي بالنسبة له حلا جيدا للتملص من الصورة الخارجية لصالح الصورة الجوانية.
في قصة “عفاف هي عفيفة”، يُلاحق الأب صورة نمطية للعفة كما يراها هو، وكما يتهيأ له، ولكن ابنته التي يُحب والتي فلتر عرسانها ليحصل على أفضلهم، كانت تمتلك صورة أخرى للعفة غير التي يظن، بل إنّ العفة كانت تتجلى في صورة بالغة الخدش بالنسبة لأبيها.
ونجدُ أنّ الصورة تقفُ إزاء الصورة الأخرى في قصة “عصافير”. صورة الراوي وهو يستعيد نفسه طفلا، يمشي بحذاء جديد، فيهتز جسده ويقعُ بثقله على الطير. هذه الاستعادة للصورة الممتلئة بالإحساس بالندم والحزن، ستتضمن بالتأكيد الكثير من الخيانة والزيف للصورة الحقيقية التي وقعت في الطفولة الأولى، وهي لن تكون أبدا طبق الأصل منها.. ولكنها نسخا أقلّ جودة منها.
من الملاحظ أنّ مازن حبيب عبر هذه المجموعة يقدمُ لنا غالبا شخصيات جسورة، قادرة على أن تنقلب على الصورة. بل إنّ هذه الشخصيات بطريقة أو بأخرى هي على دراية ووعي بصورتها الراهنة التي ترفضها ولا تشعر بانسجام حقيقي معها ولذا تغدو رغبتها بالتغيير، حادّة وشرسة كأن يموت البطل مثلا في قصة “البطاقة الشخصية للعمانيين”، أو عبر أفعال صغيرة كأن يضع الرجل ملابسه في دولابه في قصة “اليوم الذي انكسرت فيه الشمّاعة”. فمهما اختلف وعي الشخصيات وأهدافها وامكانياتها، إلا أنّها تدور في فضاء حيوي وديناميكي لتولد المزيد من الصور.
l هــ . ح