في تلك الليلة حلم من جديد بنفس الشجرة، وبدت له نفس التفاصيل. وانزعج لأنه عجز عن إيجاد معنى محدد لهذا الحلم الذي استحوذ عليه. كان من المفروض أن يفاتح الفقيه في الموضوع لكنه عدل عن ذلك، وقال في سره: ” مهما يكن فكل الأحلام تقريبا تتسم بالعبث الخالص البسيط، لكن لماذا ينغص علي هذا الحلم غبطتي؟ “.
ولدى ذهابه إلى المسجد نسي هذا الحدث برمته.وفي طريقه التقى بالجزار وبشيخ وقور لم يغادر بيته إلا في مناسبات معدودة،ومضوا جميعهم في نفس السبيل المرتفع.كان بوشعيب والجزار يساعدان الشيخ على المشي إلى أن وصلوا إلى المسجد الواقع بأعلى القرية، ولذلك كانوا يسمونه ” تيمزغيد نت غاديرت= المسجد العالي”. هذا المسجد لم يبق له أثر اليوم،فقد عوض بمبنى من الإسمنت مجهز بصفائح شمسية يقع فوق أرض يابسة لا على صخرة الغرانيت كما كان الأمر عليه فيما قبل. ولم يكن المسجد يخلو من المصلين لأن الوصول إليه سهل ولا يتطلب جهدا كبيرا. حتى الذين يتأففون من المشي على الأقدام كانوا يقصدونه.
وحين وصلوا إلى الأعلى ودع بوشعيب والجزار الشيخ وذهبا لمعاينة الثورين اللذين سيضحى بهما. كانا ثورين سمينين أحدهما أسود والآخر أصهب. وما إن رأتهما الأبقار حتى جفلت وهمت بالنهوض، غير أنها لم تقو على ذلك لأنها كانت مغلولة بالحبال. كان الدخان ينبعث من مناخرها تحت شمس الصباح ورائحة الروث والبول تزكم الأنوف. كانت الدواب قد أمضت الليل في عين المكان تحت حراسة أحد الحراس.
قال بوشعيب:
– لقد كلفنا مالا كثيرا. لكن المسجد لديه الإمكانيات، وتجار الشمال كرماء مهما قيل عنهم. ثم إن هناك في مناطق أخرى مساجد أخرى تشكو من الفقر المدقع وأئمتها لا يرتدون إلا الأسمال القذرة، ويضطرون أحيانا إلى الصوم لأنهم لا يجدون ما يسدون به الرمق.
قال الجزار:
– هذا شيء مؤسف.
كانت الساحة تغص بالناس. بعض الرجال يدخنون الكيف وهم يثرثرون في ما بينهم، وجماعة من الزنوج يقدمون لهم كؤوس الشاي. وبعض الأولاد الوسخون يرتدون ثيابا رثة ويراكضون بعضهم البعض، رؤوسهم حليقة وهم يسابقون الريح. كانوا في يوم عطلة، إلا أنهم فضلوا حضور مراسيم الذبيحة على الذهاب للعوم في مياه السيل. كانت صيحاتهم تغيظ بعض المدخنين فيصدونهم بعنف، لكن هؤلاء الأولاد السفهاء لم يكونوا يبالون بالأمر، كانت رغبتهم في رؤية الدم وحضور الحفل أقوى من أي توبيخ ومن أية صفعة، ولذلك لم يكونوا يبكون حين يتلقون صفعة ما. إذ تحمر وجوههم للحظة ثم يواصلون الصياح بصوت أعلى من ذي قبل. وبعد ذلك يواصلون جريهم خلف الثورين اللذين يطاف بهما حول المسجد لمرات عديدة قبل أن ينحرا. وفي لحظة الذبح يحدقون في الدم المراق بغزارة دون أن يساورهم الخوف. كان يبدو لهم أمرا طبيعيا ذبح مثل هذين الثورين السمينين، وكانوا يتلذذون بلحمهما الأحمر بعد أن يلعبوا الكرة بمثانة الثور وهي بعد مبللة. المجامر الكبيرة موقدة على بعد خطوات، والقدور جاهزة لطبخ الطعام المشترك. وبما أن إعداد الكسكس يتطلب وقتا طويلا سيتم الاستغناء عنه. وسيقدم بدلا منه طجين هائل مزين بالخضر المتنوعة. ومن الأفران المجاورة سيؤتى بالخبز الذي أكبت النساء على إعداده منذ شروق الشمس.
وبعد هذه الوليمة الكبرى سيوزع اللحم بالقسطاس على الأسر،ثم يعدو الجميع إلى منازلهم في منتهى الشبع والقناعة.
هكذا تم إحياء هذا الحفل التاريخي الذي لم تشهد له البلدة مثيلا فيما بعد.
حكى العجوز بوشعيب لزوجته ما حدث، فلم تهتم بالأمر واعتبرت ذلك شغل رجال فقط. غير أنها فرحت بقسمة اللحم التي حملها العجوز معه. وقالت:
– إذن، هذه المرة سترتاح من الذهاب إلى السوق.
أجابها العجوز:
– حسنا،الآن لدينا كل ما نحتاجه لأسبوعين على الأقل.
– ماذا تريد أن تأكل في هذا المساء؟ هل تريد لحم الأرنب؟
– أما زال لدينا بعض منه؟
– أجل.
– إذن فلتطبخيه.
كانا يجلسان فوق حصير من الدوم في غرفة صغيرة مستطيلة الشكل تشرف على الوادي. وأمامهما ذرى نخيل التمر وأشجار الخروب الهرمة قريب المنزل….ينصتان إلى نعيق الغربان الجاثمة فوق أشجار النخيل، وهديل الحمام فوق شجر الزيتون والأرغان، وصرير الزيز.وفجأة دوت طلقة نارية، فمضى بوشعيب صوب النافذة ليستطلع الأمر ثم قال:
– هذا احماد يصطاد الغراب. لأن زوجته مريضة وهي في حاجة إلى لحم هذا الطائر.
– مسكينة.
– إنها أصغر منك. لكن كثرة الإنجاب أنهكتها حتى أضحت عاجزة عن الوقوف.
– لم يعد يراها أحد. ولا نعلم كيف أصبحت.
– هي امرأة منعزلة. احماد لا يريد أن يرى نساءه يتسكعن خارج البيت. لو فعلن ذلك لذبحهن.
– للأسف. فبناته جميلات.
– لا أحد يستطيع الإساءة إليهن. والجميع يعرف مبدأ الثأر لدى احماد. لا شك في أنه سيبيعهن لمن يدفع أكثر.
– يحكى أنه قتل مائة شخص على الأقل قبل مجيء الفرنسيس.
– بل أكثر من ذلك. لا أحد يعرف عدد ضحاياه بالضبط. لقد كان هو سيد المنطقة. واليوم لم يعد يملك سوى بندقية قنص. آه. لكم تغير الوقت.هه .
– لكن الناس ما زالوا يهابونه.
– صحيح.ولذلك ليس له صاحب. من سيعاشر شخصا كان قاتلا فيما مضى؟ أقرانه ماتوا منذ سنوات وهو الآن وحيد. لكنه صلب وخطير، أخطر من الأفعى المصرية (الكوبرا). الآن كفانا حديثا عن هذا، أعدي لنا قليلا من الشاي. لقد شربت في المسجد شايا رديئا.
– ألا تسمع غناء الغلاي؟
– بلى.
– هل تريد قليلا من اللوز المقلي؟
ثم أحضرت قطع الحلوى. كانت تحب الفواكه الجافة.
– هذه التمور من الجزائر، ومن بسكرة بالضبط. إنها من أفضل التمور.
– لكنها شديدة الحلاوة.
– هذا ما يميزها عن التمور المحلية، وهي أغلى منها بكثير. ولا تؤكل إلا مع الحليب سيرا على عادة الطوارق. هل سبق لك أن رأيت الطوارق؟
لم تجبه الزوجة.
– أنت لا تعرفينهم. هم رحالة يمتلكون قطعانا كبيرة من الأغنام، لكنهم لا يأكلون اللحم، ويقتاتون فقط بحليب الناقة والتمور. هم أقوياء جدا. وبربر مثلنا. ونساؤهم متعلمات يعرفن القراءة والكتابة. ويعرفن الكتابة البربرية القديمة، التيفيناغ…..وينظمن القصائد والأغاني.
– كأنك تعرفهن جيدا.
– بالطبع. فقد كنت فارسا في الصحراء، لكني هربت، وعندما ألقي علي القبض أودعت السجن. وأمضيت خمس سنوات في السجون العسكرية. هناك عملت في كسر الحجر تحت حرارة الشمس اللاهبة. حاولت الفرار مرارا غير أنهم كانوا يلقون علي القبض ويعذبونني وأنا مقيد بكرات حديدية ثقيلة أجرها خلفي. وعندما أعطش يرفضون إمدادي بالماء. كانوا يقولون لي:” ليس لدينا ماء نقدمه لك.”
قالت العجوز:
– لم يسبق لك أن حكيت لي هذا.
– وما فائدة ذلك؟ أنت تعرفين أنها أمور تافهة.
– تافهة؟ لكنك كنت مهددا بالموت.
– لقد تعذب آخرون أكثر مني ولم يموتوا. المهم هو أن يحافظ الإنسان على معنويات مرتفعة.
قدمت له الشاي. كانت الغرفة باردة رغم أن الجو في الخارج كان شديد الحرارة. ثم سألته:
– أما زلت تفكر في حلمك؟
– ياله من حلم مزعج. فهو يتكرر في كل ليلة مثل صقر يتهيأ للانقضاض على جريح شقي.
– إذن فلتنسه.
– هو الذي لا ينساني.
احتسى شايه بجرعات صغيرة، ودخن سجائر عديدة، كان هروبه إلى الماضي على حين غرة قد فتح بعض الجراح التي ظن أنها التأمت منذ أمد بعيد. ورأى نفسه هائما على وجهه من مدينة إلى أخرى باحثا عن عمل، لكن بدون جدوى. حين كان البؤس ينتشر في كل مكان ووباء التيفوس يحصد أرواح الضعفاء، وحدهم الأوروبيون كانوا يعالجون في الحال.وكان هذا الداء يصيب أبناء الشعب بوجه خاص، ويتفشى في أوساط من كانوا يعرفون آنذاك بـ ” الأهالي”. كان القمل ينتشر في كل مكان، إلا بين الأوروبيين. وكان بعض المتهكمين يقولون: ” من لا قمل فيه ليس مسلما”. كان الفرنسيون يعيشون في نظافة تامة، والأهالي كانوا يتكدسون في أكواخ معزولة. وكانت سنوات الجفاف الطويلة قد ألحقت فقرا شديدا بالبادية التي كانت فيما مضى غنية بالحبوب التي تصدر إلى أوروبا. والآن ها قد أصبح الفلاحون يقتاتون بالجذور والحشائش، وهي الأخرى نادرة جدا. والموتى يحصدون بالآلاف : ” الرعاع يموتون- كما يقال- فيرتاح منهم الناس” والمعمرون يستولون على الأراضي المهجورة، فيحفرون الآبار ويغرسون أشجار البرتقال ويزرعون القمح. ويعيشون في رفاهية فوق هذه الأراضي التي كانت تكتظ بالجثث. وهكذا وجد صغار الفلاحين أنفسهم مجبرين على العمل لفائدة الملاكين الجدد من أجل العيش. وكان كل من حظي منهم بعمل يستفيد من معونة سيده، فيسهر على صحته وينفق عليه ويقدم له الأطعمة الجيدة، وبذلك يتاح له أن ينجو من المصير المأساوي الذي كان يعصف بسكان”النواويل” والدواوير الأخرى التي يضطر ساكنوها إلى الرحيل هربا من موت محقق. كان العديد منهم قد اجتاحوا المدن ليتكدسوا في أحياء من الصفيح مكتظة بالسكان وقليلون منهم كانوا يعثرون على العمل. كانت الحروب في أوروبا قد اندلعت منذ عامين. ومصانع السلاح الألمانية تعمل بدون منافس. وفرنسا ترزح تحت نير الاحتلال النازي، لكن السلطات الاستعمارية، التابعة لحكومة فيشي، تبعث بكل شيء إلى الحواضر. أما الأهالي فلم يكونوا يجدون ما يقتاتون به. وبعد مجيء الأمريكان سنة 1942ورسو الأسطول الجوي الفرنسي الموالي للماريشال ” بيتان” عادت الحياة إلى مجراها الطبيعي. وفتحت الأوراش وتم تداول الدولار على نطاق واسع. وشرعت القواعد العسكرية الأمريكية في تشغيل الكثير من المغاربة. واستفادت من ذلك مدن الداخل. وعولج المرضى. وبين ليلة وضحاها تم القضاء على داء التيفوس. وبما يشبه الصدفة هطل المطر من جديد واخضرت البوادي وتوالد الناس. وجند الجيش الفرنسي شبابا كانوا يرسلون إلى جبهات القتال الأوروبية في إيطاليا وغيرها وامتدحت شجاعة المغربي الذي نسي البعض أنه ظل محط ازدراء حتى ذلك الحين. وقدم لمحمد الخامس الوعد بالاستقلال حين تنتهي الحرب، لكن الوعد سرعان ما طواه النسيان. ودفعت نشوة ما بعد الحرب البعض إلى معاملة المستعمر كما لو أنه دون الإنسان، مسلول وجاهل بالوراثة ومتخلف وحالة مرضية إذا صح القول. وفتح المغاربة مدارس خصوصية لتعليم أبنائهم. وقاوموا بصلابة من أجل الحصول على الحرية.وغصت السجون بالمقاومين. وأمست عمليات الإعدام بدون أية محاكمة أمرا مألوفا.
حدث ذلك حين جاء المخزني ليستخبر عن الهاربين المبحوث عنهم من طرف البوليس. فرده بوشعيب على عقبيه بخفي حنين. رغم أن المعنيين بالأمر كانوا بكل تأكيد موجودين في القرية. وكانوا يرتادون السوق من وقت لآخر ويندسون في الزحام ثم يختفون في اللحظة المناسبة. وقد سمع قبل أيام دوي انفجار بعض الألغام ….كان أحد هؤلاء المبحوث عنهم قد فجر منحدر الجبل كي يزيد في مساحة منزله. وكان في حاجة إلى أحجار للقيام بذلك. بعد أن أفلح في الحصول على رخصة شراء المتفجرات من القبطان حاكم المقاطعة. لا شك في أنه قدم له بطاقة تعريف مزورة، أو لعله رشا موظفا ما… فلا أحد يعلم بحقيقة ما حدث. وكان بوشعيب، الذي يزوره في بيته ليستمع إلى المذياع الوحيد المتوفر في القرية، عالما بما يحدث في مدن الشمال، حيث كان الخونة يعدمون في كل وقت والقنابل تنفجر في الأسواق الأوروبية وفوق أرصفة المقاهي وقت تناول كأس الظهيرة.والجرائد الممنوعة تباع سرا. والناس يستمعون إلى “صوت العرب” المذاع من القاهرة كما لو أنه حديث مقدس. كانت معنوياتهم مرتفعة لأنهم واثقون من أن النصر آت. وكانت حرب التحرير قد اندلعت في الجزائر بعد هزيمة ” ديين بيين فو ” وكان المستعمر يشعر بالضيق لكنه لا يريد أن يقبل بواقع الأمر. كان على حافة الانهيار في هذه المخاطرة، مستعدا لقبول ما لا يقبل، وفي مقدمة ذلك استقلال المضطهدين.
أما بوشعيب – الذي كان بوسعه أن يترقى في سلك الجندية مثل الآخرين- فقد آثر حياة الكفاف على المغامرة وخوض القتال. لذلك لاذ بمسكنه بعد أن كافح بشراسة في أقاليم الشمال، وتزوج بنت عمه وانشغل بزرع أرض الأجداد. كان يتمتع هنا براحة تامة لأنه كان يعشق الطبيعة البكر، فعندما يهطل المطر يعم الخير. والحياة تواصل سيرها بعيدا عن صخب المدينة وعمليات القتل وتصفية الحساب. هنا كان الناس يعيشون في أمن وأمان. يستطيعون الخروج والذهاب إلى العمل من دون أن يكونوا عرضة للخطر. وكان بوشعيب يهوى البستنة. فقد زرع بعض أشجار الفواكه والزيتون واللوز والموز الذي لم يكن آنذاك معروفا في المنطقة. كان كلما وجد عشا في شجرة غمرته الفرحة. كان يعتبر الطيور التي تأتي إلى حقوله كما لو أنها في حمايته. لذلك يصد الأولاد الذين يهاجمون هذه الطيور الوديعة ويطالب آباءهم، بصفته شرطي القرية، بأداء غرامة. وكان الآباء يسارعون إلى تأنيب أبنائهم حتى يكفوا عن نهب الأعشاش.
كان بجوار منزله بستان ينبت فيه شجر الكلمنتين والبرتقال والتين.وكانت الشحارير تستطيب حبات التين السوداء الصغيرة. بمجرد أن تينع قليلا. كان بوشعيب يسمح لهذه الطيور المحبوبة لديه بأن تقاسمه طعامه.ولذلك لم تهرب كلما اقترب منها. وبما أن الطيور لم تكن تخشاه فقد اعتبره الناس وليا صالحا وساحرا. وكان يدرك في قرارة نفسه بأن الحب هو الرابطة التي تجمعه بهذه المخلوقات الضعيفة والمذعورة.لأن الحيوان سرعان ما يكتشف طيبوبة الإنسان، ويعرف أيضا كيف يميز الشر أينما كان. حتى أن البعض يعتقدون بأن الهدهد، طائر سليمان، يستطيع أن ينفذ ببصره إلى نحو عشرين قدما تحت الأرض، وسكان موغادور(الصويرة) يلتهمون قلبه النابض نيئا لكي يكتسبوا مزيدا من الذكاء. هل يتعلق الأمر بخرافة؟ هذا ما لا ريب فيه. ومع ذلك فإن هذا الطائر الجميل والنادر والوجداني يبهر كل من يراه. وهو لا يرى إلا نادرا. غير أننا نشعر بالسعادة حين نراه فجأة في أحد الحقول. فهو طائر مولوي.
قالت العجوز:
– ألا تريد أن تتمدد في قيلولة؟
– القيلولة؟ ولم لا؟ فكما ترين، لقد كنت أحلم.
– هل كنت تحلم بشجرتك؟
– الله يستر. كنت أحلم بالماضي وأمور أخرى. وبالحياة عموما.
– أكنت تعيش ماضيك من جديد؟
– نعم. لكنه ماض مرعب جدا وشقي . ولذلك من الأفضل نسيانه.
– تعني ماضيك؟
– أعني ماضي أنا وماضي الآخرين. وكل تعاسات تلك الفترة، من جوع وأوبئة وإبادة جماعية.
– أنا لم أعرف في حياتي شيئا من هذا.
– الناس هنا لا يعرفون شيئا. لقد اعتادوا العيش في هناء نسبي. سكان الشمال هم الذين قاسوا المحن.
– في الجبال عادة ما يعيش الناس حياة قاسية. وعندما ينقص شيء ما سرعان ما يبحثون له عن بديل.هناك حين ينفد شيء ما ينتهي كل شيء حتى الجسد. يكفي مثلا أن تندلع الحرب حتى يتم التشكيك في كل شيء. ويتدخل القدر المحتوم بكل ما يكتنزه من مكر. وتنقض التعاسة على هؤلاء الناس المساكين في نفس الوقت. تصبح الأسر عرضة للشتات وتفتك الأمراض بالسكان، فيهيم الناس على وجوههم، يتسولون وتهدر كرامتهم.
قالت العجوز:
– نحن هنا لا نقاسي مثل هذه الأشياء.
– أبدا. نحن هنا نعيش في راحة على مر الأيام. نفرح بما يوفره لنا الزمن. وكل لحظة من لحظات الحياة ذات قيمة بالنسبة لنا. أليست هذه هي السعادة المثلى؟
– الطبع هي كذلك.
– لهذا لم يعد الشمال يعجبني، بمدنه الصاخبة وبواديه. ومع ذلك يا ما سرقت من ضيع كي أضمن قوت يومي. كانت المجاعة رهيبة. والناس يموتون بالعشرات مجانا….أما أنا فقد كنت دوما أجد الوسيلة المناسبة لسرقة شيء ما كي لا أموت جوعا…. لم يكن لدي خيار آخر غير السرقة أو الموت. وكان عذابي وأنا في السجن أخف من عذابي وأنا طليق. كان للحرية معنى آخر. فأن تكون حرا آنذاك يعني أن تموت من الجوع. الحمد لله. اعطني مزيدا من الشاي وقليلا من اللوز المقلي.
قدمت له الشاي، فأشعل سيجارة أخرى وواصل حديثه:
– في تلك الفترة القاتمة كان الأوروبيون وحدهم يعيشون عيشة راضية.كان لديهم أطباء وأطعمة. كانت حياتهم منظمة. لكنهم كانوا يعيشون في ما بينهم ولا يفكرون في الغير. قد يموت غيرهم من الجوع فلا يبالون. كان بعض المغاربة الأغنياء يعيشون مثلهم. أما مصير الشعب فلم يكن يعنيهم في شيء .كان اليهود يعيشون حياة عفنة في الملاحات. كانوا بؤساء مثل أشد المسلمين بؤسا. كلاهما كانا يعبدان نفس الإله إلا أنهما لم يكونا يتفاهمان في ما بينهما. كان كل منهما يتهم الآخر بالمكر والخداع وسوء النية والغش…وكان هذا الخلاف في صالح الأغنياء والممسكين بزمام الأمور. فقد كانوا يثيرون البربري على العربي واليهودي على الاثنين معا، في نفس الوقت الذي كان فيه هتلر يذبح الملايين من اليهود. ستة ملايين في المجموع حسب ما يروى. كان اليهودي حينذاك هو العدو الرئيسي وخادم إبليس، والمرابي المشؤوم والشرير …..ولذلك ينبغي التخلص منه بأي ثمن من أجل أن يعيش العالم في سلام. كانت ثمة رغبة في تطهير الكرة الأرضية. وكان اليهودي هو كبش الفداء. كان العالم مصابا بجنون حاد لكنه جنون مربح. لهذا أرفض هذه البشرية المنحطة ….والآن علي أن أسترخي في قيلولة قصيرة. وبما أن الجو بارد فإني سأستلقي هنا.
وما أن أنهى كلامه حتى غط في النوم. غير أنه استيقظ مفزوعا وهو يصب جام غضبه على هذا الحلم الذي يستحوذ عليه ويلاحقه كاللعنة.ثم أقسم على ألا يذهب بعد اليوم لقطف اللوز، رغم أنه كان يحلو له كثيرا أن يشار ك في ذلك. عليه من الآن فصاعدا أن يكتفي بمراقبة هذا الشغل من بعيد. “مهما يكن فمن واجبي أن أحتاط. وبما أني قد شخت علي أن أكبح مثل هذه الرغبات. لست أدري لماذا أذهب إلى هناك؟ لا مفر من القدر. نحن منذورون سلفا للتدمير ولذلك نجهل تماما أين ومتى وكيف يحدث ذلك….لكن أين ذهبت زوجتي؟ آه. لقد مضت كعادتها إلى الدواب كي تدللها. هذا ما يبدو لي. طيب فلأشرب الشاي وأدخن. وإذا ما أسعفني النوم مرة أخرى فمرحبا به. ما زالت بي رغبة في نوم خفيف”.
شرب كأسا أخرى من الشاي ودخن. من النافذة المفتوحة: كانت تلوح في وضوح قمم المرتفعات الجبلية، جرداء مثل كثبان رملية،لا أثر هنا في هذه السلسلة الجبلية ولو لشجرة واحدة. بيد أنه من المحتمل أن توجد بعض النباتات ما دام الصيادون يقصدونها لقنص الضأن، بل إن بعضهم كان يقنص في أرض الغير لأنه لم تكن توجد في البلاد أية رقابة ولم يكن بالغابة حارس. لكن قنص الضأن كان يتطلب مهارة في تصويب وتسلق الجبال.وأمثال هؤلاء القناصة نادرون ويعدون على رؤوس الأصابع . كان بعض الشجعان منهم يلاحقون الطريدة في المرتفعات وإذا بهم يلاقون حتفهم بعد أن يسقطوا في الجرف – إذ يكفي أن تنزاح حجرة واحدة لكي يفرنقع المرء، مثل فاكهة فائقة النضج، في أسفل السافلين فوق نتوء ما أو فوق أرض مسطحة، ولذلك كان البعض يخرج للقنص برفقة مرشد يعرف جيدا هذه المنعرجات. وحتى في هذه الحالة لم يكن الأمر يخلو من مخاطر ناجمة عن العمل في الصخور….إذ لا أحد بوسعه أن يتوقع ما قد يحصل من مآسٍ.
قال العجوز في سره: ” للوصول إلى قمة الجبل يلزم نصف نهار.أنا أعرف جيدا هذا الموقع. فهو مليء بالفخاخ الطبيعية ” .
كان بوشعيب فيما مضى يصطاد الضأن.كانت المطاردة تدوم أحيانا عدة أيام ، لكن الصيد يكون وفيرا على الدوام، فيأكل القناصة ألذ صيد في العالم. كانوا كلما حل الظلام نصبوا الخيام في العراء، وبعد تناول عشاء بسيط، ينامون حتى الفجر ثم يواصلون السير. كانوا يخاطرون بحياتهم كمن يمشي فوق خيط رقيق قابل للتمزق في أية لحظة.غير أن الشعور بالقوة كان يشل لديهم الخوف من الفراغ. المهم هو قنص الضأن، ذلك الحيوان الأضخم من حمل أليف والذي يقفز من صخرة إلى أخرى مثل طائر ويتسلق الجبال برشاقة، ويحط على أحد النتوءات ثم يختفي فور ظهوره.” من الصعب ملاحقة طريدة كهذه إذا لم يكن المرء قادرا على ضبط النفس. فحين يفقد هذا التوازن يقع الحادث. والقناص الماهر هو الذي يكتم أنفاسه ويندس بين الأحجار ويتحول هو الآخر إلى حجرة……”
كان بوشعيب في وقت سابق يمضي أوقاتا ممتعة في الجبال مع أصدقائه الغابرين. كانوا محاربين حقيقيين وخبراء في السلاح وقناصة بارعين ورجالا شرفاء…وكان بينهم أيضا بعض قطاع الطرق الذين صاروا لصوصا بدافع الحاجة. كانوا يمضون لنهب القرى الأخرى ثم يعودون مدججين بالأسلحة وهم يسوسون البهائم المحملة بالغنائم. كانوا يسرقون كل ما يجدون، لأن كل الأشياء كانت ذات قيمة.
وكان بالإمكان بيع كل المسروقات في الأسواق بدون أي مانع. وبوشعيب يتذكر هذه الحقبة التي كان فيها النهب أمرا لا بد منه. حين كان الناس يخشون زوار الليل فيلوذون بمنازلهم من مهبط الليل إلى مطلع النهار. كان اللصوص الذين يعيشون مع أسرهم يخافون بدورهم من اللصوص الآخرين. والحال أن الناس كانوا يسرقون بعضهم البعض. ولم يوضع حد لهذه الفوضى إلا بعد مجيء الفرنسيس الذين أعادوا قطاع الطرق القساة والمغامرين إلى جادة الصواب. وحقيقة الأمر أن الخوف من السجن هو الذي قهر هؤلاء الأوغاد، ولما خطرت هذه الذكرى ببال بوشعيب ابتسم لنفسه وفكر: ” على كل حال فقد جلبت لنا فرنسا الطمأنينة والسلام التام. من البلاهة إنكار حسناتها وهي كثيرة. قبل مجيئهم لم تكن هناك طريق واحدة على طول البلاد ولا سلطة ولا أمان . غير أن الأمور تغيرت بعد وصول الفرنسيين. والذين لا يقرون بذلك إنما هم منخدعون، كل هذه الطرقات شقت بين الجبال على يد جنود مرتزقة بموازاة مع تقدم الجيش الفرنسي…ومنذ ذلك الحين أصبحت كل المحاصيل الزراعية وبضائع أخرى تصل إلى السوق، ولم يعد الأمر يتطلب انتظار شهور وشهور حتى تعود القوافل القديمة…هكذا ازدهرت التجارة، لكن المال ظل يفد من الشمال….ومن لا قريب له هناك لا شيء لديه هنا أيضا. ولحسن الحظ أن لي دكانا صغيرا في “مازاغان” فهو يدر علي ما يساعدني على تدبير شؤون البيت. هذا أفضل من الذهاب كل سنة لاستجداء الزكاة من كبار التجار والبقالين في المدينة الأوروبية. ولو أنهم يفكرون في ويدرجون اسمي دائما في لائحة المستفيدين. ورغم أني لا أتنقل إلا أن النقود والطرود تصلني على متن حافلة “آيت مزال”. وبذلك أحصل على التبغ والشاي وبعض الكتب أيضا.إذن فأنا في الحقيقة لا ينقصني سوى جهاز الراديو. فمع مرور الوقت يحتاج المرء إلى مذياع في بيته. عجبا، وماذا تريد أن تفعل به؟ لا يهمك في شيء ما يحدث في أماكن أخرى. فهم لا يتحدثون أبدا عن قريتك في الراديو. مذياعك الحقيقي هو ما يحيط بك من ريح وعشب قليل وشجر وطير وظل خاطف، وكل هذه الأصوات النهارية والليلية التي تؤلف سيمفونية الحياة … وكذا نقيق الضفادع بالليل حين يتردد عواء ابن آوى أضعافا مضاعفة بفعل حركة ذيله (كما جاء في الأسطورة) فيقطع الصمت كما لو أنه ساطور. يا له من حيوان قذر.لكم افترس لي من ديكة ، لكني أوقعته في الفخ مرة أو مرتين. لم يكن الخطأ خطأه بل خطأ الدجاج، إذ لم يكن عليه أن يغادر الخم . هذا الدجاج الغبي الذي يعجبه أن يتجول في الخارج، ولا يحلو له ذلك إلا حين تكون الكواسر في حالة تربص، ساعة الغروب أو في الصباح الباكر، في اللحظة الفاصلة بين الليل والنهار،وهذا هو الوقت المفضل لدى ابن آوى، يا لها من ديكة تعيسة وبليدة. لكم حذرتها، بل إني قلت لأحد الديكة: ” إذا كنت تظن أنك حر وقوي فإنك ستخوض معركة شرسة وسأعثر هنا في هذا المكان بالضبط على ريشاتك الجميلة البيضاء والسوداء صباح الغد”. ولسوء الحظ هذا ما حصل، ففي صباح الغد كان ريشه يتطاير في نفس المكان. لم يخطئه الوحش الكاسر. لكن هذا الطائر الداجن غبي حقيقي. فهو يتوهم نفسه نسرا.إلا أن النسر يصرع ابن آوى، وهنا يكمن الفرق، وينقض على العقاب ويصرعه أرضا بكيفية بارعة. النسر هو ملك السماء. لكن أين ذهبت زوجتي؟ فهي لا تنام في وقت القيلولة أبدا . ها هي ذي قادمة”.
– أين كنت ؟
– مع الدواب ، لا بد من إطعامها وإشرابها.
– اجلسي .
جلست.
كان سرب من الذباب يرطن في الهواء، وفي الخارج يهب الحر اللافح الذي يجبر الناس على اللجوء إلى الظل.
قالت العجوز :
– هل تريد شيئا؟
– كنت أريد أن أخبرك بأني رأيت قبل قليل دويبة الحريش في السقف.
– هي تقيم دائما هناك تحت الرافدة الوسطى.
– بالضبط، لقد رأيتها هناك ، كأنها سلسلة من ذهب.
– إنها جميلة ، لكنها سامة.
– هذه لن تؤذي أحدا ، فهي لا تنزل من السقف، وهي تعرفنا ، ثم إنها لا تقتات إلا على الحشرات، وهي لعلمك دويبة نافعة .
– ربما .
يقال إنها حين تلدغ أحدا لا يبارحه إلا بعد أن يضعوا أمامها طبقا من الذهب ن هل هذه مجرد أسطورة ؟
– هذا ما لا شك فيه ، لكن لدغتها حسب علمي قاتلة.
لدينا أيضا مستأجر آخر في خلوة الحمار، ثعبان جميل مرقط آوى إلى مرقد الحمار ويبدو أنهما يتفاهمان على نحو تام ، عندما يراني يهمد في مكانه ولا يخاف ، ألوانه رائعة: الأزرق والأخضر والبرتقالي والأصفر، وألوان أخرى يصعب علي تحديدها ، طويل جدا، لم أر مثيلا له في حياتي . لا يبدو أنه من الزواحف العادية، لعله جني.على كل فهو يلتهم الفئران . لحسن الحظ أنه هنا كي يخلصنا منها. فالقط كما ترين مدلل ولا يقبل بكل شيء، بل إنه لا يطارد الفئران . إذن لماذا سيأكلها مادام متعودا على تناول الوجبات اللذيذة؟
– هيه ، إنه قطي أنا.
– لكن هذا دوره.
– كلا، دوره فقط أن يكون بالقرب مني وأن يموء. لكن أين ذهب؟
– إنه ينام في الإسطبل، لن تريه هذا المساء، تعرفين أني أحب هذا القط ، لا تبالي بما أقول.
– هل تقول ذلك لكي تزعجني أم إنك تمزح فقط؟
– من سوء الطالع أنه أسود ولست به نقطة سوداء واحدة . يقال إن الشيطان أسود وإن القط الأسود تجسيد حي لإبليس.
– هذه مجرد سخافات، لا علاقة للقط بالشيطان والزنجي ليس شيطانا، فهو مخلوق بشري ملون، ثم إن الشيطان لا يرى، مثله في ذلك مثل الجن. أما القط والزنجي فإننا نراهما بكل وضوح. والجن والشيطان قادران على ضرب الإنسان متى شاءا من دون أن يتمكن من رؤيتهما، هو فقط يتلقى الضربات. أما القط فلا يؤذي أحدا. لكن الزنجي قد يؤذي أحيانا وضرباته مفتولة، غير أن هناك زنوجا مسالمين وهذا أمر نادر جدا ، لكنهم موجودون . وقطنا سيد حقيقي وأرقى من الكلب، إذ لم يسبق له أبدا أن أصيب بالجرب.
– أنت تحبين هذا القط كما لو كان ابنك، أليس كذلك؟
– أنا أعتبره مثل ابني رغم أنه ليس من جنسي، لكن ألا يقولون إن النبي كان يحب القطط؟ نعم أنا أميل إليه وهذا شعور إنساني . للأسف فالناس يحتقرون الحيوانات.
– صحيح ما تقولين . في بوادي الشمال يطارد العرب الكلاب بالحجارة، وهذا ما صدم أحد الفرنسيين فقال لي : ” أنتم أشرار لأنكم تضطهدون الكلاب” . قلت له إن الكلب حيوان ملعون وماكر ومهدد بالسعار في كل حين. لكنه تشبث برأيه وأصر على أن العرب أشرار لأنهم يكرهون الكلاب. هو غير مخطئ في ذلك فالعرب يكرهون الكلاب، وبما أنهم لا يطعمونها فهي تتحول إلى حيوانات خطرة وأحيانا تقتل. وقد تعرضت بعض النساء المتهورات للجرح والعض على يد مجموعة من الكلاب الضالة.
– أمر مرعب.
– أجل ، فأنا حين أقول لك إن الشمال غير صالح للعيش أعني أنه خطر.
– لكن كلابنا ليست متوحشة إلى هذا الحد.
– هذه كلاب رعاة تحرس قطيع الغنم وهي مروضة، طعامها جيد وتقوم بعملها على أحسن وجه، لكنها عندما تصاب بالسعار نضطر إلى قتلها ورميها في بئر بعيدة عن القرية.
في تلك الفترة كانت العديد من الأسر تملك قطعان الماعز والخرفان، وكان الرعاة يخرجونها عند الفجر ويعودون بها في المساء، وذلك كل يوم باستثناء أيام الأعياد. كان منظر الأغنام وهي عائدة وقت الغروب رائعا: ثغاء متنافر وروائح قوية. بعد ذلك تحلب النعاج ويوزع الحليب على من يريده، ولدى عبورها كانت الكباش والماعز تتغوط قشرة اللوز الصلبة التي ابتلعتها ولم تهضم منها سوى الغشاء. وكان الفلاحون يلتقطون هذه الجوزات الصغيرة السوداء كي يستخرجوا من لوزها زيت الأرغان المفضل لدى سكان الجبال. كانت النساء يقلين هذه اللوزات قبل طحنها في رحى من حجر رملي ثم يعصرن العجين ليحصلن أخيرا على هذا الزيت المعطر والفريد من نوعه العالم. أما العجين الجاف فيستعمل في تقوية طعام البقرة الحلوب.
قال العجوز :
– علي أن أخبرك بأمر هام جدا: نحن سعيدان ، أليس كذلك ؟
– بلى . لكننا لم نرزق ذرية .
– هذا أفضل . تلك مشيئة الله. نحن آخر السلالة. حتى بعض الملوك لاقوا نفس المصير. هذا ما قرأته في الكتب المقدسة وفي كتب أخرى، وأنا أعرف ما أقول. سيدنا عيسى لم يخلف ذرية وكذا سيدنا موسى، وسيدنا محمد فقد ابنه الوحيد ولم يخلف سوى البنات. والإسكندر الأكبر لم يخلف ذرية على الإطلاق وتوفي شابا بمرض الملاريا الذي أصابه وهو في مستنقعات بلاد السند. وبعد وفاته اقتسم الجنرالات إمبراطوريته، وبذلك لم يترك سوى اسمه الذي يشع دوما مثل نجمة ساطعة سماء الكون. كان العرب يلقبونه بذي القرنين، وهذا هو الاسم الذي ذكر به في إحدى السور القرآنية. إذن فنحن أيضا …وكما ترين لا أهمية لذلك في واقع الحال، رغم أني أعرف من الناس من ينتحبون ويلعنون أقدارهم ويتذمرون من جراء عقمهم،لأن منيهم باطل ويعتقدون أنهم مغضوب عليهم .إنهم مجانين.الله يفعل في خلقه ما يشاء. وأنا راضٍ بما كتب علي.
قالت العجوز تذكره:
– كنت تود أن تخبرني بأمر هام.
– آه ، بالطبع ،،،كنت فقط أريد أن أقول لك إن حديثك شبيه بحديث العقلاء، لذلك أطمئن إلى وجودك معي. هذا شيء رائع، وهو خير دليل على أنك خلقت لي . لقد أرادت مشيئة الله أن نلتقي من جديد في اليوم الآخر بعد يوم القيامة ، لأني لا أريد حورية غيرك. أنا لست فاسقا، ولا أحبذ تعدد الزوجات. صحيح أنه لا يوجد لدينا رجال متعددو الزوجات، لكن لدينا فساق. هذا ما يقال عن البعض .أما أنا فإني مخلص ولا أحب سواك يا عجوزي.
أضحكها كلامه :
– لم يسبق لك أبدا أن قلت لي مثل هذا الكلام.
– ها قد قلته لك الآن.
هامش:
* – فصل من رواية بنفس العنوان سوف تصدر قريبا.
محمد خير الدين ترجمة : عزيز الحاكم