فوزية بنت سيف الفهديّة
حوى ديوان ابن رشيق العديد من المقطوعات الشعريّة التي تندرج تحت باب الوصف وفق رؤيته الواسعة له، واعتنى بالنّظم فيه على اعتباره غرضاً من أغراض الشعر العربي، ففي الديوان مقطوعة في وصف الفرس1، ومقطوعة لوصف فحل الإوزّ2، ومقطوعات منفصلة لوصف بعض الفواكه مثل: الموز والتفاح، أما الوصف في الشعر فذاك طابع أغلب شعر الديوان؛ لأنّه كان صبغة الأغراض الأخرى من مدح ورثاء وهجاء.
وتعدّ أبياته في وصف الهديّة التي وصلت إلى ديوان المعزّ الموضوع الأساس لقصيدته المدحيّة التي خصّ بها المعزّ بن باديس، ومن باب غرض المدح دخل إلى موضوع وصف الزّرافة، فما الذي جذب ابن رشيق إلى وصفها أوّلاً؟ ومن أين استمدّ صور التعبير عنها؟
الحقيقة التاريخيّة تحملنا إلى الاعتراف بأنّ الشعراء العرب أولعوا منذ الجاهليّة بوصف الحيوان في أشعارهم ولاسيّما النّاقة والفرس؛ لأنّ وصف الرّحلة والراحلة كان يمثّل تقليداً شعرياً التزم به الشعراء في المقدّمات الطلليّة من قصائدهم ومعلّقاتهم، وتنقل دائرة المعارف الإسلاميّة أنّ المقصود بالحيوان “المملكة الحيوانيّة وهي كلمة مشّتقة من أصلٍ ساميّ (ح. ي. هـ) من اللغة العبريّة، وتنطوي على فكرة الحياة، وقد وردت في القرآن الكريم مرّة واحدة في سورة العنكبوت، الآية 64، وفيه تعني: الحياة الحقّة، وتستخدم للدلالة على الدّار الآخرة”3، وقد تعرّض الأدب العربيّ لأنواع عديدة من الحيوان، وتشغل أنواعه تلك مكاناً ملحوظاً في الشعر العربي، أحصاها البستاني صاحب كتاب” المجاني الحديثة”، وقدّر عددها بثمانين حيواناً4، يعبّر هذا الإحصاء عن دلالة خاصّة للشعر العربيّ.
ولم يقتصر وصف الحيوان في الشعر العربيّ على حيوانات الرّحلة: الفرس والنّاقة، بل وصفوا حيوانات أخرى في بيئتهم، مثل الذئب، وبقر الوحش، والعقاب والصقر. وفي دراسة حديثة عن ” وصف الحيوان في الشعر الجاهلي”5، خصّصت الباحثة القسم الأوّل منها للحيوانات الموصوفة في الشعر العربي، وصنّفتها في ثلاثة أبواب حسب كثافة الحضور في شعر الوصف، بدأتها بالحيوانات الرئيسة: الإبل والخيل، فالحيوانات الثانويّة: البقر والحُمُر الوحشيّة والنّعام والكلاب، ثمّ جمعت بقيّة الحيوانات الموصوفة في باب مستقلّ تناولت فيه السِّباع والطيور والزّواحف والحشرات، والأمر الذي لفت نظرنا أنّ الباحثة لم تورد ذكر الزّرافة ضمن الحيوانات التي وصفها الشّعراء في العصر الجاهليّ، والسبب -فيما نعلم- أنّ حيوان الزّراف لا يستوطن شبه الجزيرة العربيّة، ولم يكن ضمن دائرة المنظور والمألوف في حياة العرب وثقافتهم؛ لهذا لم يصفه الشعراء القدامى حتّى عهد ابن رشيق- على حدّ علمنا-، وقد بحثنا عن نصوص شعريّة ولم نجد، لكنّنا لا نقطع في الأمر.
يذكر كمال الدين الدّميريّ (ت808هـ) في “كتابه حياة الحيوان الكبرى” أنّ الزّرافة: ” تكنّى بأمّ عيسى، وهي بفتح الزاي المخفّفة وضمّها، وهي حسنة الخلْق، طويلة اليدين، قصيرة الرِّجلين، مجموع يديها ورجليها نحو عشرة أذرع، ورأسها كرأس الإبل، وقرنها كقرن البقرة، وجلدها كجلد النّمر، وقوائمها وأظلافها كالبقر، وذنبها كذنب الظّبي، ليس لها رُكَب في رجليها، وإنّما ركبتاها في يديها، وهي إذا مشت قدّمت الرجل اليسرى واليد اليمنى بخلاف ذوات الأربع كلّها، فإنّها تقدّم اليد اليمنى والرجل اليسرى، ومن طبعها التودّد والتّأنّس وتجتر وتبعر، ولمّا علم الله أن قُوتها من الشجر جعل يديها أطول من رجليها لتستعين بذلك على الرّعي منها بسهولة”6، وفي قوله “حسنة الخلْق” سمة يلفّها الإبهام، فإن كان يقصد أنّ الزرافة تنتمي لخلق الله الذي يُنعت بالحُسن على وجه الإطلاق فذاك أمر لا يميّزها، أمّا إذا كان يومئ إلى حُسن شكلها ومنظرها، فذلك مدعاة لتبيُّن وجه الحسُن إن كان في البنية الغريبة التي لم يعهدها العربيّ في الحيوانات التي ألِفها، أم شكل جلدها الذي يبهر النّاظر بتداخل ألوانه وهندسة توزيعه على جسدها. وعلى كلّ الأحوال فقد سعى القدماء إلى وصف شكل الزرافة وبنيتها في جملة ما ذكروا ووصفوا من الحيوانات التي ألفوها وشاهدوها في بيئتهم، ليستطيعوا تمييزها عن غيرها، حتّى يتبيّن المتلقّي أنّ الطبيعة فيها الكثير ولا يقتصر الأمر على ما ألفوه فقط، قصدهم بذلك توسيع المدارك والانفتاح على عالم الموجودات والمخلوقات على وجه الإطلاق لتأكيد عظمة الخالق سبحانه.
الزّرافة لا تعيش في بلاد العرب، ولم تسكن الشمال الأفريقي، بل هي من الثدييّات الأفريقيّة التي تنتشر من تشاد شمالاً حتّى جنوب أفريقيا جنوباً، ومن النيجر غرباً إلى الصومال شرقا، وفق ما تخبر به موسوعات الحيوان الحديثة، وهي أطول الحيوانات البريّة بلا منازع، وأضخم المجترّات على الإطلاق، اسمها العلمي: Giraffa camelopardalis، وتعني حرفيّاً الجمل النّمريّ، إشارة إلى شكلها الشبيه بالجمل واللّطخات الملوّنة على جسدها وعنقها وقوائمها التي تجعلها شبيهة بالنّمر. أبرز خصائصها عنقها وقوائمها الفارعة الطول، والنتوءات على رأسها الشبيهة بالقرون، وأنماط فرائها المتنوّعة، وتصنّف ضمن فصيلة الزّرافيّات.
يبدو أنّ الهديّة التي بعث بها الخليفة الفاطميّ الظاهر لإعزاز دين الله (ت1036م)7 إلى المعزّ بن باديس حوت تحفاً كثيرة متنوّعة، جلبت من بلاد الشرق، والأراضي التي امتدّ حكم الفاطميين فيها، إذ كانت الأراضي الواقعة جنوب مصر على امتداد الساحل الشرقي لمصر والسودان حاليا خاضعة لحكمهم، وقد كانت الزّرافة ضمن محتويات الهديّة، وشاهدها من كان موجوداً في ديوان المعز وجلسائه وكتّاب الديوان، فكانت الزرافة الهدية المميزة بين كلّ ما أحضر، لفتت نظر ابن رشيق، واستفزّت مَلكة الإبداع عنده فوصفها في سياق قصيدته المدحيّة للمعز بن باديس، فما الذي لفت نظره فيها، وكيف وصفها؟
لم يعرف العرب الزرافة قبل دخولهم إفريقيا وتواصلهم مع الأمم التي سكنت الجزء الجنوبيّ منها، لهذا لم يصفها شعراؤهم، وقد سعينا إلى التنقيب عن وصف لهذا الحيوان في الشعر العربيّ قبل وصف ابن رشيق له في سياق قصيدته المدحيّة في المعز بن باديس، لكنّنا لم نجد، فكان الثّابت لدينا أنّ وصف ابن رشيق للزرافة هو الوصف الوحيد المتقدِّم تاريخيّاً، بسبب انعدام هذا الحيوان في بلاد العرب، وفي هذا السياق يمكننا أن نعدّ الزرافة “مّما قلّ وصفه وتأخّر نسبياً في الشّعر العربي من الحيوان”8، وإذا كنا لا نقطع بأمر أسبقيّة ابن رشيق في وصفه للزّرافة، فإنَّنا نعدّه أنموذجاً شعريّا اقتدى به الشّعراء بعده، وتواردوا عليه إمّا بسبب تكرار المناسبة التّاريخية ذاتها، أو رغبة في وصفها عند رؤيتهم إليها، وشعورهم بغرابة هذا الحيوان.
مثّل شعر ابن رشيق في وصف الزرافة أنموذجاً شعريّا فريداً، أظهر من خلاله الشاعر براعته، وحسن تمثّله للوصف، وما يمكن أن يضيفه الشّاعر المُحدَث في الشعر من خلال هذا الباب، فهو يقول: ” وليس بالمُحْدَث من الحاجة إلى وصف الإبل ونعوتها، والقفار ومياهها، وحُمُر الوحش، والبقر، والظلمان، والوعول، ما بالأعراب وأهل البادية؛ لرغبة النّاس في الوقت عن تلك الصفات، وعلمهم أنّ الشّاعر إنّما يتكلّفها تكلّفاً ليجريَ على سَنن الشّعراء قديما.”9، فهو يضع للشعراء مقياسا يرفع عنهم التكلّف في الوصف، فلا يصف الشّاعر ما لم يره أو يتفاعل معه، ولا يغترّ بشعر القدماء فيقلّده ليسير على سننهم فقط، و”الأولَى بنا في هذا الوقت صفات الخمر والقيان وما شاكلهما، وما كان مناسبا لهما كالكؤوس والقناني والأباريق، وتُفّاحِ التَحيَات، وباقات الزّهر إلى ما لابدّ من صفات الخدود، والقُدود، والنُّهود، والوجوه، والشُّعور، والريق، والثُّغور، والأرداف، والخُصور، ثمّ صفات الرّياض والبِرَك والقصور، وما شاكل المولّدين…”10، ويوضّح ابن رشيق أنّ هذا الباب يفتح للشاعر المولّد أن يخترع ويبدع في ما لم يبدع فيه غيره أو من سبقه، فيكتب بشعره هُويّته الخاصّة بين الشّعراء.
يعتدّ ابن رشيق بالمُدرَك الحسّي الذي يبني عليه الشاعر معانيه في الوصف، ولا سبيل إلى ذلك إلّا بالمعايشة الصريحة والضمنيّة للموصوف، لإدراك خصائصه، وإظهار معانيه وصفاته، فكيف لشاعر عاش في الحواضر والمدن أن يصف الصحراء وهو لم يعش فيها ولم يرَ حيواناتها كالإبل وحُمُر الوحش وغيرها؟ والأولى به أن يصف ما يراه ووقع تحت دائرة المعروف لديه من بيئة الحضر والاستقرار، ومظاهر الحياة فيها. وفي هذا إشارة إلى رغبة في التميّز والتجديد، ودعوة للشعراء للاهتمام بالجانب الذّاتيّ في الشعر؛ حتّى لا يكون شعراء القيروان صورة مكرّرة لغيرهم، وأصواتاً شعريّة لزمن ومكان ليس لهم به صلة.
ولمّا كان الوصف في فكر ابن رشيق واسع المفهوم متعدّد الصور، وهو ألصقُ بالتشبيه من الأغراض الأخرى، فإنّ توظيف المعاني في وصف الموصوف، يفتح للشّاعر باب التوليد والإبداع، فيخلع على الموصوف من الصفات ما يمكن أن يقلب السمع بصراً، فينقل الشاعر بحذقه وبلاغته ما وقع في دائرة حسّه إلى السامع والمتلقّي، في صورة تشف عن الموصوف وتقاربه معنى وتصوّراً، فكأن الشاعر عين المتلقّي في هذا الباب، فإذا أحسن الشاعر نقل الصورة بلغته وبلاغته عدّ بذلك محسِّنا مولِّدا، ينقل ذلك ابن رشيق عن قدامة ، وهو يتمثّله في شعره أيضاً، فيقول:” الوصف إنّما هو ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات. ولمّا كان أكثر وصف الشّعراء إنّما يقع على الأشياء المركّبة من ضروب المعاني كان أحسنهم وصفاً من أتى في شعره أكثر المعاني التي الموصوف بها مُرَكَّبٌ، ثمّ بأظهرها فيه، وأولاها به، حتّى يحكيه ويُمثّله للحسّ بنعته”11، لقد أدرك ابن رشيق سرّ الإبداع في الوصف، بالنّظر في الأحوال والهيئات التي يأتي عليها الموصوف، ثمّ تبيُّن المعاني التي ميزت الموصوف وركّبت فيه، ليبني عيلها صوره وتشبيهاته ويعمل فيها صناعته للشعر، فينظم في إطار المنظور فضاء للصور والمعاني، يجعل المتلقي يتصوّر ويبني من خلال المدرك الحسّي فضاء للصورة الملتقطة بعين الشّاعر.
تأتي المعاني والصور التي يبنيها الشاعر من خلال المُدرك الحسّي أولى الأولويّات التي يركّز عليها الشاعر في السعي إلى مقاربة الأصل /الموصوف، ويعتبر ما رُكِّب في الموصوف من معانٍ، وما كان منها أكثر ظهوراً بؤرة التركيز في خلق الصور والتشبيهات. هذا كان جانباً تنظيريّاً لأسس الوصف ومقاييسه عند ابن رشيق، ولكن كيف كان تمثّله وتطبيقه لها من خلال شعره؟
استشهد ابن رشيق بأبيات وصف الزرافة في باب الوصف الذي تناوله في الجزء الثاني من كتابه العمدة، بعد أن استشهد بأبيات لغيره من الشعراء في وصف الفيل، كان قد رواها أستاذه عبد الكريم النهشلي (ت405هـ) في كتبه. ولئن كان ابن رشيق يستشهد بشعره أو بشعر غيره فإنّ النصوص المستشهَد بها كانت لموصوفات غريبة غير مألوفة عند العرب، كوصف فيل، ووصف زرافة، ووصف تخْت حساب12، ووصف اصطرلاب، ووصف بركار13، ووصف بنكام14، ووصف زرمانج آبنوس15، ووصف طاووس، وقد جمع بين الموصوفات الجدّة، لأنّها كانت لشعراء محدثين، رأى ابن رشيق أنّها تمثّل شواهد حية لتوليد المحدثين في معاني الوصف، ولخّص بتلك الشواهد رأيه في أن الجودة هي ميزان النصّ مهما كان زمانه أو مكانه أو قائله، وأنّ القدماء كما أبهروا من لحقهم بصورهم ومعانيهم في وصف ما رأوه واستعملوه في حياتهم، فإنّ لكلّ زمان مبدعيه القادرين على التعبير عن موصوفاتهم التي ينتمون إليها، وتنتمي إليهم.
وهذه أبياته في وصف الزرافة التي استشهد بها في باب الوصف، من كتابه العمدة، “جاء وصف الزرافة في أحد عشرَ بيتاً، هي: (الكامل)
وَأَتَــتْكَ مِــنْ كَــسْبِ المُــلُـوكِ زَرَافَة
شَــتَّـى الصِّــفَاتِ لِــكَــوْنِهَا أَنْــــبَــــاءُ
جَـمَعَتْ مَـحَاسِنَ مَــا حَـكَتْ فَتَنَاسَبَـتْ
فِــي خَــلْقِــهَا وَتَــنَافَــتِ الأَعْــــضَــاءُ16
تَحْــتَــثُهَا بَــيْنَ الْخَــوَافِـــقِ مِــشْـيَـــةٌ
بَـــادٍ عَــلَيْــــهَا الْــكِبْـــرُ وَالخُـيَـــــلْاءُ17
وَتَــمُدُّ جِــيْدَاً فِـي الهَــوَاءِ يَــزِيْــنُـــهَا
فَـــكَأَنَّــهُ تَــحْـــتَ الــلِّــــوَاءِ لِـــــــوَاءُ
حُـطَّتْ مَـآخِـرِهَا وَأَشْـرَفَ صَـــدْرُهَـا
حَــتَّى كَـــأَنَّ وُقُـــــوْفُــهَا إِقْـــــعَــــاءُ
وَكَأَنَ فِهــْرَ الطِّـــيبِ مَا رَجَــمَـتْ بِـهِ
وَجْـــهَ الثَّــرَى لَـــوْ لُــمَّتِ الأَجْـــزَاءُ18
وَتَـخَـــيَّرَتْ دُونَ المَـــلابِـسِ حُـــلَّـــةً
عُــنِــيَتْ لِــصَـــنْعَة ِ مِــثْــلِـهَا صَـنْعَاءُ
لَـــوْنَاً كَـلَـــوْنِ الــزُّبْـــــلِ إِلَّا أَنَّــــــهُ
جَــــلْــيٌ وَجَــزَّعَ بَــعْــضَـهُ الْجَــــلَّاءُ19
أَوْ كَـالسَّـــحَابِ المُكْـفَـــهِرَّةِ خُيِّـطَــتْ
فِـــيْــهَا البُـــرُوقُ وَمِــيْـضُهَـا إِيَـمَـاءُ20
أَوْ مِثْلَ مَا صَدِئَتْ صَفَائِـحُ جَوْشَـــــنٍ
وَجَـــرَى عَــلَى حَـــافَـاتِـهِــــنَّ جِــلَاءُ21
نِـعْــمَ التَّجَافِـــيفُ الَّتي ادَّرَعـــــتْ بِهِ
مِـــنْ جِــلْــدِهَــا لَـوْ كَـــانَ فِيهِ وِقَـــاءُ22
صنع ابن رشيق قصيدته على البحر الكامل، وتندرج القصيدة تحت غرض المديح، إذ قصد الشاعر من خلالها أن يمدح المعزّ بن باديس الصنهاجيّ. يذكر صاحب كتاب “الذخائر والتحف” أنّ ما وصل من القصيدة تسعة وثلاثون بيتاَ، بينما ترد أحد عشر بيتاً في بقيّة المصادر، مكتفية بعدد أبيات وصف الزرافة فقط، فالوصف إذن موضوع القصيدة لا غرضها.
مثّلت فكرة الأنموذج هاجساً إبداعيّاً عند ابن رشيق، فقد كان عنوان كتابه في التراجم: ” أنموذج الزّمان في شعراء القيروان”، لم يقصد فيه أن يترجم لشعراء عصره الذين عاشوا في القيروان وتحلّقوا في فضاء إشعاعها الممتدّ شرقاً وغرباً وحسب، بل كان يقصد أن يترك لمن لحقه من المبدعين والشعراء أنموذجا ومثالاً يتعلّمون منه، ويستنيرون بما ترك شعراء القيروان من نصوص، ويجدون فيها تطبيقا صريحا لأسس ومقاييس الشعر، وكان استشهاده بشعر وصف للمحدثين يصفون فيها أشياء غير مألوفة دعوة صريحة للخلق الشعريّ والتجديد في معانيه، والمداومة على ملاحظة الجديد والتفاعل معه من خلال التوليد في المعاني. وقد مثّلت أبياته في وصف الزرافة رمزاً تخييليّا لابتداع أنموذج شعريّ يصف من خلاله حيوانا لم يره العرب في بيئتهم، ولم يسمعوا بوصف له من غيرهم.
شكّل الشعور بالغرابة منطلقاً أساسيّاً في وصف الزرافة، لأنّ الزرافة حيوان غريب على البيئة العربية في القيروان، لم يرد لها ذكر به في الكتب، ولم يسمع بها أحد ممن كان قبلهم، ولم يره أيّ منهم في الحواضر والقفار، لكنّهم ألفوا صورة حيوانات أخرى مثل: النّاقة والخيل والسّباع والذئاب، فكانت ثنائيّة الغرابة والألفة حاضرة في معاني الوصف. ويؤكّد الجاحظ أنّ الغرابة فكرة توجد وتسكن حيث يكون الإبداع، فيقول: “إنّ الشيء من غير معدنه أغرب، وكلّما كان أغرب كان أبعد في الوهم، وكلّما كان أبعد في الوهم كان أطرف، وكلّما كان أطرف كان أعجب، وكلّما كان أعجب كان أبدع”23، ومن هذا مثّل الشعور بالغرابة دافعا أساسيّا للإبداع واقتحام حاجز الطَّرافة في الوصف، عندما عبّرت التجربة الإبداعيّة عن تفاعل المألوف في التجربة الشعريّة مع المنظور الغريب الذي استفزّ قريحة الشاعر، فعاد إلى مرجعيّاته الثّقافيّة الخاصّة ليولّد نصّاً وصفيا، فبدا “النصّ الشعريّ يتألّف من عنصرين اثنين: الأوّل مردّه إلى التّعابير المألوفة الشّائعة، والثاني مردّه إلى التّعابير الغريبة التي تستورد من مكان بعيد غير معهود، فتجتاز مسافة طويلة ثمّ تستقر في مكان ليس من عادتها أن تكون فيه، فهي كـ”الغرباء” بين أهل المدينة، ومن هنا ينبع الشعور بالدّهشة والتّعجب، فإنّ العجيبات إنّما تكون من البعيدات، وما يُحْدِث العجب يُحْدِث اللّذة”24، وهو التأثير الذي أحدثته الأبيات في المتلقّي، فجعلته أنموذجا يحتذى، ونصّا يستشهد به في الوصف لمن جاء بعده، فكانت تجربة ابن رشيق في وصف الزرافة صورة للإبداع يستشهد بها في صناعة الشعر، لأنّ المعاني والصور للموصوف استمدت مّا ألفه الشاعر، وكانت هي المرجع الفكريّ الذي استنار به في توليد معان جديدة، ونقل صورة تشفّ عن المُدْرَك الحسيّ المنظور إليه، واستوت الغرابة في النصّ محفزّاً له في وضع أنموذج شعريّ يصف به هذا الحيوان الغريب.
ينطلق ابن رشيق من إرث عظيم في الوصف الشعري، يستدعيه لاشعوريّاً عند صناعة أيّ نص شعريّ، ويمثّل الكمّ الكبير من محفوظاته في الشعر العربيّ أساساً قويّاً يمكّنه من استحضار القوافي والأوزان، يدعم ذلك فكر ورؤية نقديّة تستلهم من المخزون أفضله، وتقارب من النماذج الشعريّة أقواها وأحسنها في المعنى واللّفظ. وجاء الحَدَث التاريخيّ ليحرِّك ملكة النّظم بما أثاره المنظور إليه من تعجّب الشاعر ودهشته. فما كان منه إلّا مقاربة الوصف بما يمكن أن يمثّل معادلاً موضوعيّا للزرافة في الوصف، وليس أقرب للصورة التي رآها سوى النّاقة. أكثر حيوان وصفه العرب في شعرهم.
ساهم المُدْرَك الحسّي في تلمّس ما يمكن وصفه في هذا الحيوان الغريب فكان جسمها وغرابة شكلها هما أبرز الصفات فيها، وقبل هذا كان ابن رشيق يعلم أنّ العرب ” اهتموا بوصف جسد النّاقة وتتبّعوا أعضاءها”25، فكان المحفوظ من أشعارهم، وما تبلوَر من رؤية في هذا الباب في فكره موجّهاً طبيعيّا ساندته المَلكة والذّوق، وحفّزه الإبداع، فتآزرت ثلاثة مقوّمات أساسيّة في الخلق الشعريّ لديه: المرجعيّة المعرفيّة العميقة، والمُدْرَك الحسّي الغريب، والشعور بالغرابة من هيئة هذا الحيوان.
إنّ ” الشيء الغريب هو ما يأتي من منطقة خارج منطقة الأُلفة، ويسترعي النظّر بوجوده خارج مقرّه؛ لهذا فالعلاقة جدليّة بين الأُلفة والغرابة”26، ومن منطقة الأُلفة وصورها يخلق الشاعر معانيه وصوره عن الغريب، فإذا كان للغرابة والاغتراب علاقة بالبعد والابتعاد، فإنّ الألفة تسعى إلى تقريب البعيد بحيلة اللغة التي أدواتها التمثيل والاستعارة والتشبيه، وهو الأمر الذي جعل الشاعر يتأمّل في الغريب ليقارب وصفه بالصور والتمثيل والاستعارات. فالاستعارة وتبدّل الاستعمال يحوّلان الغريب إلى قريب، والتمثيل يخرج الموصوف الغريب من خفيّ إلى شيء جليّ.
الخلاصة:
يمثّل الوصف الغرض الشعري الطاغي في الشعر العربي القديم، وهو ما أكدت عليه الدراسات الأدبيّة والنقديّة القديمة، والوصف ينقل لنا إرثاً عظيما في التفكير الشعريّ لدى العرب، إذ ينطلق من خلاله الشعراء في صناعة النصوص وعمليّات التوليد الشّعريّ.
وتكشف الدراسات عن أهميّة الغرابة في تحفيز الشعراء ودفعهم للنظم في هذا الباب من الشعر، فالوصف مفتاح لخلق المعاني والصور، وهو الباب الذي نرى من خلاله انسجام المُدْرَك الحسّيّ الذي ينقل المنظور إلى عالم الرؤى والمعاني، ويشكّل الوصف من باب الشعر صوراً حيّة تختلط فيه الثقافة بالمنظور ليشكّل توأمة رائعة في توليد الأنموذج الشعريّ الأقوى، والذي يبقى. ويمثّل بعد ذلك منهلاً يستلهم الشعراء من بعد صوراً ومعانٍ جديدة تطبع رؤاهم وتشكّل أسلوبهم الخاصّ.