عبد الرزاق قرنح
ذات يوم، قبل المتاعب بزمن طويل، انسلَّ دون أن ينبس بكلمة لأحد ولم يَعُدْ قطُّ. ثم، في يوم آخر، بعد ثلاثة وأربعين عامًا، سقط عند الباب الأمامي لبيته الواقع في بلدة إنكليزية صغيرة. حدث ذلك في وقت متأخر من النهار عندما كان عائدًا إلى البيت من العمل، لكنَّ الوقت كان أيضًا متأخرًا جدًّا لأنه أهمل الأشياء ردْحًا من الزمان وما كان له إلَّا أن يلوم نفسَه.
لقد أحسَّ بأنه مقبلٌ على السُّقُوط، ليس خوفًا من تضَعْضُعٍ تربَّص به طيلة ما يستطيع أن يتذكَّره من زمنٍ، بل بإحساسٍ بأنَّ شيئًا ما مقصودًا وقويًّا كان يثقل وطأتَه عليه بثبات. لم يكن انهياره مباغتًا، بل كان أشبه بوحش أدار رأسه نحوه ببطء، فعرفه، ثم مدَّ يديه ليخنقه. كانت أفكاره واضحة في حين أخذ الوهن ينهك جسده، وفي لحظة الوضوح تلك، فكَّر، على نحو عبثي، في أن التَّضَوُّر جوعًا أو التَّجَمُّد حتى الموت لا بد أن يكون هكذا، أو كأن صخرة تطبق على أنفاس المرء. وبالرغم من جزعه أجفلته هذه المقارنة: أَتَرَى ما يمكن أن تُودي إليه المغالاة في التعب؟
كان منهكًا عندما غادر العمل، ذلك النوع من الإنهاك الذي كان يهبط عليه أحيانًا في نهاية اليوم على نحو يتعذَّر تفسيره، ولا سيَّما في السنوات الأخيرة أكثر من ذي قبل، فتمنَّى أن يستطيع الجلوس دون أن يفعل شيئًا ريثما يتلاشى الإنهاك، أو تساعده يدان قويتان على النهوض وترافقانه إلى البيت. لقد أصبح مُسِنًّا، وأقل ما يمكن أن يُقال إنه بدأ يَهْرَم. بدت أمنيته أشبه بذكرى، كأنه تذكَّر أحدَهم يقوم بذلك تحديدًا منذ زمن بعيد؛ يساعده على النهوض ويرافقه إلى البيت. لكنه لم يحسب أنها كانت ذكرى. كلما كبر في السِّن، أصبحت أمانيه أكثر طفوليةً في بعض الأحايين. وكلما أوغل به العمر، دنت منه طفولته أكثر، وبدت أقلَّ شبهًا بخيالٍ بعيد يخصُّ حياة شخص آخر.
في الحافلة، حاول معرفة سبب تعبه. بعد كل تلك الأعوام، كان لا يزال يفعل هذا، محاولًا منح الأشياء معنى، باحثًا عن تفاسير تهوِّن عليه هَلَعَه من تصاريف سمحت بها الحياة. في نهاية كل يوم، كان يعود بخطواته إلى الوراء حتى يعثر على المزيج الصحيح من الحوادث المؤسفة التي تركته واهنًا في نهاية المطاف، كأن إدراكًا كهذا (إنْ كان بالفعل إدراكًا) سيخفِّف حقًّا أساه. التقدُّم في العمر، ذلك تفسير قد يكون بداية، أو قد يكون بِلًى وتمزُّقًا، أو أعضاء تالفة غير قابلة للاستبدال، وقد يكون الإسراعَ إلى العمل في الصباح حينما لم يكن أحد يكترث أو يقلق إذا تأخَّر بضع دقائق، وعندما كان نَفَسُه ينقطع من الجهد والقلق أحيانًا ويعاني الحُرْقَة طوال ما تبقى من اليوم. وقد يكون كوبَ شايٍ فاسدٍ أعدَّه في مطبخ الموظفين فَقَرْقَرَ بطنه مؤذنًا بإسهال وشيك. كانوا قد تركوا الحليب في إبريق مكشوف طوال اليوم ليتكدَّس عليه غبارٌ يجلبونه إليه في ذهابهم وإيابهم فيفسد. كان أحرى به أن يكون أعقل من أن يلمس ذاك الحليب لكنه لم يستطع مقاومة إغراء رَشْف الشاي بالحليب. أو ربما كان الأمر لا يعدو إقدامه على بذل جهدٍ كبيرٍ، تعوزه الخبرة، لرفع أشياء ودفعها وقد كان أجدر به أن يتركها وشأنها. أو لعلَّه كان شَجَنًا. ما كان بوسعه قطُّ معرفة وقت حلول ذلك أو مصدره أو مدة مكوثه.
إلَّا أنه في أثناء جلوسه في الحافلة عرف أن شيئًا غريبًا كان يحدث له؛ عجزًا متراكمًا دفعه إلى الأنين لا إراديًّا، وأخذ جسده يسخن وينكمش، في حين بدأ خواء غير مألوف يسكنه. حدث ذلك ببطء: تغيَّر تنفُّسه، أخذ يرتعش ويعرق، ورأى نفسه متكوِّرًا في تلك الهيئة المألوفة للركام البشري المخذول، إذ الجسد يترقَّب الألم، ويتضعضع. راقب نفسه إلى جوار نفسه، مذعورًا بعض الشيء من تفسُّخ قفصه الصدري ومفاصل وركيه وعموده الفقري تفسُّخًا خبيثًا لا يُقاوَم، كأن الجسد والعقل يفصل أحدهما نفسه عن الآخر. شعر بطعن حاد في مثانته وأدرك أن تنفُّسه قد صار سريعًا ومذعورًا. قال لنفسه: ماذا تفعل؟ هل تعاني نوبةً ما؟ حسبك هِيَاجًا، تنفَّسْ بعمق، تنفَّسْ بعمق.
كان يومًا مباغتًا ببرودته، فخرج من الحافلة إلى هواء شباط، مرتعشًا وواهنًا، وهو يتنفَّس بعمق مثلما لقَّن نفسه. لم يكن يرتدي ثيابًا ملائمة لذلك الطقس. كان الناس من حوله يرتدون معاطف وقفافيز وأوشحة صوفية ثقيلة، كأنهم يدركون بالممارسة والعادة مدى برودة الطقس، وهو أمرٌ لم يدركه هو بالرغم من السنوات العديدة التي عاشها هنا. أو لعلهم، نقيضًا له، كانوا قد استمعوا إلى تقارير الطقس في التلفاز والمذياع، ثم غمرتهم السعادة وهم يخرجون ثيابهم الثقيلة التي احتفظوا بها في خزائنهم لأغراض كهذه. كان يرتدي المعطف الذي يرتديه معظم شهور العام، ويكفيه لدرء المطر والبرد، لكن دفئه ليس كافيًا عندما يكون الطقس متوسط البرودة. لم يكدِّس قطُّ ثيابًا وأحذيةً في خزانة لمناسبات ومواسم مختلفة. كانت تلك عادةُ تقتيرٍ ما عاد بحاجة إلى ممارستها، لكنه لم يقدر على تركها قطُّ. أحبَّ ارتداء الثياب التي تريحه حتى تبلى، وأحبَّ الاعتقاد بأنه إذا رأى نفسه مقبلًا فسيعرفها من الثياب التي يرتديها. في مساء شباط البارد ذاك، كان يدفع ثمن تقشُّفه، أو إمساكه عن الإنفاق، أو زُهْدِه، أيًّا كان ذلك. لعلَّ السبب كان قلقه، العادة الذهنية التي تَسِم غريبًا لم يصالح محيطه، فيعمد إلى ارتداء ثياب خفيفة لكي يتمكَّن من التخلُّص من المعطف سريعًا عندما يحين الوقت للمضي قُدُمًا. كان ذلك ما اعتقده عن البرد. لم يكن يرتدي ثيابًا ملائمة لأسباب حمقاء تخصُّه، وقد أرجفه البرد على نحوٍ خارج عن السيطرة، وبداخله ارتجاف أشعره بأن أضلاعه كادت تتكسَّر. وبينما كان واقفًا في محطة الحافلات حائرًا، لا يعرف ما يفعل، سمع نفسه تئن وفهم أنه بدأ يفقد مسار الأحداث، كأنه غفا لحظةً وصحا مرة أخرى. عندما أجبر نفسه على الحركة، بدت يداه وقدماه بلا عظام، وكان يزفر زفيرًا قصيرًا ثقيلًا. كانت قدماه ثقيلتين وخَدِرتين، بدت عليهما شقوق لاسعة كشفت عن لحم متجمِّد. ربما كان يجدر به أن يجلس وينتظر ريثما يزول التَّشنُّج. لكن لا، سيُضْطَرّ إلى الجلوس على الرصيف وسيُفْهَم أنه متشرِّد، وقد لا يستطيع النهوض مرة أخرى أبدًا. أكره نفسه على التقدُّم خطوة شاقةً تلو أخرى. أصبح مهمًّا الآن أن يصل إلى البيت قبل أن تُسْتَنفَد قواه، قبل أن يسقط في هذه البَرِّيَّة حيث سيتمزَّق جسده أشلاء ويتناثر. عادةً ما كان ينفق سبع دقائق، خمسمئة خطوة أو نحو ذلك مشيًا من موقف الحافلة إلى بيته. في بعض الأحيان كان يحصي خطاه ليخمد الضجيج في رأسه. بيد أن الأمر في ذلك المساء استغرقه -حتمًا- وقتًا أطول. شعر كأن الوقت قد طال به، حتى إنه لم يكن على يقين من دوام قوته. حسب أنه مرَّ بأناس، وفي بعض الأحايين ترنَّح وكان عليه أن يتكئ على حائط بضع دقائق أو ثوانٍ. ما كان ممكنًا معرفة ذلك. كانت أسنانه تصطك وعرقُه يتصبَّب غزيرًا عندما بلغ باب بيته، وبعد أن فتحه جلس في الرُّواق مستسلمًا للحرارة والدُّوار. حينًا من الوقت لم يستطع تذكُّر أي شيء.
كان اسمه عباس، وقد كان دخوله صاخبًا مع أنه لم يعِ ذلك. سمعته زوجته مريم وهو يتلمَّس المفاتيح ثم يصفق الباب مع أنه اعتاد الدخول بهدوء. أحيانًا لم تكن مريم تدرك أنه قد رجع إلى البيت إلى أن يقف أمامها مبتسمًا، لأنه يكون قد باغتها مرة أخرى. كانت تلك هي إحدى دعاباته، أن يدفعها إلى الوَثْب، مثلما كانت تفعل دومًا، لأنها لم تكن تسمعه وهو يدخل. ذلك المساء، جفلت مريم من ضجيج المفاتيح في الباب ولحظةً شعرت ببهجةٍ معهودة بوصوله، ثم صفق الباب وسمعته يئن. عندما خرجت إلى الرواق رأته جالسًا على الأرض قرب الباب تمامًا وساقيه منفرجتين أمامه. كان وجهه ينضح بالعرق، ونَفَسُه يتتابع من الإعياء، وكان يفتح عينيه ويغمضهما في حيرة.
جثت مريم قربه مناديةً باسمه: “آه، لا يا عباس، عباس، ما الخطب؟ آه.” مسكت يده الساخنة المُبتلَّة بالعرق، فأغمض عينيه ما إن لمسته. كان فمه مفتوحًا وهو يتنفَّس جاهدًا، ولاحظت أن باطن بنطاله كان مبلَّلًا. قالت: “سأهاتف سيارة إسعاف.” شعرت بيده تشدُّ يدها قليلًا، وبعد حين قال وهو يئن: “لا.” ثم قال هامسًا: “دعيني أستريح.” أَقْعَت في جلوسها وانتظرت قربه وقد أفزعها عجزه ولم تكن على يقين مما ينبغي فعله. أخذ جسده يتشنَّج من ألم أو غثيان، فنادته مرة أخرى مُحْكِمةً شَدَّ يده بيدها. وبعد حين بدأت تشعر بتلاشي ارتعاشه. “ما الذي فعلته؟” سألته برفق، مغمغمةً لنفسها، مغمغمةً له. “ما الذي فعلته بنفسك؟”
عندما أحسَّت بأنه يحاول النهوض على قدميه وضعت ذراعه حول كتفها وأعانته على ارتقاء السلالم. قبل وصولهما إلى غرفة النوم بدأ يرتجف مرة أخرى، فاحتملت مريم ثقله واستحثَّته لاجتياز الدرجات القليلة المتبقية ليصل إلى السرير. نَضَتْ عنه ثيابه على عجل، ومسحت البقعة حيث لوَّث نفسه وغطَّته. لم تفكِّر في سبب أهمية تجريده من ثيابه وتنظيفه أوَّلًا قبل تغطية جسده. لعلَّها كانت غريزة فحسب تتعلَّق بكرامة الجسد، احترامًا فائضًا لم تفكِّر فيه. ثم اضطجعت إلى جانبه فوق الأغطية وهو يرتعش ويئن وينشج قائلًا: “لا، لا”، مرارًا وتكرارًا. حينما كفَّ عباس عن الارتعاش وما عاد ينشج وبدا حتى كأنه سيخلد إلى النوم، عادت مريم إلى الطابق السفلي وهاتفت طوارئ العيادة. بعد اتصال مريم بدقائق ظهرت الطبيبة، وهو أمر لم تتوقعه قطُّ. كانت الطبيبة شابَّة لم ترها مريم في العيادة من قبل. أسرعت في الدخول، باسمةً ودودًا، كأنه لم يكن هناك شيء مخيف على نحو استثنائي يحدث. تبعت مريم إلى الطابق العلوي، نظرت إلى عباس ثم حواليها بحثًا عن مكان تضع فيه حقيبتها. كل حركة بدرت منها كانت محسوبة وبدت كأنها تقول لمريم لا تخافي. شعرت مريم بأنها قد بدأت تهدأ. فحصت الطبيبة عباس، جسَّت نبضه، أصغت إلى أنفاسه بسماعتها، فحصت ضغط دمه، وجَّهت ضوءًا إلى عينيه، أخذت عيِّنة من البول ووضعت فيها ورقة من أوراق عباد الشمس. ثم سألته عما حصل مكرِّرة أسئلتها مرات عديدة إلى أن أدلى بأجوبة مُرضية. بدا اللطف والاهتمام على صوتها ومسلكها أكثر من القلق، بل إنها وجدت الوقت لتُبَادِل مريم الابتسام وهما تناقشان ما ينبغي فعله بعد ذلك، وقد تلألأت أسنانها البيضاء ولمع شعرها الأشقر الداكن في ضوء الغرفة. وتساءلت مريم: كيف يعلِّمونهم فعل ذلك، كيف يعلِّمونهم معالجة الأجساد المصابة بهذا الهدوء وهذه الثقة؟ كأنها كانت تعالج مذياعًا مكسورًا!
هاتفت الطبيبةُ طلبًا لسيارة إسعاف، وفي المستشفى قيل لمريم إن عباس عانى أزمة مرض سُكَّري، لم تصل إلى حدِّ الغيبوبة لكنها خطيرة بدرجة كافية. قيل له إنها أزمة سُكَّري متأخرة تصيب الأشخاص إذ يتقدَّم بهم العمر، وإن السُّكَّري هو عادةً مرض قابل للعلاج، لكن بسبب جهالته بأنه مصاب به ولم يتلقَّ علاجًا بعد، فقد تطوَّر إلى أزمة. كان الوقت ما زال باكرًا على تحديد الضرر الذي يمكن أن يكون قد سبَّبه هذا المرض تحديدًا كاملًا. هل كان هناك مرضى بالسُّكَّري في عائلته؟ والداه، أعمامه، عماته، أخواله، خالاته؟ قال عباس إنه لا يعرف. عندما فحصه الطبيب الاختصاصي في اليوم التالي قال إن السُّكَّريّ ليس مهدِّدًا للحياة، ولكن بالنظر إلى استجابته الحركية فهنالك احتمال إصابته ببعض التلف في الدماغ. لا داعي للذُّعر. قد يستعيد بعض الوظائف التي فقدها وقد لا يستعيدها. الوقت سينبئنا بذلك. لقد أصيب أيضًا بسكتة دماغية خفيفة. ستوضِّح الفحوصات المنتظمة حالته وعلاجه ، لكنه سيبقى، في الأثناء، تحت الملاحظة في المستشفى يومًا آخر، وإذا لم تطرأ أحداثٌ أخرى فيمكنه العودة إلى المنزل. أُعِدَّت له قائمة طويلة بالنَّواهي، ووُصِفت له الأدوية، ونُصِح بطلب إجازة مرضية من العمل. كان عمره آنذاك ثلاثة وستين عامًا، ولكن لم يكن هذا فحسب كل ما في الأمر.
هاتفت مريم ابنيهما هناء وجمال. أخبرتهما بما حدث وبالغت في طمأنتهما لئلا يُهرعا إلى البيت. قالت لهما إنه إذا لم تطرأ أحداث أخرى يمكنه العودة إلى البيت غدًا. سألتها هناء: “ماذا تعنين بأحداث أخرى؟” فأجابت مريم: “ذلك ما قاله الطبيب، إذا لم تطرأ أحداث أخرى.” كانت تحذو حذو الأطباء الذين بدا أنهم يودون تهدئة الرَّوع، فلعل ذلك هو الأنسب لعباس، وقدوم هناء وجمال على وجه السرعة سيقلقه بلا داع. هي نفسها عملت في مستشفى وتدرك توتر الناس في بعض الأحيان بسبب مرض أقاربهم. “إنهم يعالجونه الآن. يقولون إن وضعه مستقر. كلا، لا حاجة إلى السرعة بالقدوم. لن يذهب إلى أي مكان. قطعًا يمكنكما المجيء لزيارته في أي وقت، ولكن لا داعي للعجلة. تعالا متى شئتما. إنه بخير الآن. إنهم يعالجونه. لا، لن يكون بحاجة إلى إبرة كل يوم يا جمال. إنه يتلقَّاها الآن ولكن ليس لوقت طويل. سيتناول الدواء ويتبع نظامًا غذائيًّا، وستكون هناك أشياء عديدة عليَّ المداومة على فحصها. مثل ماذا؟ أوه، جروح وخدوش في قدميه، سُكَّر الدم وأشياء أخرى. سوف يعلِّمونني كل شيء عنها. سيكون بخير. سوف يمر بعض الوقت حتى يعود قويًّا. لا تقلقا، سيكون بخير. بلى، بلى، تعالا لزيارته قريبًا.”
أنهك المرض عباس. كان يرتجف ويتصبَّب عرقًا من أقلِّ جهد، ويتذمَّر مُحْبَطًا. لم يكن يستطيع حتى الجلوس من دون مساعدة. كان دائمًا جائعًا لكن الطعام يثير في نفسه الغثيان. كان طَعْم لعابه مزعجًا، ورائحة فمه كرائحة بالوعة. كلما أجبر نفسه على بلع الطعام شعر برغبة في القيء لكنه لم يكن يستطيع ذلك. ممرضة من قسم السُّكَّري بالمستشفى أتت لزيارته وشرحت له (ولمريم) أنه بحاجة إلى الاعتناء بنفسه. فرضت أوامر وأعطتهما كراريس ونصحتهما، قبل أن تخرج متذمِّرةً. كان أشدَّ إرهاقًا بعد مغادرتها. بعد عدة أيام، كان لا يزال عاجزًا عن المشي بضع خطوات إلى الحمام بلا مساعدة، وقبل أن تخرج مريم من البيت كان عليها أن تجلب له دلوًا بلاستيكيًّا وتضعه قرب سريره في حال أي طارئ. استخدم ذلك الدلو مرةً واحدة فجلس عليه كطفل، وأخذ يئن ويتأوَّه وجسده يشخُّ ويرشُّ في الدلو مُسَبِّبَا له الخزي بعد عُمْرٍ من الضياع والأكاذيب. وعندما انتهى لم يستطع تنظيف جسده جيدًا، لم يستطع غسل جسده كما كان يفعل عادةً. لم يعتد قطُّ تنظيف نفسه بالمناديل، فكان يشعر بأنه ما زال مُتَّسِخًا بعد ذلك، وعليه أن يعود إلى الفراش وقد انتابه إحساس بأن مؤخرته يكسوها غائط جاف. في بعض الأحايين كان ينجرف بعيدًا، ذاهبًا في النوم، أو مبتعدًا عن مراسيه إلى تلك الأماكن الصامتة العميقة التي لم يستطع العودة إليها، وكان يمقت العودة إليها. حتى في دُوَارِه كان يعلم أنه أهمل الأشياء وقتًا طويلًا مثلما عرف ذلك سنواتٍ عديدة. ثمَّة الكثير مما كان يجدر به أن يقوله، لكنه سمح للصمت بأن يخيِّم إلى أن أصبح ثابتًا. وكانت هناك أوقات حَسِب فيها أنه قد رحل وأصبح نائيًا متعلِّقًا بحبل رقيق أخذ ينتقض من بَكرَة في حين ذاب هو شيئًا فشيئًا. لكنه لم يرحل، فقد استيقظ مرة أخرى، وتذكَّر ذلك الحلم الذي رآه في الأوقات التي عمل إبَّانها في البحر، وفيه كان يتعلَّق بحبل وجسده يذوب في المياه الهائجة.