إن مساهمة الفيلسوف في النقد أثمن وأكثر جدوى من مساهمة الناقد الأدبي المتخصص نفسه. هناك ما يشبه التأكيد على أن الوعي النقدي يتغذى من غير مائه، فلا بدّ له من ينبوع آخر لينمو ويزدهر ويتفرع. إن واقع الثقافة الإنسانية يمدنا بكثير من الأمثلة الساطعة، أفلاطون، كانط، هيجل، نيتشه، هايدجر، وهؤلاء مع انتمائهم للثقافة الغربية مارسوا تجربة النقد وتقاطعت كتاباتهم الفلسفية مع الفنون الأدبية ومع باقي النشاطات الفنية العالية، ونتذكر مساهمة هيجل مثلا في حديثه عن الموسيقى والعمارة والشعر. الأمثلة ساطعة أيضا في ثقافتنا العربية والإسلامية التي أسست لنقد لم تكتمل مسيرته مع الأسف الشديد، هذا النقد الذي ظهرت بوادره مع الكندي وبخاصة مع الشعر الجديد الممثل عند أبي تمام، وعند الفارابي في كتابه حول الموسيقى وترجمته لشعرية أرسطو، وعند ابن سينا في فلسفته الفنية في طبيعة الإدراك الحسي وأمثلته في الفنون والعلوم. هذه كلها أمثلة حدثت في التاريخ الإنساني تقاطعت فيها الفلسفة مع الفن والأدب، قراءة وتحليلا ومعرفة.
لقد اعتمدنا على بعض الأسماء المعلومة في تاريخ الفلسفة لكي نؤكد على أن مساءلة خطاب لخطاب تثير من الأسئلة ما يجعل الخطاب الأدبي والفني أكثر غنى بمعانيه ورموزه وتمظهراته. فتجربة النقد حينما يمارسها الفيلسوف تنفتح على أفق مجهول، وترسم طريقا جديدة لم تعرف من قبل، وتثير من الأسئلة ما لم يكن مطروحا في الساحة النقدية الواضحة. فالنقد من حيث هوتجربة، ليس ممارسة خاصة بفئة تنتمي معرفيا وصوريا إلى الأدب، بل هو فضاء عام ومفتوح. وكما ذكرنا الدخول إلى حقل جديد بأدوات جديدة ووعي مختلف يثمر نتائج مختلفة، وصفة الاختلاف هي التي تؤسس لوعي نقدي يمكن أن يشكل هاجسا لا ينتهي أثره أبدا.
تعد تجربة دولوز Deleuze متفردة لأسباب كثيرة، إنها تجربة عظيمة في عالم النقد الذي اغتنى بالفلسفة الحقيقية وتغذى من التأمل الطويل في القضايا التي تتصل نسباً بالأدب والفن. تجربة رسمت طريقا لم تكن مرسومة من قبل. فقد تؤكد الخطابات العالمة حول الأدب سواء أكانت متمثلة في التاريخ الأدبي أوالتحليل النقدي للأعمال الأدبية على اختلافها، أو النظريات القائمة على المعرفة الأدبية، على فرادة التجربة الفلسفية التي تقارب الأدب والفن، وتصنفها ضمن تراتبية خاصة تسعى من ورائها إلى تقييمها والحكم عليها، هذا يحدث في الثقافة الغربية التي تغريها رياح التغيير وتصاب بالدهشة من الاكتشاف، ربما على العكس من الثقافة النقدية العربية التي وإن جدت في التصنيف والترتيب والتأريخ للنظريات النقدية إلا أنها أغفلت بعض المساهمات العظيمة(1)، وإن أشارت إليها فمن باب التنبيه فقط.
فالنقد العربي قليلا ما استفاد حتى من حيث التمثل من تجربة دولوز، لأنها تجربة غامرت بعيدا عن أسئلة العقل العربي الذي وجد نفسه حبيسا في القضايا الجدلية التي تثير اهتمام العوام. فالمكتبة النقدية العربية تزخر بالتطبيقات البنيوية والسيميائية والأسلوبية المستمدة من أصولها الغربية، ولكنها لم تغامر مع تجربة فريدة كانت تطل من شرفة أخرى وتهتم بقضايا غير تقليدية على الإطلاق: عالم الصورة، السينما وعلاقتها بالمنظور البصري، الكلمات، الأدب والرغبة، الترحال والخروج، خط الهروب، الطية، وغيرها من الكلمات/العوالم. وهنا يكمن شكل من أشكال التعثر في النقد المعاصر، حيث التطبيقات تسير في واد، والتفكير النظري يسير في واد ثان. هناك صورة أخرى لا تقل تعثرا عن الأولى وهي عدم التباس النقد كتجربة بتجربة الواقع كحركة في المكان والزمان، إذ النقد التجريدي لم يصل إلا إلى إعادة التفكير وإعادة طرح الأسئلة القديمة التي طرحت حول القضايا الحساسة في الآداب والفنون. نضرب المثل بالنقد الذي وجهه إدوارد سعيد إلى جاك دريدا بخاصة، فهو نقد يعيد موضعة النقد أو موقعته ضمن سياقه الاجتماعي والثقافي بشكل عام بعيدا عن الالتباسات التجريدية والأوهام النظرية. إنه نقد لا يخرج عن مساءلة القضايا التقليدية مثل حضور الكاتب والفضاء العام المنتج للمعنى الأدبي مثل السياسة والمجتمع والثقافة، أي ما يمكن حصوله في العالم الدنيوي. فيم النقد المعاصر التجريدي لا يزال يتحدث عن بعض المفاهيم التي ابتعدت بشكل من الأشكال عن الواقع المادي للنصوص.
ملامح الحياة
جيل دولوز أحد أقطاب الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ولد بباريس سنة 1925، درس الفلسفة في جامعة السوربون بداية من سنة 1944 وتعرف على فرونسوا شاتليه Fronçois Châtelet وميشال بيتور Michel Butor وميشال تورنييه Michel Tournier، ومن بين أساتذته الأساسيين نجد فرديناند ألكييه Ferdinand Alquié وجورج كانغيلام Georges Canguilhem وموريس دي كوندياك Maurice de Candillac وجون هيبوليت Jean Hyppolyte. تخرج من الجامعة سنة 1948، اشتغل أستاذا للفسلفة بالمدارس الثانوية من سنة 1948 إلى غاية 1957 وبعدها أستاذا مساعدا بجامعة السوربون لتاريخ الفلسفة إلى غاية سنة 1960، وبدءا من 1960 إلى غاية 1964 اشتغل باحثا بالمركز الوطني للبحث العلمي CNRS. يلتقي بميشال فوكو Michel Foucault سنة 1962. من 64 إلى 69 يشتغل أستاذا للفلسفة بجامعة ليون Lyon. في 1969 يناقش رسالتين إحداهما أساسية عنوانها الاختلاف والتكرار، وكان يرأس اللجنة دي كوندياك، أما الثانية فهي مكملة حول سبينوزا Spinoza عنوانها سبينوزا ومشكلة التعبير، وكان يرأس اللجنة فرديناند ألكييه. يلتقي في السنة نفسها شريكه النفساني فليكس غواتاري Félix Guattari ويبدأ بتدريس الفلسفة في جامعة فانسين Vincennes. ويتقاعد سنة 1987.(2)
هناك كثير من التفاصيل تتعلق بهذه الحياة الهادئة والتي قليلا ما نجد فيها مغادرة موطنية بالمعنى العام لكلمة مغادرة، إذ كان دولوز فيلسوف الترحال دون مغادرة موطنية، يرحل في المكان ذاته، أو ترحل معانيه وأفكاره. إن هذا السفر هو الذي جعله يتبنى مواقف فريدة في تاريخ الفلسفة كله، لم يكن أبدا وجوديا حينما كانت الوجودية ريحا تأخذ معها كل شيء، ولم يكن فينومينولوجيا يوم كانت الفينومينولوجيا أساس التفكير الفلسفي، ولم يكن يوما هايدجريا يوم كان هيدجر زعيم الفكر وهادي العقل. وقد حارب كل تمدرس وتمذهب ضيق يتبنى الفكرة في حدودها الضيقة والقصيرة، كان يتبنى معنى التشتت والهذيان، لذلك استهواه نيتشه Nietzsche وسبينوزا وبرغسون Bergson.
فلسفة النقد: الطبيعة والإشكاليات
هناك مدخل نظري مهم يسمح بمقاربة لموضوعنا حول فلسفة النقد عند دولوز، يتعلق الأمر بالعلاقة الجدلية بين النظرية وتطبيقاتها. كيف تتجلى النظرية؟ ما هي صور تطبيقاتها على مستوى الواقع والوعي؟(3) تعبر إجابة دولوز على نوع من المراوغة الفكرية التي عرف بها، ليست مراوغة بالمفهوم العامي للكلمة، بل هي نسبة عالية من الذكاء في التعاطي مع مفردات المعرفة. فالتصور التقليدي لمفهومي النظرية والتطبيق أو الاستخدام يقضي بأن تكون النظرية تجريدية سابقة، والتطبيق تجلٍ عملي لها، بينما الحال والتجربة يقولان غير ذلك تماما. إن الطرح التقليدي أيضا يرى إلى المسألة في ظل عملية شاملة، بينما المجال الحيوي للنظرية واستخداماتها يكون في المجالات الجزئية(4). والمقصود من رؤية دولوز هو أن النظرية لا يمكنها أن تتجاوز طابعها المحلي، فالموقع الذي يمكن أن تحتله متصل بحقل استخدام يناسبها، ويمكن أن يكون حقل الاستخدام بعيدا، إذ لا مناسبة منطقية بين النظرية واستخداماتها من حيث مواقع التطبيق أوحقول التحقق. فتحقق النظرية العملي لا شأن له بموقعها الحقيقي، فهي كأصل نبتت في موقع والاستخدام يمكنه أن يشغل موقعا ثانيا.(5)
هذا هو المضمون الفلسفي والمفهومي لحقل الاستخدام، أما طبيعة الاستخدام وصلاحية النظرية فلهما شأن آخر، يرتبط عمقيا بالتصور الفلسفي الخاص بكل فكرة مجردة وليدة. إن دولوز يفكر داخل النظرية وطبيعة استخدامها، ويرى بأن القوة في ذلك هي المنع. والمقصود من ذلك أنه كلما مضت النظرية أو سعت إلى التحقق عبر استخدامات معينة، كلما صادفت عقبات هي أشبه بالجدران المانعة، وقوة التصادم أو النفاذ عبر هذه الجدران يؤهل النظرية للتحقق عبر الاستخدامات الرمزية الفاعلة، فقوة المواجهة وطبيعة التحقق مشروطان بوجود العقبات، وفي ظل هذا التصور ينشأ خطاب آخر مرتبط بالنظرية يسلمها إلى حقل تحقق جديد، نستطيع أن نسميه خطابا تفسيريا يعطي للنظرية بعدا مفهوميا جديدا يلائم الحقل الجديد، ولا بدّ من وجود هذا الخطاب لأنه يمنح النظرية فرصة للوجود، والعملية كما وضحها دولوز هي أن تجد النظرية واستخدامها ذاتهما في حقل تناوب أو تبادل للدور، ويقول في ذلك:» الاستخدام مجموعة تناوب نقاط النظرية فيما بينها، والنظرية انتقال من استخدام إلى استخدام آخر.»(6)
إن فلسفة دولوز قائمة على الاعتبار الرمزي للنظرية أو النظريات سواء أكانت فلسفية أو تاريخية أو نفسية أو اجتماعية. فقد أعاد النظر في الكثير منها اعتبارا من مفهومه المتحول والدينامي حولها. فمجال الاستخدام يبقى في حدوده القصوى بعيدا عن خطية النظريات، فليس شرطا ما تقوله النظريات على مستوى المدلول أن تكون عليه جملة الاستخدامات، فالنظرية مجموع أدوات لا غير، ولا علاقة لها بالمدلول(7) وهي ليست مجعولة لذاتها بل للاستخدام، وهذا هوالشرط في وجودها، والاستخدام – إذا شئنا التأويل – يقتضي التجزيئ والتشظي والتكاثر.(8)
ما أهمية هذه المقدمات في حديثنا عن فلسفة النقد؟ هل يمكّننا هذا المدخل من معرفة مّا لطبيعة النقد عند دولوز؟ لا شك أن فكرة النظرية تستحق اهتماما أكثر لو أمكن أن نستغل الموقف في أكثر من مناسبة، وبخاصة جدل المجرد والعملي، فهما ثنائيان كثيرا ما أديا إلى خلط كبير. فالشيوع العام لأي نظرية ليس من قبيل كونها كلية، بل هي مشروطة بمواضعات اجتماعية مختلفة، وهذه المواضعات على اختلافها سبب في تشظي النظرة إلى النظرية. فلو ضربنا المثل بالتصور التقليدي للنظرية أي نظرية، لأمكننا أن نلتقي مع دولوز في صوابية الرؤية التي يراها كمفكر داخل الثقافة التي تنتج النظرية أو النظريات على اختلافها.
إننا نرى بأن معنى ما قدمناه حول توتر النظرية والتطبيق أو الاستخدام ذو دلالة واضحة على تجربة النقد عند دولوز، فهي تجربة متميزة لأنها معتمدة على التصور الفلسفي الخالص والنابع من الأسئلة الكبرى الخاصة بالوجود، والفن وجود يفترض قراءة خاصة ولا يمكن فصله بأي حال من الأحوال عن المسائل الكبرى، بل يمكن أن يكون بوابة لها وفاتحة للحديث عنها. واهتمام دولوز بمسائل الفن وما يتعلق بمشكلات الكتابة كاللغة والكلام والملفوظ والخطاب وعلاقة ذلك بالمؤسسات والهيئات والمجتمعات، نابع من اهتمامه الأكبر بالفلسفة، وهوالداعي إلى محاولة الخروج منها وعدم الإقامة في مكان واحد. ففكرة الترحال تشرح لنا بطريقة مّا مسألة النقد داخل نسق الفلسفة.
تقوم الدعامة الأساسية لفلسفة النقد عند دولوز في محاولة إيجاد صورة حية للمفهوم، في حركته في الذات والمجتمع، في سريانه وخطوه وذهابه وإيابه. الحركة ليست امتدادا أو انتقالا من نقطة إلى أخرى، بل دورانا وتولدا وتخلقا. إن الحركة ليست معلومة الصورة، بل هي موجودة غير معلومة، وهذا يفيد حركية المعرفة في ذاتها. فهو يرى من الناحية المبدئية أن الفلسفة هي فن تشكيل المفاهيم وابتكارها وصناعتها.(9) وتبدو حركية المفهوم أيضا في سياقات جديدة حيث المسارب المختلفة التي فتحها دولوز داخل النصوص والمتون، إنه صاحب فكرة خط الهروب والانتقالات داخل المكان أي داخل النص، داخل ما نقرأ سواء في النصوص أو في العالم. إن الحركية التي نقصدها هي حياة المفاهيم، صيرورتها، وتحولاتها تكرارها واختلافها و«الاختلاف والتكرار هما في الواقع مؤشران يدلان على حركة نحو فكر أفقي جذري ولا تمثيلي»(10) أي ليس المقصود الترحال عبر خط من المفاهيم والتصورات يشبه بعضها بعضا في سياق خطي متشابه، بل داخل هذه الخطية يكمن المختلف ويحدث التكرار الذي يستوجب الاختلاف، لا التكرار الذي يتماثل فيه المفهوم مع نفسه.
النقد ليس تجربة خاصة بالآداب والفنون، فهو أساس النظر فـي حقل الفلسفة. وكل فلسفة هي نقدية في المقام الأول، وكبرى النظريات الفلسفية قامت على هذا الأساس. ولكن ما سرّ بقاء النظرية النقدية حية ومستمرة وتستجيب للواقع المتحول؟ يكمن السرّ الحقيقي في كون النظرية كحقل ألغام مليئة بالأسئلة ملتبسة بجسد صاحبها، لصيقة بحياته وتفاصيلها الكثيرة، البعيدة والقريبة. ما معنى الالتباس في هذه الحالة؟ هي أن تكون الأسئلة والأكثر تجريدية منها مستمدة من واقع الخبرة العيانية أو المباشرة التي يحياها الناقد كإنسان محكوم بظروف مختلفة. وهذا يعني أن تجربة النقد ليست تجربة مجردة مما هو عملي أو من واقعيتها، وليس شرطا كما رأينا أن تعكس هذه التجربة بالضرورة الواقع كما هو، بل تعكس تحوله ورمزيته وصيرورته. لم تكن تجربة دولوز بدعاً بين التجارب، بل هي إضافة نوعية خالصة للتجارب السابقة ولعلها تكون هادية للتجارب اللاحقة ليس من أجل تكرارها، وإن كان لكلمة التكرار وقع خاص في فلسفته، ولكن لتمثلها والبناء عليها، لأن الواقع الحقيقي للأحداث وللوقائع مختلف تماما عن واقع النظرية.(11)
كانت تهمه تجربة فوكو و تغريه بالكتابة، لذلك نجده يخصص كتابا مهما حوله، حيث يعدّ من بين أهم الكتب التي حاولت مقاربة هذه التجربة الخطيرة في عالم المعرفة. ليس فقط على مستوى التحليل للآفاق التي عرفت بها فلسفة فوكو، بل احتمالات القول لهذه الفلسفة، ما أرادت قوله من بين السطور، وما لم تستطع قوله أيضا. والقارئ للكتاب يكتشف مدى الحصيلة التي يتمتع بها دولوز في مواجهة النصوص على اختلاف طبيعتها، المهم أنها نصوص لغوية، واللغة عند دولوز ذات فرادة خاصة، إنها تتوتر بين قولين، إنها استجابة لحالة سماع، وليست تعبيرا عن حس رؤيوي – نسبة إلى الرؤية البصرية – إنها السمع – القول(12)، وقد كان يأمل أن تمنحه هذه اللغة صورة أو مشهدا، أن تكون تعبيرا عن حدث رؤيوي، عن سينما المعنى، ويتحدث بصيغة رمزية عن فلسفة فوكو من حيث البناء اللغوي وكأنها قصيدة(13) أو مجموعة حكايات أو قصص تمنحنا رؤية خاصة مليئة بالأحلام فيما هي تضرب في صلب الواقع.
نحن نقدم عرضا رمزيا لمفهوم دولوز حول اللغة لأنه هو نفسه يعاملها كحالة تجسد نبض النص الحقيقي، يستشرف فيها أفقا آخر هو أفق الهاوية، لأنه لا شيء دون مهوى. والهاوية بتعبيرنا هي الفضاء الذي تتركب فيه لغة جديدة، تتجاوز صورتها الأولى وتتلبس حالة إبداعية أخرى، إن اللغة التي تعني دولوز هي التي تنشأ داخل اللغة/النظام، لسان اللسان، أواللغة الأجنبية(14)، وهذا كله سيأتي الحديث عنه في مضمون المفاهيم التي شكلت فلسفة دولوز النقدية.
إن فلسفة النقد عند دولوز هي تجاوز للطرح التقليدي الذي يجعل مركزية المعرفة منحصرة في هذا الكائن الذي تدور حوله الفلسفات جميعا (الإنسان). لقد فقد الإنسان مركزيته وافتقد إلى الأصل، وإلى نقطة البدء، لقد تشابكت الخطوط وأصبح موضع الإنسان مهددا، بل مهزوزا من قبل مراكز أخرى في الوجود. فالعوالم التي تسكن هذا الإنسان تتكلم فيه، أتيحت لها ألسنة وانتقلت عبر اللغة إلى خارج هوداخل النص، إلى المجال الحيوي للنص: الحيوان، الصخر، لغات مجهولة، الرغبة، أشكال من التصورات والطقوس والأفعال. أصبح المركز لامركزا، بل نقطة تتشابك فيها جميع النقاط.
هناك حالة من توسعة المجال الرمزي الذي يتحرك فيه الإنسان، وهناك نصوص لاحقت هذا المجال الرمزي بأشكال وأنواع من التأويلات والتحليلات، نصوص التحليل النفسي، نصوص الأنتروبولوجيا، نصوص علم الاجتماع، والنصوص الدينية. تحول هذا الإنسان من فرد إلى مجموع، صور كثيرة في دوائر المعارف والعلوم. لقد أغتيل الإنسان وولد إنسان جديد، وتراكم الصور حوله أتاح فهما جديدا يتجاوز التأسيسات الأولى والتنبؤات الرمزية التي خلفها لنا التاريخ، تاريخ البشرية. يعبر عنها دولوز في كتابه عن فوكوبعلاقة قوى الإنسان بقوى خارجية متناهية.(15)
بحث الإنسان عند دولوز لا ينفصل عن بحث اللغة والصورة والحدث، وكل بحث لا يكون الإنسان جزءا منه أو مصدرا له لا يعني شيئا. لذلك نجد النقد الجديد أو المعاصر لا يستغني عن عين الفلسفة في النظر إلى الموضوعات التي تشكل حدثه وتبني مصيره. وعلى الرغم من رؤية النقد التجريدية التي فصلت في أمر المؤلف بحكم أنه تفصيل زائد، إلا أن دولوز حوّل المسألة إلى شأن جديد، تستحضر الإنسان ولكن في صيغة جديدة. يصبح الإنسان بما في ذلك الكاتب أو المؤلف بؤرة تصورات تعبره جيئة وذهابا، فالمعاني والمفاهيم والتصورات الجديدة تعبر هذا الإنسان كحدث تاريخي متجدد وكذات مستقلة وكفكر قائم.
إن سؤال التجربة النقدية بعين الفلسفة يجب أن يطرح ضمن تجربة منفتحة في القراءة ذاتها، ولا بدّ من وضعها موضعها التي تستحقه، حتى من ناحية التصنيف، لا يجب التعبير عنها فقط بلغة العلم أوالمنطق، ولكن وجب الاحتفاء بها، لأنها تجربة ستظل – خلال كل استخدام – جديدة ورائدة وفعالة. إن الاستخدامات العلمية للنقد أدت في كل الحالات إلى حالة من الانسداد والانغلاق، والنقد كتجربة متعالية بحاجة إلى الانفتاح والاستشراف على الهاوية كما ذكرنا من قبل. الهاوية التي تؤدي إلى التيه، لأن اليقين يقتل التصور واللغة والنقد ذاته، بينما التيه يثري الأسئلة، والنقد في أقصى حالاته ميدان توتر الأسئلة التي تتعلق بالإنسان.
هكذا يمكن أن نحلل طبيعة التجربة النقدية في مقابل الواقع الذي نعيشه أو نحياه، وهو واقع محكوم بماديته وتناقضاته؟ فإذا لم تكن تجربة النقد إضافة نوعية لإنسانية الإنسان فما عساها تكون؟ وإذا انغمست التجربة في تجريدية قاهرة فما الرابط بينها وبين الواقع الذي تحياه؟ وإذا كان العالم محكوما بظروف تاريخية معينة، كيف يمكن للنقد أن يستجيب للأهواء والأوهام؟ خطر النقد يكمن في تكريس السلبية من خلال الموضوعات (الكبرى)، يشتغل على هذه الموضوعات خالقا الهوة بينه وبين ما هوواقعي حي. كيف يمكن تصنيف هذا الوعي النقدي القائم على التجريد؟ كيف يمكن توظيف المعرفة النقدية أو النقد كتجربة إنسانية في معرفة ما يدور حولنا وتفسير الذي يجري في واقعنا؟ إن خطر دولوز يكمن في هذا الجانب العسير من فلسفة النقد القائمة على إعادة تفسير موضعة الإنسان في التاريخ. إن أسئلته نابعة منه، لقد صار محورا لفلسفته.
مسألة الكتابة
لا تفترق مسألة الكتابة عند دولوز عن بقية المسائل الفلسفية التي توزعت في كتبه. إنها مسألة جوهرية ولم تتم مناقشتها على المستوى الفني فقط، بل على مستوى التصور الفلسفي للعالم وللوجود. فقارئ دولوز لا يستطيع أن يميز المسائل الفنية من المسائل الفلسفية، لأن النظرة الحديثة أو المعاصرة تشمل جميع المسائل تحت عنوان واحد هو الإنسان. وقد حاولنا أن نجد صيغة علمية لتوحيد المسائل ضمن رؤية شاملة لا تجزئ الفكر وتربك الوعي النقدي لدى دولوز. وهذا من صنيع ما تعلمه من تاريخ الفلسفة بطريقته الخاصة، فهو ليس تاريخا للوعي فقط، بل تاريخ لتجربة الإنسان عبر الوجود.
تمت مناقشة الكتابة ضمن جو خاص، ففي كل مناقشة يكون فيها الجدال واسعا بين النقاد حول التيارات النقدية والفلسفية الجديدة، نجد دولوز دائما يأخذ مسافة مما يجري من حوله، وهذا وعي يؤسس لنظرية متجددة لا تنطلق من نصوص بل من إنسان ذي حس ووعي، أي من تجربة حية تعاني المشكلات التي تطرحها النظريات بصيغة تجريدية بعيدة عن الحس الإنساني. لقد كان دولوز في أكثر الكتب أكاديمية مثل الاختلاف والتكرار أو منطق المعنى يحاول امتحان نفسه والكتابة أيضا، وفي خضم هذه النزعة القلقة المتوترة، استمر دولوز في خلخلة الفكر البشري وامتحانه واستدراجه إلى نقطة الصفر، ومثلت له النصوص الفلسفية والأدبية وبخاصة الروائية وفنون التصوير مادة مهمة لاكتشاف الكتابة من منظور جديد. لم ينسق وراء مباحث اللسانيين ولا النقاد ولا البنيويين، وإن كان استلهم الكثير من فوكو، لقد أعاد قراءته في ضوء ما يتأمل بخصوص الكتابة، وسنحاول أن نشير إلى الميزات الكبرى التي شكلت هذه الرؤية للكتابة التي تختلف عن مدارك أصحاب المدارس الأخرى.
إن محصلة تصور دولوز حول الكتابة أنها خط هروب داخل اللغة، والتفسير هوخلق لسان خاص أو لغة غريبة أو أجنبية داخل اللغة النظام(16)، ويرى بأن أهم الكتب هي التي كتبت بلغة أجنبية. ما المقصود باللغة الأجنبية؟ هل هذا يعني البحث عن شكل استثنائي من أشكال التعبير في لغة ما؟ هل يعني فقط ابتكار أسلوب في الكتابة؟ هل اللغة الأجنبية هوالخروج على نظام اللغة؟ إن المقصود يتجاوز هذه المعطيات السابقة ويبني مفهوما جديدا لكتابة/صيرورة، والصيرورة لفظ خاص في معجم النقد عند دولوز، الصيرورات هي من الجغرافيا، هي توجهات وطرق، مداخل ومخارج(17)، إذن هي ترحال وانتقال، والانتقال يفترض حتما حركة نحو، مما يجعل الكتابة ظاهرة متحولة وليست ثابتة، انتقال من صورة إلى صورة أخرى، أن تصير: هذا هو المقصود من كل كتابة كبيرة. فبحث الصيرورات يتجاوز التفكير العامي المتمثل في مجرد الحركة. كيف يمكن معرفة هذا المفهوم؟ هل من مقياس لقياس الكتابة باعتبار الصيرورات؟ ما العلاقة الرمزية التي تربط بين هذين المفهومين؟
تفترض اللغة مسبقا حواجز على الحرية، فالقوانين التي تتحكم فيها لا تتحكم فقط في نظامها فقط، بل في طبيعة الاستعمال أيضا، وهذا يخلق نوعا من السكون الدائم الذي يطبع تاريخ هذه اللغة وآثارها، تصبح ذاكرة وتراثا وتستحيل إلى بقايا وتركة، دون أن تتحول إلى قوة حية. ولكن الكتابة التي تكون مقياسا للبحث النقدي ومضمونا للفلسفة النقدية هي التي تكون سببا في نشوء هذه القوة في اللغة، ويقتضي الأمر أن تمارس الكتابة نوعا من الهدم للقواعد وتجاوزها في الآن نفسه. يستلهم دولوز من مارسيل بروست Marcel Proust قاعدة مهمة في الكتابة وهي ضرورة قيام لغة جديدة داخل اللغة، وهذا القيام لا يكون إلا بالهدم(18)، لذلك فكل كتابة عظيمة هي التي تؤسس لقواعدها الخاصة، أو أوحت على الأقل بالتساؤل والدهشة والحيرة وحتى بالانتقاد حول نظامها وتركيبها وقواعدها. خبرة الكتابة هي كيف ينشأ نظام عن نظام، بل كيف يسمح نظام بنشأة نظام جديد. هذا العمل الذي تقوم به الكتابة يسمى بخط هروب، وقد رأى دولوز في الأدب الأمريكي وفي اللغة الانجليزية الأمريكية خط هروب حقيقيا بالقياس إلى اللغة الانجليزية الأم، فالأدب الأمريكي يمثل خط هروب في الآداب الانجليزية.(19)
خط الهروب شكل من أشكال العبور الذي وسمناه أيضا بالحركة. خط الهروب – ويترجم أيضا بخط الانفلات- هو السير في انعدام الاتجاه، فليست الكتابة اتباعا لنمط أو لخط معين أو لاتجاه سلفي، بل هي شكل خلاق لاتجاه جديد لم يتم السير فيه بعد. ففي اللغة يمكن للكتابة أن تشكل فيها اتجاهات وخطوطا لا حصر لها، أما الكتابة النمطية فهي التي تعجز عن تشكيل مثل هذه الخطوط، ولا تستطيع أن تكتشف نظامها الخاص، ولا يمكن أن تسير وفقا لقواعد تعلوعن القواعد العامة.
نقد دولوز يقوم على أساس وجود الحاجز/الحائط. كيف نتخطى الحاجز مع افتراض وجوده دائما؟ وكيف يمكن تجاوز الحائط بهدمه أو النفاذ فيه مع افتراض وجوده أيضا؟ تنبثق المفاهيم في ظل وجود هذا الإحساس بالخطر، خطر الحاجز الذي يمكن أن تشكله اللغة والخطابات الناشئة عنها: طبقات التحليل النفسي والاجتماعي واللغوي، ثم التراكمات الاجتماعية وما تستطيع أن تسهم به الثقافة العامة أوالشعبية، لأن التراكمات تخلق نوعا من ثوابت الأدب والفكر.
يلتقي معنى خط الهروب أساسا بمعان أكثر صلابة على الموقف النقدي العام الذي يحرك وعي دولوز تجاه أدب ذي خصائص لغوية مختلفة، ومن هذه المعاني نجد الحدّ Limite، والحائط Mur، والمقصود أن الخروج عن اللغة هو تموضع في الحدّ الفاصل بين الكلام والصمت، في الحد الذي يفصل بين الإنسان والحيوان، وبينه وبين الجماد أو الأشياء، في الحد الذي يفصل العلم عن الجهل، وقد سميناه بالبرزخ الذي يفصل بين عالمين. في هذا البرزخ تقيم اللغة الأجنبية واللسان المتلعثم ويبدأ خط الهروب، إنه نوع مما يسميه دولوز أيضا بالمغادرة الموطنية(20)، ويقصد بها مجرد الحركة التي لا حركة فيها، الخطو الذي لا يتحرك والرحلة التي لا تكون ولا تبدأ. إنها حركة داخلية مثمرة تتجه نحو الخارج الذي يفترضه الداخل. إن الخروج عن اللغة لا يمكن أن يكون خارج اللغة ذاتها: اللغة/الأمّ. إن فهمنا للنحو مثلا كونه تعبيرا عن نظام اللغة هو ما يتأسس على منظومة قوانين وأعراف لسانية، ولكن التلعثم والخروج والانحراف هو الاتجاه نحو تركيب مضاد، وأعراف أخرى تسمح بها اللغة/الأمّ، هذا هو خارجها الذي تسمح به. إن تجربة اللغة تتوتر بين نقطتين، إذ لا حديث عن المركز، كيف يمكن أن نتخيل نقطة البدء؟ من أين نبدأ؟ إننا نجهل حقا هذا السؤال أو نتجاهله، إننا نفكر في اللغة كحدث لا كزمان. وإن كانت نقطة البداية أمر مثير للاهتمام شأنه شأن جميع المظاهر الأخرى التي تثير الانتباه.
ما الشأن في الأسلوب؟
للحديث عن الأسلوب شأن تابع للرؤية التي تشكلت حول اللغة. وإذ نحن نسير وفق منطق التحليل لموضوعات نقدية عند دولوز مثل الكتابة واللغة، نجد أن الأسلوب محكوم بالرغبة، إنها تدفع اللغة إلى القول، أي إلى التدفق والانفجار(21)، وهذا يعني أيضا أن الأدب كالشيزوفرينيا: تطور وليس غاية، إنتاج وليس تعبيرا.(22) يمكن التعبير عن محتوى فكرة دولوز/غواتاري أن الخروج عن اللغة/النظام يكون بدافع الرغبة، فالرغبة ظاهرة غير مختصة فقط بالمشاعر الإنسانية الداخلية، بل هي مرتبطة باللغة كمظهر من مظاهر التفرد والسيطرة على اللسان والتحكم في التعبير. الرغبة تجعل من الأدب أفقا ينفتح على لغة شاذة غريبة وعصية عن التقليد، فهذا المظهر من المظاهر الغريبة ليس بمتناول الجميع، أي ليس معطى جماعيا عاما، إنما هو ميزة خاصة بأفراد قلائل يمكن أن ينعتوا – وليس هذا بالضرورة الملحة – بالمرضى. دوافع مجهولة تجعلهم يكتبون بطريقة لا تشبه الطرق المألوفة أو المعتادة أو (العامة). هنا الأدب يأخذ مسار الصيرورة، واللغة فيه تشكل خط هروب دائم بالقياس إلى اللغة النظام أو لغة التراث.
تدور معظم تأملات دولوز حول ما يمكن للغة قوله. قول اللغة – سواء عبر الشعور أو اللاشعور، في الفكر والفلسفة كما في الشعر والرواية، صدرت من مريض أومن سليم – هو المعبر عن كثير مما يؤسس له دولوز من معان وارتباطات وعناصر تبني الفكر الإنساني على أساس فلسفي ومعرفي. فالمعرفي في إدراكنا للغة هو مدى قدرتها على بناء نفسها وتجديد مائها. كيف تظل اللغة لغة حقا ولا تستحيل إلى بقايا وعظام؟
من المفارقات اللامعة عند دولوز هو أن الضد الذي يقيم في الفكر كما في الحياة هو الذي يمكن أن يكون نقطة بدء أساسية، فمثلا انعدام الأسلوب، غيابه هو الذي يؤسس لمعنى الأسلوب الذي يعنيه دولوز كتصور حقيقي لما ينبغي أن تكون عليه اللغة. الأسلوب عند دولوز هوالتلعثم في اللسان.(23) ولكن ما المعنى الذي يعطيه للعثمة؟ ليست اللعثمة عيبا في اللغة، بل هي اكتشاف لها، والبحث عن الجذور الشخصية فيها، البحث عن الأنا. إن اللغة جماعية ومخزون تراثي، ذاكرة أمة، تشترك فيها ألسنة كثيرة لا متناهية. لا بدّ للبحث عن الصوت المفرد، عن التلعثم، عن الانحراف في اللسان الذي يقود إلى مساءلة اللغة في حدّ ذاتها. لا بد من خلق الصوت المفرد من خلال الاختلاف والمغايرة. قيمة الاختلاف عن اللغة/النظام تؤكد معنى انحراف الذات عن الجماعة، ولكنه الانحراف الذي يسهم في بنائها وإعادة اكتشافها. فمركز القوة في اللغة هو اللسان الخاص الذي يتلعثم ويخطئ النظام، ليتخلق نظام جديد في هذه اللغة. فكأن المسألة هي خلق نظام خاص يسمى اللغة الأجنبية. لا بدّ من وجود الفراغ ليكون هناك ملء.
ولكن ما الذي يدفع إلى هذا التلعثم؟ أي ما هي أسباب المبدع للاكتشاف داخل لغته الكبرى؟ السؤال بحاجة إلى تجريد أبعد من اللغة، إلى الوعي أو الفكر أو الموقف أو الحياة. لا يأتي التلعثم ما لم يكن هناك وعي يدفع به إلى التحقق. يبدو التلعثم ليس فقط تعبيرا عن انحرافية اللغة، بل تعبيرا على انحرافية الفكر أيضا. فالتجربة لا تنقسم ولا تتجزأ. تجربة التلعثم قائمة في الوعي الإنساني المختلف الذي يهجس التغيير دائما في التصورات والبنى والرؤى المؤسسة للفكر. فكل ثقافة إنسانية عميقة تقوم على أساس التضاد الناجم عن المعركة المستمرة بين الثابت فيها والمتحول منها، إن شرارة هذه المعركة طبيعية في كل ثقافة: مثل العرفان أو التصوف في الثقافة الإسلامية، فلغة العرفان لعثمة في النظام اللساني العربي، تجربة النفري أو ابن عربي دليل على ذلك. كل تلعثم يفسر مبدأ وجوده وحضوره، إنه الظاهرة التي لا ينفك منها التاريخ الإنساني أبدا.
يقول دولوز عن صديقه فوكو بأنه: «لم يتوقف عن كونه رائيا، في الوقت الذي طبع فيه الفلسفة بأسلوب جديد من العبارات، الاثنان بخطى مختلفة في إيقاع مزدوج»(24) وهذا الوصف لا يكون من دولوز إلا إذا كانت ظاهرة الأسلوب ظاهرة تنبه الوعي إلى عمق الاختلاف في الرؤية للأشياء. الرائي والكاتب صفتان إذا اجتمعتا في كيان واحد يشكلان المفارقة الحقيقية للظاهرة الفنية أو الإبداعية، هكذا يصف دولوز الكاتب: «هو الرائي والسامع، هذا ما يمكن قوله عن كل كاتب»(25) وكان فوكو بالفعل واحدا من الفلاسفة الرائين في تاريخ الفسلفة الغربية، والرؤى لا تختلف عن اللغة أو الأسلوب أو التلعثم داخل اللسان. لسان الفلسفة هو لسان الأدب والسياسة والتاريخ، لكن التلعثم صفة فريدة داخل هذا اللسان. فالأسلوب لا يعني فقط الطابع الزخرفي في العبارة اللغوية، ولكن يعني أيضا الطابع الرؤيوي، لأن الرؤية هي التي لا تتكشف إلا في أسلوب مخصوص من العبارات، يتم اختيارها بعناية فائقة وبعبقرية خالصة.
وفي الاتجاه نفسه، يرى دولوز بأن: «الأسلوب كالحياة ليس مسألة ألفاظ أو عبارات أو إيقاعات أو صور، والحياة نفسها ليست مسألة أحداث أومبادئ أو نتائج»(26) إن الأساس في كل هذا هو مبدأ الصيرورات، هي أفعال تحتاج إلى الحياة كما تحتاج إلى الأسلوب.(27) ولكن الأسلوب الذي يتضمن الصيرورة، غير ما نعرفه عن مفهوم الأسلوب التقليدي حيث الألفاظ المنتقاة والعبارات الرصينة وغير ذلك من الأوصاف التقليدية المتعلقة بجماليات اللغة. السؤال يظل قائما في هذه المفارقات التي تحدث في حياة البشر، اللغة التي لا تستطيع أن تكون أبدا مجالا للتشابه أو الانسجام بين الأشياء. الأسلوب هو في الحقيقة انعدام الأسلوب كما تم بيانه، وانعدامه هو غياب كل المعايير المسبقة لتحديد ما يمكن أن يكونه الأسلوب. لأنه في ظل وجود المعيار: معيار اللفظ ومعيار المعنى، صار الأدب والفن بعيدين عن الجمال. إن القاعدة التي تتحكم في هذا الأمر هو ما يمكن أن يصيره الأسلوب، وفي هذا الأمر يمكن التكهن بالنتائج.
إن مسألة التشويه الذي يلحق اللسان الأصلي هي من تصنع معنى للأسلوب. يقوم التشويه على اعتبار أن اللغة ليست نقية، لا تملك الألفاظ النقية لكي تدلّ على المعنى النقي. فماذا تملك إذن؟ تملك التشوهات في اللسان عبر الاستعمالات التي تفيض بها رغبة العباقرة الكتاب، وكلهم مرضى بتصوراتهم عن العالم. هل من المنطقي الحديث عن نقاء التصور؟ هل نستطيع فعلا أن نختار من الألفاظ أنقاها ومن العبارات أجزلها لكي نقول نقاء العالم؟ ربما الإزاحات التي تركها لنا المتقدمون ممن ظللنا نحلل في استعاراتهم ومجازاتهم هي التي مكنتنا من تفهم الحالة الأدبية. إن الاستعارات كلمات غير نقية بتعبير دولوز.(28) إن معنى النقاء يضاد حقا معنى الأدب، لأن الأدب في شكله الخلاق المبدع هو تعبير مفارق للحظة اللسان الذي يستعمله. فلا مجال للحديث عن لغة التواصل أو الاستعمال اليومي العامي للغة. إنها لغة صناعية يستعملها الكتبة؟. يكفي أن نقول بأن الكتابة ظاهرة مفارقة للشكل التواصلي الذي تفترضه لغة ميتة. لقد صار للكتابة معنى منذ أن أعلن الآخر عجزه عن الفهم (نحيل على ظاهرة أبي تمام في الأدب العربي، حيث سؤال الجمهور دائما عن المعنى الذي تقوله هذه الصورة أو تلك ). مفارقات الكتابة الإبداعية هي أنها خالقة للمسافة الوهمية بين الكاتب و الجمهور. و كلما اتسعت هذه المسافة ازدادت الحاجة إلى النقد.(29)
هوامش الدراسة
1- إن النقد العربي المعاصر في تأريخه ودراسته للمنجز الغربي، ركز على ما هو غالب عليه من الاتجاهات الجديدة أو التي كانت جديدة في عصرها، لذلك نجد كما هائلا من الكتابات يؤرخ للبنيوية والسيميائية والتناص أو النصي والشعرية وغيرها من النظريات، لكنه لم يؤكد على الطبيعة الفردية للنقد المعاصر في أوروبا ممثلا في كتابات ميشيل فوكووجيل دولوز وميشيل سير وغيرهم.
– هناك نقد لاذع وجهه إدوارد سعيد للنقد العربي المعاصر و بخاصة في الشمال الإفريقي حيث الاجترار للمفاهيم دون حصول التمثل الحقيقي لها. نقد لم يلامس الواقع المادي الذي يعيشه بل لامس الواقع الشخصي للناقد و غروره، و في ذلك يقول:» تأمل العدد الكبير من الأفراد في الشمال إفريقيا، في المستعمرات الإفريقية السابقة، ممن يكتبون و كأنهم تلامذة فوكو أو دريدا أو تودوروف. إنها نوع من فانتازيا التكرار التي أجدها مضحكة في معظم الحالات. و القسط الأعظم منها راجع في نظري، و هذا مجرد انطباع، إلى فهم ناقص لحقيقة الغرب» من حوار مع صبحي حديدي: الهويات تعددية و المنفى حقل كريم، مجلة الكرمل، العدد 78، شتاء 2004، ص 111.
2- يمكن مراجعة كتاب: خمسون مفكرا أساسيا معاصرا، من البنيوية إلى ما بعد الحداثة، لجون ليشته، ترجمة، د. فاتن البستاني، مراجعة، د. محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط. 1، أكتوبر 2008، ص 214.
3- إن الحضور الذي كرسه دولوز في النقد كان من باب الفلسفة، فقد كان تكوينه فلسفيا بحتا، وطبيعة تعامله مع القضايا يشير إلى هذا الحس النابع من الشمولية والكلية.
4- Michel Foucault : Dits et écritsII, Gallimard, Paris, 1988, p. 307.
5- Op. Cit, p. 307.
6- Michel Foucault : Dits et écritsII, p. 307.
7- Ibib. P. 309
8- Ibid.
9- Gilles Deleuze ? Félix Guattari : Qu’est ce que la philosophie ? Minuit, Paris, 2005, p. 8.
10 – جون ليشته: خمسون مفكرا أساسيا معاصرا، ترجمة، فاتن البستاني، ص 214. مرجع مذكور سابقا.
11- تسجل بعض الكتب حقيقة تجربة دولوز بأن تعكس قيمة ما كان يدعوإليه من أفكار كفكرة الترحال. وقد رحلت تجربته بالفعل وانتقلت إلى مواطن أخرى وانغرست في تجارب جديدة والتبست بواقع جديد. يراجع في ذلك كتاب فرونسوا كوسيه: النظرية الفرنسية، فوكودريدا دولوز وآخرون وانتقالات الحياة الثقافية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لاديكوفارت، باريس، 2005.Fronçois Cusset : French theory, Foucault, Derrida, Deleuze ? Cie et les mutations de la vie intelectuelle aux Etast-Unis, La Découverte, Paris, 2005.
12- Gilles Deleuze ? Félix Guattari : Capitalisme et schizophrénie, Milles plateaux, Minuit, Paris, 1980, p. 97.
13- Gilles Deleuze : Foucault, Minuit, Paris, 2004, p. 27.
14- Gilles Deleuze : Foucault, Op. Cit. p. 140.
15- Deleuze : Foucault, p. 134.
16- Voir : Deleuze : Dialogues, p. 11, et voir : Critique et Clinique, Minuit, Paris, 1993, p. 9.
17- Gilles Deleuze : Dialogues, p. 8.
18- Deleuze : Critique et clinique, p. 16.
19- Op. Cit. p. 77.
20- Deleuze : Dialogues, pp. 51-52.
21- Gilles Deleuze ? Félix Guattari : Capitalisme et Schizophrénie l’Anti-Œdipe, Minuit, Paris, 1972/1973, p. 158.
22- Ibid. pp. 158-159.
23- Deleuze : Dialogues, p. 10.
24- Deleuze: Foucault, p. 58.
25- Deleuze: Critique et clinique, p. 9.
26- Deleuze: Dialogues, p. 9.
27- Ibid.
28- Ibid.
– مفردة الكتبة هي استعارة حية لصنف من الكتاب/الحدث، و هي صيغة تطلق على الهاجس الذي طغى على صنف من الناس حتى يدخلوا معترك الأدب من باب الشهرة أو ذيوع الصيت أو أغراض أخرى، و يأتي في طليعة هؤلاء الكتاب الصحفيون أو المشهورين من المغنين و الراقصين و أصحاب التمثيل. الكتابة عند هؤلاء متجانسة لا يهمها سوى التعبير عن الحالات المفردة في تجاربهم. الكتابة الحقيقية تضاد ذلك تماما، إنها الرغبة في قول شيء كأننا نراه أو نسمعه، و لكننا نظل أقل منه و أضعف من القبض عليه. شيء يستحيل إلى صور رمزية قد لا تعني شيئا، و قد تعني الكثير. الكتابة بهذا المعنى نادرة في التاريخ الإبداعي كله.
29- في الحقيقة هذه فكرة ت. س. إليوت في كتابه فائدة الشعر و فائدة النقد، ترجمة، يوسف نور عوض، دار القلم، بيروت، الطبعة 1، 1982، ص 31.