الوحدة :
غرفة مهجورة تتوافد اليها غربان الوساوس العمياء ، تحيلك الى جيفة منتفخة باللامعني حيث يلذ لها نهش اللحم الاسفنجي الذي يتحلل مع الظلام ، تهرب الأشياء بذكرياتها مثل غزال يجفل من صوت تساقط الأشجار، وقد أصبحت ، باهتة بلا طعم أو لون أو رائحة ، ويسكن الألم القادم من خلجان الذاكرة البعيدة جدا. تتورم الأشياء في الماضي وتظهر حقيقتها الهلامية عندما ترى الأفكار مقلوبة على اعقابها كاشفة عن مؤخرتها كقرد كان قد شاخ على مسرح المهرجانات تنسجم المتناقضات في رداء الأصل الوجودي بينما يبدو المعقول أكثر تناحرا عن أسلافه البدائيين هكذا، أرى الخرافة أكثر تألقا على ذؤابة الفجر المتعقل .
الغرفة :
جسد متعب ينسل اليه الظلام وسط أحلام حطمتها عواصف القهر والمستحيلات ، فقيرة كفقر أحلامي تتعاطف مه وحدتي فيها مثلما يتعاطف السجان المقهور / المسحوق مع السجين لحظة شد حبل المشنقة على عنقه .
تبدو كذلك ، وأكثر من ذلك أنه تستدعي أشباح الذكريات ومخلوقات يستحيل التعايش بينها وبين الانسان في أحسن الأحوال . تجهض المشاريع الطفولية متواطئة مع عواصف القهر والخديعة .
اليقظة:
في الصباح ، حيث رأيتني هلعا، متوترا، عث قلا بغيوم اليقظة الصعبة ، داهمني صديقي المجنون ، وقد ساءته البشاعة الجسدية لمخلوق أقلق منامه ذعر قادم مع قبائل الريح ، بخطاباته الشهوانية د،ما رأيك في حمام بخار؟ سيريح الأعصاب وستنسلخ قاذورات الزمن المتراكمة على الجسد ومتصبح كطائر متفائل مع أول إشراقة لشمس الصباح . ما أجمل طقس هذا اليوم ، يدعو للبهجة والانتشاء!!" راقبته بعينين متثاقلتين وأنا أنهض متلكئا، تتملكني الدهشة من تفاؤلية المجانين المفرطة أحيانا.. وأردف يقول د،على مقربة من هنا، يقبع حمام شعبي تحت الأرض ، ومن التهجة الأخرى يتمدد البحر كثعبان داهمه البيات الشتوي. وحتى يثيرني أكثر_تابع _وهناك سنلتقي صاحبات الملك صاحبات البهجة ، المخلوقات الأنثوية ،".
أحلام :
كان امتدادا لأحلام البارحة ، حيث كنت نائما بانشراح تام . راودتني أحلام سعيدة في المنام . أحلام أن أكون أنا، الاحساس بالحياة معنى السعادة ، فضاء الحرية ، حلاوة الروح . كمالية الكائنات من حولي . كلمات لم أشعر بها من قبل ، عالم لم أحس به أبدا، روح لم تستكن بعد الا في منامي، كانت شيئا جميلا. وكنت أتمنى أن يدوم النوم طويلا ما دمت سعيدا به ، يصور لي مشروعات جميلة في فضاء ما.
كان هذا هو الجزء الذي أتذكره من الحلم ، أنا قبل ذلك ، فلا أتذكر إلا أنني أتيت لزيارة صديقي المجنون يصاحبني شعور بالوحدة والاحباط .
صديقي المجنون:
"هيا .. هيا، قف على قدميك " صرخ الصديق المجنون كلاعب سيرك يستنهض أسدا لبدء لعبة تهريجية وواصل اغراءاته لي "من معصرة الحي الشعبي سنعب من عمائر الفواكه ، وسنرتشف القهوة في أضخم فندق في المدينة ، وسنتناول طعام الفداء في مطعم للمأكولات البحرية قدام البحر أليس هذا جميلا؟؟".
لم أستوعب إغراءاته ، لكنني وافقته بهزة من رأسي المخذول ، مستسلما لخيالات جنونه العظيم . "هل تعرف ما الذي يجمع بين الاماكن التي سنرتادها؟ كاشفا عن شي ء من جنونه . دون الانتظار لرد فعل مني مثل ديكتاتورية الديموقراطيين ، أجاب "الفتيان … الفتيات يا صاحبي، أينما تحل هناك ستلاقي الممكن واللاممكن ، الوعي واللاوعي ، الشي ء واللاشيء، ومناك حيث البحر سيكون كل شي ء أمام ناظريك ، كل شيء بما فيه نفسك ، هناك العري من أجل البحر، هناك يلذ لك دف ء الشمس وخدرها ، هناك ستتعلم أن تكون منبطحا مستسلما بملء ارادتك . الكل يمتزج بالكل ولا شيء يفصل الشيء عن الشي ء ، تختلط كل الأمور والأطياف والأفكار. تحت سطح البحر سترى مناوشات صبيانية بين فتيات مع بعضهن ، وستري فتاة تمتطي ظهر رجل قوست ظهره كثرة الانحناءات ، أو فتاة تضغط عنق شاب بين فخذيها علة يؤمن بأفكارها الباردة المنزلقة من الشق الشهواني، وستري مشاهدات مألوفة مثل شاب يغوص الى الأعماق مع فتاة في لقطة عناق الدب وستري الكثير والكثير، ساعتها سيحلو لك احتساء شي ء من الجعة ، والبحر سيقذفك الى نفسك ، ذاتك التي سيجلبها لك من بعيد، مما وراء الأحلام مما وراء الغياب ، سيخلصك من صداعاتك المزمنة ".
أي مجنون هذا الذي سينسفني هذا الصباح ، أي معتوه أنا الذي يرافق المجانين ، أي قدر هذا الذي يجمعنا . أعرف أنه قدر واحد يؤلف الشطح في رؤوسنا ولكل منا شطحه الخاص .
جنوني لا يبزغ الآن في النهارات الكاذبة . ينبثق عندما أكون وحدي في خلوتي ، حينما تهدر سيول مخيلتي تجرف معها أشكال مخلوقات ذكورية لها شبق أنثوي ، استسلام أسود، سجود المتغطرسين ، وتساقط الصولجانات . جنوني هو الفرح الذي انتظره ، ليس الفرح الذي يتطاير مع الريح ، ليس صرعة أزياء ولا من صرعة الفن والأدب ، بل هو الفرح بانقلاب كوني بالدمار الجميل بالموت السعيد، بالحرائق والفيضانات والفيضانات الروحية .
أمنيات :
بكل المودة التي داهمتني على حين غرة ، سرت بجانب الصديق تتقدمني مواكب اللاشعور تشق لي طريقا عبر الذاكرة ضباب ينحدر على جبيني ، يغسل مقلتي بملح الصبا، أخالني فتيا أسمي الدنيا بيتا والوطن بيتا والأم بيتا والغرفة الصغيرة بيتا والسرير الخشبي القديم بيتا والدثار بيتا ونفسي بيتا وأنت لي بيت ما دمت عذراء يا سيدة الفتنة ، يا من ماتت وهي تحبني بجنون ، أنا وأنت في جنون شامخ . وكان حنيني للبيت عذابا يجلدني صباح مساء مع كل رمق ، مع كل نبض ، مع كل أفق حتى لو كان ضبابيا ، مع كل روحي التي تبعثرت وهي لا تزال جنينا . أتذكر اليأس الذي دب الى روحي مثلما تدب جحافل النمل الى سلكتها ، وأنا طفل رضيع ماتت أمه وهو على حضنها، هكذا بت وحيدا ؤ حياة أكبر مني،حياة صعبة وقاسية ليس فيها مكان للطفولي والبريء.
لم يبق الا هذا الصديق المجنون الذي لا يأبه لهذا العالم سوى نفسه والحياة لنفسه . معه أجد العزاء لنفسي ولروحي التي شاخت مبكرا. حاولت أن أكون شبيها به ، أن أكون التوأم ، الظل ، دون جدوى. كل منا يجد في الآخر ما يتمنى أن يكونه دون المقدرة على تحقيق ذلك .
هو يتمنى أن يصبح مثلي كسولا، خاملا، يعبد النوم لينسى ، يبني حصون العزلة لنفسه ، ينصاع للحوت الذي يهرب منه ، الموت للجسد، للذاكرة ، للخوف ، لكل من عرفهم حتى لا يلتقي بهم ويذكروه بشيء.
وأنا أتمنى أن أصبح مثله فاقدا للعقل السوي، أدمر الأشياء قبل أن تستقر في رأسي بثوبها المنتفخ وتخلق لي فكرة ، ألامس روح الحياة دون الفرص في جوانبها المؤلمة ، الاحساس بأني أمتلك الحياة وأن الكون ملك لي ، خلق من أجلي . التعسف وسيلتي لاختراق الحواجز النابتة في الرأس ، لاختراق الحياة ، أن تتقدم المفارقات بخنوع لتتآلف أمامي لحظة .
الفتاة :
في طريقنا الى حمام البخار الشعبي، انضمت الينا فتاة ذات عمر بوهيمي، كأنها مخلوق من نار كانت على موعد مه صديقي المجنون . سرنا تتوسطنا الفتاة ، كل منا يلف ذراعه حول خامرتها المستديرة . حينها شعرت بدف ء يتسرب الى عروقي، ينعش الحياة فيها . تقافزت نوارس النشوة حملتني عن الأرض ، فقدت الاحساس بجسمي المحمول ما عدا الأصابع المتشبثة بلحم الخاصرة . أحسست بثورة اللحم نسيج اللحم والعظم والجلد الشبقي ثورة ودودة ملحة في النفس ، تتصدر قافلة التفرد، أشياء لا نعرفها، نحسها فقط أحسها كغليان مراجل الولائم توقظ أعضاء الجسد النائم ، الفاتر في راحة الحركة ، تهاوت الأصابع النائمة على الخاصرة الى الأسفل فردها الردف الى اعقابها. مداعبة الردف هذه لا سبالية ، ربما كانت تفكر في أمر ما، ترسم المشاريع في ضباب الحمام الآتي حيث نحن الثلاثة فقط ، أتمنى أن نكون ثلاثة فقط كي لا أخجل . كلا، ليس الخجل هو خوذ بل هو فشل ما تصورته إنقاذا لي على مصطبة البخار حيث أستلقي عاريا. تجلس الفتاة عند رأسي بعد هنيهة تأمرني أن أدس رأسي في حضنها. أطيعها مسرورا، أغمس رأسي في الحضن ، حيث الضباب القادم من الأحشاء عبر مضيق الحياة لم اللذة . هكذا إذن !! كلمة سحرية فقط ، أفتقدها طبعا، هي "كن " ، وسيكو ن ما أشاء . رأيت البداية ، زلال الكون ، زلال الطفولة ، تلك القدرة الخارقة التي تخلق مصير الانسان لدنا، ترفا ، بوهيمية الحياة . وعندما نكبر ، نكون قد قسونا، تخشبنا ، وغادرنا الزلال زلال الانسانية . أصبحنا كالشعرة ذات الحد الواحد، نقتلع بها جذورنا أولا، ثم لابد من
اقتلاع جذور الآخرين ، حتى تكتمل المساواة وحتى تبثي الشعرة السوداء تلهمنا دائما عندما نضعف عندما نعشق .
قلت : أحن الى أمي…
اختلطت دموعها بالضباب الكثيف : وأنا أيما.. أتشم
راحتها؟
– وأنت أيضا ! أنا أحن لها لأني…
– أعرف .. أعرف … لأنفا نعشق الزلال ذاته . هل تعرف ما يجول بخلدي الآن ؟ سأخبرك .. شي ء مقزز أن يهب الانسان شيئا مجانيا للآخرين . حقيرة تلك العواطف التي تعرف بالانسانية . هل تعلم انني وحيدة ، رغم كل جحافل العشاق التي تلتف حولي ؟ صديقك ، فقط ، من تثب روحي اليه . وهو قربي ، أحس وكأن حمى العواطف تنسل مني كالجيوش المتقهقرة ، أحس بأنني قوية / مدمرة .
– اذن أنتما عاشقا!!
– بلى .. نعشق الجنون حيث لا حدود، حيث لا شفقة .
وكأنها همست في أذني "أرخ أصابعك القي تؤلم خاصرتي، لقد كشفت عن آفاق روحك الشائخة . أتدري !! كنت أفكر بك ونحن نمشي طوال الطريق . لذا، سأدعك ترتشف الزلال الممزوج بالعرق والضباب ، ترياق ناجع لقتل العزلة . أو لست محقة يا…؟
مازال يراودني الشعور بالغربة والضياع ، فأجبتها: غريب …
اسمي غريب
– آه …. غريب !!
بلى … بلى …. هو كذلك .
جمع بيننا صمت الحنين . هيأ كل منا جوارح الحياة . اضطجعنا متعانقين ، وكان الضباب يؤالف بيننا، يستر سر الحنين فينا، ويطوينا بانبهارا ته المتصاعدة ، وتصورت أننا ذبنا وأصبحنا كقطرة زلالية تتأرجح في الفضاء تبحث عن رحم يبعث الحياة فينا.
غرفة البخار :
كنا قد وصلنا حينما حررت الفتاة أصابعي من خاصرتها.
سمعت المجنون : "من حسن حظنا ، نحن أول المرتادين ".
اختفت الفتاة فجأة . وعلى بوابة الحمام الشعبي لوحة كتب عليها " للرجال فقط ".
وهناك في الداخل ، ألقيت جسدي بسرعة في زاوية من زوايا غرفة البخار ، وعندي أمل بملاقاة الفتاة البوهيمية هناك أمام فكي البحر، في عتمة الحانات البحرية حيث ستنتظرنا هناك .
الغرفة بيضاء كأنها الكذبة البريئة ، والاغتسال من وجع الزمن كذبة . والانبوب الذي وشوش بالبخار علا صراخه وبدأ ينفث البخار الذي لامس أرض الغرفة ثم استمر في الصعود شيئا فشيئا مخلفا سحبا تعبث في فضاء الغرفة وأنها مارد لم يصدق أنه خرج من القمقم كي يمارس جبروته الخرافي . تتلوى السحب البخارية بأشكال مخيفة أخالها كهوف الجن أو الأرواح التائهة . هي فعلا كذلك ، تتوال الوجوه باستعراض سخناتها ، أصدقاء عرفتهم ، أصدقاء لم أعرفهم ، غرباء ماتوا وغيرهم أحياء، أرواح أخرى أرى فيها المجون والتيه والعذابات والحب و… و… وكأني سمعت صوتا يهدر من احداها: "نعم ، هي أنا ، تلك الروح الأم ، العظمي ، ملكة الأرواح . الروح المهيمنة على أرواح الجسد الواحد. لا عقل ولا نظام ، قانون البوهيمية المطلقة يحكمنا. سيدتنا الروح الأسمى، لا تزال تعيش في القدم ، خلف أبواب العصور ، تستعيد الزمن في اللحظة الواحدة لكل الأمكنة . لأجل أن يعيش الانسان ، تفعل ذلك سيدتنا. في جسد الانسان الواحد أرواح لا نهائية ، لا تبدأ ولا تموت . تهيم في الجسد فقط في زمن مطلق ومكان مطلق تنهار تتمادى ، تنكسر ، تنعطف ، تتحول لكنها لا تموت بالطبع ، هي ترحل فقط يموت الجسد لترحل هي الى جسد آخر، أو أنها ترحل وما يزال الجسد على قيد الحياة . أتعرف لماذا نرحل والجسد لايزال حيا؟؟ لأن الانسان عاق بطبعه ، مليء بالشروع وسوء النية ، يضيق الخناق علينا ، ينفينا ويغربنا هذا أمر نحسه جيدا، هو لا يعرفه ولا يحسه . نحن معشر الأرواح متآلفون على الاطلاق في الجسد الواحد بكل متناقضاتنا ، رغم سعي الانسان الى الشقاق بيننا يفضل احدانا عن الأخرى، يضاجع تلك بسخرية ، ويقتل الأخرى بلا هوادة باسم أفكار وهمية تعشعش في رأسه . حاولنا أن نصرفه عن نزواته الغرائزية تلك ، دون جدوى ، مثلنا له ، كيف سيجهل الحب لولا روح الهيام ، كيف سيجهل نفسه لولا روح التأمل ، كيف ينعم بالعدالة لولا روح الشر.. كل ذلك دون جدوى.
انقطع الصوت . أحسست بالاختناق والبخار يرتفع الى سقف الغرفة ويرتد عنيفا بكثافته الأخطبوطية وكأنه يطرق رأسي لينبهني الى وجود مخلوق ما بقربي.
صوت آخر ، يهوي من سقف الغرفة ، يلتهمني يصيح بي ، وكأن حوارا دار بيني وبينه ما الذي أتى بك الى هنا؟
– أتعنيني
– نعم ، انت …
– جئت لأنتعش بحمام البخار.
– أقصد المدينة ….
– لا أعرف … شيء يطلق عليه "التيه " ربما…
– لماذا لا تعرف ؟ في موطنك ، هناك ، فجر جديد، حياة جديدة .
– لأنه الفجر فهو ليس بالليل ولا بالنهار. فضاء واسع لتيه
جديد.
– أنت مخبول بلا شك . كفى استخفافا بالأرواح النبيلة . الا
تراني ؟
– عفوا ، من أنت !!
– أنا ؟ أنا؟ هو أنت .
– كلا … شتان بيني وبينك .
– أنا، هو أنت ، لأنك تعيش بأرواحي . أن محظوظ لأن أرواحي ، كلها، سكنت جسدك أنت فقط . لم تتبعثر الى أحد غيرك .
تراكم البخار أمامي دفعة واحدة وتكوم على المصطبة المقابلة لي كأنه مشهد انتحار آخر ديناصور في التاريخ في ذاكرة الرعب ، ومازال الصوت يهدر بذكريات قديمة عن مدينة كنت قد نسيتها.
محمد القرمطي(قاص من سلطنة عمان)