منذ الصباح الباكر كان خبر عودة فاطمة هاربة من بيت خلف قد انتشر في أرجاء القرية ، لكن ذلك لم يكن يعني شيئا مقابل عودتها التي تؤكدها أم فاطمة لمن يسألنها ، جهزت الأم زاداً خفيفا لهما من البُر والسمن والعسل وحملته فاطمة بينما حملت الأم عصا غليظة اجتزتها من شجرة الطلح وجرة ماء صغيرة ، ومضيتا في الطريق الذي يشق البساتين والمراعي ، ثم نحو منطقة سميت الجرداء التي تنتهي بهضبة سيتفرع من قبلها منعطف ممهد من بين الصخور يؤدي إلى مساحة معشبة بالحشيش ، يقطعانه على مهل ، حتى يصلا إلى ظل الشجرة الأضخم التي كانت كأنما تستند على ربوة معشبة ، ويرى من بعيد بيوت أخوالها ..
– «اجلسي هنا شوي» قالت الأم وجلست هي الأخرى ، أخرجت الطعام وبدا وكأن تلك الجلسة هي المراد من كل هذا ، قالت فاطمة وقد اعتراها الاستغراب ، ألن نكمل طريقنا نحو الأخوال ؟ أطرقت الأم قليلا وكأنها تتأمل شيئا في المدى العشبي الممتد ، وقالت « زيّن الله الأشجار بالثمر والأوراق ، وزيّن كل شيء بشيء « ثم أشارت على العشب الذي تختفي فيه الأرجل على بعد متر ، بينما الهواء يحركه يمنة ويسرة ، وأردفت « ياجمال الحشائش والفرق الشاسع بينه وبين الجرداء .. « أخذت كف فاطمة وأخفتها في العشب القريب منها ، ابتسمت وعلا وجهها دهشة ما ، ومثل من يهمس قالت شيئا عن اعجابها بالمشهد ، قالت الأم بطريقتها الروائية التي عرفت بها « يجمل الرجال مثل هذا العشب …» وحكت شيئا عن زوجها -والد فاطمة – وهي تربط كل حكاية بالعشب والحشائش وحركتهما، وفي كل مرة تحتاج مثالاً من المدى الممتد من كل جهاتها ، بين الحشائش القصيرة والطويلة والجميلة والقبيحة والمبعثرة والمشذبة ، ثم ضحكت ضحكة قصيرة لكنها عميقة ..
– شذبي حشائشك يافاطمة .
كانت فاطمة قد أدركت المغزى ، منذ العبارة الأولى ، وكانت تستدعي الطبيعة وجمالها في خيالها وتقابلها بالجرداء التي تبعد مسافة ليست طويلة من استراحتهما ، وكأنها لأول مرة تشاهد منظر الحشائش والأعشاب كما رأته لأول مرة في خلف ، سألت أمها بغتة « وايش يجمّل البنات ؟ «
– يجملها مثل هذا الهوا اللي يحرك الحشائش ..
– بس هي جرداء !
– الحشائش لو نبتت على باب الدار نقصّها ..
في طريق عودتهما ، ودعتها في بيت زوجها خلف ، الذي أخبرهما أنه يستعد للسفر إلى المدينة لذا بقي هذا الصباح في الدار ..كلف بعضا من أقاربه ببيع الغنم ، والثور الوحيد في سوق السبت ، وأغلق باب سفلي خاص بالماشية بأقفال كبيرة وسلاسل ، التفت جهة أم فاطمة وقال : « إذا احتجتم شيء من شغل المزرعة خذوه من الحوش « كان قد ترك عدة المزرعة كاملة في ركن الفناء ، وباع مزرعته الصغيرة قبل زواجه بأيام وبثمن أقل بكثير من قيمتها حيث اشتراها مناحي جارالله ..حلفت شاهرة ألا يذهب قبل أن تعد له العصيدة والخبزة والمرقة ..يلتفت بعدها لفاطمة ويطلب منها في صياغة عجلة أن تأخذ كل ملابسها وتعد زاداً للطريق ..قد يجدان شاحنةً ذاهبةً جهة الحجاز البعيد قبيل الظهيرة ..ومن هناك إلى جدّة حيث قد يغيبان مدة طويلة ..
هامش
– جزء من رواية لم تنشر بعد
———————
محمد خضر