* مدخل
تضمرُ الثقافة الشعبية، بتجلياتها المختلفة، وعودا مستقبلية زاخرة. أتاح تجدد مناهج القراءة، وتنوع آلياتها ومنطلقاتها، إمكانية تصدي هاته الثقافة لهاجس الاندثار الذي يتهدد وجودها في سياق كوني، فتح من جهة إمكانات عدة لانتشارها وتداولها، وجعلها من جهة أخرى، تحايث ثقافات أخرى، شعبية وعالمة، تمتحُ منها حينا وتتلاقحُ معها، وتتدافعُ معها أحايين أخرى.
في ضوء الوعي بضرورة الحفاظ على الثقافة الشعبية -بروافدها المختلقة – حيّة، ومسؤوليةِ الإسهام في ضمان سيرورتها وانفتاحها الدائمين، دون أن تفقد هويتها الخاصة، يأتي إعمالِ التفكير في موضوعة ذاتِ صلة بهذه الثقافة عامة، وفي جنس من أجناس الأدب الشعبي الشفهي بشكل خاص، هو النكتة.
وتتضاعف أهمية ترسيخ ذلك الوعي في بيئات ثقافية لم تؤسس فيها بعد تقاليد أكاديمية، تجعل من الثقافة الشعبية، بما في ذلك الأدب الشعبي، ميدانا لها. ونشير في هذا السياق إلى أن النكتة إذا ما قورنت بباقي أجناس الأدب الشعبي الأخرى، كالحكايات الشعبية، والأمثال، والأغاني…. إلخ، نجد نصيبها من الاهتمام، سواء من حيث الجمع والتدوين، أو من حيث الدراسة والبحث، يعد أقل.
ويمكن إرجاء ذلك بالأساس، للنظرة التنقيصية التي لازمت، ولا تزال تلازم الأدب الشعبي والأدب الهزلي على حد سواء. والخصيصتان معا اجتمعتا في النكتة. ويؤكد هذا قول بوعلي ياسين: «… هذا التعامل مع النكتة لا يدل على تقدير كبير لهذا النوع من الأدب. هو موقف رافض لكلا الأدبين: الشعبي من جانب، والهزلي من الجانب الآخر. فكيف إذا اجتمعت – في نظر المعنيين – الطبيعتان معا، الشعبية والهزلية، كما في النكتة؟!.
وكيف إذا كان ذلك في قالب اللهجة العامية، كما في قسم كبير من النكات والنوادر والأمثال؟!».(1)
إن رؤية من هذا قبيل، مطبوعة بالأوهام والمسبقات، يتبدى زيفها إذا ما بحثنا عن التفسير الحقيقي لإهمال البحث في جنس النكتة، أو بساطة فهمنا لها، والذي يرجع بنسبة كبيرة لضعف أدواتنا المنهجية. وقد يعزى الأمر كله للعيوب النسقية المتكشفة في سلوكنا الاجتماعي والثقافي برمته.
بعيدا عن الأوهام والمسبقات، تقدم النكتة نفسها بوصفها خطابا متمنعا، سعت وتسعى مجموعة من القراءات إلى أن تستنبت بشأنه أسئلة، تسهم في فهم ذلك التمنع. ينضاف إلى ذلك، كون النكتة تحتل مكانة مرموقة داخل خريطة أجناس الأدب الشعبي نفسه، يسهم الناس باستمرار في إبداعها وتداولها، ويرغبون فيها بوصفها استهلاكا ثقافيا يوميا، لا يعوضه أي جنس أدبي آخر. فهي تعبر بصدق عن حياتهم، وبشكل سهل ومأمون عن أهوائهم وهواجسهم، إلى جانب تلبية حاجة الضحك لديهم.(2) والأهم من ذلك كله، أنها تعبر عن الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والأخلاقية… إلخ، وتواكب تطوراتها.
* وظائف النكتة
تتعدد القضايا والموضوعات التي يمكن للباحث مقاربتها في دراسة النكتة، نظرا للإمكانيات التي تتيحها موضوعة النكتة نفسها من جهة، ولتنوع المناهج القادرة على فتح آفاق قرائية باذخة بشأنها. بداية من الاشتغال على تحديد مفهومها، والعمل على تقعيد تجنيسها، وكشف مكامن أدبيتها وشعريتها، وحصر أنواعها وموضوعاتها، وتفكيك بنايتها، ورصد طرق إنتاجها، وقنوات توزيعها وفضاءات تداولها، وأشكال تلقيها، وصولا إلى بيان وظائفها.
وقد آثرت الورقة حصر موضوعها في الوظائف، مع التركيز على وظيفة المقاومة الثقافية. انطلاقا من اعتبار النكتة علامة ثقافية، إلى جانب كونها قيمة جمالية تتوخى الترويح عن النفس. واعتبارها كذلك، يتيح مشروعية التساؤل عن وظيفة هذه العلامة الثقافية في سياق عالمي تشكل العولمة – بما فيها العولمة الثقافية – أبرز معالمه الطافحة.
تشكل النزعة الوظيفية سندا نظريا نتغيا من ورائه كشف وظيفة المقاومة الثقافية في النكتة، وهي نزعة تنادى بوجوب دراسة الظاهرة الاجتماعية والثقافية من حيث الوظيفة التي تؤديها، في تفاعل مستمر مع البيئات التي تطورت فيها تلك الثقافة.(3)
قبل الانتقال إلى رصد وظيفة المقاومة الثقافية، نشير إلى أن للنكتة وظائف متعددة، فمن وظيفة الإضحاك والتنفيس والتسلية، إلى وظيفة تعرية الطابوهات الدينية والجنسية والسياسية، والتعبير عن كل محرم محظور، إلى وظيفة ترسيخ الألفة بين الأفراد. ومن وظائفها أيضا، إتاحة الفرصة للناس العاديين في أن يبلّغوا من خلالها مواقفهم، ومعتقداتهم، ورغباتهم، بشكل ملتو وبعيدا عن أعين الرقابة، الشيء الذي لا يتأتى لهم بوسائل أخرى(4).
إن انوجاد النكتة اللافت داخل المجتمع، وإمكانات تداولها، وانتشارها الواسع والسريع بين أفراده، يمنحها وظيفة اجتماعية تحايث الوظائف الأخرى، ستشكل بدورها قاعدة لوظيفة المقاومة الثقافية.
ونجد برغسون يؤكد على الوظيفة الاجتماعية للضحك، والنكتة طبعا من أهم مثيرات الضحك داخل المجتمع، يقول: «من أجل فهم الضحك، يجب وضعه في وسطه الطبيعي الذي هو المجتمع؛ ويجب بشكل خاص تحديد وظيفته المفيدة، التي هي وظيفة اجتماعية … إن الضحك يجب أن يتجاوب مع بعض متطلبات الحياة المشتركة. إن الضحك يجب أن تكون له وظيفة اجتماعية»(3).
إذا كانت الابتكارات التكنولوجية تكرس عزلة الفرد، فإن النكتة بطابعها الشفاهي التداولي تكرس توطيد العلاقات الاجتماعية، وهو التوطيد نفسه الذي يمهد لمقاومة ثقافية تتملكها «النحن» في مقابل «الآخر».
فما الخصيصات المتضمنة في النكتة، والمانحة إياها وظيفة اجتماعية ممهدة لوظيفة المقاومة الثقافية؟
* وظيفة المقاومة الثقافية في النكتة
إن النكتة بطبيعتها تداولية، حيث لا توجد نكتة خارج الملتقى، ويستلزم ذلك بالضرورة توافر لغة مشتركة بين راوي النكتة ومتلقيها، تسعف الأول في الإفصاح والتبليغ، وتساعد الثاني على فك رموز النكتة، وتبيّن مواطن المفارقة فيها، خاصة في النكت المبينة على اللغة والتلاعب بالألفاظ.
وإلى جانب التواطؤ اللغوي، يحضر المشترك الثقافي المرتبط بنسق المجتمع المعنى، بوصفه شرط إمكان أداء النكتة لوظيفتها المقصدية، يقول وولتر ناش: «نتقاسم الفكاهة مع هؤلاء الذين يتقاسمون معنا تاريخنا، ويفهمون طريقة تفسيرنا للتجارب. هناك ذخيرة من المعرفة والذكريات المشتركة تعتمد عليها النكت مع تأثير لحظي»(6).
يفرز الحديث عن ضرورة التواطؤ أثناء إلقاء النكتة بين الراوي والمتلقي، سواء على مستوى اللغة، أو على مستوى الخلفية الثقافية المشتركة، طرفا ثالثا، يشكل عادة المستهدف بالنكتة، إنه الآخر بالمعنى «الإثني» للمفهوم.
يدفعنا هذا، ونحن بصدد الحديث عن وظيفة المقاومة الثقافية للنكتة، إلى ضرورة تحديد طبيعية الآخر المقصود هنا، فالذات لا تتميز إلا بالنظر للآخر، ومن ثمة يتشرعن الحديث عن النكتة بوصفها تجلٍّ – في جانب من جوانبها- للمقاومة الثقافية، عبر خلق فعل إضحاك الذات على الآخر، إما لعداوة تاريخية، أو لتنافس حول المصالح، أو تأكيد للذات وإثبات لوجودها.
إن النكتة بهذا المنظور لا تحقق تفوقا ملموسا لقوم على آخر، « لكنها قادرة بلا شك على المساهمة في خلق (أو إيهام) شعور بالتفوق أو على الأقل – بالنديّة- تجاه الأقوام الأخرى، وإلا صار الكيان الجماعي المعني عرضه للانهيار من الداخل»(7).
يشكل الحديث عن الآخر بمعناه الإثني، أو بمعنى المجموعة الإثنية Ethnic group، المدخل الأقرب لتوصيف الآخر المقصود بالمقاومة الثقافية المضمرة في نكات مجموعة ما، تتخذ موضوعا لها مجموعة إثنية أخرى، وهي المجموعة التي تقابل تجمعا لغويا، أو ثقافيا، أو إقليميا، أو دينيا. وتشير أيضا إلى أية مجموعة من الناس يعزلون أنفسهم عن الجماعات الأخرى التي يتعاملون معها، أو يوجدون بها، انطلاقا من معيار، أو معايير مميزة، قد تكون لغوية، أو عرقية/ ثقافية، إن المجموعة الإثنية بهذا المعني تغدو حاملة لهوية متميزة بتقاليد ثقافية مشتركة.
إن توصيفا موجزا لطبيعة النكت التي يمكن أن نسميها بالإثنية أو العصبوية، يؤشر على أن هذه النكت تستهل بذكر الانتماء اللغوي، أو العرقي، أو الإقليمي، أو الوطني، أو الديني، لصاحبها (هذا واحد الأمازيغي، المراكشي، اليهودي، الصعيدي، الأمريكي، السلفي… إلخ) وأن تيمتها المركزية تكمن في إسناد صفة وضيعة إلى فئة معينة بطريقة مضحكة، غايتها إضحاك «النحن» بتضخيم سلبيات الآخر.
إننا نصادف نكتا كثيرة يتجلى فيها الصراع الطبقي (بين طبقة اجتماعية وأخرى)، أو بين الأديان والمذاهب المختلفة، أو بين الجنسين (الذكر والأنثى)، أو بين عرق وآخر. وأخرى يبرز فيها الصراع والاختلاف الثقافي، أو صراع بين مجالين جغرافيين مختلفيين (البادية والمدينة). وفي كل هذه النكات «يؤكد ناقلوها على انتمائهم، مقوين تضامنهم وتلاحمهم، خلال مديح الذات الجمعية، والسخرية من الجماعات الأخرى، خاصة تلك التي ينافسونها، وبالأخص التي يتناحرون معها»(8).
إذا تناولنا على سبيل المثال، النكات العربية التي موضوعها «الآخر» الغربي، نجدها تتخذ شكلين مختلفين: الأول يسم هذا الآخر بالاستغلالية، والنفعية، والهيمنة، وغيرها من الصفات الاستبدادية، والثاني يقارن بين «النحن» المتخلفة و»الآخر» المتقدم، عبر صور تصور العربي في أحط المواقف وأرذل الوضعيات. وفي كلا الشكلين تمارس الذات مقاومة ثقافية.
أمام هذا التوصيف يواجهنا إلحاح سؤال مشروع: هل يمكن وسم هذه النكت بالعنصرية أو التعصب العرقي؟
قد يصدق ذلك أحيانا، ولكن في أحايين كثيرة، يغيب المقصد العنصري، حيث نجد تلك النكت تُروى من قِبل الفئات الموجهة لها. كما أنها تروى عادة بعفوية بعيدة عن كل مقصد يسعى للإساءة للآخر.
يتبدى جليا من خلال ما سبق، أن النكتة تشكل أحد أهم أشكال المقاومة الثقافية، خاصة في المجتمعات التي تعاني ضغوطا بمختلف تجلياتها، وهي بذلك تغدو مطلبا فرديا وجماعيا، خاصة أثناء الأزمات المتمادية. «وإن أشد الناس بؤسا وأسوأهم عيشة وأقلهم مالا وأخلاهم يدا، أكثر الناس نكتة، كأن الطبيعة التي تداوي نفسها بنفسها، رأت البؤس داء، ومعالجته بالنكتة دواء»(9).
ينضاف إلى ذلك، أن النكتة كبقية أجناس الأدب الشعبي الأخرى، حاملة لأنساق ثقافية مختلفة ومتنوعة، من رموز، ولهجات، وإشارات للعادات والتقاليد، أو لأحداث تاريخية…إلخ، فتسهم بذلك في رسم خارطةِ هويةِ مجموعةٍ من المجموعات البشرية أولا، وفي استمرارية وسيرورة تلك الهوية ثانيا. وبذلك فإن «أفضل طريقة لفهم المجموعات والأمم والشعوب هو أن نتعرف على ما يضحكها، والنكت والهجاء والفكاهة تمدنا بآراء حصيفة وثاقبة حول اللاشعور الجمعي، وهي بذلك تعادل سنوات من البحث الميداني»(10).
نشير أخيرا إلى أن النكتة تكرس لنموذج خاص ومتفرد للضحك داخل بنية مجتمعية ما، فتشكل عبر هذا الجانب أيضا، شكلا من أشكال المقاومة في زمن العولمة الثقافية التي لم يسلم فيها الضحك نفسه من محاولة التنميط والقولبة.
الهوامش
1 – بوعلي ياسين، بيان الحد بين الهزل والجد: دراسة في أدب النكتة، دار المدى للثقافة والنشر، بيروت، ط 1، 1996. ص 60.
2 – المرجع نفسه، ص 92.
3 – محمد الجوهري، علم الفولكور (الجزء الأول): الأسس النظرية والمنهجية، دار المعارف، ط 4، 1981، ص 235.
4 – هنري برغسون، الضحك، ترجمة علي مقلد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2، 2007، ص. 13.
5 – أحمد الشايب، طبيعة الحلم والنكتة من خلال لغة رمزية، مجلة دراسات، أكادير، العدد 8، 1998، ص. 50.
6 – Welter Nash, The Language of Humour, 1985, p.9.
7 – بوعلي ياسين، مرجع سابق، ص. 212.
8 – بوعلي ياسين، مرجع سابق، ص 281.
9 – عامر فياض، الفكاهة سلاح المقاومة في مصر، في مجلة: 22 يوليوز (لندن)، العدد 9، ص 44، نقلا عن بوعلي ياسين، مرجع سابق، ص 21.
10 – أحمد الشايب، الضحك الاثني، ضمن أبحاث في الفكاهة والسخرية (الورشة الأولى)، جامعة ابن زهر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية أكادير، ص 15.
—————–
نبيل لهوير