النكبة التي لحقت بالشعب الفلسطيني العام 1948هي الذروة لعصر الاستعمار الأوروبي الكلاسيكي الذي انحسر في القارات الخمس بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت إسرائيل التي قامت في نهاية تلك الحرب هي نتاج انقلاب التاريخ وانعطافه. في انقلابات التاريخ وانعطافاته الدراماتيكية تظهر شعوب جديدة ودول جديدة وأفكار جديدة. الحرب العالمية الثانية التي أنهت الاستعمار الابيض الأوروبي القديم بشكل أو بآخر، كانت هي المسرح السياسي والعقائدي الذي استغلته الحركة الصهيونية ومن يدعمها علناً وسراً، اقليمياً ودولياً، لتقيم لها وطناً على حساب الشعب الفلسطيني وعلى حساب أرضه ووجوده وإنجازاته وجذوره وثقافته، وهكذا كانت النكبة في معناها البسيط والمباشر، الاقتلاع والطرد ومن ثم الإحلال. النكبة هي اقتلاع شعب وطرده من ارضه بالقوة، ولكنها ايضاً إحلال شعب مكان آخر. إن هذه الكلمات على مباشرتها وبساطتها وامكانية فهمها، هي ببساطة ايضاً جريمة انسانية بكامل المعاني والمفاهيم والمعايير. ولأن النكبة حدثت أو وقعت في التاريخ، أي يمكن رصدها و توثيقها، أو لأنها حدثت دون ضجيج، أو لأنها حدثت ثم تَم استيعابها من العالم، أو لأنها حدثت دون أن تتحول إلى حدث فريد في التاريخ، أو لأن العالم الغربي الاستعماري نظر إلى ما حدث باعتباره جزءاً من العقيدة والسلوك الابيض الاستعماري، فإن النكبة بهذا المعنى، تحولت بقدرة قادر إلى قضية إنسانية وفرّغت من معانيها الكارثية والأخلاقية، تحولت النكبة في عرف المستعمِر – على أنواعه – إلى مشكلة جوعى وعراة، ولهذا أو لأن هذا كذلك، فقد تم تفريغ قرار 194 من مضامينه كلها، وتحولت الحقوق إلى مصالح، واستبدلت المبادىء بترجمتها، وبدلاً عن الحديث عن جماعة ذات حقوق لا يمكن الانتقاص منها صار الحديث يجري عن تنفيذ الممكن منها، وهذا «الممكن» عادة ما يضيق ويقل كلما تقدمنا في الزمن. المستعمِر عادة ما لا يؤمن بالمطلق، والمستعمِر عادة ما يضيق بالقوانين الثابتة. المستعمِر ظرفيّ واستثنائي، ولهذا فهو يبحث عن الظرفي والاستثنائي دائماً في كل شيء.
النكبة هي إسرائيل التي قامت على أرضنا، ومعها كل ذلك الإرث الاستعماري الابيض، لا يمكن للصهيونية أن تنكر كونها إرثاً استعمارياً أبيض، الصهيونية التي تحاول الادّعاء انها ثورة على الاستعمار والكراهية والفوبيا والتمييز وعُقَد المرض والتوهّم. هي ببساطة جزء من هذه المنظومة التي سقطت ذات يوم، المستعمِر يسقط لأنه يتآكل من الداخل، ولأنه يخسر دائماً، ولأنه لا يستطيع توليف حكايته كل يوم ومن ثم يجد مبرراتها ومسوغاتها، الاحتلال بقدر قابليته للسقوط والتآكل بقدر كونه مكلفاً ليس لمن يقع عليهم الاحتلال وإنما لأولئك الذين يقومون بفعل الاحتلال، ومن هنا كان الاحتلال آيلاً للسقوط دائماً، مزعزع الاركان دائماً، لا يجد ولا يمكن أن يجد راحة أو أمناً أو طمأنينة، حتى تلك الأنواع من الإحتلالات التي كانت في أراضٍ بعيدة وشعوب بدائية. إن تلك الدوافع التي أهابت بالرئيس الامريكي كارتر ومن ثم كلينتون لاستقبال ممثلي الهنود الحمر في البيت الابيض هي ذات الدوافع التي نرصدها في نفس أي لص مهما بلغ ذلك اللص من مواقع أو إنجازات. لا يمكن قتل الحقائق. ولا يمكن الإلتفاف عليها، ولا يمكن تزييفها، نحن هنا نتحدث عن قوانين وليس مجرد تمنيات أو تخمينات.
النكبة هي الخيانة ايضاً، إن درس النكبة من نواحيها المختلفة، ومن مصادر مختلفة، ومن وجهات نظر مختلفة، تفزعنا تماماً كما حدثت أول مرة، لقد حدثت النكبة ليس لأن الصهاينة كانوا أقوى أو أكثر عدداً أو أحسن تجهيزاً أو أدقّ خططاً وتخطيطاً، بالعكس من ذلك تماماً، كانوا أضعف منا، واقل عدداً، وأكثر خوفاً، وأكثر فرقة، وهذا الكلام لا نقوله بدون إثبات أو برهان، لنقرأ ما كتبه مؤرخوهم عن تلك الفترة، وسترى العجب العجاب، ستجد أن النخبة العربية، النخبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت نخبة مريضة ومشوهة مرتبطة، كانت نخبة عميلة، بأقسى ما في الكلمة من معنى. الجيوش السبعة التي قيل إنها قاتلت على أرض فلسطين لم تُقاتل الصهاينة ولم تتصدّ للهجاناه أبداً، الجيوش السبعة كانت تترصد بعضها البعض، وتنفذ سياسات متشككة ومتوجسة، كانت الجيوش السبعة تعبيراً عن انقسام العالم العربي وتعدد اتجاهاته، ولهذا لم يكن من العجب أن لا يسقط من تلك الجيوش مجتمعة أكثر من 650 شهيداً، نحن هنا لا نتحدث عن الجماهير التي كانت على استعداد لفعل العجائب – وبالمناسبة فإن القادة العرب في تلك الاثناء طلبوا من الشعب الفلسطيني أن لا يشارك في ما أسموه بالعمليات، وذلك من أجل تحييد تلك الجماهير، تحييد الجماهير ظلّ تكتيكاً متبعاً في الحروب العربية باستثناء العدوان الثلاثي على مصر العام 1956 – نحن هنا نتحدث عن النخبة المعطوبة التي لم تستطع أن تحتمل التاريخ ولا انعطافه. كانت النكبة بهذا المعنى، هي الخيانة. في بعض الأحيان أرى أن الهزيمة هي خيانة بشكل من الاشكال.
والنكبة حلقة من حلقات الغزو الغربي الاستعماري الصليبي، اذ لا يمكنني أن أفصل بين موجات الغزو الإفرنجي وبين موجة الاستعمار الصهيوني على بلادنا، الصهاينة هم غرب، هم علمانيون، هم متدينون، يأخذون دعمهم من الغرب ويتلقّون أموالهم وعتادهم من الغرب، والغرب لا ينتقدهم ولا يخالفهم ولا يعارضهم ولا يحرجهم. الصهاينة بهذا المعنى هم غرب استعماري صليبي ليس إلا، ولأن ذلك كذلك، فإن الصهيونية تفعل ما فعلته كل موجة من موجات الغزو السابق، لقد بنت الصهيونية أسوارها وسياجاتها وأبراجها وأشهرت أسلحتها وطردت واقتلعت وصادرت واحتقرت، تماماً ككل مستعمر غازِ غريب. إن النكبة – وخاصة أنها تتعلق بأرض فلسطين – تعني أنها حققت – ولو بشكل جزئي – ما فشلت به الحروب الصليبية ومن ثم الاستعمار الأوروبي التقليدي، وبقول قد يبدو فيه تجرؤ وتعجل، فإن النكبة هي هدية الغرب الأخيرة للمنطقة وشعوبها ودينها وتاريخها. إن قيام إسرائيل – بما في ذلك من استثارة للنبوءات والمشاعر الدينية – يعني تحقيق الوعد والنبوءة ونهاية التاريخ. ولماذا لا تكون إسرائيل الجديدة إشارة على نهاية التاريخ ؟!
النكبة تعني وقف التطور الطبيعي للشعب الفلسطيني ومن ثم تشويهه وتشريده، وتحويله من شعب كان يمكن أن يفعل المعجزات على أرضه، إلى شعب من المُلاحقين والجوع والمشبوهين في منافيهم القريبة والبعيدة، تحول الشعب الفلسطيني في معظمه إلى أفراد بلا هويات وبلا روابط، تحولوا فجأةً إلى لاجئين، إن وضع «لاجىء» وضع لا إنساني، ولا طبيعي، ولا حقيقي أيضاً. إن وضع «لاجىء» الذي أصبح وصفاً للفلسطيني يعني أن الفلسطينيين عليهم أن يطوروا مجتمعاً آخر في الهواء، وبين الفراغات، وبين الأسيجة وتحت الخيام، ومن ثم في مدن الاحزمة الفقيرة، وفي الإزدحام والفقر والظلم، ولم يكن من المستغرب أن يصطدم المخيم بما حوله من عواصم أو مدن. لا يمكن تطوير هوية ومجتمع في الفراغ، أو في الهواء، أو بين الأسيجة، ولا يمكن تطوير أو تطور مجتمع تحت الحصار وتحت الملاحقة وتحت الشبهة ودائرتها. النكبة تعني أن الشعب الفلسطيني كان عليه أن يبدأ من الصفر، وأن يعيد تشكيل ذاته في أماكن متعددة، وكان عليه أن يرمم هذه الصورة من مختلف الامكنة، ذات الشعب الفلسطيني وهويته أصبحت – بسبب النكبة ليس الا – ذاتاً متعددة وهوية تتأثر بالزمان والمكان. إن الرابط الوحيد الآن بين كل الفلسطينيين هو فلسطين فقط، ذلك أن المنفى ليس مجرد نزهة وليس مجرد إقامة مؤقتة، المنفى له بصمات، وله ضغوط، وله قدرة على إعادة التشكيل في بعض الاحيان، بناء المنفى يعيد تشكيل فلسطين ذاتها. إن فلسطين التي يحلم بها فلسطينيو لبنان غير تلك التي يحلم بها فلسطينيو الضفة والقطاع إلى حدٍ كيبر.
النكبة هي المنفى القاسي الفارم الذي يجعل من الوطن خيالاً أندلسياً كاملاً أو يقدمه بطريقة أخرى. المنفى ليس سهلاً، وليس مجرد مكان. إنه ثقافة.
والنكبة هي النضال، هي حركة التحرر الوطني، وهي الَقَدر الذي يتحمّله أبناء الشعب الفلسطيني في أن يقاتلوا الاحتلال وأن يطردوه وأن يعيدوا الأمور إلى نصابها. إن صراعاً وصل عامه المائة هذه الأيام يعني أن الاحتلال ليس مجرد تغيير سلطات، وإنما هو الموت الزؤام.
النكبة أيضاً فضيحة العالم الأخلاقية وجرح الكون النازف، الدال على انتفاء العدالة الأرضية، وفشل ما يُسمّى بالمجتمع الدولي في حل القضية لمدة تزيد على ستين عاماً، وعدم قدرة الليبرالية الغربية في حل الإشكال لأنها أي هذه الليبرالية – جزء من المشكلة وليس جزءاً من الحل، أو لأنها سبب المشكلة. بكلمة أخرى، إن النكبة بحد ذاتها دليل على مدى العطب الذي يلحق ويميز هذه الليبرالية، وفي مدخل آخر، فإن هذه الليبرالية لا يمكن لها أن تَُِسوق لنا أفكارها النيّرة أو المتنّورة! فالليبرالية كاذبة ومخادعة ومنافقة، ولا يمكن أبداً اعتبار أن العالم يصل إلى ذروته الأخلاقية والسياسة معتمداً على هذه الليبرالية، وبهذا لم يخطىء فقط هيجل ولكن فوكوياما أيضاً، كلاهما اعتقد أن الليبرالية الغربية كفيلة بتحقيق السعادة والعدالة والاكتفاء، وكلاهما لم يرَ الجانب الأسود والقبيح لهذه الليبرالية. الأول رأى ذلك يتحقق في نابليون وبروسيا الذي أراد استعمار بلادنا والثاني رآها في الولايات المتحدة التي تريد أَن تحكم العالم وتضبطه.
والنكبة هي أيضاً دليل عجز النظام العربي ودليل فشله ودليل انقسامه وتفتته، عندما تضيع فلسطين عادةً ما تكون البلاد العربية وجماهيرها في أسوأ الحالات، وعندما تُستعاد فلسطين عادةً ما يرافق ذلك تغييرات عميقة تجري على مستوى النخبة والقاعدة، هكذا تعلمنا الدروس الماضية. ضياع فلسطين وإعادتها عملية صعبة وطويلة ومريرة، تدخل فيها الأنظمة والشعوب في أتون من مجريات التاريخ يتم فيها خروج الخبث وبقاء ما ينفع الناس, ولهذا فإن النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني هي دليل الخراب والفشل وغياب العلم وانعدام الإيمان.
وفي هذا الصدد، يمكن القول أنه اذا كانت النكبة قد اقتلعت شعباً من أرضه مقابل استيطان شعب آخر فيها، فإن النكسة العام 1967 وسقوط القدس كانت أشد وأنكى وأمرّ، إن سقوط القدس لا يعني سقوط غرناطة أو سقوط بغداد أو الاستيلاء على دمشق، سقوط القدس عادة ما يرمز إلى خراب وضياع ورخاوة وعدم أهلية مَنْ تضيع منهم البلاد. القدس ليست ككل المدن. إن احتلال الأماكن المقدسة يعني سقوط الكرامة والعزّة، إن تدنيس المقدس هو قمة الهزيمة، ولهذا نفهم لماذا شارك صلاح الدين الايوبي بنفسه في غسل المسجد الاقصى بماء الورد بعد احتلاله لمدة تزيد عن ثمانين عاماً. النكبة – في إحدى معانيها – ضعف الأنظمة وخيانتها وعدم قدرتها على التنسيق أو المشاركة، ولكن النكسة – في احدى معانيها أيضاً – إن تلك الأنظمة لم تفقد الشرعية فقط وإنما فقدت الرغبة في العمل أو حتى الاستعداد له. النكسة كانت فضيحة مدوية اكثر دوياً وضجيجاً من النكبة. النكسة – وهي هزيمة مرّة بأبعاد خطيرة وقد رسمت المنطقة حتى هذه اللحظة – كانت بداية القبول بإسرائيل والتعامل معها والخضوع للأمر الواقع الذي فرضته. النكسة كانت فضيحة لأن الانظمة التي واجهتها ادّعت القومية والاشتراكية والجماهيرية والجاهزية، على عكس الأنظمة التي واجهت الصهيونية العام 1948، كانت فضيحة أيضاً لأن الانظمة العربية العام 1967 كانت تخدع بالقول أنها أتت لتعبر عن المطامح والآمال والتطلعات القومية والوحدوية والعروبية، على عكس الأنظمة عام 1948 التي كانت مرتَهنة بأوامر المستعمِر العلني أو الخفي. كانت النكسة فضيحة لا تغتفر لأن انظمة عام 1967 أتت إلى سدة الحكم على أساس من نكبة عام 1948 ومن أجل تجاوزها وتصحيحها لكنها سقطت في ذات الهوة بطريقة أكثر قبحاً وأكثر فضائحية.
ضياع القدس فيما سمي بالنكسة يشبه العقاب الجماعي الذي يحل بالأمة إن لم يكن العقاب كله والعذاب كله والمرارة كلها والهزيمة والذل والهوان. وإن استعادة القدس تعني امتلاك كل ذلك دفعة واحدة، وأُبعد في القول لاقول إن استعادة القدس هي الشرط الوحيد من أجل أن تحيا الأمة حياة طبيعية تستطيع فيها أن تتنفس الهواء وتأكل الطعام. الحياة بدون القدس ناقصة ولا تستحق أن تكون الحياة بدون القدس كريهة وضيقة ولا سبيل إلى الاستمتاع بشيء.
إن ضياع القدس لا يعني ضياعها فقط، بل يعني أيضاً تهديد عمّان ودمشق والقاهرة ومكة، وضياع القدس لا يعني تشريد الشعب الفلسطيني أو قمعه أو منعه من التطور، ولكنه أيضاً يعني تجويع الشعب العربي وحصاره ومنعه من التطور وامتلاك أسباب القوة، ذلك أن إسرائيل لا تمنع الشعب الفلسطيني حقوقه وتطوره، وإنما تقوم أيضاً بتجفيف أسباب القوة والمنعة في دول المحيط، حتى تقوى إسرائيل ويضعف من حولها، وحتى تنمو إسرائيل ويموت من حولها، اذن ضياع القدس لا يعني ضياع مدينة بل ضياع مستقبل ايضاً.
ولهذا فإن النكسة بمعناها وتجلياتها وآثارها ونتائجها أشد مضاضة من النكبة وأعمق مرارة وأشد وطأة.
إن النكبة ومن بعدها النكسة وما رافقهما من ضعف وفشل عربي، قد حولتا الشعب الفلسطيني إلى شعبٍ مُشردٍ ومشتت، ومورست عليه عمليات التهميش والتغييب والنكران والتجريم وسحب الشرعيات والتعريفات عنه. إن هذه الآليات المختلفة التي مارسها الصديق قبل العدو حولت الشعب الفلسطيني عملياً إلى شعب فريد، وتنبع فرادته من قدرته على الصمود أمام كل هذه العمليات التي تشارك فيها قوى ذات جبروت وطغيان. تنبع فرادة هذا الشعب من قدرته على الثورة – بغض النظر الآن عمّا أفضت إليه هذه الثورة -.
فرادة الشعب الفلسطيني في قدرته على تحويل الخيمة من خيمة لجوء إلى خيمة ثوار، وتحويل المنفى ليس إلى مكان للنجاح أو النجاة بل إلى مكان للاستعداد والاحتشاد، وتحويل المأساة إلى حكاية لم تكتمل ولم تكتب نهايتها، وتحويل الهزيمة إلى مشارف الطريق المؤدية إلى النصر، وتحول الشعب الفلسطيني شاهداً – بعد أن كان شهيداً – على استحالة التعايش مع المشروع الصهيوني التوسعي والاحتلالي والإحلالي ايضاً.
وبهذا الصدد فإن المخيم – كوحدة اجتماعية واقتصادية وسياسية وبالتالي أصبحت ذات ملامح ثقافية – يتصّدر الكلام ويأخذ الكلام كله. فالمخيم كإفراز ونتيجة للنكبة والنكسة أصبح هو المعوّل عليه، بمعنى، وقعت على أبنائه وأجياله المتعاقبة أن يتحملوا ويحملوا الرسالة وأن يجعلوا الشعلة مضاءة وعالية. ووقع المخيم – نتيجة لذلك، بين شفرات الُمطلق وشفرات النسبي، ما بين متطلبات الثورة وفضائها وبين متطلبات الواقع وضيقه. المخيم الذي يقع في منطقة الرماد في كل شيء، جغرافياً – بكونه قريباً من المدينة ولكنه ليس منها – وثقافياً- باعتباره غريباً عن النسيج الاجتماعي وممنوعاً من الإندماج فيه – واقتصادياً – باعتبار أن موارده تأتي جاهزة وهو ممنوع من الانخراط في الدورة الإنتاجية – وسياسياً – باعتباره ممنوعاً من المشاركة والتمثيل والإنتخاب – كل ذلك جعل من المخيم ينقسم على ذاته، ويدخل في متاهات من التعريف وإعادة التعريف، الثورة كانت حلاً ولكنها ليست كل الحلول، وخاصة بعد انكفائها. المخيم – وهو وضع استثنائي في تطور المجتمعات وسلوكها – منقسم على ذاته لأنه موّزع بين الانتماءات وموزّع بين الولاءات وموزّع بين الأمكنة، ومرّة أخرى، المنفى ليس مكاناً وحسب، المنفى تجربة مهيظة وقاسية – وفي الوقت الذي يجبر فيه اللاجىء على تعريف نفسه بقوة وتطرف، فإنه أي المنفى – قادر على إجبار أو إقناع اللاجىء بفقدان هويته أو التخلي عنها طواعية. المنفى قاسٍ وقاطع كحدّ السيف، والمخيم – باعتباره ليس أفراداً وإنما وحدة اجتماعية وسياسية خاصة – أُجبر الفلسطيني اللاجىء – كرهاً أو طواعية – على أن يحدد انتماءاته وخياراته. ولكن، وبذات الوقت، فإن القضية الفلسطينية ليست قضيتنا فقط، وعليه، فإن المخيم يتعرض لكثير من الإغراءات أو الإجراءات أو الآليات التي تزيد من عدم قدرته على التحديد أو حتى الاختيار وخاصة بعد أن انكفأ المدّ الثوري والقومي ولا نقول انهزم.
المخيم الصامد، مخزون الثورة الاستراتيجي، حامل المشعل وشاهد المرحلة ومعلم الاجيال، ومعلم الأيام ايضاً، الذي طور له لغة خاصة ومصطلحات خاصة، وقسّم فئاته وأعاد ربط ما انقطع، وسمّى الأشياء من جديد، وأرغم المدينة ومن ثم القريب والغريب على الإعتراف به والتعامل معه، هذا المخيم كان لزاماً عليه أن يصطدم بما حوله، شاء أم لم يشأ، ألثورة خيار صعب، وهي خيار مجنون ولا عقلاني ايضاً، الثورة وجدان، والثورة لا حسابات منطقية فيها – ومتى كانت كذلك يوماً؟ – وعندما اختار المخيم اصطدم بما حوله سريعاً، ومن هنا تعلم المخيم أن يكون متوجساً وشكاكاً ولا يثق، وإذا كان المخيم أرضية خصبة وطبيعية للمشاعر القوية ضد إسرائيل، فإنه طور أيضاً مشاعر متناقضة تجاه المحيط الذي يحيا فيه ألمخيم المعزول والممنوع والفقير والذي يحيا بمنطقة الرماد في كل شيء، طوّر عقلية خاصة، هي عقلية اللاجىء، وهي عقلية متوجّسة وشكاكة وقريبة من الإيمان المطلق دائماً، عقلية اللاجىء ليست فيها تسويات كثيرة، وهي أقل جدلاً وأقل رغبة في الكلام، هي عقلية تحيا على حافة القبر، ليس أسوأ من المنفى، وليس أسوأ من النكران، وليس أسوأ من الفقر، المخيم لم يعد يزعج إسرائيل فقط. المخيم قنبلة سياسية، صحيح إلى حد كبير، ولكنه أيضاً قنبلة اجتماعية. إن أذكى الأنظمة التي تحاول السيطرة أو تذويب أو دمج المخيم أو تحويله من نار تحرق إلى نار يُطبخ عليها لم تصل إلى نجاح أكيد ونهائي. مرة أخرى، المخيم لم يعد يزعج إسرائيل فقط، ومن هنا، فإن حل القضية الفلسطينية هي أولوية عربية، ليس فقط من منطلقات سياسية وأخلاقية وأمنية، وإنما من منطلقات اجتماعية صرفة. ولا أقصد هنا في الحديث أن يتحرك المخيم كله باتجاه معين، بل يكفي أن يكون هناك «عبسي» واحد ليدمّر المخيم أو ليثير المحيط ويدمّره. ولا أريد أن أسترسل في الأمثلة التي تؤكد الكلام إلى حدٍ كبير، أو على الاقل لا تنفيه.
يجب الاعتراف بقوة وصرامة أن المخيم مشكلة اجتماعية وصحية، وحتى لا نُفهم خطأ – بنيّة حسنة أو غير حسنة – فإن المخيم يجب أن يزول ويختفي عن الوجود لأن سكانه يجب – وهنا أكتب «يجب» بخط كبير وألفظها بملء الفم – أن يعودوا إلى ديارهم وأوطانهم التي هُجّروا منها، هذا هو واجب الناس الآن، وواجب الأجيال المقبلة أيضاً، ومن ينسى هذا الحق أو يفرط فيه فإنه عملياً يقبل أن يأتي الاثيوبي إلى فلسطين ويأخذ كامل الحقوق، فيما يحرمّ على امرأة فلسطينية أن تعود إلى وطنها لتعيش مع زوجها وأطفالها – اقرأوا قانون العودة الإسرائيلي للعام 1952 و 1972 والتعديلات التي أجريت عليه في الثمانينيات والتسعينيات لتروا مدى العنصرية ومدى الاستعداد القانوني لمنع العرب الفلسطينيين من البقاء في أوطانهم -. ولكن وبعد تأكيد هذا الحق بما لا لبُس فيه، فان المخيم الذي يحيا اليومي والنسبي ومتطلبات الحياة اليومية من أكل وشرب وتعليم وصحة وعمل وتأمينات اجتماعية وصحية وأشكال سلوك متغيرة ومرتجلة، هذا المخيم الذي يعيش على المطلق ولكنه مضطر إلى التعامل مع النسبي، يتحول شيئاً فشيئاً – وخاصة بعد اتفاق أوسلو وتغيّر العالم ونجاح العولمة وانكفاء الثورات وتراجع الشعارات وخفوت الاصوات عن العودة أو مضامينها الحقيقية – فإن المخيم يتحول إلى مشكلة وعبء حقيقي، ليس على السلطة الوطنية وحسب، وإنما على الأنظمة التي تعيش فيها تلك المخيمات. لا يمكن حسم المخيم في نهاية الأمر. عقلية اللاجىء الذي يحيا على الأحلام ويضطر إلى البحث عن لقمة الخبز سيطور سلوكاً غير متوقع، هذا الكلام يعني ببساطة أنّ إسرائيل وغير إسرائيل مجبرون على حل القضية الفلسطينية، فالهزيمة حتى وإن توالت لن تؤدي إلى خلق علاقة غرامية مع المحتل، والفقر والنكران لن يحول المجروحين إلى قديسين يدعون إلى محبة العدو الذي نقدم له الخد الأيمن ليصفعه. ومهما بدا الكلام قاسياً ولكني أرجو أن يُفهم بواقعيته وأهدافه البعيدة، فأنا عملياً ألوّح بالقدرات التي رأينا بعضها وتلك التي لم نشاهد بعد، والتي يمكن للمخيم أن يجترحها ما لم تُحلّ القضية الفلسطينية، وبعيداً عن فذلكات الأكاديميين ورغبتهم في الوصف والتبويب والفهرسة ومن ثم الاستخلاصات، فإن المخيمات التي تصبح عناوين للبلاد والثورة والحنين، تتحول بفعل الزمن إلى مواطنين من درجة أقل ويحصلون على حقوق وواجبات أقل، أي أن جُرح الطرد يضاف إليه جرح النكران والتهميش، وكأنّ حالة اللجوء هي حالة مشبوهة أو مدانة أصلاً، إن وضعاً كهذا – وإن استمر بشكل أو بأخر – وإن تمّ استيعابه بشكل أو بآخر – وإنْ تمّ – تدجينه بشكل أو بآخر – لا يمكن له أن يستمر. إن بيت الصفيح ليس أفضل حالاً من خيمة 1948، وإن معونات وكالة الغوث التي تتناقص سنة بعد سنة لن تكون بديلاً عن أحلام عريضة، وإن التطامن أو السكون أو الخضوع لأوامر المحيط وقوانينه لن تسود إلى الأبد، خاصة إذا توالت عمليات التنازل والتطبيع المجاني وقبول إسرائيل بالكامل دون إيجاد حل لأكثر من خمسة ملايين فلسطيني موزعين ما بين بيوت صفيحية أو صحارى بعيدة أو مجاهل لا يصل إليها البريد.
وكلما تقدمنا في الزمن، فإن مشكلة المخيم – متعددة المستويات ومعقدة التجليات – تزداد وتتفاقم، ليست فقط بسبب إلآلية الخاصة بتطور المخيم وتعدد خياراته، وإنما أيضاً – وبذات الدرجة من القوة – بسبب أزمة أو أزمات الأنظمة التي تعيش ضمن حدودها تلك المخيمات.
إنّ الأنظمة التي تعيش أزمات مختلفة تتعمق يوماً بعد يوم، وهي أزمات اقتصادية وسياسية، ولبنان تعطينا مثالاً مناسباً فيما يمكن للمقدمات والنتائج أن تكون. إن تجسد السلطة الوطنية في الضفة والقطاع – أو في الضفة فقط في هذه الأثناء – لم يساعد حتى اللحظة في حل ضائقة المخيم، بل على العكس من ذلك، إذ أن تجسد السلطة الوطنية بدا وكأنه حل نهائي لموضوع المخيم، ومن هنا، ازدادت حدة الموضوع، وزاد ضغطه الشديد على الوعي والوجدان، فهل ينتظر سكان المخيمات منفى أبديا، أم تجنيسا أم توطينا أم تعويضا أم عودة مجزوءة. هذه الأسئلة لم تكن في الماضي، وهي الآن حاضرة بقوة، الأمر الذي يزيد من حدة وتطرف المسألة، ونحن هنا نتحدث عن عقلية اللاجىء – واللاجىء ليس مهاجرا ولا مغامرا ولا مستوطنا -، وقلنا إنها عقلية تطرّف أكثر منها عقلية مهادُنة، وعقلية تُبدي ما لا تُعلن، وإن تهديد المخيم بخيارات متعددة ومختلفة ضمن أزمات متلاحقة وضغوطات من جهات متعددة، كل ذلك يدفع الأمر إلى عنق الزجاجة. وإذا كانت النكبة ومن بعدها النكسة ومن بعدها الهزائم والأزمات ثم التفتيت و الانقسام، قد أضرّت بالمخيم، فضُرب وعَّذب وحُوصر، فإننا الآن على أبواب مرحلة جديدة، تُقَْبل فيها إسرائيل وتنشأ معها العلاقات، فيما يغرق المخيم بوحله أكثر فأكثر، إذن، فالأمر شديد… شديد، وعلينا الانتباه.
المتوكـــل طـــــه
شاعر من فلسطين