يستكشف الناقد أيمن باي في كتابه النزوع الدرامي في شعر نوري الجراح حدود العلاقة القديمة بين الشعر والدراما، كما تجلت في الشعر الدرامي الذي كان إلى جانب الشعر الغنائي والملحمي يشكل الثالوث الشعري. وقد جرى استعادة هذه العلاقة في تجربة الشعر العربي الحديث في إطار النزعة الحداثية، التي سعت لتحرير الشعر من آثار الرومنتية والنزعة الذاتية الفردية بهدف تعميق حضور الإنساني والموضوعي فيه. أما في قصيدة النثر فإن هذه العلاقة تنطوي على إشكالية تنبع من ميل هذه القصيدة نحو التكثيف والاقتصاد في اللغة. لذلك كان اختياره لقصيدة طويلة ذات فضاء ملحمي للشاعر الجراح، هي قصيدة الأيام السبعة للوقت موضوعا للبحث بغية استكشاف كيفية حل هذه الإشكالية في هذه التجربة، بوصفها تقدم تحديثا لمفهوم الدراما يقطع مع معيارية المفهوم القديم، لها، خاصة أن هذه القصيدة تختار موضوعا دراميا، جعلها تمثل مادة خصبة تغري بدراسة الدراما في قصيدة النثر.
دوافع ذاتية وموضوعية
يحدد الناقد بداية الكتاب الدوافع الذاتية والموضوعية التي قادته إلى هذه الدراسة، والمتمثلة في تعلقه بدراسة الشعر الدرامي الحديث، وأشكال تطوره من قصيدة إلى أخرى، ومن شاعر إلى آخر وصولا إلى قصيدة النثر، التي تمثل قصيدة الجراح الطويلة نموذجا مهما لها، إضافة إلى تفاعله الوجداني مع موضوعها، خاصة أنها تمتلك طاقات تعبيرية وشعرية واضحة. أما الدافع الموضوعي للدراسة فيتأتى من قلة الدراسات العربية التي تهتم بحضور الدرامي في قصيدة النثر العربية، وسعيه لسدّ النقص الحاصل في هذه الدراسات. ويعترف الناقد بالصعوبات التي تواجهها مثل هذه الدراسات، بسبب قلة المراجع التي تناول النزوع الدرامي في الشعر الحديث عموما وشعر الجراح خصوصا، إلى جانب التعامل مع مقومات الدراما ومضمونها، في قصيدة تعنى باللغة أولا وتذهب بالتخييل إلى مداه البعيد، ما يخلق متاهة على مستوى التأويل والبحث عن الدرامي في مشاهد القصيدة، نظرا لكثافة اللغة وغموضها في بعض الأحيان.
تبدأ الدراسة بمهاد نظري عمل فيه على تأصيل الظاهرة من خلال تناول تاريخ الدراما وتطوره ينتقل بعدها إلى دراسة الدراما في الشعر العربي الحديث، ليخلص من ذلك إلى تحديد مقومات القصيدة الدرامية، لاسيما القصيدة الطويلة منها، ما يشكل مدخلا مهما للتعرف إلى كيفية استثمار الشاعر الجراح الدراما في بناء درامية قصيدته. لقد تجلت الدراما في هذه القصيدة عبر مجموعة من العناصر الدرامية أولها الصراع الذي توزع على نوعين من الصراع، صراع داخلي وصراع خارجي. أما الداخلي فيجده أنه الذي ينزّل وعي الشاعر بالقضية السورية فنيا، عبر الصراع مع الذات التي تنقسم إلى ذاتين متصارعتين، في حين أن الصراع الخارجي يبدو بين النظام والمعارضة، وهو صراع متعدد الأبعاد، تكشف القصيدة في متوالياتها عنه.
ويظهر المشهد الدرامي في هذه القصيدة عبر عدد من المشاهد المتتالية، يستخدم فيها تقنية السيناريو وتتميز بكثافتها الإيحائية وهي تجسد الواقع السوري المأساوي، في خط درامي متصاعد التوتر والعنف ولكن بلغة مكثفة وموحية تراهن على الجمالي في الشعر. أما العنصر الدرامي الثالث فيتمثل في استخدام الشاعر لتقنية القناع التي ينزع من خلالها إلى الموضوعية. ويرى الناقد أن الشاعر استطاع أن يصنع خطابا شعريا مقنعا لا تحظى به الذات بوجود مستقل بسبب انقسام الذات على ذاتها وتشظيها إلى شخصين اثنين، يظل المنولوج الداخلي مستمرا بينهما. لذلك يعتبر أن قصيدة الأيام السبعة للوقت هي قصيدة مقنعة يكاد يغيب الحد فيها بين أسلوب القناع وأسلوب الحوار الباطني.، لأنها من بدايتها وحتى النهاية تقوم على صوتين متصارعين.
وفي دراسته للحوار الباطني يجد أن الحوار الداخلي يستغرقه صراع بين الذات المقنعة وذات الشاعر، يتحول في كثير من المواضع إلى مناجاة فردية يستبطن فيها الصراع الداخلي الذي يعيشه، للتعبير عن أفكاره الداخلية العميقة. وينقسم تعدد الأصوات إلى عدد من الصور، تجلت في تعدد الشخصيات أو الأصوات نظرا لطبيعة التجربة الجماعية التي يعبر عنها. وهناك تنويع اللهجة بوصفه أسلوبا من أساليب تعدد الأصوات، ما يضفي على القصيدة بعدا موضوعيا كبيرا.
ويتناول التقنيات السينمائية بوصفها وجها جديدا من وجوه التجديد في البنية الدرامية للقصيدة ذات النزوع التجريبي كما هو الحال في استخدام المونتاج والتصوير والومضة الورائية، كما ظهر في ترتيب المشاهد درامي عبر المتوليات التي تتألف منها القصيدة. وتمثل الكاميرا أداة تسجيل للمشاهد وفق رؤية محددة يتداخل فيها الدرامي مع الجمالي. ويخلص الناقد في دراسته لهذه التقنية أنها تحيل على وعيه بضرورة إنتاج عناصر درامية جديدة، تستطيع فتح افق مغاير للتعبير الدرامي والشعري بصورة تتوازى مع أهمية الموضوع وخطورته.
ويخصص باي الفصل الثالث من الكتاب لدراسة درامية اللغة والإيقاع رغبة في استجلاء عناصر البنية الدرامية للقصيدة. إن اللغة في قصيدة الجراح هي وسيلة وغاية في آن معا، وذلك من خلال تطويع اللغة لقول ما لم تعتد أن تقوله وفقا لطبيعة القول وحاجاته النفسية. وفي تناوله للأفعال الدرامية يدرس الأفعال المضارعة التي تزخر القصيدة بها، وتعبر عن الحركة المستمرة بعيدا عن اليقينيات. كذلك هناك أفعال الأمر التي تدفع بالخطاب الشعري نحو ذرى درامية تحيل على مدلولات الصراع والتوتر. وتسهم بنية التضاد أو الثنائيات المتقابلة في تعميق درامية القصيدة من خلال الحركة التي تضفيها وتعبيرها عن ما يجول في أعماق الشاعر. ولا تقل درامية الصورة أهمية عن العناصر الأخرى حيث يتجلى فيها التوتر والحركة والعمل على تجديد البلاغة عبر الغرائبي المدهش والسوريالي الصادم.
ويفرد الناقد لدراسة الصورة الشعرية موزعة على الصورة البلاغية التشبيهية والاستعارية والأسلوبية حيزا خاصا وإن كان مكثفا، كما يتناول درامية الإيقاع كما يظهر في إيقاع الخطاب وترديد اللازمة التي تمثل محورا دلاليا في القصيدة، وترديد الكلمة والتركيب النحوي والتوليد اللفظي، إضافة إلى الإيقاع المرئي وهندسة القصيدة والمقاطع الشعرية، وجدلية البياض والسواد في إطار جمالية الإيقاع المرئي.
ويعود الناقد في خاتمة الكتاب إلى تلخيص محاور الدراسة والنتائج الأساسية التي خلصت إليها باعتبارها تكثيفا لخطوات القراءة ونتائجها في استقراء هذه التجربة التي قدمت نموذجها الخاص في توظيف العناصر الدرامية بكفاءة تجلت في توالدها وتجددها بشكل كبير، ولذلك يثبّت نص القصيدة في نهاية الكتاب لكي يعود القارئ إلى قراءتها كنص متكامل واسع الطيف والثراء جماليا وفكريا.
مفيد نجم*