يزخر العصر النبهاني بالشعراء والعلماء، وهو عصر كان وما زال يشكل مفارقة كبيرة في أذهان العمانيين من حيث كونه قد عدَّ متميزاً فنياً واقتصادياً، ومن أزهى عصور الأدب في عُمان، وفي الوقت ذاته عدَّ من عصور الفساد والانحطاط والظلام ووصف حكامه بالجبابرة والطغاة والمفسدين!! (1) الأمر الذي أوقع كثيراً من المؤرخين في تداخل الآراء وتضاربها ومن ثم حيرة الدارسين المحدثين أمام تجليات ذلك العصر .
ويعد النبهاني أحد أبرز شعراء العصر، وأرى أنه إذا كان العصر بمجمله قد أهمل من قبل المؤرخين العمانيين فإن هذا الشاعر- تحديدا – قد تعرض للتجاهل والإهمال المطلق، مقارنة مع غيره من شعراء عصره، والسبب واضح، إذ يكفيه أنه كان ممثلا للبيت النبهاني ومحاربا ضدَّ الأئمة، وساعيا إلى تثبيت ملكه وملك أجداده بالقوة والقسر، حتى وإن اضطره ذلك إلى الاستعانة بالقوة الأجنبية ضدّ أبناء وطنه، وبالتالي فإن مؤرخاً واحداً لم يذكر متى ولد هذا الشاعر، وأجمعوا على أنه ولد في النصف الأول من القرن التاسع الهجري وإن كانوا قد حددوا موعد خلعه ووفاته بالسنة، فإن ذلك يعود إلى تولية الإمام الذي خلعه من الحكم وتتبع المؤرخون حياة الشاعر الأخيرة لأنها ارتبطت بمناوشات بينه وبين الإمام محمد بن إسماعيل الحاضري .
ولهذا السبب لا تتوفر إلى الآن نسخة مخطوطة واحدة في وزارة التراث والثقافة من ديوان الشاعر النبهاني، بينما وجدت أكثر من مخطوط ومخطوط لغيره من شعراء عصره، فعلى سبيل المثال تتوفر الآن اكثر من خمس نسخ مخطوطة لديوان الكيذاوي بالدائرة المعنية، فمن هو هذا الشاعر الذي أصابه ما أصاب العصر من حيرة وعبث وضياع لنتاجه، حتى تضاربت حوله الأقوال لدرجة التناقض والتضاد؟
النبهاني هو الملك الشاعر سليمان بن سليمان بن مظفر بن نبهان النبهاني , من ملوك الدولة النبهانية, وينتمي بنو نبهان في أصولهم إلي العتيك، تلك القبيلة الأزدية العمانية، ومن المعلوم أن العتيك المنتمين إلي قبيلة الأزد العربية القحطانية، ينتهي نسبها إلي يعرب بن قحطان بن هود النبي عليه السلام» ( 2)
ولد النبهاني في النصف الأول من القرن التاسع الهجري (؟) وتوفي في أوائل القرن العاشر على وجه التقريب سنة ( 915هـ = 1510 ) م (3)
(تلقى علومه الأولى من قراءة وكتابة وحساب بمدينة بهلا , وواصل علومه اللغوية التي بلورتْ تمكنه من اللغة وإحكامه لعلوم العروض والقوافي فيها، وقد عكس شعره الفذ ثقافتة الواسعة وتمكنه من اللغة، وإحكامه للقوافي، ودرايته بعلوم الآلة فهو سلطان وشاعر واسع الثقافة ) (4) والحقيقة أن النبهاني يملك ذخيرة لغوية وثقافة واسعة استطاع ان يوظفها في شعره، وعملت على بقاء نصاعة الشعر العربي والعودة به إلى عصوره الزاهرة .
وقد اتضح هذا في كثرة معارضاته للشعراء فقد عارض النبهاني العديد من فحول الشعر الجاهلي أمثال امرئ القيس وطرفة بن العبد وعنترة بن شداد وعمرو بن معد يكرب، ويوضح شعره مدى إعجابه بشعر امرئ القيس خاصة , فمن تقليده لامرئ القيس إكثاره من المواطن والأماكن التي يمر بها يقول امرؤ القيس: ( وحلتْ سليمى بطن قوٍ فعرعرا ) ويقول النبهاني:
ألِلدَّارِ من أكنافِ قـَوٍّ فـَعـَرعر ِ
فخبتْ النـَّـقـا بطن الصَّفا فالمشقـر ِ (5)
متمثلا حال الشاعر الجاهلي في توقفه وبكائه على الربع المهجور الذي تركه الأحبة , وموظفا المعجم الجاهلي من حيث المفردات والأساليب , حتى كأنَّ القارئ يقرأ قصيدة لأحد فحول شعراء العصر الجاهلي , وهو بهذا قد أسهم في إحياء متانة اللغة والمحافظة على قوتها من الضعف والتردي والتلاعب بالمحسنات البلاغية والبديع، الذي كان سائدا آنذاك في الحواضر الكبرى من ارجاء الوطن العربي، كما عارض النبهاني عمر بن أبي ربيعة , والمعري , وابن دريد , فالمعارضة الشعرية تعتبر من سمات شعره الفنية البارزة .
إن الاقتراب من شعر أي شاعر يقتضي منا التعرف على البعد أو المحور الأساسي في تجربته الشعرية، ومن ثم محاولة الكشف أو الإمساك بالخيوط النفسية والشعرية والفكرية التي يتألف منها نسيج الرؤية الشعرية لديه، وبتتبعنا لديوان النبهاني، اتضحتْ لنا الأبعاد الأساسية التي قامت عليها تجربته، ووجدنا أن هذا البعد – عادة- ما يختفي خلف المحاور الكثيرة التي تناولها الشاعر تلبية لهيكل بناء القصيدة العربية القديمة لكن إخلاص الشاعر لفنه جعله يقتطع لنفسه قسطا وافرا من أبيات كل قصيدة، ليسجل فيها بعده الأساسي الذي يبلور رؤيته الشعرية الخاصة . أو لنقل أن النبهاني بحكم سخونة الصراع والأحداث الجارية حوله لم يهتم كثيرا بتعدد أغراض القصيدة لديه فقد كان كثيرا ما يهجم مباشرة على هدفه خاصة عندما يحتدم الصراع في داخله، وهو لم يحافظ على تعدد أغراض القصيدة إلا في تلك القصائد التي يعارض فيها الشعراء، مظهرا لقدراته الفنية، وفي هذه الحال عادة ما يكون هادئا رائق البال، لكن لأن النبهاني ينتمي إلى فئة الشعراء الفرسان، فان لحظات الصفاء هذه كانت نادرة في حياته وقليلة، فالنبهاني أمير وشاعر من شعراء الفروسية مثله مثل أبي فراس الحمداني، والشريف الرضي.. والمعتمد بن عباد، ومن ثم فقد قامتْ تجربته على شبكة من الصراع، متلاحمة تلاحما شديدا ومكونة نسيجا واحد متجانسا أضفى على رؤية الشاعر لونا متميزا من الوحدة النفسية، فالنبهاني في حالة صراع مستمر، وأصعب أنواع هذا الصراع، صراعه مع النفس إنه:
(1) – يصارع حبه لأخيه مع شهوة الانتقام التي ولدتها جرأة أخيه عليه وتهوره ووقوفه مع الأعداء ضده .
(2) – صراعه مع أعدائه من بعض القبائل العمانية.
(3) – صراعه مع الإمام وأتباعه (الرافضين) لشرعية حكم النباهنة .
(4)- وأخيرا صراعه مع أطماع الغزو الخارجي المتكرر على عمان والذي لم ينقطع طيلة حكم النباهنة. هذا القلق والخوف المستمر، خلق نوعا من التوتر الذي أصاب أوتار نفس الشاعر المتعبة، مما حوله إلى قلق خلاق أغنى تجربة الشاعر وأخصبها فنيا، ونتيجة لهذا القلق تعددتْ صور الصراع لديه، فالثور يصارع الكلاب- والحمار الوحشي يصارع القدر المفاجئ المتمثل في الصياد المترقب للأتن، وهو يصارع حبه لأخيه وغضبه منه وخوفه عليه، ويصارع خوفه على ملكه، وهذا الصراع الحاد شكل لدى النبهاني نوعا من الدراما الشعرية، لذا وجدنا الحركـة الدائبة التي يتطلبها الحدث، ووجدنا وضوح الملامح المكانية والزمانية، وقد انساق النبهاني إلى هذه الظاهرة بوحي السليقة، لا عن إدراك فني منه، ولذا فكثيرا ما يختار البحور ذات التفعيلة الواحدة لتسجيل ألوان الصراع، تلك البحور التي تساعد على تدفق الحركة وبلورة الدراما، يقول:
وأبتُ بسيفي قد تثلَّمَ حدَّه
وجفلةُ فيها للكلامِ محاجمُ ( 6 )
هنا الصورة مجسده الملامح بصريا وسمعيا وحركيا وتصف عودته من إحدى المعارك مع أخيه حسام … ثم ينتصر النبهاني على أخيه في عدة معارك.. لكن النبهاني رغم هذه الانتصارات غير راغب في استمرار الصراع بينه وبين أخيه شريك صباه وربيب تخته الملكي ولذا كثيرا ما نجد الاستعطاف يلي كل وصف لمعاركه معه، أو بعد كل نصح وتحذير له تأتي نبرة الاستعطاف والرجاء بالكفِّ عن القتال واضحة قوية:
وإني وإن سلمتمُ أو نصرتمُ
لخلٌّ وفيٌّ بالمودةِ دائمُ
أراكم بعينِ الودِّ غيباً ومشهداً
وأسمو بكم واللهُ بالغيبِ عالمُ
فلِمْ تخذلوني عندَّ كل عظيمةٍ
وكفى بكم يالَ المروءةِ لازمُ
تخليتمُ عنا فطالتْ يدُّ العدىَ
علينا وثارَ المستنيمُ المخاصمُ ( 7)
وبعد حروبه مع الإمام أبو الحسن بن عبد السلام، يصبح النبهاني وحيدا طريدا حزينا وقد فقد ملكه يصور الليل في زمن سرمدي لا ينتهي:-
ألا ما لهذا الفجرُ لم يبدُ نورُه
وما بالُ ليلي لا تغورُ كواكبُه
إذا قلتُ ينجابُ الظلامُ ترادفتْ
كتائبُ همي خلفَه وكتائبُه
ألا هل سُلافٌ أطردُ الهمَّ مقصرًا
بها الليلَ أو ريمٌ كريمٌ ألاعبُه (8)
ويقول النبهاني من القصيدة نفسها موظفا الموروث في قصة سيف بن ذي يزن الذي وجد النبهاني في ملامح شخصيته وفي أبعاد تجربته الحياتية والوجدانية ما يتراسل مع ملامح شخصيته وأبعاد تجربته هو الخاصة، وقد عقد النبهاني مع هذه الشخصية أواصر صلة حميمة وراح يمتاح من موروثها الخصب وما يجسد به أبعاد رؤيته الشعرية:-
فإن أكُ قد فارقتُ قومي وأسرتي
لإدراكِ شأوٍ شاسعٍ أنا طالبُهْ
فقبلي سيفٌ ربُّ غُمْدَانَ طوحتْ
به نيةٌ إذ* أنكرَ الضَّيمَ جانبُه
سأفجاُّ أجنادَ الطغاةِ بفيلقٍ
من العزمِ مَجْرٍ مردفاتٌ كتائبُه
يسيرُ به النَّصرُ الذي هو حزبُه
وينجدُه النَّصرُ الذي هو صاحبُهْ ( 9)
وأخيرا يحقق النبهاني حلمه بالانتصار على مناوئيه انتصارا ساحقا، ويصور صراعه مع الأعداء والمتحالفين ضده في صورة كلية استغرقتْ نصف القصيدة بعد نغمة الفخر الفردي والقبلي مسجلا لإحدى المعارك التي دارت بينه وبينهم وكانت معركة فاصلة، ويبدو أن النبهاني قد استرد بها ملكه على عمان، وينتظم الصراع أمثال هذه الصورة في خيط قصصي أقرب إلى طابع الحكاية:
ويوم غزوتُ عُمانَ وقد
رأتْ أنني ثمَّ لم أَنْصرِ
وأن المهيمنَ لي خاذلٌ
وأني على المُلكِ لم أقدرِ
وذلكَ ظنٌ وبعضُ الظنونِ
ذنوبٌ تُتاحُ فلم تُغْفَرِ (10)
ويستمر النبهانـي يصـف المعركـة وصفـا تسجيليا إلى نهايتها في صور حسية تنبض بالحركة مسجلا فتكه بالأعادي، ومهاجمته لهم كما يهاجم الأسد فريق عانه الحمـر النافرة .
لقد خاض النبهاني معارك كثيرة ضدّ من يناوؤه على الحكم وتكاثر حوله الخصوم، لكن أصعب هذه المعارك ما دار بينه وبين شقيقه حسام بن سليمان منافسه على الحكم , الذي كثيرا ما كتب فيه القصائد مستعطفا بدماء الأخوة أن يتراجع عن حربه وقتاله، وهاهو يناديه في إحدى قصائده بأبي ناصر تلطفا وتعطفا , يقول النبهاني:
أبا ناصر ٍ لا تجهل الحرب َ إنها
لتقطيع ِ أسباب الإخا والمناسب ِ
أبا ناصر ٍ إن الحروبَ لصعبة ٌ
على راكب ٍ لم يَـلق َ قـِدْمًا لراكب ِ
ألمْ تنهكَ الحربُ التي سلفتْ لنا
بحبل الحديد يا كريمَ المناسبِ (11)
ويقول من قصيدة أخرى مفصلا ما دار بينهما من هول المعركة :
ألا ليتَ صَـوْلةَ يوم ِ الحُبيل
وقد كشَـرَ الموتُ عن نابـِه (12)
وقد حذر النبهاني أخاه كثيرا وطلب منه مراعاة القربى لكنه لم ينصع له , وكانت النتيجة أن قتل النبهاني أخاه حساما في معركة الحبيل , فندم ندما شديدا ورثاه متوجعا , ومن أشهر تلك القصائد , قصيدته العينية التي يقول فيها:
لهفي عليك كلهف أم ٍّ برَّة ٍ
فقدتْ جنينا فهي ثكلى تنزع ُ
ضعضعتنا أسفا عليك ولم نكن
لولا رداكَ لنكبة ٍ نتضعضع ُ
قطعتْ يدي عمدا يدي وتوهمي …
من قبل أنَّ يَدًا يَدًا لا تقطع ُ .(14)
وكانتْ بين النبهاني والأئمة حروب عديدة – كما أوضحتُ سابقا – حيث دارت بينه وبين الإمام عمر بن الخطاب معارك: أهمها واقعة ( حممتْ ) عام 886 هـ في وادي سمائل , وانتهتْ بانتصار الملك سليمان على الإمام , فجدد أنصار الامام البيعة مرة ثانية له فانتصر على النبهاني, وقضى في أموال أولاد سليمان بن مظفر بالمصادرة , فيما يعرف بحادثة التفريق , سنة 887 هـ . وبعد موت الإمام عمر بن الخطاب , خرج النبهاني على الإمام أبي الحسن بن عبد السلام ودارت بينهما معركة أسفرتْ عن رحيل الشاعر النبهاني إلى هرمز من أرض فارس , وظل هناك يعاني الغربة والوحدة وفي ذلك يقول:
دَعاني الهَوى العُذريُّ بالقسْمَ موهنا
لبرق ٍ تنشـَّتْ من عمانَ سحائبهْ
فأرَّقني والخاليُ البال ِ هاجعٌ
فبِتُّ له حتى الصباحِ أراقبـُهْ (15)
وعندما توفى الإمام أبو الحسن رجع النبهاني إلى عمان واستعاد الحكم .
ونلاحظ أن حياة النبهاني وشعره يشبهان إلى حدٍّ كبير حياة المعتمد بن عباد ( ت/ 488 هـ) ( 16) وشعره، فكلاهما شاعر ملك فارس، خاضا الحروب من أجل الحفاظ على ملك ورثاه من الأجداد، ومهدد بالضياع .
ونتيجة لفروسية الشاعر يعد الفخر والغزل والفروسية والطرديات أهم الأغراض الشعرية التي تستوقفنا لدى النبهاني: فالفخر ضرورة حتمية للشاعر الفارس المقاتل فهو الركن الذي يلوذ به ضد الأعداء , ومن ثم كثرتْ الأنا والنحن في أشعاره فعلى سبيل المثال: يتكرر الضمير أنا تسع مرات , ويتكرر الضمير نحن ست مرات , في قصيدة واحدة , وتحمل مئات الأبيات في مطالعها هذين الضميرين، ( فالأنا أثبات للذات , والنحن للمحافظة على القيم الجمعية للقوم والقبيلة ) (17)
وقد فخر النبهاني بنفسه فخرا جعل كثيرا من الدارسين يشيرون إليه بأصابع الاتهام، ويرمونه بالنقص وبالعقد النفسية (18)
وكان موضوع الفخر الذاتي عند النبهاني هو الأخلاق العربية التي كان العربي يعتز بها، ولم يكن النبهاني بدعا عن غيره من شعراء الفخر فكلّ ما كان يفخر به النبهاني هو خلاصة المروءة العربية، ولكل أمة ميراث من القيم والمبادئ تفخر بها وتصاغ في ملاحم تمجد تلك القيم والبطولات. «… والأخلاق والعادات تماشي عنـد كل أمة حاجاتها وصـور معيشتهـا ومن ثم فقد كانت الأخلاق والعـادات التي فخر بها العرب ثمرة حاجاتهـم وصور معيشتهم، وقد فخـروا بكـرم العنصر، وقوة العصبية ومنعة الجانب والشجاعة والكرم والإباء والوفاء والمروءة، وما إلى ذلك مما كان شأنه عظيما عندهم» (19)
وفي هذه المبادئ والقيم يقول النبهاني:-
أنا منهلُ الشعراءِ هذا باكرٌ
غادٍ عليَّ وذاكَ عني رائحُ
سعدُ السُّعودِ* على العُفاةِ وأنني
لعلى طغاةِ القوم ِ سعدٌ ذابحُ*
وعلى العدوِ حمامُ موتٍ قاتلٍ
وعلى الصديقِ أبٌ شفيقٌ ناصحُ
بأسي تذلُ له الليوثُ وهمتي
يعنو لرتبتها السماكُ الرامحُ*
أعطي إذا شحَّ الغمامُ تفضلا
وأجودُ إنْ ضنَّ الجوادُ المانحُ0
وأنزهُ العرضَ المصونَ عن الردى
والذمِ إنَّ البخلَ عيبٌ فادحُ (20)
* نلاحظ: بوضوح ثقافة الشاعر في استخدامه لمصطلحات الفلك: سعد السعود، سعد ذابح، السِّماك الرامح، والسعود: عدة كواكب يقال لكل منها سعد كذا ومنها سعد الذابح، وسعد بلع وسعد الأخبية وسعد السعود وهو أحمدها، ولذا أضيف إليها، وهذه الأربعة من منازل القمر )
ويقول النبهاني مفتخرا بصيغة النحن الجمعية حيث يفتخر بقومه ونسبه وعزتهم ومكانتهم وتمكنهم:
نحنُ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ ومن
سادوا ومن لهم في الأمرِ تقديمُ
نحن التبابعةُ الغُرُّ الأولي بذخوا
ومهدتْ بمغازيها الأقاليـمُ
لنا تخرُّ ملوكُ الأرضِ ساجدةٍ*
ومعطسُ الخصمِ مجدوعٌ ومرغومُ (21)
* يتناص البيت الأخير مع قول عمرو بن كلثوم: إذا بلغ الفطامَ لنا رضيعا .. تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا ) ومجدوع: مقطوع، مرغوم: غصبا عنه .
وقد أودع النبهاني فخره إعجابه بقومه مباهيا بمكارمهم معددا، مناقبهم، كما أودعه إعجابه بنفسه، واعتداده المفرط بها.. يقول:-
هل الناسُ إلا نحنُ أبناءَ يعربٍ
وهل سيدٌ إلا لنا وهو تابعُ
إذا نحن فاخرنا الملوكَ تخاذلوا
وهل يشبه الدرُّ الثمينُ اليرامعُ (22)
ويقول معددا مكارم قومه، مفتخرا بمناقبهم مقابلا شرف اليمن وعزها بخشونة عرب الشمال وسوء حالهم، موضحا انتسابه إلى حضارة عرب الجنوب..
فهل مركزٌ حازَ الفخارُ كمركزي
وهل منبعٌ ضمَّ الفخارَ كمنبعي
فهل في الورى قومٌ كقومي إذا انتموا
بأشرفَ بيتٍ في يمانٍ ومرفعِ (23)
أما الغزل: فهو واحة الشاعر , خاصة الشاعر الفارس المحارب يستريح فيها و يبثُّ فيه عاطفته, ومن ثم يكثر الغزل لدى شعراء الفروسية بشكل عام , فها هو النبهاني يستخدم الغزل التقليدي أو التمهيدي ليصل منه إلى غاية أخرى، وهل للنبهاني الملك المتوج حاجات يريد قضاءها والجواب نعم ما دام النبهاني إنسانا يتصف بخصائص آدميته نعم ستظل دائما «في النفس حاجات».
إن شاعـرا ملكا كالنبهاني يستخـدم هـذا الغزل من وجهة نظري وسيلة يمهد بها لأهدافه التي تختلف عن أهداف الستالي والكيذاوي مثلا، فهو ينشـد تثبيت ملكـه والإعـلام عن مدى قوته وجدارته للحكم. خاصة ونحن نعلم أن فترة حكمه كانت فترة حـروب وفتـن داخليـة وخارجية- لذا فقد كان النبهاني ينتقل مباشرة من الغزل إلى الفخـر الشديـد بنفسه شجاعة، كرماً، مروءة، نسبا، علما، ….الخ أو الفخر بقومه، ومن هنا ارتكزت التجربة الشعرية لدى النبهاني على الصراع الذي استغل غرض الفخر لتجسيده .
وقد ساندتْ الأغراض الشعرية التي يحتاجها النبهاني محور الفخر ودعمته، ومن ثم تبلورتْ رؤية النبهاني الشعرية في تجربة الشاعر الفارس، واصطبغتْ تجربته بصبغة الفروسية الحقة، وبأبعادها الإنسانية النبيلة.
يقول النبهاني في إحدى مقدماته متغزلا بحبيبة تسمى موذيه:-
دمعٌ يرقرقُ في الخدو
دِ أرقتُ ثَمَّتَ ما اكتفيتُ
لولاكِ مؤذيةَ* النفو
سِ لما غضبتُ ولا صبوتُ
لا تبخلي ذاتَ الدلا
لِ عليَّ منكِ بما رجوتُ
لو أشربُ السلوانَ عن
ذكراكِ «موذي» ما سلوتُ
لولا التعلل ِباللقا
والوصلِ منكِ أسىً قضيتُ
ما لي وللبينِ المشتِّ
وما الذي فيه جنيتُ
يا بينُ حسبكَ أنني
كلَّ المكارمِ قد أتيتُ
بأسي تذلُ له الأسودُ
ولي على النسرينِ بيتُ (24)
ويستطرد في الفخر إلى نهاية القصيدة، فالقصيدة تتكون من غرضين غزل ثم فخر يسند ذلك الغزل، وغزل يغذي الفخر على نفس النهج الذي ينتهجه شعراء الفروسية .
وقد أعتاد النبهاني أن يستخدم هذا النوع من الغزل للغرض الذي ذكرته سابقا حيث يبتدئ الشاعر القصيدة هينا، لينا غزلا متغزلا، قبل أن يشنَّ هجومه العنيف على أعدائه، وقبل أن يبلغهم الرسالة التي يريد توصيلها إليهم، إنه يستخدم أسلوبـا أقـرب إلى الأسلـوب الإعلامـي المعاصـر حيـث يقـدم الدعاية اللازمة لبيان مزايا حكمـه السياسي، واقتداره على تسيير دفة الأمور ثم يشنّ حربا إعلامية باردة شكلا، عظيمة الفوران والعنف مضمونا.
يقول النبهاني متغزلا بمكتومة:-
للهِ أيامُنا ما كان* أحسنها
فيها وللِهو إيرادٌ وإصدارُ
أيامَ مكتومةٌ لم يثنها عَذَلٌ
عني ولم يغشَ صفو العيش أكدارُ
خودٌ حِصًانٌ رداحٌ لا يلمُّ بها
…
عابٌ يقالُ ولم يعلقْ بها عارُ
يا أيُها الراكبُ المُزْجي مطيَّته
به تقاذَفُ أوعارٌ فأوعارُ
أبلغْ لديكََ ملوكَ الأرضِ مالكةٌ
قد صاغَها قائلٌ بالصدقِ فخَّارُ
مُتَوَّجٌ من بني هُودَ النبيِّ له
أباءُ صدقٍ أقاموا المُلكَ أطهارُ
إني نذيرٌ لكم مني مجاهرةٌ
ولا يلامُ فتى يهديه إنذارُ
لابُدَّ أن أتركَ الأقيالَ ثاويةً
صَرْعى لها جارحاتُ الطيرِ زوَّارُ
أين المفرُّ لكم من ضيغمٍ حكمتْ
في لحمكم منه أنيابٌ وأظفارُ (25)
ويستمر النبهاني هادرا محذرا مزمجرا على أعدائه مفتخرا بنفسه وعشيرته إلى نهاية القصيدة.
والنبهاني كغيره من شعراء الفروسية شاعر غزل يجيد التغزل لينفث فيه ما تمور فيه أعماقه من هموم ويرى النبهاني نفسه أنه مرجع العشاق وأهل الهوى … يقول :
أنا العاشقُ الصبُ المتيـَّمُ في الهوى … وهل عاشقٌ إلا لعشقيَ راجعُ (26)
يتمثل هذا الغرض الشعري بوضوح في شعر النبهاني، وعادة ما يرتبط لديه بوحدة الموضوع، فغزل التجربة يولِّد حرارة العاطفة وحدتها مما يجعل النبهاني مستلبا استلابا تاما، مأخوذا بحرارة الموقف وواقعا في أسر التجربة لا يستطيع فكاكا، ولا يستطيع طرق شعاب أخرى إنه في هذا النوع من القصائد يتخلص من نمطية هيكل البناء الجاهلي للقصيدة ويختصر المسافة بالوصول المباشر، دون التوقف في محطات التهيئة فنجده، لا يعباً بالوقفة على الطلل يبكي ويستبكي.. بل يهجم مباشرة على غرضه يحثه صدق الشعور ويؤججه جيشان العاطفة وفي الديوان كثير من القصائد التي يعتبر الغزل موضوعها الوحيد. ومن هذه القصائد قصائده في راية، وقد سجل الشيخ نور الدين السالمي إعجابه بقصيدة النبهاني الرائية في تحفة الأعيان وقال عنها:
(أنها تزاحم المعلقات السبع بلاغة وتزيد عليها عذوبة ورشاقة ) (27)
ومن هذه القصيدة يقول النبهاني:
وفيهن بيضاءُ المجرَّدِ طـَفلةٌ
لطيفةُ طيِّ الكشحِ ريا المؤزّر ِ
عقيلةُ بيض ٍ من خرائد يَعربِ
حللنَ السَّـنامَ الضخم َ من متن ِ حميرِ( 28)
وراية أشهر حبيبات النبهاني ولها النصيب الأوفر من غزلياته , ودارت حولها حكايات أقرب للأساطير (29) وفيها يقول :
لرايةَ وجه ٌ يكسفُ الشمسَ والبدرا
ولدنُ قوام ٍ يـُخجلُ الصعدة َ السمرا
وثغرٌ كممطورِ الأقاحِيِّ واضحٌ
وسلسالُ ريقٍ يفضحُ الشهدَ والخمرا
وجيدٌ كجيدِ الريمِ حالٍ مطوقٍ
يزينُ الجمانَ واليواقيتَ والشذرا
إذا نظرتْ أصمتْ قلوبًا وإن مشتْ
مشى الشوقُ في أحشاءِ عاشقها جهرا (30)
وراية هذه كما ذكر بعض المؤرخين، ربما كانت زوجة الشاعر. إلا أن المحقق التنوخي استبعد هذا يقول: «ويتغزل النبهاني بأوصاف الغواني ولاسيما خليلته أو زوجته المحبوبة راية التي ذكرها في أكثر قصائده، وشعره لا يشعر بأنها زوجة كما ترى في ترجمته» (31) ورفض التنوخي هذا مستند إلى استبعاد أن يتغزل شاعر بزوجته ويصرح بهذا على الملأ، ولست أرى ما يمنع ذلك فتراثنا العربي يحفل بذكر أسماء شعراء تغزلوا بزوجاتهم وذكروا محاسنهم (32) ومن هؤلاء شبيهه في التجربة الشاعر الملك الفارس المعتمد بن عباد الذي قال الكثير من قصائده متغزلا في زوجته المحبوبة.
يقول النبهاني في قصيدة اخرى مقسما بجمال وجه رايه ومبينا فروسيته وكرمه ومروءته:
يا رايُ قد- وجمال وجهك حِلْفَةً
أيقظتِ راقدَ كلِّ حزنٍ كامنِ
يا رايُ لستُ بناكلٍ *هيَّابةٍ
يومَ الهياجِ ولا الجبانِ الواهنِ
إِني وحقكِ أمنُ قلبٍ خائفٍ
أَلفَ الهمومَ وخوفُ قلبِ الآمنِ
أنا سعدُ كلِّ مسالمٍ بل نحسُ كلِّ
مصارمٍ بل حتفُ كلِّ مشاحنِ
فمنازلُ المُهدي المديح منازلي
وخزائنُ العافي الفقيرِ خزائني
يلقى المعزةَ والغنيمةَ سائلي
فضلاً كما يلقي الحِمَامَ مطاعني
كتبَ الإلهُ على ذُبابِ مهندي
أنتَ الحِمامُ وفيكَ حينُ الحائنِ (33)
( وإذا أنصفنا الشاعر جازَّ لنا أن نتساءل ما الفرق بين هذا النمط من الغزل وغزل قصائد الفروسية والفرسان في الشعر العربي ؟ حتى لينسب أغلب الدارسين النبهاني إلى شعراء المجون واللهو والغزل الفاضح؟
ولست أوافق د. علي عبد الخالق فيما ذهب إليه من أن النبهاني يمثل اتجاه النزعة التقليدية في الغزل والمجون ووصف مجالس الشرب « فشعره تعبير صادق عن ملذاته، ونمط حياته، وهي ذاتية ملك شاعر تماما كما كان الشأن في «امرئ القيس» الملك الضليل، فالنبهاني هو الملك العربيد وقد دفعه إلى ذلك حياة الترف، واللهو والغنى والملك التي عاشها «.
ثم يقول…. «وشعر النبهاني أصدق مثال للغزل الفاضح واللهو والمجون وغلب عليه التأثر بأمرئ القيس في طريقة العيش وأسلوب التفكير» (43)
ولا أتفق مع د. شكري بركات فيما ذهب إليه أيضا عندما تحدث عن العوامل التي أثرت في اتجاهات الغزل عند الشاعر النبهاني إذ يقول بعد أن يعدد صاحبات الشاعر «هو كعمر بن أبي ربيعة مطلوب من المرأة ليس طالبا لها ففي الأبيات شبهة نرجسية، وراية صاحبة الشاعر الأولى التي نالتْ الحظ الأكبر مما نظم، وبين هذه العربدة المستمرة يصحو ضمير الشاعر…» الخ (53) ولست أدرى لماذا نصرُّ على أن نجد شبها لكل شاعر متأخر ممن سبقه مع أن هذه لا تعدّ ميزة للشاعر، إنني لن أميز النبهاني إذا ما شبهته بشاعر جيد حتى وإن كان هذا الشاعر مبدعا، أو أميرا للشعراء- كما أطلقوا عليه- كأمرئ القيس أو عمر بن أبي ربيعة.
إن القصيدتين اللتين علق عليهما علي عبدالخالق وشكري بركات وشبه الأول النبهاني بامرئ القيس وشبه الثاني الشاعر بعمر بن أبى ربيعة هما من قصائده التي حاكى فيها معلقة أمرئ القيس ورائية عمر الشهيرة، والنبهاني شاعر احتذى وحاكى قصائد عديدة من التراث (63 ) وهو حينما يحتذي لا ينكر ذلك التقليد والاحتذاء، بل يتعمد توضيح ذلك، ولذا فهو لا يحاكي القافية والبحر فقط، وإنما ينقلنا إلى مناخ القصيدة، بظروفها وملابساتها… ويكتفي هو بإعادة صياغتها بلغته الشاعرية الجيدة وبأسلوبه المتميز… ولعل مبالغة النبهاني في نقل تجربة أمرئ القيس وتجربة عمر بن أبي ربيعة كما هي، قد أوقعت الباحثين في اللبس. إنه باختصار يعيد لنا تجربة الشاعرين بأسلوبه هو، وليس تلك تجربته الذاتية وإنما هو محتذى لتجربتين يراهما قدمتا للشعر العربي نموذجا فنيا جيدا من نماذج الغزل، أيا كانت نوعية ذلك الغزل وقبولنا أو رفضنا له من حيث الصدق الواقعي أو من حيث الانطباع الخلقي.. إذ يكفيه ما يتسم به من جمال الصدق الفني والإجادة في رأي النبهاني مما جعله في نظره صالحا للاحتذاء والمحاكاة. والسؤال الذي يراودني ما مدى صحة القول المكثف حول عربدة الشاعر ومجونه، وانغماسه في اللهو؟- وهذا ما أجمع عليه معظم دارسي شعر النبهاني (73) – في ظل ظروف الفتن والحروب المستعرة التي تحدق بالشاعر وتهدد حكمه ؟.
يبدو لي أن الأمر يحتاج منا إلى وقفة للمراجعة.
وبينما يرى د. محمد غنيمي هلال «بأنه ليس هناك شاعر شعره حسي كله أو عذري كله»(83) يرى نزار العاني أن «خصائص الشعر العذري نجدها بحذافيرها داخل شعر النبهاني، مما يسمح بإضفاء سمة العذرية على شعره وعليه» (93)
وحينما نراه متأرجحا بين هذا وذاك، فإن هذا مردّه إلى «إن الشاعر يضع قدما في عالم العذرية، وينقل قدمه الأخرى إلى أرض العلاقات المحسوسة مندفعا وراء أمانيه بالوصال» (40).
وعندما يقول النبهاني:
بأبي ظعائنَ من ربيعةِ عامرٍ
غُرٍّ كواعبُ كالبدورِ ملائحُ
يَبْسِمْنَ عن حُوَّ المراكزِ وضُّحِ
تيهًا كما ابتسم الغمامُ الرائحُ
حاوْلتُهنَّ فما أبينَ وإنما
كفَّ العفافُ يدي وعقلي الرَّاجحُ(41)
فإنه يؤكد لنا أن الشاعر لا يبتعد كثيرا عما نلمسه من خصائص عذرية لدى الشعراء العذريين.
لكن النبهاني رغم هذه الرقة في غزله وهذا اللين مع المحبوبة، شديد عصي على الخصوم، وهذه إحدى صفات الشاعر الفارس، فقد خاض النبهاني معارك كثيرة وخبر ميدان القتال وأحرز من الانتصارات على مناهضي حكمه الكثير فهبّ يترنم بوقائعه، وتمرسه بالشدة والصلابة في مجابهة الأخطار، يقول:
وربيبِ سلطنةٍ أطرتُ فراخَه*
بالسيفِ والبيضِ الصوارمِ تلمعُ
ساورتُه في النقعِ ثم علوتُه
بمصممٍ يفري الحديدَ ويقطعُ
فهوى لحرِّ جبينِه متمطرًا
كالعيرِ يفحصُ في الثرى ويُبَّوعُ
فتركتُه تحت العجاجِ مجندلاً
تكسوه بالمورِ* الرياحُ الأربعُ
مهلا طواغيتَ الملوكِ فإنني
كالموتِ ليس له لعمريَ مدفعُ (42)
ويمتلئ الديوان بقصائد تصف المعارك الحربية الكثيرة التي خاضها الشاعر , والنبهاني يتوكأ في فخره على مفاخر قدامى العرب من مثل عمرو بن كلثوم والمهلهل، فيكثر من ذكر أسماء الرجال، ومواقع القتال ويجيد وصف القتال ويطيل فيه، وهو صادق العاطفة مندفع الحماسة، قوي الوصف، دقيق التصوير.. يقول:
فأقبلتهم وجهي وقد مالَ جمعُهم
عليَّ وعزمي لم تُمته العظائمُ
أنثِّرهم فوق «الحُبَيْلِ» (43) ودونه
كما انتثرتْ من صُرَّتيها الدراهمُ
بضربٍ يبينُ الهامَ عن مستقرها
وتنأى عن الاكتافِ منه المعاصمُ
وطعنٍ كأفواهِ المزادِ تحلَّلَتْ
وقد أُترعتْ بالماءِ منها المحازمُ
فكلُّوا وملُّوا وإبذعرُّوا وأوجفوا
فراراً كما فرتْ لعمري النعائمُ (44)
أخذ النبهاني هذا المعنى من قول المتنبي:
نثرتُهم فوق الأحيدبِ نثرة ً
كما نُثِرتْ فوق العروسِ الدراهمُ
ونلاحظ أن تشبيه النبهاني هنا أفضل وذلك نظرا لعدم توافق الوقع النفسي لطرفي الصورة عند المتنبي . كما أن النبهاني قد جعل فعل النثر فعلا لا إراديا، فالدراهم انتثرتْ هنا دون إرادة الفاعل لنثرها، وهذا أوقع بالنسبة للنقود، وكذلك القتلى نثرهم النبهاني دون إرادتهم، بل غصبا عنهم إثر الإنهزام .
ويرى عبد القاهر الجرجاني النثر في الأشياء وليس في الأجسام الثقيلة، يبين: يفارق، المزاد: القرب، المزادة القربة الكبيرة تجمع على مزاد أي تخرج الدماء من الأجساد المطعونة كأمواه القرب، المحازم: الجوانب حيث وضع الحزام، أبذعروا: تشتتوا وخروا، أوجفوا: يسرعوا فارين كالنعام،
والحق أن هذه الأبيات يعبر كل ما فيها عن الحرب، صورها، ألفاظها، معانيها، موسيقاها. والعاطفة التي تنبعث منها، ولأن النبهاني محارب يخوض معمعة المعركة، لذا نراه يلتقط المناظر وينقلها لنا بصورة واضحة معتمدا على حاسة البصر في تصويره وتظهر صورة المرئيات واضحة ويكاد يصور لنا المعركة بجزئياتها وتفصيلاتها تصويرا واقعيا غير متخيل. يقول:-
فلبستُ لامتي* المفاضةَ واثقاً
بالظاهرِ المحيي المميتِ الباطنِ
وركبتُ «جفلةَ» والرماحُ شوارعٌ
والخيل بين تضارب وتطاعن
والشوسُ تهتفُ بالرجالِ حماسةً
والجوُّ مدرعٌ بنقعٍ شاحنِ*
فسقيتُ أولهم بكأسٍ مُرةٍ
من حرِّ موتٍ في سناني كامنِ
فطعنتُه فهوى لحرِّ جبينِه
متسربلاً بنجيعِ جوفٍ ساخنِ
فتضعضعتْ عني الفوارسُ إذ رأتْ
حملاتِ حيدرَ في غزاةِ هوازنِ
ورجعتُ بالقرنِ الخشيبِ مُثلَّماً
ودمٍ على ثوبيَّ هامٍ هاتنِ (45)
وهكذا صور لنا الشاعر – الصور نشطة متحركة تنبض بالحياة وتقترب من الواقع المصور وتبتعد عن الجمود والتوقف … وقامت حروف العطف الواو والفاء بدور الربط للصور الجزئية مكونة لوحة كلية لما دار في المعركة.
ولأن النبهاني – كما ذكرتُ- فارس يخوض غمار المعركة، فهو يبدع في وصف عدة الحروب من أدوات حرب، وخيول، وإبل، ولأن الفرس هى عدة الفارس الرئيسية لذلك نرى النبهاني قد خصَّ الخيل بقصائد متعددة، كما تعددت أسماء خيوله، فمنها فرسه الشهير جفلة، وقد ذكرها في قصيدة من أكثر قصائده عاطفة وصدقا، وقد قالها وهو على فراش المرض، ويبدو أنها قيلت في آخر أيام الشاعر:-
سئمتُ اضطجاعي فوق متنِ حشيتي
وقد ملَّ جسمي يا ابنةَ القومِ مضجعي
ألا قدِّمي لي يا ابنةَ القوم ِلامتي
وسيفـــي ورمحــي ذا السنانِ المردَّعِ
وقولي لعبدي كي يبيِّتَ «جفلة»َ
فقد آن أن أرمي الطغاةَ بمفجعِ
فإن أبلَ أوصاباً * فلم تَبْلَ همتي
ولم يُثْنَ عزمي عن مرامي ومطمعي ( 46)
وكما ذكر النبهاني فرسه جفلة في قصائد متعددة، خصص لفرسه الغراب أكثر من قصيدة، يقول في إحداها:-
إن السـَّوابقَ كلــَّها
يقصُرنَ عن جري الغـُراب ْ
قد سُسْتـُه فـَلوًا وقــُ
لتُ له أسبق ِ الجُـرْد َ العِـراب ْ
صافي الأديم ِ كأنما
يجري بمتـْنـيـه ِ الـسَّـرابْ (47)
وقد خصص النبهانى قصائد بأكملها لوصف الخيل ومدى حبه لها، منها هذه القصيدة:-
الخيلُ أفضلُ ما يجبى ويُصطنعُ
وخيرُ مالٍ به في البأسِ يُنتفعُ
هنَّ المعاقلُ إلا أنها سفنٌ
تنجو براكبها إن خامَر الفَزَعُ
الخيلُ أنجحُ ماشنَّ المغارُ بهِ
أهلُ الحِفاظِ وخطِّىُ القنا شرعُ ( 48)
المعاقل: الحصون، أهل الحفاظ: أي المحافظة على العرض والحرم .
ويقول من قصيدة أخرى خصصت كلها للخيل وراسما صورة فنية مجسدة الملامح والتفاصيل، واصفا ألوانها وعلامات الأصالة فيها وأنسابها وجمالها وتناسقها :
هيفاءُ لا رَوَحٌ فيها ولا صَككُ
كلا ولا فضضٌ فيها ولا ضَـلـَع ُ
جلـَّتْ ودقـَّت ْ ورقـَّت ْ واستوتْ ودنت ْ
وابذوذ َخـَتْ فتكافا خلقها البدع ُ
فالرأسُ مرتفعٌ والصدرُ متسع ٌ
والصُّـلبُ متـَّضع ٌ والخـَلقُ مجتمعُ
كأنَّ مقلتـَها قد أولجتْ نبأ ً
في أذنها فهي تستقصي وتستمعُ (49)
وتكتمل فروسية النبهاني بالطرديات فهو يكثر في شعره من الطراد والقنص ووصف رحلة الصيد , وله قصائد عديدة في ذلك , من أجملها تلك القصيدة الطويلة ذات النفس القصصي الملحمي , والتي تصف الصياد وكلابه وثور البقر الوحشي وصفا تصويريا متحركا , ينم على مقدرة الشاعر اللغوية والبيانية التصويرية . وهو من خلال تلك الصورة يجسد نفسه مطاردا لأعدائه ومنتصرا عليهم .
يسعى بخمسةِ أكلبٍ
غُضفٍ مهرَّتةٍ ظئامِ
فنجا الشبوبُ وثبَّتهـ
ـنَّ عليه بث الانتقامِ
فانصبَّ ينسلبُ انسلا
بَ الظبي فزِّع بالزحامِ (50)
الخلاصة: أن النبهاني: شاعر الفروسية الحقة، وقد أتهم ظلما بأنه شاعر المجون والعبث واللهو والغزل الفاضح من قبل أعدائه ومناوئيه، وكرر ذلك المؤرخون العمانيون ومن تابعهم من الدارسين، وأنى لمثله أن يعبث ويلهو !! والخصوم والمطامع بملكه تهدده، وتحيط به من كل صوب .
الهوامش:
* يوجد في عبارة (ريم كريم ألاعبه) جناس ناقص.
(وحبل الحديد أو الحبيل مرتفع بين منح وبلدان العوامر شرقي نزوى بها وقعت معركة بين الأخوين , وقيل أن الحبيل موضع فلج قديم شرقي منح ) (13)
* مؤذية النفوس: نلاحظ دلالات الاسم، النسرين: نجم عال .
* (ما كان أحسنها: كان زائدة بين ما التعجبية وفعل التعجب، خود: شابة ناعمة، مالكة: رسالة) وعلينا أن نلاحظ دلالات الأسماء المتغزل بها باستثناء راية، مثل مؤذية النفوس، ومكتومة . فالنبهاني يكني بمؤذية النفوس عن أخيه الذي أحبه أشد الحب لكن الأخ آذى نفسية أخيه الملك النبهاني، ويرمز بمكتومة عن صرخته المكتومة داخله فكيف يشكو والأذى منه لنفسه ألم يقل: ( قطعت يدي عمدا يدي ) كناية عن مقتله لأخيه حسام .
* الصعدة الرمح، الشذرا: شذور الذهب .
* الناكل: الجبان المتراجع يوم الهياج،إني وحقك أمن … إلخ في هذا البيت من فن البديع ما يسمونه ب ( العكس والتبديل ) كقوله تعالى: يخرجُ الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، العافي: كل طالب فضل أو رزق، ذباب مهندي: أي حدّ سيفي، حين الحائن: هلاك الهالك )
* فراخه: دماغه، البيض: الخوذة، ساورته: ساور سوارا ومساورة: ثار وواثبه أو وثب عليه، لحر جبينه: أكرم موضع في الوجه، متمطرا: ساقطا بشدة تصوب المطر، وتمطَّر الرجل: أطرق وعرق جبينه، يفحص: قَلَبَهُ وكشفه أي يحفر ويبحش برجله، يبوع: يحرك باعه ويديه ويتمدد . المؤر: التراب المائر المتردد في الهواء )
* لامتي دروعي الحربية، جفلة: اسم فرس الشاعر، الرماح شوارع: ممتدة، الشوس: جمع أشوس وهو الناظر بمؤخرة العين تغيظا، مدَّرع: لبس وتدرع بدرع ثخين من الغبار وفي البيت تناص مع قول بشار بن برد: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا/ وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه .
* الأوصاب: الأطراف، الأجزاء .
المصادر والمراجع:
1- الحارثي / د. عبد الله الحارثي – بنو نبهان في عمان والأوضاع الاقتصادية في عصرهم، رسالة ماجستير إشراف أ.د. سعيد عبد الفتاح عاشور – كلية الآداب / جامعه القاهرة سنه 1990 م – الخاتمة ص 234 .
2 – الراجكوتي / تحقيق عبد العزيز الميمني / نسب عدنان وقحطان – الدوحة، سنة 1404هـ ص 33 .
كذلك انظر: العوتبي، سلمة بن مسلم ، الأنساب – إصدارات وزارة التراث القومي و الثقافة، مسقط سنة 1984م، ج2، ص 117 – 120 . 3 – النبهاني، ديوان السلطان سليمان بن سليمان، تحقيق التنوخي، ط1، المطبعة العمومية، دمشق، 1965. المقدمة ص13.
4 – الصقلاوي، سعيد بن محمد بن سالم , شعراء عمانيون، ط1، مطابع النهضة، مسقط 1412 هـ – 1992 م، ص 181 .
5– ديوان النبهاني، ص139 .
6- النبهاني- الديوان ص 325.
7- ديوان النبهاني، ص 320
8 – ديوان النبهاني، ص 64
(*) وردتْ في الديوان رب غسان، وإذا أنكر الضيم… ولعل الصواب ما صوبناه أعلاه، وهو ما يتناسب مع المعنى ومع تفعيله العروض.
9 – ديوان النبهاني،ص 66
10– ديوان النبهاني، ص126
11– النبهاني ص 56
12– المصدر السابق ص 58
13 – المصدر السابق هامش الديوان لعز الدين التنوخي ص 56
14– ديوان النبهاني ص 178
15 – المصدر السابق ص 63
16 – المقري: أحمد بن محمد المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، 1408 هـ / 1988 م، ج1، المقدمة
17- العاني: د . نزار , النبهاني بين الإتباع والابتداع , ط1، المنتدى الأدبي , وزارة التراث القومي والثقافة , مطبعة عمان ومكتبتها المحدودة , مسقط 1413 ه – 1993 م , ص50
18 – انظر: بركات: د. شكري/ شعر سليمان النبهاني العماني، دراسة موضوعية وفنية، كلية الآداب، القاهرة سنة 1991م. رسالة دكتوراه ( حيث ذكر في المقدمة «… النبهاني في فخره يميل إلى النرجسية، فحب الذات نراه قد استولى على شاعرنا بشكل كبير».
19 – الفاخوري: حنا، الفخر والحماسة، دار المعارف- ص9.
20- ديوان النبهاني ص 92
ديوان النبهاني ص 319- 21
المصدر السابق ص 185 – 22
23 – المصدر السابق ص 176
ص 68 . 24 – ديوان النبهاني،
25 – ديوان النبهاني، ص137
26 – ديوان النبهاني ص 187
27– السالمي، الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد , مكتبة الاستقامة , مسقط ج1 ص 377
28 – ديوان النبهاني ص 142
29 – النبهاني – الديوان، انظر مقدمة الديوان للمحقق عز الدين التنوخي، الطبعة الأولى .
30– المصدر السابق ص 148 .
( 31) ديوان النبهاني- مقدمة الديوان ص21.
(32) انظر: الحوفي د. أحمد محمد، الغزل في العصر الجاهلي، ص20.
33 -ديوان النبهاني- ص341، 343.
34 – عبدالخالق: د. علي عبدالخالق على، الشعر العماني مقوماته واتجاهاته وخصائصه الفنية، دار المعارف 1984م ص31.
35 – شعر سليمان النبهاني العماني.. رسالة دكتوراه
36 -انظر معارضة النبهاني لأبي العلاء المعري والتصرف الفني عنده، د. أحمد درويش/ مدخل لدراسة الأدب في عمان- ص130.
37 -* كل من كتب عن النبهاني من العمانيين أو غيرهم من الباحثين- أشار إلى مجونه وفحشه في الغزل وربطوا بينه وبين امرئ القيس ولم يشذّ عن هؤلاء سوى محقق الديوان التنوخي في مقدمته، ونزار العاني في دراسته.
38- هلال: د. محمد غنيمي، ليلى والمجنون في الأدبين العربي والفارسي.
دراسات نقد ومقارنة في الحب العذري والحب الصوفي، من مسائل الأدب المقارن- لم يذكر رقم الطبعة، دار العودة بيروت، سنة 1980م، ص19.
39 – النبهاني بين الاتباع والابتداع، ص84.
40- المصدر السابق، ص85.
41- ديوان النبهاني، ص91.
42 –ديوان النبهاني، ص172
43- * الحبيل: اسم موضع دارتْ فيه المعركة بينه وبين أخيه حسام.
44 – ديوان النبهاني، ص324، 325.
45 – ديوان النبهاني- ص344، 345.
46 -النبهاني- ديوان النبهاني – ص174.
47 – ديوان النبهاني، ص 61، 62
48 – المصدر السابق ص165، 166.
49 – المصدر السابق، ص 166، 167
50 – ديوان النبهاني، ص 302
—————-
سعيدة خاطر الفارسي