سيلفا ألمادا – كاتبة أرجنتينية
ترجمة وتقديم: علي بونوا -مترجم مغربي
سيلفا ألمادا (Selva Almada): ولدت عام 1973م في إنتري ريوس بالأرجنتين. كاتبة وقاصة وروائية وشاعرة. صدر لها ما يزيد على عشرة كتب أغلبها من القصص والروايات. تعد حاليا من أهم الأدباء الجدد في الأرجنتين وفي أمريكا اللاتينية ويرى فيها النقاد نجمة صاعدة في سماء الرواية والقصة بأمريكا اللاتينية. ترجمت أعمالها إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والبرتغالية والهولندية والسويدية والتركية. نالت روايتها الأولى «الرياح الجارفة» جائزة الكتاب الأول في العاصمة الاسكتلندية عام 2019م، كما اعتبرتها الصحافة الأرجنتينية رواية العام بعد صدورها في 2012م. وكانت روايتها الأخيرة «إنه ليس نهرا» ضمن القائمة النهائية لجائزة فارغاس يوسا للرواية عام 2021م في البيرو. قورنت أعمالها بأعمال الأديب الأمريكي ويليام فوكنر الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1949م وأديب الأوروغواي الكبير خوان كارلوس أونيتي الفائز بجائزة سرفانتيس للأدب في 1980م.
سان خُوسِّيه هي قرية صغيرة في إقليم إنترِي رِيُّوس، على ضفاف نهر الأوروغواي. ليست على النهر بل على بعد كيلومترات قليلة منه: إنها القريبة الفقيرة في عائلة مقاطعة كولون. كانت القرية من المستعمرات الزراعية الأولى في الأرجنتين؛ وجاء قاطنوها الأوائل من بيامونتي (إيطاليا) وسافوا (فرنسا) وكانتون فاليه (سويسرا). بها متحف تاريخي كامل ومهم إلى حدٍّ ما، وهو أول نادٍ فيدرالي للرماية في البلاد (لا أدري إن كان هذا يعني شيئا، لكنه أحد المعطيات الواردة في دليل السياحة بالمنطقة)، وهناك تُقام سنويا «حفلة الاستعمار» باستعراض العربات والملابس الأهلية والموسيقى ومأكولات الجماعات المختلفة.
بعيدًا عن ماضيها الأوروبي، المؤكد أن المدينة قد تم تشييدها في ضواحي معمل بيثينتال للتجميد. وانتهى بها الأمر إلى التحول إلى قرية للعمال.
كانت الرائحة التي تُطوِّقُ سان خُوسِّيه مروعة في الفترات التي يشتغل خلالها معمل التجميد بالكامل. حين كنا نذهب لزيارة خالتي التي تعيش في كولون ونمر من هناك بالحافلة كنا نغطي أنوفنا وأفواهنا حتى لا نشمها. برغم كل شيء، كان ثمة شيء جميل في تلك المنشأة ذات المداخنِ التي ينبعث منها البخار والمساحاتِ الإسمنتية من حيث تدخل وتخرج الشاحنات وتُركَن، في إحدى الجنبات، مئات الدراجات الهوائية المصطفّة. إذا مرّ المرء من هناك في المساء أو عند الفجر يتقاطع مع جموع من العمال يرتدون ملابس بيضاء بالكامل مع أحذية مطاطية بيضاء أيضا، وهم يحركون دواسات دراجاتهم ببطء على حافة الطريق.
لقد كانت سان خُوسِّيه بالنسبة لي قرية عبور على الدوام. لا أعرفها إلا من فوق حافلة، لكنها كانت تبدو لي، منذ صغري، مكانا حزينا جدا.
في 16 من نونبر من عام 1986م استكملتُ 13 ربيعًا من عمري. لقد مرّت حينها خمسة فصول صيف أو ستة منذ أن بدأت رومينا تحبسني في غرفة لويسانغو وكنت قد أنهيت صداقتي معها للتو. كان قد مرّ صيف كامل منذ أن رأينا أنا ومارا خالتها وهي تأخذ حمام شمس في الشرفة. مارا كانت تلميذة داخلية في مدرسة الطائفة السبتية. ذهبنا مع داليا لزيارتها ذات مرة خلال ذلك العام فأرتنا غرفة النوم التي كانت تتقاسمها مع فتاة أخرى وقاعة الأنشطة والحديقة وقاعة الأكل -كانوا يُسمُّونها البوفيه-. كان كل شيء جديدا ونظيفا ومُرتّبا: كما في الأفلام الأمريكية. مارا أيضا كانت مختلفة، لم تعد تستعمل سراويل جينز بل تنانير طويلة وأحذية من طراز غِيِّيرْميناس وصارت تتكلم بتمهُّلٍ أكبر. التقينا مع بعض زملائها فقدّمتنا إليهم، لكن لم نتحدث مُطوّلًا. عندما ودّعناها تعانقنا عناقا طويلا ووعدتنا مارا أن نتقابل قريبا؛ بالرغم من أنها قليلا ما كانت تذهب إلى منزل عائلتها إذ كان يصعب عليها فيما بعد أن تتعوّد على البقاء بعيدًا.
كنا أنا وداليا ندرس عامنا الأول في قسم اللغة الفرنسية بالمدرسة الوطنية. كان لدينا زملاء جدد والكثير من المواد الدراسية والأساتذة وكانت أمورنا تسير بخير.
لكن قصتي تسير نحو الفتاة الميتة في سان خُوسِّيه، قريبا جدا من قريتي. إنها قصةٌ صدمتنا جميعا وما زالت تدور في رأسي.
في تلك الليلة، ليلة 15 إلى 16 من شهر نونبر، لم تكن أندريا -الطالبةُ الجميلة في شعبة علم النفس- قد ذهبت إلى حفلة الرقص في نادي سانتا روسا كباقي فتيات سان خُوسِّيه.
كانت حفلات الرقص تلك مشهورة في المنطقة. كانت خالتي وصديقاتها يذهبن إليها دائما. كنّ يلبسن أحسن ثيابهن حين يكون المُنشِّط ومُمرِّرُ الأسطوانات لتلك الليلة هو باتو بينيتيث، أحد مقدمي البرامج في إذاعة (LT26). لا أدري إذا كان باتو بينيتيث فتى جذّابًا، أظن أنني أتذكر أنه بالعكس كان نحيفا شيئا ما وذا أنف طويل، لكن بما أنه كان يعمل في الإذاعة فكل الفتيات، وأولهن خالتي، كنّ يسعين وراءه. ليس هذا هو المقصود. لا أدري هل هو من قام تلك الليلة بتنشيط حفلة الرقص، لكن من الوارد أن يكون هو.
إذن لم تكن أندريا تلك الليلة في حفلة الرقص رفقة أختها وجماعة الأصدقاء. خرجت مدة طويلة مع خطيبها للقيام بجولة في مركز المدينة على متن الدراجة النارية ولتناول المثلجات. بعدها، عند قرابة الساعة الثانية عشرة ليلا، ودّعا بعضهما: كان لديها امتحان مهم وكان عليها أن تدرس.
حين رافقته حتى الشارع، رأت أن العاصفة قادمة، لذلك أسرعت بالدخول والذهاب إلى السرير والكُرّاسة في يدها.
في الغرفة المجاورة، الملاصقة للتي تشغلها هي وأختها، كان ينام والداهما وأخوهما الأصغر.
نامت أندريا وهي تقرأ أوراقها المنسوخة.
بعد مرور ساعة واحدة، استيقظت الأم ربما بسبب العاصفة التي كانت تزعق وتبرق فوق القرية، ربما بسبب ضجيج من داخل المنزل، ربما بسبب استشعار حدوث أمرٍ ما. توجّهت المرأة مباشرة إلى غرفة نوم ابنتيها وأشعلت النور. البنت التي ذهبت إلى حفلة الرقص لم تكن قد رجعت بعد، بقي سريرها فارغا والشراشف المشدودة موضوعة تحت الفراش. أما الأخرى، أندريا، فنائمة، كانت تبدو نائمة. شيء ما في التناسق الظاهري لذلك الجسد المستلقي على الظهر والذراعين على الجنبين وغطاء السرير المطويُّ فوق صدر الفتاة والشعر المنثور على الوسادة بإسهاب، شيء ما لفت انتباه المرأة. لأنها كانت شبه مُدوَّخةٍ بالنعاس، لم تستطع أن تعرف ماذا كان يُزعجها في لوحة الجميلة النائمة تلك. حتى أدركت الأمر: إنه الدم، قطرات صغيرة من الدم في الأنف.
لم تجرؤ على لمسها فنادت زوجها.
– تعال! قلت لك تعال!
لقد قُتِلتْ أندريا بطعنة في القلب بينما كانت تنام في سريرها. لم تحاول الدفاع عن نفسها، لكن جسدها، بعد أن بقي بلا هواء وبلا دماء، سيكون قد عانى من تشنجات واهتزازات خلال دقيقتين أو ثلاث، وهو الوقت الذي يستغرقه الموت بِجُرحٍ مماثل. ومع ذلك فجسدها بقي كأنه ينام في هدوء. القاتل أو القتلة، قبل الخروج من الغرفة، رتّبوا جثة الفتاة بكل حب.
منذ أن عُرف الخبر قيلت أشياء كثيرة. تكلَّمنا عن الفتاة الميتة طوال ذلك الصيف، كان مقتلها موضوع المحادثة مرة بعد أخرى، حتى بعدما انتهت المستجدات وبدأت القضية في الركود.
قيل حينئذ بأن أباها حين أراد الذهاب لإشعار الشرطة ارتدى ملابسه وانتعل حذاءً مربوط الخيطين. كانت الأحذية، على وجه الخصوص، أحد العناصر المشبوهة. في مثل ذلك الموقف، يؤكد الناس حينها، يخرج المرء بقميص النوم وبقدميه ولا يتوقّف لكي يرتدي جوارب أو ليربط خيطيّ حذائه.
قيل أيضا بأن الشرطة عندما وصلت، كانت الأم قد نظّفت أرضية الغرفة وقلَّبت الفراش وغيّرت الشراشف. كما أنها قد غسلت جسد الابنة وألبستها قميص النوم.
هذا ما كان يُقال وأشياءٌ أخرى كثيرة. كان الناس يقولون ويختلقون إذ لم تكن ثمة أبدا مستجدات من العدالة.
تصدَّر الوالدان والخطيبُ لائحة المشتبه فيهم، لكن لم تكن ثمة أدلة مادية تُدينهم. كما لم يكن هناك أيُّ سببٍ يجعل أحدهم يرغب في موتها. نسج الناس ونقضوا نسيجهم كما يحلو لهم. لقد تحدَّثوا عن سحر أسود وطائفة شيطانية وتجارة مخدرات ودعارة وعشيق غيور.
لقد مرّت عشرون عاما ولم يُعرف شيء أبدا ولم يتمَّ حلُّ الجريمة. على الأرجح ما يزال قاتل أندريا يتنفّس رائحة التراب المبتلِّ التي تُخلِّفها الأمطار ويشعر بالشمس على وجهه؛ بينما هي تُشاهِد نُموَّ الأزهار من الأسفل.