الميتاشعرية مصطلح يشير إلى التنظير أو الوصف أو الكلام على الشعر ضمن اطار العمل الشعري نفسه. «الشعر على الشعر» أو «القصيدة في القصيدة» ترجمات محتملة للمصطلح اليوناني أصلا. ويرجع تاريخ الكتابات الميتاشعرية إلى الشاعر الروماني هوراس في قصيدته المشهورة «فن الشعر» التي يقدم فيها النصائح والتوجيهات للشعراء والكتاب المسرحيين. إلا أن هذا النوع من الكتابة الشعرية أقرب إلى النقد المنظوم بحيث يلعب الشاعر دور المنظر أو الناقد ويكون الشعر، وزنا وقافية، مجرد قالب أو اطار لهذا التنظير النقدي.
في هذه الورقة سأنظر في نوع مختلف من الميتاشعرية أكثر حميمية بحيث يضع الشاعر نفسه تحت المجهر فيتفحص مصادر إلهامه ومخاوفه وآماله وتصوراته حيال الكتابة الشعرية. في هذه الميتاشعرية يعيد الشاعر النظر في موقعه إزاء الشعراء الآخرين وإزاء تراثه الشعري، فنراه يسائل نفسه ويمتحنها، نراه يتفحص الشكل الشعري ويعيد تركيبه. والدافع لكل هذا وعي حاد بخفايا الكتابة الشعرية ودقائقها ينعكس في النص الشعري مقدما لنا قصيدة تسائل نفسها وتطرح أسئلة حول تعريف الشعر وحدوده، حول مكانة الشاعر ودوره، حول إمكانية القول الشعري الجديد أو استحالته. وهذه أسئلة تكثر أو تزداد الحاحا في بدايات مشاريع التجديد الشعري بحيث يصبع الشعراء أكثر وعيا بدورهم كمجددين بما ينضوي عليه هذا من هدم و بناء ولاسيما عندما تسعى مشاريع التجديد هذه إلى تحديد موقفها مما سبق.
لطالما ارتبط مفهوم الابداع الشعري العربي بعلاقة مع التراث. فمشاريع الحداثة العربية كحركة الشعر الحديث في القرن العشرين وكحركة المحدثين العباسيين في القرنين الثامن والتاسع، هي في جوهرها مشاريعُ لإعادة النظر في العلاقة مع الماضي وتحديدها من جديد. فالابداع الشعري في هذا السياق إذاً هو حوار متجدد مع الماضي، حوار يفتح أفاقا جديدة و يطرح أشكالا جديدة للعلاقة مع التراث الشعري على نحو لا يحدد مسارات المشروع الجديد فحسب بل يعيد تشكيل التراث مرة بعد مرة.
في هذه الورقة سأستعرض نماذجَ من الشعر الحر في القرن العشرين ومن الشعر المحدث في العصر العباسي في محاولة للمقارنة بين مفهومي الابداع أو التجديد الشعري في الحالتين. القاسم المشترك الأساسي بين هاتين الفترتين هو وعي نقدي ميتاشعري لدى الشعراء بمواقفهم مما هو ثابت وبدورهم في خلق المتحول الذي يتحداه إذا أردنا أن نستعين بمصطلحات أدونيسية.
ودراسة هاتين الفترتين الشعريتين جنبا إلى جنب تتيح لنا فهما أعمقَ لما يعنيه الحديث أو المحدَث إذا صح القول، بمعزل عن الاعتبارات الزمنية وثنائية المتقدم والمتأخر. فإذا حاولنا تجريد مصطلح الحديث أو المحدث من دلالاته الزمنية التي تربطه بما هو متأخر وأعدنا فهم الحداثة على أنها خرق أو تمرد فني على القوالب القائمة والذوق السائد نجد أن هناك أمثلة ً كثيرة ً في التراث الشعري العربي لا تقتصر على فترة زمنية معينة. وسنجد أن مشروعي الحداثة الأكبرين هذين يشتركان في عدة ميزات لا سيما الوعي النقديِّ بما سبق، والذي ينعكس على ما كتب من شعر بحيث تصبح القصيدة المحدثة أو الحديثة فضاء لطرح أسئلة نقدية تتعلق بتعريف الشعر ودوره وما يتكلفه الشاعر ويكابده في سعيه نحو لغة شعرية متجددة.
تمثل حركة الشعر الحر مشروعاً واعياً سعى من خلاله الشعراء العرب إلى تجديد الشعر العربي. والدافع الأساسي للحركة شعور بضرورة خلق لغة شعرية و أشكال شعرية جديدة تنأى بالشعر العربي عما اتهم به من تقوقع وتحجر وجمود. وقد تأثر شعراء حركة الشعر العربي الحديث بالشعر والنقد الغربيين فترجموا ما استطاعوا من نظريات الحداثة الغربية لا سيما الأمريكية و الانكليزية، كما ترجموا الكثير من أعمال شعراء الحداثة الغربية ومنظريها أمثال أليوت و باوند وألوار و غيرهم.
لذلك يبدو وكأن حركة الشعر الحديث في بداياتها كانت متجهة بعيداً عن التراث نحو الغرب في محاولة للبحث عن مرجعية بديلة يبنى عليه مشروع التجديد هذا. فالقطيعة مع الماضي العربي كانت بمثابة إعلان رمزي ضروري لمشروع الحداثة أو للرغبة في التجديد على الأقل. ولذلك انشغل رواد الحداثة في خلق علاقة مع تجربة الحداثة الغربية وراحوا يجتذبون أصواتا بارزة من هذه التجربة في كتاباتهم النقدية و أشعارهم على حد سواء. يقول الخال مثلا مخاطباً باوند:
سألناك ورْقة تين ٍ
فإنا عراة ٌ، عراةْ.
أثِمْنا إلى الشعر، فاغفر لنا
وردَّ إلينا الحياةْ.
لك الوعد: إنّا
سنبني بدمع الجبينْ
عوالم للشعر من عبقر ٍ
مفاتيحُهنْ.(1)
ونجد الكثير من الأمثلة المشابهة يخاطب فيها الشاعر العربي الحديث شعراءَ كلوركا وناظم حكمت وبودلير وغيرهم من رموز التجديد الشعري.
إلا أن التجديد لا يبدأ من فراغ وما كان من الممكن استعارة تراث بديل من دون تحديد موقف من التراث العربي أولا. فالخطوة الأولى في أي بناء جديد لا بد أن تكون ذات صلة بالقديم إما هدما او ترميما أو تجاوزا. وشعراء الحداثة العربية، على الرغم من تركيز الدارسين على تأثرهم بالغرب وتمثلهم به، كانوا في اعتقادي يتعاملون مع سؤال الحداثة الجوهري: ما هو موقفنا من التراث الشعري؟ ماذا نفعل بأصوات «أسلافنا الموتى» ونحن نسعى نحو لغة شعرية عربية جديدة؟ بعبارة أخرى كان عليهم قبل المضي قدما أن يحددوا لأنفسهم (وربما كل واحد منهم على حدة) تعريفا لمفهوم الابداع. كان لا بد لهذا الابداع أن يتشكل بالعلاقة مع الماضي. ولذلك نرى أن معظم دووايين رواد الحداثة مليئة أيضا بمخاطبات واستعادات لأصوات شعراء قدامى كالمتنبي وأبي تمام والمعري وغيرهم.
هذا الوعي الزائد بمكانة الشاعر المحدث في سياق شعري يربطه بمن سبق وبمن سيأتي هو أحد أهم ميزات حركة الشعر الحر وإنجازاتها. فهذا الوعي هو الذي أدى إلى طرح كثير من الأسئلة المحورية مثل: ما الشعر وما وظيفته؟ ما التراث ما موقعه؟ ما الشكل الشعري وما مبرراته؟ وغيرها من الأسئلة التي مازال الشعراء المعاصرون يحاولون الإجابة عنها حتى اليوم.
وهذا الوعي النقدي بالعملية الشعرية لدى الشاعر هو ما أكسب الشعر العربي الحديث درجة كبيرة من التعمد والتنظير. فالتنظير كان سابقا ومتقدما على الشعر في أوائل حركة الشعر الحر. ويبدو أن كثيرا من القصائد الحديثة لم تكن أكثر من تمرينات أو محاولات لتطبيق نظرية كانت أكثر وضوحا وتبلورا في ذهن الشعراء من القصائد نفسها. هذه الملاحظة لا تنطبق على الشعر العربي الحديث فحسب بل تنطبق على معظم مشاريع التجديد في مختلف حقول الفن حيث يكون الفنان أكثر تنبها للعملية الابداعية ودقائقها أو أكثر وعيا وتفحصا لمصادر إلهامه. والمصطلح المستخدم للاشارة إلى هذا الوعي النقدي الذاتي الذي ينعكس في الشعر نفسه هو الميتا شعرية. ترجمة المصطلح أمر شائك: فلفظة «ميتا» في أصلها اللاتيني تعني «ما وراء أو ما بعد أو ما فوق» «فما وراء الشعرية أو ما بعدها» مصطلح يشير إلى وعي زائد بعملية الشعرية أو ينم عن تفاصيل العملية الابداعية التي يحاول الشعراء اخفاءها عادة. فالميتا شعرية بعبارة اخرى هي أن يتخذ الشاعر دور الناقد والمعلق والمنظر تجاه ما يكتبه وأن لا يكتفي بذلك بل أن يعبر عن هواجسه النقدية والشعرية فيما يؤلف من شعر، هي حين تصبح «القصيدة موضوع القصيدة» كما يقول أحد أهم شعراء الميتا شعرية الأمريكيين والس ستيفنز.
وتتجلى هذه المقاربة للكتابة الشعرية في أعمال شعراء الحداثة العربية فنراهم يكشفون في نصوصهم عن كثير من القضايا والهواجس النقدية وأهمِها العلاقة بالماضي. فها هو أدونيس المشغول دوما بالعلاقة مع التراث والداعي أبدا إلى هدمه وإعادة تركيبة وتجاوزه. الأمثلة التالية من شعره مقطوعات مختارة من ديوانه «أغاني مهيار الدمشقي: الذي هو بما فيه من شعر ومن نثر عرض لدور الشاعر الهادم الباني، الشاعر الفاتح آفاقا جديدة للغة متحررة من أثقال القواعد والسنن.
اليوم لي لغتي
هدمت مملكتي
هدمت عرشي وساحاتي وأرْوقتي
ورحتُ أبحث محمولاً على رئتي
أعلّم البحر أمطاري وأمنحهُ
ناري ومجمرتي
وأكتب الزمن الآتي على شفتي؛
واليوم لي لغتي
ولي تخومي ولي أرضي ولي سمتي
ولي شعوبي تغذيني بحيرتها
(2)وتستضيء بأنقاضي وأجنحتي.
شُغل رواد الحداثة العربية في القرن العشرين بتحديد الاطار النظري لحركتهم الشعرية فكثيرا ما تناولوا في قصائدهم العلاقة مع الماضي والوجهة التي يجب على الشاعر المجدد أن يتخذها، كما تحدثوا عن دقائق العملية الابداعية الشعرية وما يكابده الشاعر في سبيل القصيدة الجديدة. مثال على هذا المقطع التالي من قصيدة السياب «القصيدة والعنقاء:
وهكذا الشاعر حين يكتب القصيده
يراها بالخلود تنبض،
سيهدم الذي بنى، يقوض
أحجارها ثم يمل الصمت والسكونا.
وحين تأتي الفكرة الجديده،
يسحبها مثل دثار يحجب العيونا
فلا ترى. إن شاء أن يكونا
فليهدم الماضيَ، الأشياء ليس تنهض
إلا على رمادها المحترق
منتثرا في الأفق…
وتولد القصيده. (3)
إلا أن هذه الهواجس النقدية المتعلقة بمفهوم الشعر ودوره والسبل إليه لم تنجلِ بل ظلت حاضرة في أعمال الأجيال اللاحقة من شعراء الحداثة العربية. فها هو جودت فخرالدين يصف لنا عملية الكتابة الشعرية التي تسكن الشاعر وتتملكه فيصعب عليه أن ينتهي منها.
قصيدتي التي سوَّدْتُها ،
قرأتُها .
وبعدما بيَّضْتُها ،
قرأتُها ثانيةً .
ثم قرأتُها ثلاثاً … أربعاً …
ومرةً ألقيتُها ،
ألقيتُها في المهرجانْ
وبعد هذا كلِّه ، نسيتُها .
وصرتُ كلّما التقيتُها ،
حيناً فحيناً في الكتابْ
هفتْ إليَّ كالسجين ِ،
أطلقتْ أنفاسَها ،
توهَّجتْ ،
وساءلتْني عن غيابي .
كلّما واجهتُها ،
واجهتُ معنىً للغيابْ .(4)
وسعدي يوسف يقف مترددا حيال القصيدة واحتمالاتها يكبله وعي حاد لما كتب الشعراء الآخرون قبله. وفي الحالة هذه يجد يوسف نفسه في ظل نيرودا:
لست نيرودا لكي أعلن أني قادر ان اكتب اليلة هذي
أكثر الأشعار حزنا
مثلا
إني وحيد
(ربما خيبت ما كنتم تريدون)
إذن
فلأقل
الليل طويل
هكذا خيبتكم ثانية(5)
وها هو درويش يعلق على علاقة الشاعر بالنقاد وتوقعاتهم من حيث الموضوع والشكل:
يغتالني النقاد أحياناً
يريدون القصيدة ذاتها
والاستعارة ذاتها
فإذا مشيت على طريق جانبي شارداً
قالوا لقد خان الطريق
وإن عثرت على بلاغة عشبة
قالوا: تخلى عن عناد السنديان
وإن رأيت الورد أصفر في الربيع
تساءلوا: أين الدم الوطني في أوراقه؟
وإذا كتبت: هي الفراشة أختي الصغرى على باب الحديقة
حركوا المعنى بملعقة الحساء(6)
التحرر النسبي من العروض في قصيدة التفعيلة أتاح للشعراء فضاء أكثر مرونة للتنظير داخل القصيدة. إلا أن قصيدة التفعيلة لم تتناول الشعر كموضوع فحسب بل هي في شكلها مساءلة ٌ وحوارٌ مع الشكل الشعري القديم كما تكشف التسمية بحد ذاتها.
لكن ظاهرة الميتا شعرية هذه لا تقتصر على حداثة القرن العشرين فحسب. فعلى الرغم من أن حركة الشعر الحر غالبا ما تعتبر القطع الأوضح مع التراث الشعري أو الزلزلة الكبرى لشكل القصيدة العربية، إلا أن الشعر العربي عرف حركات تجديد قبل ذلك لا تقل جرأة وتحديا لا بل لعلها أحيانا كانت أكثر عمقا فيما أحدثته من تغيير في اللغة الشعرية او مقاييس الذوق الشعري بشكل عام. وأهم هذه الحركات على الاطلاق حركة الشعراء المحدثين في العصر العباسي.
هذا الحوار مع التراث الذي يتخذ في أحيان كثيرة شكل المواجهة أو التحدي كان في جوهر حركة الشعراء المحدثين في العصر العباسي. مع أن القطيعة مع الماضي في هذه الفترة ليست بالوضوح الذي نراه في حركة الشعر الحر إلا أن شعراء استطاعوا أن يقلبوا القصيدة على نفسها. فحين أجاب شعراء القرن العشرين عن سؤال الشكل الشعري بأن كسروه وبدؤوا بالتخلي عنه، جعل شعراء الحداثة العباسية الشكلَ يسائل نفسه. فعلى الرغم من أنهم كتبوا قصائد عمودية ً ووقفوا على الأطلال ومدحوا وهجوا ورثوا إلا أن القصيدة العباسية كانت في الوقت نفسه منشغلة بنفسها إلى حد كبير مما جعل منها قصيدة وتعليقا نقديا على القصيدة في الوقت عينه. لذلك هي إلى حد كبير «ميتا قصيدة» أو قصيدة تعلق على القصيدة.
وقد انتبه النقاد القدامى إلى هذه الظاهرة وأطلق عليها بعضهم تسمية «وصف الشعر» أو «الشعر على الشعر». فمثلا يورد الجرجاني في كتابه «دلائل الاعجاز» أمثلة على تناول الشعراء العرب منذ الجاهلية وحتى عصره الشعر والوحي و التأليف كموضوعات للشعر نفسه. وترد هذه الأمثلة في فصل بعنوان «فصل في وصف الشعر».
وعلى الرغم من أن الجرجاني يورد أبياتا لشعراءَ ينتمون إلى عصور مختلفة إلا أن الأمثلة العباسية هي التي تتجاوز مجرد الكلام على الشعر أو وصفه أو مدحه إلى التعليق على التغيير الذي أحدثه مشروع التجديد العباسي. كأن يقول أبو تمام معلقا على المهارات الجديدة التي بات يتطلبها الشعر المحدث من المتلقي:
كشفت قناع الشعر عن حر وجهه
وطيرته عن وكره وهو واقـع
بغر يراها من يراها بسـمـعـه
ويدنو إليها ذو الحجا وهو شاسع
يود وداداً أن أعضاء جـسـمـه
إذا أنشدت شوقاً إليها مسـامـع(7)
ويمكننا في هذا السياق أن نورد أمثلة عديدة من الشعر العباسي التي تتناول الشعر كموضوع للشعر كـأن يقول ابن الرومي معلقا على العلاقة بين أجزاء القصيدة:
أقدم في أوائلها النسـيبا
ألم ترَ أنني قبل الأهاجي
هجائي محرقا ً يكوي القلوبا
لتخرق في المسامع ثم يتلو
وضحك البيض تُتُبعه نحيبا
كصاعقة أتت في إثر غيث
أتاح لنفسه سهما ً مصيبا
عجبت لمن تمرّس بي اغترارا
وأكوي من مياسمي الجنوبا (8)
سأرهق من تعرض لي صعودا
والبيتان المشهوران في تعريف الشعر:
والشعر لمح تكفي إشارته
وليس بالهذر طولت خطبهْ (9)
والشعر فرج ليست خصيصته
طول الليالي إلا لمفترعهْ (10)
ولكن بالاضافة إلى تناول الشعر كموضوع عبّر العباسيون عن ميتاشعريةٍ أعمقَ و أكثر تمعنا في مركـِّبات القصيدة وموتيفاتها ومعانيها الشعرية. فإذا أخذنا المطلع الطللي مثلا نرى ان الطلل العباسي أصبح طللا شعريا بامتياز. أي أن الشاعر العباسي يقف على الطلل واعيا دوره كأداة شعرية أو كمدخل إلى عالم القصيدة الابداعي. فنراه يشرح لنا ولنفسه هذا الدور بحساسية نقدية عالية.
لا أنت أنت ولا الديار ديار
خفَّ الهوى و تولت الأوطار(11)
فالطلل الذي يبدو لنا أنه مشهد حقيقي وإن كان مفعما بالاشارات والذكريات و الاحالات كما هو في مطلع معلقة لبيد مثلا:
عفت الديار محلها فمقامها
بمنى تأبد غولها فرجامها(12)
هذا الطلل يصبح أكثر تجريدا في العصر العباسي. فيكون الوقوفُ على الطلل تمرينا شعريا رمزيا ضروريا لانطلاق العملية الابداعية،ويكون استعادة لاصوات الشعراء السابقين، استعادة تسمح للشاعر المحدث أن يحاور تراثه و أن يوجد لنفسه مكانا في سياق تراثه الشعري. فمثلا نرى أبا تمام يفتتح قصيدة لا بالوقوف على الطلل بل بتحليل هذه الممارسة الشعرية من وجهة نظر نقدية حين يقول:
ليس الوقوف بكفء شوقك فانزل
تبلل غليلاً بالدموع فتبلل
فلعل عبرة ساعة أذريتهــا
تشفيك من إرباب وجد محول
ولقد سلوت لو انّ دارا لم تلح
وحلمت لو ان الهوى لم يجهل
ولطالما أمسى فؤادك منزلا ً
ومحلة ً لظباء ذاك المنزل (13)
فكأنه يدعو القارئ والشاعر المعاصريين إلى التمعن في جدوى الوقوف والدور الشعري الذي يؤديه البكاء على الطلل. ونراه في مثل آخر يخاطب الطلل المطلق، لا طلل مية ولا خولة بل الطلل كممارسة شعرية موروثة بحاجة إلى تسويغ وشرح واعادة فهم.
طلل الجميع لقد عفوت حميدا
وكفى على رزئي بذاك شهيدا
دمن كأن البين أصبح طالبا
دمنا لدى آرامها وحقودا
قربتَ نازحة القلوب من الجوى
وتركت شأو الدمع فيك بعيدا
خضلا إذا العبرات لم تبرح لها
وطناً سرى قلق المحل طريدا
أمواقف الفتيان تطوي لم تزر
شرفاً ولم تندب لهن صعيدا؟
أذكرتنا الملك المضلل في الهوى
والأعشيين و طرفة ولبيدا
حلوا بها عقد النسيب ونمنموا
من وشيها حللا لها و قصيدا (14)
هذه الحساسية النقدية لدى شعراء العصر العباسي أتاحت لمن جاء بعدهم أن يشير إلى المشهد الطللي ومكوناته اشارة تشي بفهم نقدي ميتا شعري لدوره كمادة شعرية ولما يثيره من علاقات في ذهن القارئ أو السامع. فالمتنبي في المثال الآتي يكتفي باستعارة صفة «عافٍ» للهمم مقدما لنا صورة شعرية مركبة كان الطريق للوصول إليها ولفهمها طريقا ميتا شعريا يقوم على فهم الموروث الشعري فهما نقديا متجددا. فيبدأ قصيدة بمطلع غير طللي، ولكن فهم هذا المطلع وتذوقه يستندان إلى فهم المطلع الطللي التقليدي و كل ما مر تناوله من تحليل ومساءلة وتجديد:
أحق عاف ٍ بدمعك الهمم
أحدث شيء عهداً بها القدم (15)
المقارنة بين مشروعي الحداثة المذكورين لها وجوه عديدة لم أتطرق لها هنا، إلا أن القاسم المشترك الأهم بينهما هو هذا الوعي النافذ بالشكل الشعري وبماضيه مما يؤدي إلى مراجعة واعادة فهم لمفهوم الشعر ومكوناته شكلا ومضمونا. فليس للقصيدة الحديثة أو المحدثة أن تنجو من مواجهة نفسها قبل أن تجد مكانا ثابتا لها في السياق الشعري الذي وجدت لتعلق عليه أو تتحداه.
هوامش
1- يوسف الخال، الأعمال الشعرية الكاملة (بيروت: التعاونية اللبنانية للتأليف والنشر، 1973)، ص 197-198.1
2- أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي (بيروت: دارالآداب، 1988)، ص 52.2 , 81
3- بدر شاكر السياب، الديوان (بيروت: دار العودة، 1971)، ج1 ص 1971)، ج1 ص303.4
4- جودت فخرالدين، منارة للغريق (بيروت: دار النهار،1999)، ص 10.5
5- سعدي يوسف، الأعمال الشعرية الكاملة (دمشق: دار المدى، 1995)، ج3 ص 253-254.6
6- محمود درويش، أثر الفراشة (بيروت: دار رياض الريس، 2008)، ص109. 7
7- أبو تمام، الديوان، تحقيق: محي الدين صبحي (بيروت: دار صادر، 1997)، ج 2 ص 485. 8
8- ابن الرومي، الديوان، تحقيق: حسين نصار (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 1973) ،ج1 ص328.9
9- البحتري، الديوان، تحقيق: حسن كامل الصيرفي (بيروت: دار المعارف، 1963)، ص209.10
10- أبو تمام، الديوان، ج1 ص411.11
11- أبو تمام، الديوان، ج1 ص321.12
12- حسين بن أحمد الزوزني، شرح المعلقات السبع (بيروت: دار الجيل، د.ت.)، ص91. 13
13- أبو تمام، الديوان، ج2 ص 16-17.14
14- أبو تمام، الديوان، ج1 ص227-28.15
15- المتنبي، الديوان، شرح وتحقيق عبد الرحمن البرقوقي (بيروت: دار الكتاب العربي، 1986)، ج4 ص179.16