بعثت السيدة منيف أرملة الراحل الكبير ورفيقة دربه الحياتي والابداعي المليئ بالخطورة والعمق والشتات، هذه القصة، كما توضح الرسالة التالية، ومجلة نزوى التي تشرفت منذ بداية اصدارها بنشر ما يخصها به الراحل، الذي لم يرحل يقيناً عن أفئدة قرائه ووجدانهم، كونه، شخصا وكتابة، أحد أهم الشهود الحقيقيين على هذه المرحلة الأكثر اضطراباً وتمزقاً ورعباً في التاريخ العربي، ستواصل هذا الدور الذي يجسد بعض وفاء، بداهة لن نستطيع تجاوز حده الأدنى، للاستاذ منيف الذي أحاطها (نزوى) مع أقرانه من الكتاب العرب بكل ذلك الحنان والرعاية، ما دعم صمودها واستمرارها وسط أجواء الكراهية والانحطاط التي تواجه أي طموح ثقافي يتسم بالجدية والاختلاف.
الصديق العزيز الاستاذ سيف الرحبي المحترم
تحية تقدير ومودة..
أشكر لكم تواصلي مع مجلتكم القيمة التي اتابعها باهتمام كبير لغناها بالموضوعات المهمة والمتجددة فكراً وأدباً وفناً وحضارة أتمنى لكم التوفيق والاسهام الدائم في هذه المسيرة لثقافية وأرى لزاماً علي الاستمرر بتزويدكم ببعض نتاجات عبدالرحمن منيف، لما كان يكن لكم من تقدير. هذه القصة المرفقة والتي ستصدر ضمن مجموعة قصصية لاحقاً عسى تجد لديكم الحيز المناسب وشكراً.
سعاد قوادري منيف
دمشق 10-12-2004
عبـد الرحمـن منيـف
٭ قصة من مجموعة كتبت في بداية السبعينيات والتي كانت مرحلة تجريبية وامتحان اولي لممارسة الكتابة والتي أعاد اكثر من مرة قراءتها ولم يجر عليها تعديلات اساسية لقناعته انه اذا بدأ فستتغير نهائياً وكان حرصه ان تكون كما كتبت وكان ينوي كتابة مقدمة للكتاب بعد تصحيحات قليلة لبضع كلمات ليس الا.. ولكن للأسف لم يحالفه الحظ ولعلها تكون اضاءة حول كتاباته الاولى.
(سعاد قوادري)
الى علي الأصفري ابن الحلبية المنكود ايضاً
من الكلمات التي تذكرها اختي الكبيرة، وترددها على مسامعنا كلما زارنا خالي، ان امي وهي تموت قالت لمن كانوا حولها، »لاتنسوا المنكود « وقد فهم الحاضرون من تعني، ولم يسألوها توضيحا، لأن امي كثيراً ما كانت تشير اليه بهذا الوصف، حتى اصبح اثبت عليه من اي اسم آخر .
ظلت الاوصاف التي تطلق على خالي تثير فينا الاستغراب والتساؤل، لماذا يكون خالي منكوداً ؟ او لماذا يكون اي وصف آخر من تلك الاوصاف التي تطلق عليه ؟ ثم جاءت مجموعة اخرى من الاوصاف الجديدة على لسان خالتي وغيرها من النساء، لتزيد الامر غموضاً ؛ كان يقال عنه العاثر الحظ. الضائع، وتجرأت احدى النسوة مرة ووصفته بالمهبول، ثم رفعت يدها الى السماء وطلبت من الله ان يهديه او يخفيه ؛ ولم نستطع ان نجد تفسيراً لهذه الاوصاف التي يتداولها الكبار، والتي لم تكن لتطلق على احد غيره.
كان اسم خالي يضيع، ويحل محله في كل مرة يزورنا وصف جديد اكثر اثارة من الاوصاف السابقة، حتى سماه ابي في آخر مرة الوحش، ولكن عاثر الحظ او المنكود ظلت اكثر الاوصاف ثباتاً وتداولا. والقصص التي تروى عنه كانت تنتهي اغلب الاحيان بسرعة حين يكون غائبا، حتى ان خالتي ظلت تحرص على ان تقطع كل حديث عنه، لأنها تعتقد ان مجرد ذكره لابد ان يحمله الينا، وفي مرة سمعتها تقول بصوت عالٍ لمجموعة من النساء كن يتحدثن عنه »لنتركه، يجب الا نتحدث عنه… والا تحقق المثل الذي يقول »اذا ذكر الذئب حضر العصا«.
كان خالي مثل باقي الرجال، لا تميزه غير لحيته الصغيرة الرمادية، عيناه المتعبتان ؛ لم يكن طويلاً واقرب الى النحافة ؛ وهناك شيء آخر يميزه هي أقدامه الكبيرة والتي يعلوها طبقة سميكة من الجلد الميت، وهذه الاقدام بقدر ما كانت تثير النقد والاستياء لدى خالتي كانت تثير فينا الدهشة الممزوجة بالاعجاب، وتخلق في اذهاننا صوراً لاتنتهي عن المسافات التي قطعها والاماكن التي شاهدها.
تقول خالتي انها شاهدت عقرباً ينام في باطن قدمه. وينظر خالي الى قدميه ويبتسم، وبطرف عينه يغمز لنا مع هزة رأس تنفي هذه القصة.
كان خالي اذن رجلاً مثل باقي الرجال. ولم اكن ادري لم يطلقون عليه هذه الاوصاف ولمَ يضيقون به ؛
لم يكن يزعج احدا، فهو لا يتكلم الا نادرا. وكثيراً ما كان يضيق بمجلس ابي والرجال الذين حوله، فاذا وجد فرصة انزلق بهدوء دون ان يحس به احد، وانزوى في مكان بعيد، متمدداً على الارض يعبث بطرف جلد الخروف الذي ينام عليه، ويدندن بأغنيات بدوية لم نكن نفهمها.
كنا عندما نراه في مثل هذا الوضع نلتمس وسيلة لنصل اليه. كنا نحمل له اكلاً او وسادة. فاذا كان قد هيأ فراشه واكل، فلا اقل من الماء نحمله اليه سواء كان يريده او لا.
وفي الظلمة المشربة بنور الغرف البعيدة، واحاديث الرجال تصلنا مثل طنين غير واضح، كان خالي يبدأ يحدثنا عن اسفاره والمصاعب التي واجهها، وعن ايام البرد القاسية في الصحراء، كنا ننظر اليه وقد امتلأنا اعجاباً لهذه القوة التي تجعله فوق مستوى الرجال الآخرين، ونتساءل كيف استطاع ان يبقى دون ماء فترات طويلة، وكيف انه وضع الحصى في فمه ليتغلب على العطش.
وكنا نتساءل لماذا لايوجد في الصحارى ماء. ونتيه في تصور اماكن بعيدة مخيفة لايمكن للانسان العادي ان يجتازها. أما هذا الرجل البسيط الذي يجلس معنا فقد اجتاز كل شيء ؛ وهو الآن يتحدث وكأنه يقرأ في كتاب.
وكنا مستغربين لم لايتحدث عن هذه المغامرات الى الكبار ؛ ونتعجب اكثر ان الكبار لايسألونه عنها ؛ ان شيئاً من هذا لو حصل لأصبح وضع خالي معهم مختلفاً تماما، فلن يجرؤوا على ان يصفوه » بالمهبول « او اي وصف آخر من هذه الاوصاف القبيحة، وسيمتلئون دهشة ورعبا. وسيرون انفسهم ضعفاء لايقدرون على شيء.
كانت الاسئلة تدور في رؤوسنا الصغيرة، ولم نكن نجد لها جوابا، ثم تضيع في زحمة الضحكات الساخرة والكلمات التي تنهال عليه مثل المطر :
– متى تسافر ؟
– امغرب ام مشرق ؟
– لا تتعب نفسك يا منكود… انت لاتصلح لشيء. انقبر في ارضك افضل لك !
– متى تأتي مرة اخرى يامهبول ؟
– حرام عليك ان تعذب الناقة بسفرات تائهة مجنونة !
– ولكنه سيعود غنياً هذه المرة. لولا ان »الحُر« مات قبل خمس سنوات لاستطاع ان يصل بحمل التمر الى الجوف، وان يحصل على ثمن كبير، ولكن البعير رأى حظ ابراهيم العاثر وفضل ان يموت !
ويضحك الرجال. ومن وراء الخصاص تتابع النسوة المشاهد وقد اشتعلن حماسة واخذن يضحكن ضحكات مكتومة اقرب ما تكون الى المواء او البكاء المتقطع. والخال ينظر الى الرجال وابتسامة حزينة تملأ وجهه، لايجيب فاذا الحَوا عليه يسألونه اين يريد ان يسافر، كان يقول :
– ارض الله واسعة، وعلى الرجال ان يسافروا، ان يتعبوا ويشقوا.. أما الرزق فمن عند الله. وهذه المدينة التي تقضون فيها عمركم لا اشتريها » ببارة «
ويسأله احدهم :
– ولكن الى اين هذه المرة ؟
وتمر فترة من التوتر والصمت؛ يريدون ان يعرفوا وجهته. وينظر اليهم ولا يجيب، ثم بنوع من نفاد الصبر يشير بيده نحو الشرق
– ماذا لو تأخذ معك تمراً الى العراق ؟
– ولكنهم يأتون بالتمر من العراق !
– حتى تخسر !
ويطلقون ضحكات عالية تهتز لها اعطافهم وتدمع اعينهم.
ظلت هذه المشاهد تتكرر باختلاف يسير. وظل الرجال ينظرون الى الخال هذه النظرة المشوبة بالسخرية والرثاء. اما هو فلم يتغير موقفه منهم. كان ينظر اليهم ببرود، وابتسامة حزينة تملأ وجهه. أما عيناه المتعبتان فقد كانتا تحدقان في نقطة ابعد من وجوه الرجال وابعد من القامات التي يراها امامه. كان يفكر بأماكن بعيدة واناس آخرين. وترتسم على وجهه ظلال الافكار والاماكن التي يراها، فيستجيب لها بلذة حالمة تلمسها بانفراج الخطوط الثقيلة التي تملأ. جبهته. او بيده الخشنة تمتد الى اللحية الرمادية تعبث بها ولكن ضجة الرجال ونظراتهم لا تلبث ان تعيده ؛ فتراه يهز رأسه بعصبية وكأن كابوساً أيقظه من نوم عميق، يفتح عينيه على آخرهما وينظر الى الوجوه وكأنه يراها لأول مرة، ويحاول بتكلف ظاهر ان يعيد ارتباطه بما حوله ولكنه لايلبث ان يترك الحلقة التي تضيق عليه في اول فرصة تلوح له الى الهواء.
٭ ٭ ٭
جاء خالي مرة، بعد انقطاع دام اكثر من سنتين، وقد بدا في هذه المرة عصبياً مهموما، لا يريد ان يكلم احدا، وحتى الصغار. أما الاسئلة التي توجه اليه فلا يجيب عليها الا مضطرا.
كان يقضي جزءاً كبيراً من وقته نائماً تحت عريشة العنب، ينام في النهار لفترات طويلة رغم حرارة الجو (اذ كنا في اوائل الخريف) متدثراً بفروة من جلد الخروف، ويضع عصاه الطويلة قريبة من رأسه وعندما تخنقه الحرارة، او عندما نوقظه لكي يأكل، يهب عصبياً مرعوبا، وحبات العرق الغزير تتساقط من جبهته على لحيته ورقبته.
في ظهيرة يوم من تلك الايام اغتنم فرصة وجود ابي وحيداً ودخل عليه، وبهدوء اغلق الباب وراءه .
يقول ابي : دخل علي ابراهيم بحذر، كانت عيناه تبرقان بريقاً لم اعهده في هاتين العينين المطفأتين. وكان وجهه اصفر يميل الى الزرقة الحائلة، واطرافه ترتجف. ما كاد يدخل ويغلق الباب حتى توجست خوفا، فاضطرب قلبي وظننت ان شراً وشيكاً لابد ان يقع .
نظر الي ابراهيم نظرات حائرة غامضة، ثم حاول الابتسام، فبدت ابتسامته اقرب الى البكاء، اذ ارتخت عضلات فمه، وتدلت شفته السفلى، ثم لم يلبث ان عدل فجأة عن الابتسام وكأن افكاراً غاضبة مرت في رأسه او تذكر امراً محزنا. بدت لي اللحظات طويلة قاسية، بين اغلاق الباب والكلمات التي سمعتها تخرج اخيراً من فمه. حتى لكأنها تأتي من مكان بعيد او من عالم آخر قال :
_ هذه آخر مرة يا حاج اطلب منك مالا…. اريد ثمن جمل ولن ترى وجهي بعد اليوم.
_ ولكن اين الناقة التي جئت بها آخر مرة ؟
_ لقد بعتها واشتريت بدلاً منها سبعة رؤوس من الغنم.
_ واين الغنم ؟
حينذاك امتلأ وجه الخال بالحيرة، فقست عيناه وضاقتا، وامتدت شفته السفلى والتي تشبه قطعة الجلد اليابس، كان واضحاً انه يصارع افكاراً تزحم رأسه، ولكن في لحظة قرر ان يجيب :
_ راحت الغنم…يا حاج.
_ ولكن كيف راحت ؟ هل ماتت ؟
ويمضي ابي فيقول: عندما اتضح لي الموقف عادت لي شجاعتي، وقلت في نفسي ان الفرصة قد حانت، اذ استطيع الآن ان املي شروطي على الخال، وان اثبت له ان الكلام الذي حاولت اقناعه به اكثر من مرة، لم يعد هناك حاجة لأن اردده عليه من جديد. لقد اقتنع ابراهيم ولن يردد كلاماً سخيفاً طالما ردده في المرات السابقة.
كان يقول لي في كل مرة حاولت ان اقنعه بترك الحياة التي يعيشها : استغرب كيف يستطيع الانسان الجلوس على كرسي من القش، في دكان رطبة لا تزورها الشمس طوال النهار. وكأنه مربوط بين اكياس السكر والرز.. انه اذا ظل هكذا فترة من الزمن فلا بد ان يتحول الى جزء من الاشياء تشبه الحجر. وان حياة الجرذان افضل الف مرة، ويصمت طويلا، ثم ينهي حديثه ! يجب ان يعيش الانسان في الشمس، في العراء، والماء الصافي والمطر، ورائحة العشب والصحراء، والخيل والغنم والجمال.
هذه المرة لم يقل شيئا.
– راحت يا حاج وانتهى امرها
– لا اعطيك ثمن البعير الا اذا عرفت كيف راحت الغنم ؟
وقرر الخال ان يتكلم، تردد اول الامر، ثم قال كنت في ارض الرقة هذا الربيع، وتعرفت الى عرب يتاجرون بالغنم، وبعد فترة قضيتها عندهم، همسوا بأذني ان اتزوج من امرأة يعرفونها وتعيش بطرف الرقة، وبعد تفكير طويل وحساب لما يتطلبه الزواج من مال، قررت ان ابيع الناقة واشتري بدلاً عنها بضعة رؤوس من الغنم. لأن الغنم تعطي الحليب والصوف، ويمكن ان يقرض بعض المال.. وهذا ما فعلته، فقد بعت واشتريت، وصار ما يشبه الحديث في الزواج، وبعد ان دفعت مالاً وكدنا نستمر في الامر الى نهايته، اذ بها تشترط علي ان اقيم في المدينة، في بيت من الطين، وان اقيم بصورة دائمة، وقالت انها لاترحل ولا تريد لي ان ارحل، وقد افهمت الوسطاء ان قبول مثل هذه الشروط مستحيل. وبعد ان تعبت في محاولتي تركت كل شيء ورحلت. هكذا راحت الغنم يا حاج! وتنهد بحرقة.
ويضيف ابي، كنت اتصور اني وصلت، فالخوف الذي لمسته في وجه الخال، وتردده في الحديث، ثم توسلاته ان اعطيه مالاً ليشتري بعيراً او اشتريه له بمعرفتي، جعلني في مركز لا اعرف كيف اصفه لأقنع الخال للمرة الاخيرة. ولكن بعد ان سمعت قصة الغنم تشاءمت، ولم اعرف كيف اتصرف، فالرجل لا يزال يعاند، لا يريد ان يستقر في المدينة، ولا يريد ان يرتبط بشيء، ولا يزال يفضل ان يتيه في البوادي من مكان آخر ؛
»كان بامكاني ان ارفض اعطاءه المال، ولكن رفضي لن يغير في الامر شيئا، واذا اعطيته فمثل كل المرات السابقة سيشتري بعيرا. يتشرد معه سنة او سنتين، جائعا، ضائعاً بلا هدف، ثم يأتي مرة اخرى، قد يأتي ببعير باعه واشتراه عدة مرات، وقد يأتي دون شيء. وتتكرر نفس الطلبات« قررت ان اعطيه. ولكن كنت اريد ان اعذبه، ولا اقول ان احاول معه، فقد وصلت بعد تفكير، الى ان المحاولات معه لن تفيد شيئا، عرضت عليه ان اعطيه مبلغاً اكثر مما طلب شريطة ان يفتح دكاناً ويستقر، عرضت عليه ان اشتري له تجارة يذهب بها مع آخرين الى العراق، فاذا عاد منها دون ان يهج مرة اخرى، اعطيته تجارة يتصرف بها بنفسه، عرضت عليه ذلك كله، ولكنه بدا بعيداً اكثر من كل مرة، كان ذاهلاً لايسمع كلماتي، ولم يتفوه الا بكلمات قليلة، ولكنها كانت واضحة وحازمة. قال لي: اتتذكر يا حاج المرأة الحلبية ؟ لقد تزوجت مرة اخرى بعد ان تأكد لها انه يستحيل عليَ البقاء في المدينة، لقد تنازلت لها عن الولد، وقلت لها اني لن اطالب به في يوم من الايام. وهذه بنت الرقة قبل ان تكمل شروطها رحلت دون ان اقول كلمة واحدة. أما التجارة فانا لا اعرف من امرها شيئا. وصمت قليلاً ثم قال »يا حاج اعطني ثمن بعير والله يخلف عليك. ولن ترى وجهي مرة اخرى«.
كانت ملامح الخال متوسلة خائفة، واجتاحه شعور قوي اني لن اعطيه هذه المرة، خاصة بعد ان عرفت كيف راحت الغنم.
يضيف ابي وقد امتلأ نشوة وهو يروي القصة.
كنت اريد ان اعرف كيف تخلى عن الغنم بهذه السهولة، سألته:
– هل عقدت عليها ياخال ؟
– لم اعقد عليها، ولكن الموافقة تمت. وكادت الامور تنتهي، لولا ذلك الشرط !
– كان يجب ان تسترد الغنم، لأنها لم تصبح زوجتك.
– ولكني خجلت يا حاج. بعد ان اختلطت غنمي بغنم اهلها.
– هذا حقك. أما اذا خدعوك فهذا امر آخر
– لم يخدعوني. لقد تركت كل شيء، وسافرت دون ان يحس بي احد
ويختم ابي كلامه فيقول: اعطيته المبلغ بعد مساومة طويلة. واشترى الناقة !
٭ ٭ ٭
ما زلت اتذكر تلك الناقة التي يتحدث عنها ابي. كانت فرحة الخال كبيرة، كان يربط الناقة قريباً من المكان الذي ينام فيه، ثم يبدأ يتحدث اليها ويمسح على ظهرها، ويغني لها بعض الاحيان، وفكر ان يعطيها اسما، ولكنه تردد في اللحظة الاخيرة، وقال انه لن يفعل ذلك قبل ان يجربها في سفر طويل.
بعد ايام كنا ننوي زيارة احدى خالاتي في قرية تبعد قليلاً عن المدينة، وقرر الخال ان يشاركنا الرحلة، فاستيقظ مبكراً وهيأ الناقة، وانطلق قبل رحيلنا بأكثر من ساعتين، وما كدنا نصل مشارف القرية التي تسكن فيها خالتي، حتى التقينا الخال يخب على الناقة، وكأنه يركب سفينة، وظل يشير الى سيارتنا حتى ابتعدت.
لقد بقيت تلك الزيارة محفورة في ذاكرتي. والآن كلما مرت صورة الخال اتذكر الوجه الفرح، والغناء،
واشياء اخرى قد لاتخطر ببال :
ففي الليلة التي قضيناها عند خالتي، وبعد ان ربط الخال ناقته في ساحة الدار، سهر معنا طويلاً وتحدث كما لم يفعل من قبل.
تحدث عن المدينة والنساء والمال والسفر، وتحدث عن الجمال، ورغم ان حديثه عن بعض الامور كان غامضاً فقد بدا كل شيء تلك الليلة أخاذا، له بريق حاد.
قال لنا بعد ان تزوج، لم يستطع الاقامة في المدينة اكثر من ستة اشهر، تصور المدينة بعدها مثل غول يطبق على صدره ويكاد يخنقه، فعافت نفسه الاكل وتحول الى حيوان كاسر، وخاف ان يؤذي زوجته فاقترح عليها السفر، وكاد ان يقترح عليها الاقامة في مكان آخر، ولكن رفضها وعنادها ارغماه على ان يتركها. ولما عاد اليها بعد سنتين وجد لديها ولداً منه، وفكر ان يقيم في المدينة من جديد، ولكنه لم يطق، وبعد تفكير طويل تخللته متاعب ومشاحنات طلقها وترك لها الطفل.
تحدث الخال عن اشياء اخرى، قال انه لا يحب المال ولا يعرف ماذا يصنع به، كما لايريد بيوتاً ولا زراعة، وانه يعتبر التجارة سرقة مكشوفة، أما السفر فانه وحده حرية الانسان، وكل ما عداه وهم ! وظلت كلمة السفر تتردد في اذهاننا كأقوى نبرة تلتقطها آذاننا، ونتيه وراءها في خيالات بعيدة !
سهرنا طويلاً تلك الليلة ثم صعد الخال لينام على سطح الدار، بعد ان ربط رجله برسن الناقة، وظل صوته يصل الينا هادئاً حزينا، وحداؤه يذكر بحنين غامض، ولم يهدأ ولم ينقطع صوته الا بعد ان نهرته خالتي وهددته اكثر من مرة، ثم شتمته.. واخيراً اضطر ان ينام، او هكذا بدا لنا.
في الصباح استيقظنا على اصوات غير طبيعية، اصوات غامضة ملفوفة بأسئلة قصيرة واجابات تمتزج فيها الصرخات باللعنات والبكاء.
لقد سقط الخال من سطح الدار. ومات.
في الغرفة التي مدد فيها كان وجهه مزرقاً والدماء يابسة على خده ولحيته، وشفتاه منتفخة واقرب الى السواد.
بعد شهرين كان قبر الخال ينبش من جديد، وتخرج جثته لتشرح؛ فقد وصلت الى السلطة معلومات تقول ان الخال مات مسموما…
عندها بدأت بعض الكلمات تأخذ معنى محدداً في ذهني. لقد فهمت تماماً معنى كلمة منكود… وعاثر الحظ.