كان من الممكن أن أقطّب قلمي لتخرج كلماتي ملتاعة كما يجدر بمغترب مهموم. كنت سأتحدث عن الغربة والحنين حتى أستدرّ تعاطف أشرس قاطع طريق في صحراء مقطوعة. لكنني لا أحب دور الضحية ولا أتقنه. ثم إن حكايتي ليست معقدة إلى هذا الحد. فأنا لست منفياً ولا مغترباً ولا يحزنون.
بعد سنتين من البطالة، كان عليّ أن أدبّر أمري على نحو مختلف. سنتان من قلة الشغل والحيلة كانتا كافيتين لدفعي إلى مراجعة العديد من البداهات: الماضي اليساري الواثق. الأحلام الثورية والشعارات النارية التي لا تجرؤ على إشعال أصغر حريق في أكبر كومة قش. كما أن الإجازة في الاقتصاد لم تكن تعني شيئا في بلدٍ اقتصادُه لا يقلّ انهياراً عن أعصاب مواطنيه.
عندما كنت طالبا في الجامعة لم أكن أهتم بشيء. كنا نستمتع كثيرا بحياتنا الثورية السعيدة. وكنا نقضي أوقاتا ممتعة في تنظيم المظاهرات لشتم الحكومة والنظام ونبشر بالتغيير المحتوم بيقينية رجال الدعوة والتبليغ. بعد سنوات من الزعيق، لم أفلح في رؤية ولو نصف خيال ذلك التغيير المنشود. لم نستطع لا تغيير النظام ولا تغيير الفوضى التي تنظّم حالها بشكل مُحكَم في وطننا السعيد. بل اكتشفت أنني أعجز حتى من أن أغيّر وضعي الشخصي بعد عشرات المباريات والمقابلات التي تصدّيت لها من أجل الحصول على عمل ما في مكان ما. لذلك، وعوض تغيير الأوضاع، قررت بشجاعة متخاذل يحترم نفسه أن أفلت بما لم يحترق بعدُ من أعصابي فغيرتُ البلد برمته!
بهذا المعنى يمكنني اعتبار بروكسل ملاذاً لا منفى. فالوطن كان أشدّ المنافي ضراوة.
وأنا في الباخرة، صرّفت مائة فرنك فرنسي مقابل حفنة من البسيطات الإسبانية. حينما وصلنا إلى الخزيرات، تحلّق حولنا حمّالون أنيقون. كانوا يجرّون عربات صغيرة تتربّص بحقائبنا المثقلة. أشرت إلى إسباني شاب ليتكفل بأمر حمولتي. كان وسيما مثل أبطال السينما. وكنت فخورا وأنا أتبعه كسيّد حديث العهد بالسيادة. حينما أوصلني إلى الحافلة بادرني بقشتالية لم أفهمها.. لكنني خمّنت قصده من السياق. السياق الواضح أصلا.. فتحت كفي وتركته يأخذ ما ادّعى أنه مقابل الخدمة. كنت أردد مع المتنبي: «ولكن الفتى العربي فيها/ غريب الوجه واليد واللسان». كدت أسرح مع حكاية «غربة اللسان» هذه لولا أن جرفني سيل المهاجرين الذين لفظتهم الباخرة. كان رفاق الرحلة يتدافعون نحو الحافلة بعزم الفاتحين. أهملتُ المتنبي سريعا وتدافعت مع الخلائق. بعد ساعات من السفر، دخلنا إلى فرنسا. هناك على الأقل لم أعد غريباً. أقصد لم أعد غريب اللسان تماماً!
في محطة «بانيولي»، كنت أتأمل رفاق الرحلة الذين انتهى بهم المطاف في باريس وهم يتفحصون حقائبهم للاطمئنان على سلامة محتوياتها قبل ان يضيعوا في الزحام. كنت بدوري أتفحص ملامحهم وأتمعن في هيئاتهم ولكناتهم وأتساءل مع نفسي: «ماذا يفعل هؤلاء الأشاعثُ ذوو السحنات الكالحة هنا؟».
يجيب شاعر من طينتنا شاكراً جيل دولوز: «فرنسيتي لم تكن تسعفني لكي أشتري حتى الخبز بشكل لائق/ لكن رنين اسمكَ/ في المناقشات الجانبية كان له سحر خاص/ طالما أخجلني من فرط الجهل./ الهجرة حق مقدس، قلتَ ذات مرة./ لم يقلها أحد قبلكَ ولم يجرؤ على ترديدها أحد بعدكَ/ في هذه البلاد التي تزوجناها عن حبّ/ أنا ومحمد وعبد القادر وفاطمة/ وعربٌ آخرون تضيق بأسمائهم المغبرة هذه القصيدة» . (1)
شخصيا، لم أكن أعرف أن الهجرة حق مقدس عندما هاجرت. وحتى جيل دولوز لم أكن أعرف عنه سوى انتحاره التراجيدي ممارسا حقه المقدس في الهجرة إلى الأعالي بعدما أعياه المرض وضيق التنفس. لكنني هاجرت، فقط لأنّي لم أكن شجرة.. وبدل الجذور كان لي ساقان سرعان ما أطلقتهما للريح. مفهوم المنفى في بعده الأسطوري المتسربل بالحنين أصبح مفهوما تاريخيا في اعتقادي. إنه مرتبط بزمن مضى وبوضع انتفت شروطه وأسبابه. فنحن نقرأ للمتنبي «أما الأحبة فالبيداء دونهم»، يمكننا أن نتلمّس نار الشوق لاهبة ونخمّن ألم البعد ولوعة الفراق. فالبيداء تعني الظمأ والتيه ومشقة السفر. أما اليوم فلا بيداء، ودُون الأحبة سويعاتٌ فقط بالطائرة، وبأسعار زهيدةٍ أحياناًً.
قبل أزيد من عقدٍ، كان المنفى قائماً لا يزال. عندما كان على المنفيّ أن ينتظر طويلاً قبل أن تصله جريدة تحمل من أخبار البلد ما سمحت به الرقابة. لكن عن أيّ منفى نتحدث الآن في زمن الهواتف المحمولة والفضائيات والأنترنت؟
وبالرغم من تعاطفي المتضامن مع الذين هُجّروا من أوطانهم قسراً بسبب تشريد سلطات احتلال أجنبي أو هرباً من قمع السلطة الوطنية وبطشها، إلا أن معظم أبناء جيلي ممن راودتهم الهجرة عن أحلامهم قد سعوا إليها عن طيب خاطر. سعوا إلى هذا المنفى الأنيق برضاهم. ومنهم من عضّ على أصابع الندم لأنه لا يملك ما يخوّل له ارتداء ثوب المضطهد السياسي علّه يظفر بفرصة اللجوء إلى عاصمة غربية. يقول ياسين عدنان: «لو أنّ الأمن/ وجد في آرائي/ تلك التي لم أجهر بها/ ما يُهدّد الأمن/ لكنتُ الآن أرفلُ/ برتبة سجين سابق/ كنت سأبدو عميقاً/ حتى وأنا/ أتحدث عن أصناف الجعة/ وأحوال الطقس/ جديراً بالتضامن/ ساعة الأنينِ/ وساعات الشكوى/ كنت سأظفر، ربما/ بحق اللجوء/ إلى عاصمة شقراء/ باريز، مثلاً…/ هناك، كانت ستُغري بي/ عيناي/ شعري الأسود الفاحم/ صمتي الأريبُ/ يُداري فرنسيتي المعطوبة/ كنت سأغوي/ فرنسية عذراء/ أفتضُّها دونما مهرٍ/ فأصاهر رامبو سِفاحاً» . (2)
عندما تم اختطافي من المنزل في إحدى ليالي نوفمبر 1991، كان كلام ضابط المخابرات واضحا وصريحا: «لن تعملوها بنا مرة أخرى يا أبناء ال… لقد كنا نُلفّق لأمثالكم التهم في السبعينات لنزجّ بهم في السجن. وعندما خرجوا، قايضوا سنوات اعتقالهم مقاعد في البرلمان. لقد جعلنا من نكرات معرّفة شخصيات مرموقة عرفت كيف تحوّل رصيدها النضالي الملّفق إلى رصيدين واحد سياسي وآخر في البنك. هذه المرة، لن ندعكم تختالون بأنفسكم كمعتقلين سياسيين. سنلاحقكم بتُهمٍ يندى لها جبين المومس».
من حسن حظّي أنني غادرتُ البلد بدون تهمة قليلة الأدب كانت ستجعل الأصدقاء قبل الأعداء ينهشون لحمي بالتلذذٍ وأنا بعدُ حيّ أُرزق. جئت إلى بلجيكا في هيئة طالب علم. فالعلم فريضة على كلّ مسلم ويُستحبّ طلبه ولو في الصين؟ بلجيكا عموماً أقرب من الصين. ثم إن نصفها يتحدث اللغة الفرنسية الحبيبة. لولا هذه اللغة الناعمة لكان صعبا أن تصفق باب الوطن لتلتحق بفلول «الطّالبان» في هذي البلاد الواطئة. هنا حيث كنّا متأهبين ومتوجسين كفيلق منزوع السلاح في حرب خاسرة. تُتابعنا الدراسة عوض أن نُتابعها. تُلاحقنا المقررات وتتعقبنا الامتحانات لسنوات فنضطر إلى مكابدتها من أجل تمديد بطاقات الإقامة. كنا نفعل ذلك فيما يشبه الرضى، لأن لنا أصدقاء لا يستطيعون حتى تمديد أرجلهم خارج عتبة العتمة. فتيان في مقتبل الحلم يعيشون هنا دون دليل قانوني يثبت وجودهم. هؤلاء «الحرّاقة» هم منفيو العصر بلا منازع.
عندما عبر طارق بن زياد أول مرة باتجاه الأندلس، أحرق السفن كي يقويّ من عزائم جنوده الفاتحين. ليعرف عساكر الأسبان من رجاله ضراوة من تساوى لديهم الموت مع الحياة.. أما هؤلاء فيحرقون هوياتهم قبل الإبحار حتى لا يجد رجال الشرطة دليلا يستندون عليه في ترحيلهم إلى أوطانهم. فطارق عندما أبحر في اتجاه الأندلس كان على الأقل واثقا من وصوله إلى برّ حتى ولو لم يكن آمنا. أما هؤلاء فليسوا واثقين من شيء. قوارب الموت التي أقلّتهم تحمل في اسمها عنوان مصيرهم الغامض الذي تتبارى في تخمينه الحيتان. صديقي العربي «الحرّاق» يرفض تسمية قوارب الموت: «هذا كلام جرائد.. إنها قوارب الحياة. قوارب حقيقية للنجاة من الموت البطيء الذي كنّا نعيشه هناك». لذا فهم يبادرون إلى إحراق جوازات سفرهم، التي لا تُجيز شيئا على الإطلاق، لتقديم رمادها قرباناً للمتوسّط علّه يقودهم نحو الفردوس المفقود. نقرأ في يوميات مهاجر سرّي لرشيد نيني: «الآن أفهم لماذا يحرق المهاجرون جوازاتهم عندما تلوح لهم أضواء الأندلس ويرمون بها في عرض البحر. يصنعون ذلك لكي لا يعود أحد حياً إلى الضفة الأخرى. فإما الموت وإما الغنيمة. وإحراق الجواز لا يختلف كثيرا عن إحراق سفينة العودة. يبدو أن درس التاريخ سيتكرر عبر القرون بشكل مأساوي. لكن المضحك حقا في الحكاية أنه لا غنيمة هناك البتة» .(3)
الإطلاقية التي نفى بها صاحب اليوميات الغنيمة غير دقيقة تماماً. ربما كان يقصد الأسلاب والسبايا. وهذه لم يعد لها وجود منذ قرون. أما الغنائم فقد جاءت على شكل قصائد وروايات.. مذ صارت الهجرة، والسرية منها على الخصوص، لا تستثني المتأدبين من أبناء عالمنا العربي المترامي الأوجاع. فعند بعض هؤلاء ينتصب الوجود الأدبي في الكتابة ومن خلالها بديلا عن الوجود القانوني أحياناً. بل هناك من، حتى في شرط تحقق «حلمه الفرنسي» (4) بشكل شرعي وعلني، يظلّ متشبثا بهجرته السرية داخل القصيدة. يقول محمد حمّودان في مقطع شعري له: «صحيفة سوابقي ليست عذراء/ وهذا غير خافٍ عنكم/ عليّ هذا: أحرقتُ باتجاه القصيدة/ اقتحمتها عنوةً/ لكنّي استأنست فيها بالسرّية/ حتى أنّي لم أعد أحترس من شيء» .(5)
«كاتب مغربي مقيم ببروكسل»، هذا هو التذييل الجديد الذي أصبح يُرفق باسمي تحت أي نص أُقدِم على نشره. لا أذكر أنّي ذيّلت شيئا بهذه الصفة. لكنّي -لا أُنكر- لم أكن أنزعج لذلك. أقصد كنت أشعر بغير قليل من الزهو حيال الأمر. فلربما أضفى وجودي في هذه العاصمة -التي تنتج مؤسساتها الأوروبية والأطلسية كمّاً هائلاً من القرارات المهمة- على كتابتي جدّية أفتقر إليها.
أتذكر جلسات المقهى المراكشي رفقة الأصدقاء. كنا نتابع ما تنشره المجلات الثقافية من أدب. وكنا نتوقف بشكل خاص عند أدباء «المهجر». لست أدري ما الذي كان يجعلنا نتوقع أن الكاتب المقيم في باريس أو لندن أو ستوكهولم مؤهل لكتابة أشياء أكثر أناقة وحداثة من كاتب يقيم في مراكش أو فاس أو الدار البيضاء. كانت كتابات «المهجريين» تبدو برّاقة كسلع مهرّبة. بريق لا يمحوه سوى اكتشاف العلامة التي تؤكد محلية الصنع!
كنا نتصور الكتاب المقيمين بالمهجر كائنات شفافة تتسكع في شوارع الحداثة مثل أرواح هيمانة. كائنات بغليونات وطرابيش تتقاذفها المقاهي الثقافية طوال النهار والبارات الأدبية طوال الليل. كائنات رومانسية تتأمل العالم بإحساس مرهف لتكتب أشياء تقطر لوعة وحنينا.
هنا اكتشفتُ أنهم ليسوا كذلك تماماً.. بعضهم يعيش على الإعانات الاجتماعية، وبعضهم يعمل في مهن غير متأدّبةٍ دائما، والبعض الآخر يتردد على مراكز الاحتجاز الخاصة باللاجئين والمهاجرين «اللاشرعيين» أكثر من تردده على منتديات الأدب. فيما هناك بالوطن، من يربط علاقات أدبية شاسعة مع كلّ مجرّات الحداثة في الكون، دون أن يبرح مقعده أمام شاشة الكومبيوتر. هنا أحسست كما لو غُرّر بي، فكتبت: «أغوتني قصائد سركون بولص/ أغواني أدب المهجر/ منذ الرّابطة القلميّة/ حتى آخر قصيدةٍ مجمَّدةٍ/ لشاعرٍ عراقيٍّ/ ينتظر الاعتراف به كلاجئ في الدّانمارك/ صديقي هشام فهمي/ دعك من الحلم عبثاً/ بالهجرة إلى سويسرا/ واحفظ لقصائدك/ شراستها الأليفة» .(6)
بمجرد حصولك على جواز سفر أحمر تفهم أن محفوظة «بلاد العُرب أوطاني» هي مجرد نشيد حماسي صالح للاستهلاك السريع في المدارس الحكومية خلال المناسبات القومية فقط. لأن بلاد العرب التي يلزمها أكثر من ختم ورسم على جواز السفر «الوطني» تصبح مفتوحة في وجهك ودونما حاجة إلى تأشيرة دخول. هنا يمكنك أن تفاخر بأن كل بلاد الله أوطانك حتى من غير قافية. يكتب سعد سرحان في تعريف شعري بالغ النثرية والواقعية والطرافة للوطن: «الوطن جواز سفر صالحٌ/ يخطب تأشيرة شقراء/ فيطلبون مهراً لها/ عمراً من الانتظار».(7)
وللأسف أن بعض الشعراء العرب مازالوا يكتبون بعاطفية مقرفة بمجرّد اعتمادهم الوطن موضوعاً للكتابة. فهم مولعون بالشكوى منذ «قفا نبك» حتى «غريب الدار لا يرضى سواها/ ويهواها وإن كانت خرابا». عاطفية ساذجة تجعل الشاعر يهوى الخراب إخلاصاً للقافية وإمعاناً في التبرّم. ورغم أن مفهوم الاغتراب يبدو معاصراً، فهو في الأصل قديم حيث كان ملازما للحنين إلى الديار بما يستدعيه ذلك من بكائيات. لكنه كان يظهر في أشكال أقل فجائعية كما عند الإمام الشافعي: «ما في المقام لذي عقلٍ وذي أدبِ/ من راحةٍ فدع الأوطان واغتربِ/ سافر تجد عوضا عمّن تفارقه/ وانصب فإن لذيذ العيش في النّصَبِ». ورغم أن هذا الفهم الإيجابي للاغتراب، بل والتحريض عليه، يبدو أقرب إلى نفس أبناء الجيل الجديد من كل شعراء الحنين إلى الديار القدامى منهم والمحدثون، فإنه لم يكن قطّ استثناءً في زمنه. فثمة قولة الإمام علي بن أبي طالب الشهيرة «الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن». هذه القولة تبدو أكثر عقلانيةً وسداداً ليس من بكائيات الرومانسيين الجدد فحسب، بل حتى من أكثر الشذرات الشعرية حكمةً لدى شعراء الحداثة العرب المعاصرين. ورغم كلّ هذا التعاطي العقلاني لدى أشدّ الأئمة ورعاً مع مفاهيم الوطن والاغتراب، ما زال هناك من يصر على لعب دور المغترب الشاكي، وما به داء، في زمن لا رسوم فيه ولا أطلال.
«شخصيا، لا تخيفني الغربة ولا الوحدة. ما يزعجني حقا هو أن أكون بلا نقود. أن تكون مفلسا تتقاذفك الشوارع ويبللك المطر، دون أن تتجرأ على وضع مؤخرتك فوق مقعد بأحقر مقهى. أن تبتسم لك شقراء في مقصورة مترو ولا تتجاسر على دعوتها إلى سهرة صغيرة تليق بابتسامتها لأن جيوبك فارغة، فتضطر إلى إشاحة وجهك عنها كأي شاذ. هذا ما أخاف منه، هذه هي الغربة الحقيقية» .(8) والمؤسف أننا لم نحتج قطّ إلى الاغتراب لكي نعيش هذه الغربة. لقد كابدناها خلال سنوات البحث عن عمل دون أن نبرح أحياءنا حتّى. فبمجرّد ما كان يغادر الواحد منا مسكنه مفلساً حتى يجد نفسه كما لو تقطّعت به الحبال في بلاد بعيدة. فكيف بمقدورك احتمال الشعارات الشوفينية والديماغوجية التي تريد منك المفاخرة ببلادك التي هي حتماً أجمل بلاد العالم؟ يجيب أحد شعراء حركة الطليعة في تونس: «البلاد التي لا حياة لمن ترتجي عندها وتنادي/ بلادك أنتَ.. وليست بلادي» .(9)
وحتى الوطن الذي كنا نفديه بالروح والدم في شعارات الجامعة، أنكرناه بعد ذلك.. بعدما انتبهنا إلى أن هناك من «وطنيّينا الأشاوس» من يرسمه على هيئة صنم ليطلب منّا تقديسه. أو على هيئة ضحية ليطلب منّا فداءه والموت لأجله. أو على هيئة فزّاعة لكي يدفعنا إلى الهرب منه. فيما هم يفكّرون فيه دوما كما لو كان مجرّد كعكة يريد كلّ واحدٍ اقتطاع أكبر حصة منها والاستئثار بها لنفسه. شخصياً هذا «الوطن» لم يكن يعنيني. لا الوطن الكعكة ولا الوطن الصنم ولا الوطن الضحية ولا الوطن الفزّاعة.
وحتى الوطن الذي ضحّى جيل آبائنا في سبيل تخليصه من ربقة الاستعمار، أصبح معظم أبناء جيلنا لا ينشدون إلا الخلاص منه مولّين أرواحهم شطر أيّ وجهةٍ شقراء وبكل الطرق حتى أشدّها تلاطماً.. ما لم تقمعهم أسماك القرش بسكينة القيعان.
منذ بداية هجرتي في منتصف التسعينات ألحقتُ بالوطن اسم تفضيل مساعدٍ لأجعله على هيئة صفةٍ وأنا أقول في مقطع من أولى قصائدي ببروكسل: «أخي الأصغر سافر دون وداعي/ ولم يكتب منذ رحل/ لربما أورلاندو كانت أكثر وطناً» .(10) لقد وجدتُني منتصراً لفهم متخففٍ من الأبعاد الرمزية الطاغية والحمولات النفسية والوجدانية والعاطفية الزائدة التي يختزنها مفهوم الوطن. الوطن الذي أصبح يتضاءل في بعض الكتابات ليصير في حجم محطة قطار كما في هذا المفتتح الشعري لأحد فصول رواية «عراقي في باريس«: «أوسترليتز/ أوسترليتز/ أنتِ بيتي ووطني/ أيتها المحطة العزيزة/ أوسترليتز» .(11)
ورغم أن سرفانتس سبق وقال أنه حيثما يضع قدمه فثمة وطنه، فإن المولعين بالمنفى قد يجدون بعض العزاء في كون أول قدمٍ وُضعت على ظهر البسيطة كانت لإنسان مُبعَد من جنة الله. وبهذا المعنى تنتصب الأرض، كل الأرض، منفىً للخليقة. فما الفرق إذن بين وطنٍ وآخر ما دام كله منفى شاسعٌ شساعة الصحراء التي ذرعها الملك الضليل حيّاً قبل أن يقنع من الغنيمة بالإياب. هذا الذي لن يقنع به اليوم أشقى متشرد في أتفه ضاحية أوروبية. ثم إن امرأ القيس معذور لأنه لم يقف قطّ على باب سفارة ولم يعش زمن التأشيرة ليقدّر حجم كارثية الإياب إلى الوطن دون غنيمةٍ تُذكر.
«كيف نحب وطناً يكرهنا؟» .(12) هذه أول جملة تبدأ بها الجزائرية ياسمينة صالح روايتها الثانية «وطن من زجاج«. فما الذي جعل كتاباً من أبناء جيلنا يتعاطون مع الوطن بكل هذه القسوة؟ ما الذي حصل في أوطاننا لكي تكتب شابة جزائرية أخرى هذا الكلام الكبير: «فيما أصدقائي يبحثون عن غبار الأوطان الضائعة، أنكفئ على نفسي وأسخر من مآسيهم. لو امتلكوا قدراً ضئيلاً من الذكاء لاكتشفوا أنهم كلهم منفيون، ولا وطن لهم سوى ذواتهم».(13) ما الذي جعل للوطن كل هذه الوطأة حتى لكأنه سجن رحب: «الوطن وتد/ شعاره الحبل»؟(14)
طبعاُ أنا من المتحمسين الكبار للتنكيل بشعارات «حبّ الأوطان من الإيمان» المطمئنة. كما أنني أداري ضحكتي كلما سألني أحدٌ عن حالي مع الغربة وأستحضر غربة طرفة وسط قبيلته وعزلته في حيّه حين أنشد «إلى أن تُحامتني العشيرة كلها/ وأُفردت إفراد البعير المعبّد». لكنني -أعترف- أشعر أيضاً بالكثير من الحنو على هذا الوطن. هل أقصد الحنين دون أن أجرؤ على لفظ الكلمة إمعاناً في ادعاء الشدة وإبداءً للامبالاة؟ أصبحت أخشى على الوطن من فائض القسوة أيضاً. الوطن خارج كل تمثلاته النظرية والسياسية والفلسفية. الوطن كما أفهمه شخصياً وببساطة شديدة:
دعوات الوالدة الحارة على الهاتف… دموع الجدات لحظة الوداع… رائحة الكسكس باللحم والخضار السبع… أحد عشر لاعباً بمجرد إحرازهم هدفاًً في مرمى الخصم نتحول إلى مجانين من فصيلة الهنود الحمر يرقصون بهمّة من يطرد الأرواح الشريرة عن مضارب القبيلة… أغنية «يا مراكش يا وريدة بين النخيل» تنبعث من مذياع صالون الحلاقة بحيّ «ميدي» حيث يتمركز المهاجرون المغاربة قرب محطة القطار كما لو أنهم دوماً على سفرٍ وشيك… الرعشة التي تدبّ في الجسم لمجرد سماع أغنية «فين غادي بيّ آخويا» لناس الغيوان… نباح الكلاب في الليل… صياح الديكة في أول الصبح… وصوت الأذان.
يا لهذا الوطن… كالشيطان يكمن في التفاصيل.
الهوامش
1- «كلما لمستُ شيئا كسرته» عبد الإله الصالحي (دار توبقال للنشر – الدار البيضاء 2005)
2- «مانكان» ياسين عدنان (منشورات اتحاد كتاب المغرب – الدار البيضاء 2000)
3- «يوميات مهاجر سري» رشيد نيني (منشورات وزارة الثقافة – الرباط 1999)
4- في إحالة على رواية «فرانش دريم» لمحمد حمودان (منشورات لاديفيرانس – باريس 2006)
5- البلانش ميكانيك» محمد حمودان (منشورات لاديفيرانس – باريس 2005)
6- «وليَ فيها عناكبُ أخرى» طه عدنان (منشورات وزارة الثقافة – الرباط 2003)
7- من قصيدة «الوطن» لسعد سرحان.
8- «كيف تصبح فرنسيا في خمسة أيام ومن دون معلم» جمال بدومة (جريدة الصباح 2003)
9- «اسكني يا جراح» الطاهر الهمامي (منشورات فن الطباعة – تونس 2003)
10- «وليَ فيها عناكبُ أخرى» طه عدنان (منشورات وزارة الثقافة – الرباط 2003)
11- «عراقي في باريس» صموئيل شمعون (منشورات الجمل – ألمانيا 2005)
12- «وطن من زجاج» ياسمينة صالح (منشورات الاختلاف – الجزائر 2006)
13- «لعاب المحبرة» سارة حيدر (منشورات الاختلاف – الجزائر 2006)
14- من قصيدة «الوطن» لسعد سرحان
طــــه عــــدنان شاعر يقيم في بلجيكا