الملـف مـــن إعــــداد: عبـــــــــده وازن
المشاركون في الملف: عقل العويـــط-عبــــده وازن- مفيــد نجـــم
عبيدو باشا – جمانـة حداد- سيـف الرحـبي
– هـــــدى حمــــد- يحــــــيى الناعـــــبي
صاحِبُ لغته الشعرية
يشقُ الطرق الوعرة أمام القصيدة العربية
عقل العويط
شاعر وكاتب من لبنان
منذ ديوانه الأول، بل قبل ديوانه الأول، مذ كان في الجامعة، ومما نشره من على صفحات «الملحق» الأدبي لجريدة «النهار» البيروتية، كان بول شاوول يكتب خطواته كمن لا يريد أن يتطلع إلى وراء. ماشياً كأنه يمشي في أرض بكر. لكن عيونه التي في أعماق رأسه، كانت ترى كل شيء، وتكتنز كل شيء، وتحفظ كل شيء، وتختزن كل شيء، مسترشدةً، ماخضةً، ماحية، ومولِّدة.
من ذاته الأدبية أولاً، ومن الأدب اللبناني والعربي، قديمه والحديث، إلى الأدب الفرنسي خصوصاً، فالآداب العالمية المترجمة، قديمها وجديدها، كان الشاعر يجول ويتفقد، لا يملّ ولا يرتوي، بل يعطش ويستزيد، قارئاً، متفحصاً، مستلهماً، مرتشفاً، ماخضاً، هاضماً، حتى ليبدو في هذا كله، ينمو نموّاً شقياً، ممتلئاً من تاريخه، ومن تواريخ غيره، عائشاً حاضره، وحاضر غيره، مختبراً الكيمياء في توازناتها وعجائبها المتخالطة، نازلاً إلى جحيمها، محترقاً، مجمّراً، متطلعاً إلى مستقبله، ومستقبل لغته، آخذاً في مسيرته ذكاء الدروب التي اجتيزت، وخبراتها، وتراكماتها، وأنواعها، ليبدأ لا من لا شيء، بل من مكانٍ آخر، هو حصيلة كلّ شيء، لكنه شيء آخر، هو ذاته، وإناؤه. وهو موضعه في اللغة الشعرية.
هذا الشيء الآخر، الذي هو ذاته، في انفتاحها على الكلياني المتعدد، يسري سرياناً في اللغة التي يتعاطاها، حتى ليصير إياها، بالتعدد المتنوّع الذي يكتنفه واحدٌ ينسج الخيوط، ويولّدها، بعضها من بعض، لا لتتشابه بل لتكون آخر، دوماً، من دون أن تفقد الصلة بمرجعيتها الينبوعية الأمومية، وهي اللغة، التي تسيل، فتتدفق حيناً، وحيناً تتفجر، وحيناً بتؤدة، وحيناً تتقطّر، وحيناً تسترسل، وحيناً مقطوفة قطفاً، وحيناً تراثية، وحيناً ما بعد حديثة، وحيناً ماجنة، مهلوسة، وحيناً مشغولة باحتراف الصابرين على نزع الشوائب نزعاً دؤوباً، لا يُرى بالانتباه فحسب بل بالخدر أيضاً.
منذ البدايات، راح بول شاوول يشقّ الدروب، لكنه لا يبدأ من عدم. فهو لم يكن يريد ذلك الزعم اللغوي العدمي اللامجدي، ولم يكن يبتغيه، بل يريد كل شيء، شأنه في هذا شأن العارفين المختبرين سرّ اللغات والثقافات والحضارات. هؤلاء عارفون متنبهون لاقطون للإشارات، لا يثنيهم شيء ولا يخافون شيئاً. ينكبّون لينهلوا ويعرفوا، ويتهجّنوا، ويتخالطوا، ويولدوا من جديد. لكن الواحد من هؤلاء، وهو هنا بول شاوول، إذ يتعرّف إلى ماضيه الأدبي، وماضي غيره المتعدد، ويختبرهما، وينهل منهما، ويتخالط معهما، ويتهجّن بهما، يعرف في الآن نفسه، كيف ينحرف عنهما، ليصنع شيئاً مختلفاً. هذا الاختلاف هو مكانته، وهو لغته، وهو صنيعه، وإن متراكماً. لأنه عندما يفوح، يفوح متفتحاً من تراكماته، لكن كما تفوح وردة مختلفة، فريدة، في الخضمّ الكبير.
هذا أحد أسرار بول شاوول. فهو سليل ثقافاته الغزيرة، الغفيرة، المختلفة، السحيقة، المتآلفة، المتنافرة. هذه الثقافات بقدر ما تغذّيه، تضعه أمام التحدي الكبير: كيف يمكن الخروج بعد التمرغ في هذه الثقافات جديداً، بهويتي، ولغتي، وصنيعي؟
في غمرة هذه التحدي الكبير، يمكن موضعة التجربة الشعرية الكليانية لبول شاوول. خارج هذا الفهم، من المجحف الدخول عليه من ثغرة جانبية، والمراوحة فيها. كل دخول جزئي يبقي القارئ الداخل في الجزئي من شعرية شاوول، ويجعله يطيش عن المسيرة الشعرية المتكاملة.
أذكر أن بداياته الأولى، كانت تتأسس على هذه المفهومات المتلاقية أنهرها، وأمواجها، وغيومها، وتراباتها، تلاقياً لا يكتفي، بل يتطلع. كان يكفيه أن يتطلع إلى أكثر، كي يعرف أن عليه أن يكون أكثر. وآخر. هكذا، راح ينعم ويمعن، منصرفاً إلى غايته الشعرية، وهي باللغة، وفيها، شأن المهمومين بأفعال الخلق، كالمقلعجي حيناً، كالجوهرجي حيناً آخر، كالأم الرؤوم في أكثر من موضع، وكالعشيق.
هذه مشقة كبيرة لا تؤخذ مساراتها بالانفعال الهيّن، بل بالسهر الدؤوب على اللغة، ومراودتها، بالكيمياء دائماً، باللطف المتبصر حيناً، بالذكاء الجواني المكثّف أحياناً، وبالعنف – لِم لا! – أحياناً أخرى. بل أيضاً بالسهر الدؤوب في دواخل اللغة، بالوسائل والوسائط المذكورة كلها، معاً وفي آن واحد، متعاطياً إياها، كمن يتعاطى تبصراً ليس من السهل النفاذ إلى أعماقه، إلاّ بالدربة والعقل والصبر على إعمال المفاتيح في الأبواب والأجسام والنوافذ، ليكون الدخول من المسارب ومن البؤر، ومما لا يمكن إبصاره بالحواس، وبما تحت السطح، مما يسري في شرايين اللغة، ومسامها.
يعتقد القارئ غير المتفحص والعليم، أو يتراءى له، أن الشاعر وصل، لكن هيهات، فهو لا يرمي أشرعته على شاطئ، وإن طلب الاستراحة. حتى ليعتقد هذا القارئ أن الشاعر يقلع أحياناً، موهماً إياه بنصب الأشرعة، لكنه إذ يهبّ إلى الخضمّ فإنه لا يرضخ لنوّ. في الحالين يتعاطى المقاربة الشعرية تعاطياً جريئاً متجرئاً صبوراً وئيداً. ذلك، في الحالين، لا ينمّ عن تهوّر ولا عن بطء. ولا عن ارتخاء بل عن إسلاس. ولا عن كبت بل عن انشداد عصب. ولا عن تنغيم بل عن إرهاف. بل عن أسلوبَين في التسديد، حتى ليمارس شعريته ممارسةً من المطارح كلها، ومن الاختبارات كلها.
وعليه، من شأن هذه القراءة أن تقترح إمكان توقف القارئ المتفحص عند ثلاثة مداخل، ولا بدّ أن يجترح قرّاء آخرون مداخل إضافية لولوج عالم بول شاوول اللغوي الشعري: النشيد العالي بشقّيه الغنائي والتراجيدي، التقطير، واستدراج التراث إلى مستقبليته اللغوية.
في المداخل الثلاثة هذه، لا انفصام، ولا قطيعة، بل تكامل، وتشييد، حيث التنوع ازدهاء، وحيث التألق في كل حدب لا يفضي إلى خروج على سكة، أو إلى نشاذ، بل إلى عمارة. وهي عمارة تتلاقى في مكوّنات بنيتها هذه المداخل الثلاثة، لتؤلف كلاًّ معمارياً، كالكليانية الأوركسترالية، التي تقتنص لا وتيرةً واحدة، بل مجملها، المتناقض ظاهراً، المنسجم والمتكامل باطناً.
في النشيد
النشيد على مستويين، عند شاوول، واحد مشرّع على السلاسة المفتتنة بالغنائية الداخلية الخفرة (أيها الطاعن في الموت)، وثانٍ على الملحمة الأبوكاليبتية السوداء (بوصلة الدم). في الاول، عشقٌ وأنسنة ملطّفان ببهاء الجمالية اللبنانية، الرقيقة، الندية، الأنيقة، المترفعة، المموسقة، الموقّعة بأوركسترا الداخل الروحي، حيث يتهادى المعجم المؤنسن مسترقّاً، جامحاً، بخيلاء، وحيث يحلو للجملة الشعرية أن تتغاوى بطلاوتها. ها هنا، في السلاسة والطلاوة، وفي العلوّ الإنشادي، يبدأ الشاعر مشواره، محمولاً بإرثه الأدبي الجمّ، إرث المدرسة اللبنانية وآفاقها المؤنسنة، لكنْ مطرّياً، مشذّباً، على طموحٍ جماليّ أكيد، من غير أن يُستدرج إلى فخاخٍ مجانية ترتطم بالعدم لترتدّ وتطيش في اللاجدوى. على هذا، هو في بدايته المنشورة كتاباً، مختطٌّ طريقاً يعرف أنه مثقلٌ بالإرث الجمّ، منشدٌ لا على طريقة المنشدين، بل على طريقته الخاصة التي ستتخذ في ما بعد هويةً شخصانية لا يصعب على القارئ أن يتبيّن ملامحها وخصائصها ومكوّناتها.
في الوجه الثاني من النشيد، ندخل مع الشاعر على البعد التراجيدي الفجائعي، في ما يمكن اعتباره عملاً إنشادياً أسود، يتساوى مع قصائد كبار الشعراء العالميين الذين جعلوا من حياتهم الفردية والجماعية التي هي فريسة الحروب والاقتتالات، وليمةً للشعر الأسوَد، المجمَّر، الملعون، والخلاّق.
إلى أن يتلاقى هذان النوعان في النهر الشعري الكبير، المتجلي في الخبرة والاختزال والتضميخ والترهيف، حيث تذهب كلٌّ من الغنائية العالية، وتلك السوداء الجحيمية، صوب الحفر في الأعماق المعمقة، ليكون ديوانه، «أوراق الغائب»، خلاصة هذا النوع البالغ مداه الأكفأ في اغتراب الشاعر اغتراباً أشبه بانسراب اللبان والبخور في داخل شرايين ذاته وداخل شرايين لغته، وهما واحدٌ أحد.
في التقطير
لكن الشاعر واحد، أكان في النشيد أم في «نقيضه» الظاهري. و«النقيض» المزعوم هذا، ليس نقيضاً إلاّ على المستوى الشكلاني البحت، حيث يشفّ الكلام ليصير تشفيفاً بل غلالة غيمية لا تُلمَس إلا بالعقل، أو ما تناهى من الحواس. وهذا يكون في التقطير الهائل، الذي لا يتشبه به شيء سوى ما يفعله أهل العنب الذين يدأبون على تخليص عنبهم من حواشيه وذيوله، فلا يبقى سوى الجوهر المعتّق في أعماق الخابية وهي طبقات البئر التحتية من كل ماء زلال. أما الوصول إلى هذا المعتّق الصعب، البالغ المشقة، فلا يكون بوقتٍ واحدٍ ولا بوقتين، بل باجتماع الأوقات كلها، وأكاد أقول خارج كل وقت، تماماً كحال هذا النوع من الكتابة التي تكاد تكون خلواً من الكلام. كأن تكون في نسيمه، وفي القليل القليل منه. تريد أيها القارئ تشبيهاً يعبّر عن هذا النوع؟ خذه: إنه كمثل نظرةٍ قاتلة، حيث لا كلام. وإذا ندّت كلمة أو اثنتان، أو ثلاث،، فإنها تكاد تنهدم في غيم الكلام، في هيولاه الجسمانية الشفيفة المقطّرة، حيث يتقدم الشاعر في براهينه اللغوية، متمثلةً في انصراف الوجدان عن القول النشيدي العالي إلى كثيفه القليل المختصر، المصفّى، المتوهج، اللامعقول إلاّ بالعقل المصفّى.
يهمّني في شكل خاص أن أقف هذا التوجه في التصور التحليلي لشعرية التقطير على ديوانين عند شاوول: «وجه يسقط ولا يصل»، و«الهواء الشاغر». هنا يستطيع الشعر أن يحيا عارياً في جوهره. وكم هي صعبةٌ، بل مستحيلةٌ، هذه المهمة. حيث يتلاقى الوجدان اللطيف بالمتجوهر، الموقّع، المشدود العصب، وحيث الخيال الاستعاري الرهيف يشيّد عمارة أشبه ما تكون بلون الهواء.
فـي استدراج التراث
أصعب ما يكون الفعل اللغوي، هو أن تجعل التراثي منه يضاهي الحداثة حداثويةً. بل يصيرها، مازجاً في كيمياء الاختبار، جسمَين يأنفان مبدئياً التلاقي، لكنهما يتلاقيان ويتآلفان، ويتزاوجان، ويتجامعان، وينتشيان، ويعاودان الكرّة، في جملة طويلة، متلاحقة، متوالدة، متناسلة، وصولاً إلى اللغة، لا إلى شيء آخر. اللغة، باعتبارها غاية عشقية في ذاتها. هذا ما يفعله شاوول في ديوانه، «كشهر طويل من العشق»، متجرئاً على البنية، على المتعارف عليه فيها، على التراكيب، على الخصوصية الألسنية، ولكن من دون أن يطيش سهمه خارج صرف اللغة ونحوها. يمتلئ بتراثية اللغة، ليهزّ شجرتها هزّاً مرعشاً، فتسري الرعشة في الأوصال، كأن مقاربة اللغة فعل جنسي بامتياز. بل تصبح اللغة هي الجنس بذاته، هي الفاعل وهي المفعول به، وهي العشيق وهي العشيقة، في اندماج الشاعر بلغته اندماجاً «تاريخانياً»، مستدرجاً إرثها الجنسي، تشكيلاً ومعجماً، إلى جسمانية اللغة الحاضرة في الأفق الأدبي الأكثر تعبيراً عن التجاسر والمغامرة.
إعمال الجسم في الجسم. هذا ما يفعله شاوول بلغته الشعرية في هذه التجربة، المنزلقة في متاهات خطورتها، من دون أن يستشعر رهبةً، بل يُقدِم كما يفعل السابح في فضاءٍ لغوي، فيه من الماضي بقدر ما فيه من اللاماضي.
ماذا أقول عن اختباراته الأخرى، «موت نرسيس»، نفاد الأحوال»، «عندما كانت الأرض صلبة»، «منديل عطيل»، وسواها؟ جوابي إنها متلاقية هنا وهناك وهنالك، في تلاقي المداخل الثلاثة المشار إليها، وانغماس الواحد منها في الآخر. فهي تأخذ من هذا المدخل لتذهب متكئة على ذاك، موحيةً بأنها تكتفي، لكن لا تكتفي. وهكذا.
وإذا كان من اختصار يغني عن الإطالة، فإن تجربة بول شاوول المتواصلة، والنائمة على تجارب ومخطوطات لم يكشف النقاب عنها حتى الآن، تُختصَر بأنه يدخل على اللغة الشعرية لا ليباشر جملةً سابقة، بل ليشقّ بالتجارب المطروقة وغير المطروقة، الدروب الوعرة والخطيرة، التي تفتح للقصيدة العربية آفاقاً تمنحها أن تنمو وتتجدد.
سنراه قريباً في تجارب جديدة، وسنعكف عليها، كمن لم يسبق له أن عكف على نبع.
عندما استعاد بول شاوول
ماضيه ليشهد على خواء العالم
عبده وازن
شاعر وناقد من لبنان
يمثل ديوان «أوراق الغائب» للشاعر بول شاوول مفترقا في مساره الشعري اولا ثم في مسيرة الشعر العربي الحديث، سواء في مقاربته الشعرية الجديدة للذات بصفتها عنصرا تكوينيا ام في لغته المتجلية في ثنائية الحضور والغياب. هنا عودة الى هذا الديوان وعالمه.
يسترجع الشاعر بول شاوول في كتابه «أوراق الغائب» ملامح من ماضيه الخاص والشعري ليكتب سيرة ذاتية تختلف عن مبدأ السيرة اختلافاً واضحاً. فهو إذ يستعيد ماضيه إنما يختزله اختزالاً شعرياً فلا يبقى منه إلا ذاك المناخ السحري. وهو إذ يكتب سيرته، أيضاً، انما يمحوها متخلياً عن التفاصيل التي تعكف عنها لغته أصلاً.
انها سيرة شعرية قبل ان تكون سيرة ذاتية. ذاك ان عالم بول شاوول حاضر في «أوراق الغائب» حضوراً مختزلاً ومضيئاً. فالشاعر الذي يسترجع زمنه الأول يعيد صوغه في لغة لا تخفي حنينها الى ماضيها الخاص وجذورها، لكنّ الحنين الى الماضي لن يكون تكراراً له وللغته بل سيكون حافزاً على استعادة الماضي وتخطيه في وقت واحد.
هكذا تحضر صورة الماضي مختصرة وكامدة وكأن الشاعر لا يتذكر زمنه الأول إلا ليرثيه. هو لا يحتفل به ولا يجعله ملاذاً للهروب ولا عنصراً للمواجهة. إنه يتذكر ماضيه مدركاً فقده اياه. وهو لا ينهض في وجدانه إلا كلحظة ذكرى، ذكرى أليمة وحارقة. وليس استدعاء الماضي هنا استرجاعاً لزمن الفطرة والبراءة اللتين فقدهما العالم بل هو وعي تراجيدي لذلك الزمن الذي ما برح قائماً في الذات والذاكرة.
والشاعر لا يلجأ الى ماضيه ليواجه حاضره بل يوحدهما شعرياً جاعلاً الماضي الوجه الآخر للحاضر الغائب. لا يعيد شاوول اكتشاف ماضيه ليتوهم جمال المستقبل، كما عبّر الشاعر اراغون، بل ليشهد على خواء العالم وضآلة الحاضر. لذلك يسترجع ماضيه في لغة لا تعرف البراءة ولا الفطرة، حتى وان بدت على حال من النقاء الداخلي. والماضي هو زمن مستعاد وليس زمناً مختلقاً. واللغة التي تسترجعه تحذر مزالقه تماماً وتتحاشى عن اشراكه.
ولا غرابة ان يطل الشاعر الذي يتذكر ماضيه الخاص على ماضيه الشعري وان يتأمل عالمه الرحب الحافل بالأوهام والحقائق والرؤى. وعرف شاوول جيداً كيف يدمج الماضي الخاص بالماضي الشعري دمجاً سحرياً فإذا سيرته الذاتية جزء من ذاكرته الشعرية.
يميل كتاب «أوراق الغائب» الى ان يكون قصيدة واحدة. فالمقاطع الصغيرة التي تؤلف الكتاب تنفصل وتتواصل، يجمع بينها مناخ شعري واحد، ولغة واحدة ومعجم متناسق المفردات والدلالات. وترتبط المقاطع بعضها ببعض ارتباط الصوت بالصدى فإذا المقطع يكمّل الآخر وفق حركة داخلية تنساب انسياباً. ولا يخفي الشاعر نزعته «البنائية» فهو يبني قصيدته مقطعاً مقطعاً معتمداً طريقة خاصة قائمة على لعبة التوازي والتكرار الدائري وسواهما من عناصر قصيدة النثر.
إلا ان شاوول لا يجعل قصيدته منغلقة على نفسها وعلى بنيتها (كبعض قصائد النثر) بل يشرعها امام احتمالات اللغة الشعرية وسراباتها. صحيح ان القصيدة هي قصيدة «الكيان الشكلي» (كما تعبّر سوزان برنار) لكن هذا الكيان قابل للاختراق الشعري لأنه يجسد اللقاء المحتمل بين نظام القصيدة وحرية الشعر اي بين نزعتين متناقضتين: الهندسة والتلقائية. والشاعر لا يفصح عن لعبته مقدار ما يخفيها ولا يصقل لغته إلا ليبعد عنها خطر الافتعال والجفاف. ولغته كلما انصهرت اتجهت نحو الكثير من الشفافية. وكلما اشتد حضورها اشتد غيابها. وعلى رغم الحرية الشعرية التي تتمتع القصيدة بها فإنها لا تتبدى إلا كمجموع هندسي تتناسق حركاته وايقاعاته الداخلية، وتتوازن وتتجاوب اجزاؤه المختلفة. وتقوم وحدة القصيدة – اكثر ما تقوم – على اللعبة الحاذقة في استدعاء المفردات والعبارات والتراكيب ونسجها نسجاً متيناً، وليس التكرار والترجيع إلا تعبيراً واضحاً عن تماسك القصيدة ووحدتها. ويولي الشاعر الايقاع الداخلي اهتماماً كبيراً جاعلاً اياه خيطاً من الخيوط الأساسية التي تجمع أجزاء القصيدة.
في «أوراق الغائب»، يواصل شاوول تجربته ويرسخ لغته التي «وجدها»، ليس بالصدفة طبعاً، انما عبر البحث والتجريب. ومواصلة التجربة لا تعني تكرارها ولا تكرار ادواتها بل هي تطوير لها وارساء لمعالمها. والشاعر لا يخون لغته وعالمه إلا بقدر ما يكون وفياً لهما. وقد يصعب عليه ان يتخلى عن جذوره الضاربة في عمق كيانه. لذلك ربما لا تبدو قصيدة «أوراق الغائب» غريبة عن عالم شاوول الرحب ولا المعجم الشعري الذي تعتمده القصيدة يبدو غريبا، ولا لغتها، بل ان القصيدة تختصر ماضياً بكامله: شخصياً وشعرياً. إلا ان الشاعر يبتعد هنا عن الطابع التجريبي الصرف مستسلماً لحالات غنائية ناجمة عن استعادة الماضي في لحظة صفائه.
لا تخفي قصيدة شاوول شغفها الغنائي ولا نزعتها الهندسية ايضاً. سر هذه القصيدة انها استطاعت ان توحد بين اتجاهين مختلفين توحيداً عميقاً: بين البناء المتناسق والمنضبط والتلقائية الداخلية. فإذا هي صنيع هندسي ولغوي، وصنيع جمالي وغنائي. إلا ان غنائية الشاعر داخلية ومرهفة. انها غنائية الغياب، غنائية الموت لا الحياة، غنائية الخسران والانكفاء. انها الوجه الآخر للصمت الذي يسعى اليه شعر شاوول عموماً. اما الطابع الهندسي الذي يؤلف البعد الثاني للقصيدة فهو خفي بدوره وداخلي لانه شكل من اشكال الغياب.
عالم «أوراق الغائب» هو عالم الغياب بامتياز. صحيح ان معجم هذا العالم في دلالاته الأولى ينتمي الى الواقع الحسي، إلا انه سرعان ما يتحرر شعرياً من أسر حاسيّته. أليس الشعر «معرفة خلاقة للواقع» كما يقول رينه شار؟ الشعر اذن يوقظ النواحي الغائبة والمظلمة للعالم، يكشف عن اجزائه الخفية ويضيء ليله. بقول الكاتب الفرنسي موريس بلانشو: «الكتابة هي الاستسلام لفتنة غياب الزمن». وشعر شاوول ليس إلا استسلاماً لذاك الغياب «الذي يضيء بلا رحمة». انه الغياب الذي يجعل الجسد مفتقداً حواسه والكلام: «في الغرفة لا يكشف الجسد مداه/ يعوزه هواء وحواس او ان يستبقيه كلام». والغائب هو ذاك التي يعجز عن ان يميز بين «ان يفتح يديه ويرى نافذة». انها فتنة الغياب التي تجعل الغياب «تكراراً لما لم يكن» كما يقول الشاعر. واذا استطاع الغياب ان يوجد ما لم يوجد فلأنه الحقيقة القائمة على النفي. يقف «الغائب» امام المرآة ليسأل: «كيف تتسع المرأة/ لكل هذا الإمحاء». المرأة دليل على الغائب وغيابه اذ انها قادرة على جعل اللحظة الراهنة لحظة غير زمنية ولحظة المكان لحظة لامكانية.
بل ان الغياب الذي يحياه الكائن داخلياً يجعل «الأنا» آخر (على تعبير رامبو الشهير) والمخاطب غائباً والمتكلم مخاطباً. وعرف شاوول كيف يوظف تجربة الضمائر المتراوحة حضورا وغيابا فإذا هو يخاطب نفسه حيناً مخاطبته للآخر، وحيناً مخاطبة للغائب، وحيناً يدع «الأنا» تقول صمته: «حملوني» يقول الشاعر مضيفاً: «جرحي قادهم في حطام الهواء». ويقول أيضاً: «في م تحدّق عيناك؟»، مضيفاً: «خطى من كسور ان تفتح ظلمة وتنساها امامك». ويقول: «لون واحد لا يراه»، ويضيف: «سريره يحفظ رائحته الأخيرة». ليس لعبة «الضمائر» مجرد لعبة تركيبية بل هي «كيميائية» وداخلية (بحسب مقولة رامبو «كيميائية الكلمة»)، وليس الانتقال من المخاطب الى الغائب الى المتكلم انتقالاً زمنياً ملموساً بل هو انتقال حلمي وصوفي (في المعنى غير الديني). فالأنا هو والهو انت والأنت انا وهو معاً. هكذا تتخلى الضمائر عن وظيفتها النحوية لتصبح كائناً ملتبس الطبيعة متراوحاً بين حضور وغياب. فالأنا كما يعبّر موريس بلانشو لا تجد نفسها إلا حين تغرق في حياد «الهو».
لا غرابة ان يخيّم جو جنائري على عالم القصيدة. فالماضي الذي يسترجعه الشاعر مدعاة للرثاء. الماضي لحظة ولّت من غير رجعة ولم يبق منها سوى التماعها في الذاكرة والوجدان. ويتجلى الجو الجنائري من خلال المعجم الذي يؤلف جزءاً كبيراً من عالم القصيدة ومشهديتها، وهو معجم يجاهر بطابعه الجنائزي: «الموتى يبحثون عن جروحهم»، يقول الشاعر: «الموتى يهمسون اعمارهم عليك ويبردون»، «الموتى يتسامرون في الحديقة وتسمعهم».
وفي وطأة الموت الذي يحل كذكرى في الحاضر يستعيد الشاعر ملامح من ماضيه. لكنها استعادة صورية تقطع الذكريات والأحلام. فالماضي ليس إلا سلسلة صور وهمية وحقيقية تختصر مراحل مختلفة من زمن مهدد بغيابه (لم تعد الاشياء كما تركتها، يقول الشاعر). ولعل الصورة الأنقى من ذاك الماضي البعيد هي صورة الطفل «الذي ذهب ولم يعد». يعيد الشاعر صوغ الزمن الطفولي من خلال المكان الطفولي، فإذا الماضي (الأول) مشهد يتردد في الذاكرة عبر تردد عناصره وأشيائه، كأن يقول الشاعر: «شجرة كينا تلمع من طفولتي وتذوب في الهواء». لكن الطفولة ليست مثاراً للنسيان واسترجاعاً للبراءة المفقودة فقط، بل هي ذكرى أليمة قادرة على دمج الماضي والحاضر دمجاً مأسوياً، فالطفل الذي يتذكره الشاعر انما «من دمعة مرآته» أو هو» يتسلق شجرة باسقة من الهواء» وكلما تسلقها «سقطت اوراقها من عينيه». لكنّ ذاك الطفل «كانت يداه تنفخان غيوماً في السماء لتتبعاها». انه طفل «البيت المتروك هناك، بيت الأمس».
إلا ان الماضي لا تصنعه الطفولة فقط بل المرأة ايضاً والحرب وكلتاهما (المرأة والحرب) قطبان اساسيان في تجربته الشعرية. واذا طغت الحرب سابقاً على كتابه «بوصلة الدم» فإنها هنا تحضر حضوراً طيفياً اي كجزء من سيرة ناقصة. وتتردد اصداء الحرب عبر مفردات وعبارات ليست غريبة عن عالم الشاعر (بوصلة الدم) كالمدن المحروقة والجموع و«الأحصنة المذبوحة التي تتدحرج من اعالي صهيلها» و«المحاربون الذين يحتضرون في بداياتهم». انها الحرب كذكرى، كذكرى وفعل مأسويين لم يتركا إلا جروحاً وحروقاً في الجسد والهواء. أما المرأة فلا تبدو غريبة عن السيرة الذاتية التي يكتبها الشاعر ماحياً تفاصيلها. انها امرأة غائبة بدورها، لا تحضر إلا بمقدار ما يتيح لها غيابها ان تحضر، تختصرها علامات قليلة ليست سوى رجع حسّي وروحي لآثارها المحفورة في الذاكرة والجسد والعين. يخاطبها الشاعر مخاطبته لإمرأة رحلت، لامرأة اضحت طيفاً آسراً: «أحصيت ايامك وانت تحدّقين في الباب» يقول الشاعر انها امرأة ثانية «في هواء الصفصافة». تبتسم في العتمة «كما تفتح نافذة بعيدة» ويزداد «دمعها دمعاً». انها جزء من الماضي، من الحاضر المسكون بالماضي. لكنها لن تكون «المستقبل» كما يعبّر الشاعر الفرنسي بول ايلوار إلا مقدار ما يكون المستقبل صنو ماضيها.
يولي بول شاوول لغته اعتناء كبيراً ويغرب في بلورتها وتهذيبها تهذيباً شعرياً، باحثاً عن جوهرها الغائب وسحرها الداخلي. فالشعر بحسب رؤيته، لا ينهض إلا عبر حالات الصفاء والشفافية. والقصيدة لا تقوم إلا على الاختزال والكثافة في المعنى اللغوي والداخلي.وهكذا تتخلص قصيدة شاوول من زوائد الكلام واغراءات الفصاحة وتختصر نسيجها محافظة على افعالها الداخلية. ويركز الشاعر على الصورة الشعرية اكثر مما يركز على الصورة البلاغية. فالصورة الشعرية ذات خلفية «كيميائية» (رامبو)، وغالباً ما تنجم عن «العمل الصافي للمخيلة المطلقة» (كما يعبّر الشاعر الفرنسي ريفردي) وعلى التئام الأضداد. هكذا تحمل الصورة لدى شاوول دلالات كثيرة لأنها تختصر الأوجه البلاغية (كالإستعارة والتشبيه والمجاز المرسل…) في نسيج داخلي متحرر من حدود التصنيف. والصور الشعرية تتوالى توالياً ملحوظاً، كأنها، كالإيقاعات الداخلية، خاضعة لسياق بنائي متناسق: «أشجار تثرثر بمياههم السابقة»، يقول الشاعر أو: «تتمدد شبيه انفاسك/ شبيه ان يتكرر الجدار عليك/ شبيه ان تفتح يديك/ وتتكرر» او: «خطى من كسور ان تفتح ظلمة وتنساها امامك» او: «امشي بصوت منخفض منذ عدة اشجار»، او «دمعه يسبق عينيه حتى الصباح».
تلتئم الأضداد والثنائيات في قصيدة «أوراق الغائب»، ويغيب الحاضر في الماضي ويأخذ الواحد صفة الكل (دمعة واحدة لا تحصى على وجهه) والكل صفة الجزء (تكمّل الدمعة وجهاً نسيته) ويصبح الصمت جسد الكلام والكلام شاهداً على الغياب.
يختصر كتاب «أوراق الغائب» عالم بول شاوول الشعري الذي دأب منذ سنوات طويلة على بلورته، ويختزل أسئلته ولغته ويجسد تحولاته العميقة، هذه التحولات التي وسمت شاعرا وجيلا في آن واحد.
نصوص بول شاوول
المسرحية
عبيدو باشا
مسرحي وكاتب من لبنان
لا حبك مؤامرات ولا دسائس ولا خيانات في نصوص بول شاوول المسرحية. لا نواميس ولا طرائق بالكتابة، وهي تخوض بروحها الخاصة بالقتل والعهر، القتل السياسي والعهر السياسي. القتل الاجتماعي والعهر الاجتماعي. لا تتمحور مسرحياته، بالهمس، حول ذلك. آلياته الفنية، تشير إلى الإضطرابات والصراعات في ذوات الآخرين، بكتابة المسرحي تجربته الشخصية المؤثرة على ألسنة الأبطال الآخرين. الثابت أن شاوول يقتصد حضور الشخصيات على منصات مسرحياته المتخيلة. لا تقوده الأزمة الاقتصادية إلى ذلك. لا تقوده أعراض التجسيد أو التصوير . تقوده العوامل التاريخية والثقافية باتجاه الإقتصاد على صعيد حضور الشخصيات على الورق، بانتظار صعودها علو الأساليب المسرحية المتنوعة. يقوده الشعر إلى الإقتصاد. يقوده التكثيف بالشعر إلى الاقتصاد. لأن كتابة الكتابة عند الشاعر والمسرحي، كتابة أخرى. لا تعني كتابة الكتابة، إلا الكتابة على الكتابة. يسمى ذلك بالكتابة الثانية أو الثالثة. وهكذا. هكذا، يشعرن الوعي ، وعي الشاعر الجمالي ، دائماً. لا يمكر الشاعر هنا، حين لا يمارس الحرام بالمسرح، إذ يعقب على الأحداث بصوت واحد على لسانيين. الكل واحد في نصوص بول شاوول المسرحية. « الزائر» و«فناص ياقناص» و«صارت الساعة خمسة» و«الزائر». لا ينقص هذا من قوة الدراما بالنصوص الشاوولية، ذلك أنها موجودة، إذا ما احتسبت الدراما في كثرة الأشخاص، في نصوص غير معروفة. الأبرز «مسرحية عربية». كتبها على أن تقدمها مجموعة من الممثلين العرب، بإخراج فؤاد الشطي، غير أن اجتياح العراق للكويت، ما لبث أن أطاح المشروع.
بنصوصه تداخلات وتعشقات جمة بينها وبين الشعر. بالشعر مسرح وبالمسرح شعر. ثقافة تشجع على خلق ضد الادعاء والمسمية والتشويه. لا متاع فحولة هنا. إنها ترسيمات نصوص الأسفار الخاصة بالشاعر. ليست صعبة ملاحظة النسق في نصوص بول شاوول المسرحية. ليست صعبة ملاحظة النسق في نصوص بول شاوول الشعرية. « أحياناً تسقط/ لأنك/ تختار مكاناً تسقط فيه/ أحياناً لا تسقط / لأنك لا تجد مكاناً تسقط فيه( وجه يسقط ولا يصل). لا افلات ولا مطالعة. لا انفلات ولا مطالعة. تخلق نصي، باحتمالات كثيرة. احتمالات التصوير والتشكيل والمسرحة والإيماء . الشعر في باب أول. ثم ، يأتي ما يأتي بدون اجترار، ما دامت الترددات والتردادات اللغوية، تعيد تقديم الأنموذج الحي ، على التأكيد والعبث. لأن نصوص بول شاوول، نصوص برلمان الناس، الضائعين، الحائرين ، المهددين، المياومين بالخوف والقلق، الجزعين أمام التبدلات العنيفة في خرائط العالم الممهورة بالمفاجآت العظيمة. يكرر المسرحي، لكي يؤكد. هذا أولاً. ثانياً، يقوم التكرار على محور العبث. ذلك أن التكرار مشغل العبث الأثير، كما هو لدى بيكت ويونيسكو بالتحديد.
بول شاوول بيكتي الهوى (ترجم له بانتظار غودو) . لا يخفي الرجل ذلك، حين يكتب نصوصه بإحساسه، من نقطة القمة في نصوص بيكت. كاتب نصوص البياض في المسرح، حيث توصل إلى كتابة نصوصه الأخيرة بالإشارات والملاحظات الخاصة بالإخراج. مسرحي بياض، يقابله شاعر بياض يكتب للمسرح. الطيب، عند بول شاوول ، أنه كلما كتب نصاً، أقنع نفسه، بأن أجمل النصوص، هي النصوص غير المكتوبة. نصوص لم تكتب بعد. ثم أنه يكتب بالممحاة بالكثير من الأوقات. بالزائر (رياض نجيب الريس) ، ما يتكرر دائماً في نصوصه. «انتبه دائماً إلى ما وراء كلامك». ماوراء الكلام يمحو الكلام. يمحو صناعة الكلام. إشارة أخرى، إلى حضور الصمت، حتى في لحظات الكلام. لا تقترب نصوص الشاعر اللبناني في المسرح إلا من نصوص المسارح الطليعية. يذكر يكتاباته، أن البوصلة لا تقود إلى المسارح الكبرى والمسارح العامة، تقود بالضرورة إلى مسارح الجيب. مسارح صغيرة خاصة بالنصوص الطائرة فوق فضاءات اللامعقول والعبث والطليعة. لا تمتلك النصوص، سوى تجريب علاقتها بتلك الأجسام الجديدة (نصوص العبث) في ستينيات القرن العشرين. تمحضها عمراً أبيض آخر، بكتابة، أقرب إلى الصك من الكتابة.
لا تواكب نصوص بول شاوول نصوص مسرح العبث أو اللامعقول فقط، إذ تجد فيها نهراً من العروق المتفجرة ، بحضوراتها السرية والعلنية. عندها، يفتح عيون نصوصه على التجديد. تجدد نصوص بول شاوول في النصوص القديمة، باتجاه ما بعد حداثوي. لا يمزج بين الشعر والمسرح، لأنه يداخل بينهما، بدون اختصار مسافات. حيث يقيم الشعر في المسرح ويقيم المسرح في الشعر. هكذا يوقد نصوصه. يوقد النص المسرحي بروح الشعر ، بلعبة مرايا متعاكسة. تذهب التجربة ، هنا، إلى حد تدمير المركز والمرجعيات. ثمة مرجعية غائمة في نصوص بول شاوول، غير إنها ليست مركزية. لذا، لا يستطيع الناقد تحديد نصوصه في مرجعية أو مساحة أو إطار ، لأنها تجمع بين الأصالة والذاتية القصوى والإستقلال. بأعماله، روح البنيوية والسريالية والرمزية والدادية والتعبيرية، من غير انتساب إلى واحد من المناهج هذه. نصه خاص. نص صعب، مغلق على القراءات الإبداعية بالكثير من الأحيان. نص يشبه كاتبه. نص ثقافة في المسرح، نص ثقافي، نص ثقافوي في لحظات المبارزة الثقافية في الكتابة الخاصة على غير هدى الآخرين، الماثلين بنصوصهم فوق مشاجب التجربة المسرحية في لبنان والعالم العربي.
الحلبة أنموذج ساطع، على كتابة نص، مبدع ، شامل ، يقدم معطيات متعددة ومتنوعة لرؤية الفنان لفنه، القائمة على رفض التيمات والقوالب والأنساق الجاهزة، لبرمجات العمل الفني. الأبرز ، رفض الإحتراف المهني في كتابة النص المسرحي، لأن الحرفة في الكتابة عند بول شاوول، حرفة كتابة الشعر لا كتابة المسرح. ما يمنح تجربة الكتابة في المسرح لحظاتها الخاطفة الواقفة دائماً على شفا الفجيعة. قوة النص، لا من حرفته، من أدبيته. أدبية ضد الإنشاء لا الأدب. لأن الأدب في «الحلبة» أدب كتابة المشهد بالتجريب البصري، ما يدفع النص إلى أن يقترح العمل على روحه الإقتصادية، بسينوغرافيا، أشبه برسم المشاهد على القماش. هكذا، قاد فؤاد نعيم زوجته الممثلة نضال الأشقر ورفيق علي أحمد ، إلى ممارسة الأناقة باللعب بالمسرحية الفاضحة والمعرية الأحوال والهزائم اللبنانية تحت شموسها، المشعلة المشاهد بالأسئلة لا بالإستنتاجات. يختزل كل شيء في نصوص بول شاوول، يختزل النص النص، غير أنه لا يختصر حضور الجمهور، بغير المعنى المقولب للكلمة. لأن الجمهور معجزة نص بول شاوول. جمهور صوت أوصوتين، بحضور قامات منكسة، كما في « الحلبة» مع الشخصيات الأربع بوجوهها المخفية بالفتك. سوف يردنا هذا إلى شعره. « كيف نفتك بالوجوه الساكنة خلف الأقنعة». لا يستعرض شعره في نصوصه المسرحية، إذ تنوجد الأولى كمرجع لا يستغنى عنه. جملة من قصيدة تختصر حضور أربع شخصيات مقنعة في مسرحية (لعبت المسرحية في قبرص أولاً ، ثم على خشبة مسرح الجان دارك، وسط الأحداث الكبرى في تاريخ لبنان الحديث. توقفت عروضها في سعير «حرب التحرير» والإنقلاب على ميشال عون في القصر الجمهوري ببعبدا).
شخصيتان، دائماً شخصيتان. الباقي، لزوم ما يلزم. لا أكثر ولا أقل. يتكرر الأمر دائماً، كدقات الساعة. شيء يتكرر في الوقت ولا يكررالوقت. إنها الساعة المعلقة على الجدار والحائط. إنها نصوص بول شاوول المعلقة على الوقت والأزمنة المبحوحة بالتراب. « فناص ياقناص» لا تحوي إلا على القدر القليل من الدراما. نص بول شاوول ضد الدراما. هذا ، موقف ثقافي أيضاً، متأتٍ من متابعة وتجربة. ذلك أن شاوول ساهم بكتابة الكثير من السيناريوهات التلفزيونية والسينمائية. أرفعها. كتب حوار فيلم « بيروت يا بيروت « لمارون بغدادي و«السنوات الضائعة» ، واحدة من أجمل الدرامات التلفزيونية بتاريخ الإنتاج العربي ، بإخراج الناقد والمخرج التلفزيوني المصري، المقيم في لبنان ، سمير نصري. كل الشخصيات شخصية واحدة. لا يخون القناص مهنته بالنص المسرحي، يخون انسانيته. لا يقنص على العابر أو على الماشي على السطح بالمقابل، يقنص المدينة، يقنص روح المدينة، جوهر حضور المدينة في التاريخ والأدب والثقافة. القنص لعنة غامضة، تشعل القبائلية في المدينة ضد روح الحضر ، ضد الروح الحضرية. متن النص، متن دادائي عند شاوول. جوهر كتابته دادائي. حيث لا يطرح بديلاً، لا يريد بديلاً ، إذ يسير إلى تدمير كل ما هو سائد ومتعارف عليه من مقولات وانماط ومفاهيم ، أمام الوجود الإنساني. تلك رغبة الكاتب بنصوصه، المشغولة بالنمنمة. بالزائر، يجري حديث بين أنيس وحليم. حليم: زوجة أحد أقربائي أدخلت الشريط الكهربائي في أذن زوجها وهو نائم. / حليم: هاملت حديث/ انيس: فتكهرب ومات. / حليم: أضاء قبل أن يموت / أنيس: أو بعد أن مات / حليم: عليك أن تجد حلاً، لا بد من حل حل، هل فكرت بحل». التكرار تأكيد، يطّيف التأكيد بصالح النمنمنة. طلب الحل ابتعاد عن الحل. بالصفحة الأربعين، مقطع آخر يؤكد قلة الحرج من التكرار، لأنه في موقع أو موضع وظيفي. يستفتي حضور العبث، ويبني الإيقاع على العبارة. لن يؤدي ذلك إلا إلى المفزع والبشع، إلى مقطع من الحياة اليومية. هذه من مفردات بول شاوول الإيقاعي، العارف بأن لا شيء خارج الإيقاع. يبني الإيقاع حضوره على استدراج الحدث( الشنق) في « الزائر» ، على التناص المشهدي في « فناص يا قناص» ، على التقابل في الحلبة، على الشهادة في «صارت الساعة خمسة».
لا يهاب بول شاوول شيئاً في كتابة نصوصه. يعيرها شخصيته. يعيرها حركته. حركة من حركة، حركات من حركة على حركة. يجزىء الواقع، لكي يضحي الواقع ضد الواقعية. يبدأ الواقع كجزء أساسي بالعمل، ثم لا يلبث العبث أن يحقق انتصاره الباهر عليه، بأدوات الواقع نفسها. الشعر من الواقع.(الدم سر صاحبه/ الزائر). ما لا يدع أي مجال للشك. أنيس: قرأت مقالاً يقول أن تكسير الأشياء يخفي رغبة بالإنتحار. / حليم: الإنتحار؟ الإنتحار ؟ ومن يتحدث عن الإنتحار؟ / أنيس : أو القتل./ حليم: من يتحدث عن القتل(…). أثناء حلاقة ذقنك ترى فجأة رقبتك، وفجأة تحسها لشخص آخر، أو لكائن آخر. تراها فجأة تبص في المرآة. ترفع الشفرة. تمرر أصبعها عليك. على لمعانها. على طول نصلها. هكذا برفق. ترفعها إلى حدود عينيك. فنزولاً إلى فمك، فإلى رقبتك. ترى كل شيء من خلالها. وتدرك مدى جمالها. ربما عندها بالذات تخاف من الأفعال الهامشية. « سمة تطبيقية، تبني الأشياء على نبذ المبادئ والأنظمة التقليدية والمصطلحات الفنية السلفية. مصطلحات لا ضرورة لها في نصوص شاوول. لأن المصطلح هو النص الكامل هنا، لا المصطلح في الجملة. يتواصل الكلام حتى يلتحم إلى حد الذوبان، بالفضاء العام للمسرحية أو النص المسرحي. يلغي شاوول بذلك المسافات. المسافة بين المسرح والحياة، بين المسرح والناس ، بين المسرح وكل الشرعيات المضادة للمسرح. تحتل الروح الساتيرية نصرص المسرحي والشاعر، لا من حضور الرقص الغرائبي ولا الغناء. من تبادل النكات. التنكيت، جوقة بول شاوول الأثيرة في المسرح والحياة. نوع من الكوميديا الخاصة. لن تلزم النصوص الشاوولية الجمهور بالجلوس. لن تقدم له متعاً ترفيهية صغرى، حتى في اللمحات الكوميدية. لا مكتسبات صغيرة في نصوص بول شاوول. المسرح في النص. إما المسرح إو لا شيء. هذه معادلة النص عند الكاتب، المقل بالكتابة. لأن كتابته لا تقوم على الملاحظات العادية. ولا على تقليدها. سوف يلاحظ ذلك، كل من يعرف الكاتب. إذ أنه موّلد الملاحظة لا ناقلها. لا حركة اصلاح كبرى، إذ يداخل الكاتب بين الحياة والكتابة.كتابته وحياته. هكذا يحضر شكر الله الجر في الحياة والكتابة. هكذا تحضر جلسات شاوول مع الأصدقاء في مسرحه. مروياته العادية، يمسرحهاشاوول بنصوصه. من شخصية إلى حركة إلى نسيج، من وضعيات وقضايا منفرجة على التحقيق. فكر وذاكرة. مسرح خارج العلبة وفي العلبة بآن. مسرح غير مسطح في الحالين. مسرح نحت باللغة، إذا ما دورنا الكلام على الفنون التشكيلية.
خصوصية نصوص بول شاوول من خصوصيته الشخصية. هذه سحرها. سحرها من قدر كاتبها. لا يقيم النص حضوره على مفاهيم الفرجة المسرحية. يترك الأخيرة للمخرجين. يترك الفرجة لأصحاب الفرجة. النصوص مهواة بالفراغات. لا شيء إلا بعض الملاحظات. عندها، يرتفع النص بعناصره الطازجة على طزاجة الإخراج، لا على المصوغ المصطنع. لا على الصنيعة، بل على الرؤية. الأساس، هنا، المصوغات التعبيرية المتوازية. واقع كامل ، وهم كامل ، خيال كامل، بنصوص بول شاوول، القائم على اشكال العلاقات المدينية، على المدينة، لا على أطرافها. مسرح منفلت من التقانين المسرحية. مسرح بين حربين، بنصوص حياة كاملة مختزلة بسيرة شخصين أو شخص أو طيف على هيئة شخص أو تجلٍ شعري، لا يقوم في مقام الإله. نص شاوول، نص يقترب من دون قصد من الهابننغ. ما يقوم على مواقف لا تتكرر مرتين، بشيء يشبه التلقائية بالمجتمعات الغنية بالمعاني. احتفال الثقافة بنفسها في نصوص الكاتب. نصوص ضد الفودفيل وروح المنوعات والثقافات الشعبية. لا احتفاء بالترفيه. خلق بالخيال الإجتماعي، بالخيال الثقافي، يضمن مهمة العرض الأساسية. نصوص متمردة، تريد التمهيد لجديد، يحتاج إلى كتابة نصوص على نصوص، حتى تصيب النصوص مفاهيم التأسيس ومعانيها. نصوص محمومة بالعبث. صحيح. غير أنه لا عبث بيكت ولا آرابال ولا آداموف ولا يونسكو ولا شحادة. العبث عبث نفسه، عبث بول شاوول.
بول شاوول:
أفق آخر للكتابة الشعرية
جسد صارخ في برية العشق
مفيد نجم
ناقد وكاتب من سوريّة
يكتسب النص الشعري عند بول شاوول حداثته، من خلال مجموعة من العلامات الجديدة، التي تنشأ عن العلاقات الجديدة التي تقيمها اللغة فيما بينها، على مستوى الدوال والمدلولات والتشكيل النابع من رؤية مختلفة، تؤسس لعقد جديد مع الكتابة الشعرية ومغامرتها الحداثية، التي تنفتح على أفق التجريب والبحث عن جماليات جديدة، مستفيدة في ذلك من أشكال الكتابة الأخرى التي تقيم تناصها معها، على مستوى تقنيات ووسائل التعبير فيها، وفي المقدمة منها تقنية السرد، التي تغدو علامة فارقة عابرة لحدود التجنيس الأدبي، إلى جانب علامات أخرى تظهر من خلال تداخل الأصوات والضمائر وتعدد مستويات اللغة في المعجم الشعري ومرجعياتها، التي يترحل معها وعي الذات الشعرية في فضاءات التخييل، وذاكرة الكتابة العشقية والإيروتيكية التي تحفر فيها، وتعيد بناءها على مستوى أعلى، في إطار مغامرة الكتابة وجمالياتها على المستوى الوجودي الإنساني، وأسئلته الغائرة في عمق هذا الوعي الإنساني.
وإذا كان من الصعب تناول تجربة غنية ومركبة كتجربة بول شاوول، عمرها يتجاوز الأربعين عاما في مقال نقدي، مهما حاولنا التكثيف والإيجاز، فإن التوقف مع تجربته في ديوانه كشهر طويل من العشق، يمكن أن يساعدنا في الكشف عن جانب مهم من استراتيجية الكتابة الشعرية وتحولاتها، في مغامرة شعرية تنفتح على أسئلة الذات الوجودية وقلقها ووعيها المعذب، في أكثر حالاتها استبطانا لها، وتكثيفا لمعناها بوصفها محاولة اندغام بين جسدين يجعلان من العشق وسيلتهما للتعالي على شرطهما الوجودي، وفي الآن نفسه للتعبير عن يقين ضائع يبحث عن معادله الوجودي الضائع في مغامرة محكومة بشعور باهظ بالزمن.
يشكل عنوان الديوان بوصفه جماع الوحدة الدلالية الكبرى لنصوص الديوان مفتاحا تأويليا، ينهض بوظيفة الربط بين المتلقي ونصوص العمل، وذلك من خلال بنيته الدلالية والنحوية، التي تتضمن حذفا يؤدي إلى الغموض بسبب عدم اكتمال المعنى في بنية العنوان، التي تتألف من شبه جملة( كشهر طويل من العشق) إذ يتم حذف المشبه في هذه الجملة، والإبقاء على المشبه به، مقترنا بأداة التشبيه التي تحيل بدورها دون أن تصرّح به. تتجاوز الكتابة الجديدة لهذه النصوص في مقترحها النصي بنية النص وعلاقات الانزياح التي يقيمها على مستويات عديدة، إلى أفق الكتابة أو المكان الطباعي، من حيث شكل الكتابة التي تتزاحم فيها المساحات السوداء للكلمات، على حساب مساحات الهامش الأبيض الذي يتقلص كثيرا، للدلالة على كثافة حالة الشعور بتلك التجربة، وسطوة حضورها من جهة، ومن جهة أخرى لكي تقيم تعالقها مع الكتابة النثرية ملغية الحدود بينها وبين الكتابة النثرية، التي يتدعم حضورها الفاعل على مستوى تقنيات الكتابة وأدواتها التعبيرية، من خلال استخدام السرد والمنولوج والتسطير والاستطراد واستخدام أحرف الربط أو إسقاطها عن عملية الربط بين الجمل . في هذه النصوص المفردة لتجربة العشق ينهض الجسد كبؤرة تتكثف فيها ومعها معاني اللذة والعدم، التألق والحسرة، كأن هذا العشق يمتد كوتر مشدود بقوة بين طرفي قوس هذه المعادلة الشاقة لوجود محكوم بالقدر، لا يستطيع العشق أن يحرر وعي الذات الشقي من سطوة حضوره. التناص الذي تقيمه الكتابة الشعرية مع شكل الكتابة النثرية وأدواتها، يتسع من المبنى إلى المعنى، حيث تقيم التجربة تناصها مع تراث العشق والأدب الإيروتيكي في مدونات السرد والنثر العربية القديمة، وهو ما يمكن أن يلحظه المتلقي في تنوع وتعدد مستويات مفردات المعجم الشعري في نصوص هذا الديوان، التي تتوزع على أربعة مستويات( ألفاظ حديثة وقديمة، عامية مستعارة وأجنبية) في محاولة لاختراق طبقات معجم العشق الثري والعابر للغات والثقافات الأخرى، بهدف إقامة حوار جامع بين خطابات العشق في هذه النصوص ونصوص العشق الأخرى، بحيث تتحول الكتابة إلى حفر في ذاكرة العشق وتاريخه ومعانيه، بوصفه المحيط الذي تصب فيه كل الأنهار.
تتنوع تقنيات الكتابة في نصوص هذا العمل، بحيث تمنح بنيتها ملامح خاصة، تعكس هاجس التجريب والتجديد، كما في آخر قصيدتين من قصائد الديوان، يقوم بناؤهما على استخدام تقنية الحوار الدرامي الذي يحاول الشاعر من خلالها تجاوز أحادية الصوت أو ضمير المتكلم المفرد في القصيدة، الذي يهيمن عادة على الخطاب الشعري، بصورة ينتقل فيها الخطاب من مستوى ارتباطه الوثيق بضمير المتكلم إلى مستوى تعدد الأصوات. كذلك تتميز بنية الخطاب الشعري بالاستطراد، الذي يتم معه حذف أدوات الربط كواو العطف، إلى جانب استخدام صيغة التراكم المركب الذي تطغى فيه مفردة الجسد أو ما يحيل إليها، إلى جانب الحشد التراتبي الذي يشتمل على تفصيل الإجمال، واستطراد التداعي والتفسير، كما في قوله:
إذ ما الذي يسود هذا الفضاء الخالي
والبدنين خِرْقتي زمن بائر
ومشتقات الأشياء ذات السطوة، والهواء المتبلد، بعد البدد
مغادرة الحواس شفقها الملتهب.
ومن الملامح الأسلوبية الأخرى التي تهيمن على نصوص العمل استخدام النبر أو التضعيف، الذي يهدف إلى زيادة في المبنى ولفت نظر المتلقي إلى الكلمة، إلى جانب الاستخدام المكثف للتكرار الناقص الذي يأتي في وسط الكلام، بوصفه أداة للتعبير عن كثافة حضور الحالة الشعورية به عند الشاعر، إلى جانب وظيفته في تعميق شعور المتلقي به، وتحقيق أهداف إيقاعية ونصية:
تقبلين علّي كشهر طويل من العشق
كشهر طويل من العشاق
أنهدم عليك شهرا طويلا من العشق.
في هذا المقطع يلاحظ التقابل على مستوى صيغة الأفعال المضارعة، التي يحقق تكرار استخدامها نموا في فضاء القصيدة وزمنها. لكن ثمة دلالتين مختلفين يحملهما معنى الفعل الأول، الدال على ضمير المؤنث الغائب( تقبلين)، الذي يقابله الفعل الدال على ضمير المتكلم في السطر الثالث( أنهدم عليك)بحيث توحي صيغة الأفعال بطبيعة العلاقة، التي تحكم وضع كل منهما داخل هذا الفضاء العشقي، وهو وضع يدل على التباين والاختلاف. في ضوء هذه الخصائص المميزة للقول وما يسعى للإيحاء به، لكي يدخل المتلقي كطرف في هذه العلاقة، فإن تجربة هذا الديون تتطلب قراءتها سيمولوجيا ونحويا وأسلوبيا، لكي يستطيع الدارس الكشف عن خصوصية القول، والوقوف على بنيتها الاستعارية والخطابية، التي يكثر فيها استخدام الضمائر المتصلة للدلالة على الاتصال والحميمية في علاقة العشق، التي توحد بينها، في جدل الذات والآخر/ المؤنث، وجدل الجنس والموت في هذه التجربة الأنطولوجية، المحكومة بهما( اهتزك، أضمك إليَّ، تكاثرينني وأكاثرك..). تهيمن ثيمة الجسد وسيرورته على المشهد الشعري سواء من خلال استنطاقه، أو الحوار معه، أو استظهار علاماته الأيقونية أو الكتابة به ومعه بلغة يتداخل فيها المعنوي والحسي، الوجودي الإنساني والذاتي بحالاته ومتغيراته المحكومة بحس موجع بمحدوديته وبسؤال الوجود المعذب:
هكذا ومن ذلك النشيد الخالص
عدم اللذاذات وما تخليه نثارا
في مفازات الوقت المعروق.
…….
ما الذي يتكهّنه الجسد في تماساته وانفصالاته، أو يستمليه آن شلوا
نابضا، وغيابا مسلولا من حضور كثيف.
تمتد هذه الثنائية المتقابلة المحكومة بجدل العلاقة إلى ثنائية الحضور والغياب، كعلامتين دالتين على طبيعة التجربة الوجودية للكائن الإنساني، بوصفها تجربة محكومة بالنقصان. وإذا كان ضمير المتكلم هو الضمير المهيمن على الخطاب، فإن ضمير المخاطب يتوزع على أكثر من ضمير، هما ضمير المؤنث المخاطب، وضمير الأنا الأخرى في تشظي الذات وانقسامها على ذاتها في حوار الذات مع نفسها، بهدف استبطان معاني هذه التجربة وتكثيف أسئلتها التي يحاول شاوول من خلالها أن يتلمس حدود الوجود والعدم، وهو يروم جغرافية الجسد المشحون باللذات في أكثر لحظاته شبقا واندفاعا، بينما يحتفي الجسد الآخر ببهاء اللحظة التي تمتد باتساعها، وتنغلق على وجودهما الطافح بالرغبة:
وعندها كأنْ أصابني شميم الهضبة، أو هزهزك تململ الطبائع الخفية
تعدّين- كمن يغلق بواباته كلها- سنوات من الليل المبلول.
تتباين أشكال الكتابة بين نص وآخر في هذا الديوان، كما في قصيدة الديوان الثانية نساء التي تتقلص فيها مساحة السواد لتتسع مساحة الهامش الأبيض، في حين أن استخدام الشاعر للترقيم، والذي يحمل دلالة كمية لا يحول دون وحدة النص، الذي يستخدم الشاعر في مفتتح كل مقطع من مقاطع القصيدة صيغة جمع المؤنث السالم ونون النسوة، باعتباره محاولة لتكثيف حضور صورة الجسد المؤنث في تحولاته وحالاته المختلفة، التي تتوزع بين توهجه وخريفه، وحسرته وأسراره. ولا تختلف قصيدة أحوال الجسد التي يشكل عنوانها محورا دلاليا يظل النص يدور حوله عن النصوص الأخرى، من حيث استحضار كثافة الحضور الطاغي للجسدين في لحظة اندماجهما وتشتتهما، أو في لحظة وعيهما الوجودي الحزين، كما يتجلى في تبدد الزمن وبرودة الظلال التي ترخيها عليهما شموس هذا العالم الحزين، والمفتوح على الغياب والوحشة والعزلة:
– كنت أمامي كليلة سابقة
– لكنك حضنتني وكدت تبكي
– لم يغلق أحد الأبواب خلفنا.
تتجلى حداثة النص الشعري على مستوى بنيته الاستعارية، في محاولة تحرير العلاقات القائمة بين الحواس والأشياء من منطقية العلاقة ومرجعيتها الحسية بصورة تغدو فيه لغة الاستعارة لغة جديدة داخل اللغة، ليس بهدف خلف شعور بالغرابة وحسب، بل لإعادة بناء صورة الأشياء والعالم على نحو مغاير للمألوف. هنا يلعب التخييل الشعري دوره الكبير في عملية البناء الجديدة للغة والصورة الشعرية أو المشهدية الشعرية، التي نجدها في نصوص الديوان محكومة بانزياحات متعددة، في مقدمتها انزياح المعاني أو الصفات عن الموصوف، وانزياح الصمت الدال على الانقطاع في الكلام( غبار يغسل اليدين- عتمة واحدة عارية تشرق من كل الجهات- شموس ترخي بظلالها- كيف تبرق الأوراق بخريفها- سماء تتنفس بصيص نيازك..).