بشرى خلفان
قاصّة وروائية عمانية
لم أفكر يوما بوجود علاقة تضاد بين الكتابة والأمومة، بل دائما ما نظرت إليهما كجهتين، أقف تارة عند واحدة وتارة عند أخرى، أو وكأن الأمومة في حد ذاتها استعارة طبيعية للكتابة، أو ربما العكس، ولا أقصد هنا الاستعارات التي أجدها كلاشيهية جدا، حول ولادة النص والمخاض الكتابي وغيرها، فمن يعرف الأمومة، من جربها حقًا يعرف أن كل هذه الاستعارات قاصرة، عن الأمومة وعن الكتابة معا، بل أقصد تلك التي تعني أنهما فعل الطبيعة في الروح، بينما تحدث الحياة في مسافة المشي بينهما.
في مجتمع عُماني محافظ وكامرأة مسقطية ولدت قبيل بزوغ السبعين، كان الزواج والأمومة بمثابة النموذج الطبيعي للتطور؛ نولد، نلعب، ندخل المدرسة، نصل في لحظة ما إلى مرحلة البلوغ، نصبح مراهقات فيوجعنا قلبنا قليلًا أو كثيرًا، نكمل المرحلة الثانوية أو نتخرج من الجامعة فنتزوج، ثم نصبح أمهات.
بعدها قد نعمل وقد لا نعمل في وظائف عامة، أما أن يكون لنا شغف بشيء آخر، فهذا ما لا يخطر في البال، ذلك أن كلمة شغف لم تحضر في معجمنا حتى وقت متأخر.
هذا هو الملخص المخل لحياة المرأة، لكنه كذلك الملخص الذي يمكن أن نحشر أكثر نساء جيلي المسقطيات في مربعاته بأريحية تامة، بوصفه نموذجًا طبيعيًا لتطور المرأة المعاصرة في عُمان.
هكذا كنت أنا أيضًا، ولهذا ربما وصلت للكتابة متأخرة، حيث سبقت أمومتي كتابتي بكثير، ربما لأن الأمومة في النموذج أعلاه تأتي بشكل عضوي بينما تبقى الكتابة، أقصد احترافها، أمرًا ما بعد وظيفي.
في المرحلتين الإعدادية والثانوية، كنت أكتب خواطري كأي فتاة تجتاز عتبة الطفولة لتدخل إلى عالم محفوف بالأسئلة، وربما كانت مجرد إفراز طبيعي لمرحلة القراءات المغرقة في السذاجة العاطفية، كانت متنفسًا جيدًا.
أفكر أحيانا أنه ورغم ولعي بالقراءة وتدوين اليوميات والخواطر، بل وفوزي مرة بمجلد للطوابع البريدية التذكارية في مسابقة المدرسة حول كتابة مقال حول العيد الوطني، وأظن أني كتبت فيه عن التضاد بين البحر والجبل -الثيمة التي ستظهر بشكل أو بآخر في كتابتي لاحقًا- ثم تنازلت عن مجلد الطوابع بعد سنوات لابن خالي الذي كان يهوى جمع الطوابع، أما خواطري فبقيت دائمًا معي، لكنها ككتابة لم تتطور، فضفضة مراهقة ليس أكثر.
درست لسنوات في جامعة السلطان قابوس، وتخرجت منها بشهادة في الكيمياء العضوية، ولم أكتشف طوال سنين دراستي أن هناك جماعة للأدب، اسمها «الخليل ابن أحمد» نسبة للفراهيدي وأن لها نشاطات داخل الجامعة، أن هناك شعراء بين زملائي وقصاص، فقد كنت مشغولة باكتشافي للعالم خارج البيت وبمكتبة الجامعة، حيث تعرفت على سارتر وكامو وألبيرتو مورافيا، بتبصرهم العميق للوجود والمعنى.
كنت أقرأ وأستمتع، لكن لم يخطر في بالي أن أصبح كاتبة، والآن وعندما أفكر في الأمر يتبين لي أن الطفلة التي فيّ والتي أظن أنها ما زالت موجودة ونشطة جدًا، كانت ترى أن الكتاب مخلوق مستقل وحر ومتحرر تمامًا من كاتبه، لذا لم أكترث لأسماء الكتّاب، أو ربما اكترثت قليلًا وربما أصابني فضول في معرفة شيء عنهم، لكن كان الكاتب بالنسبة لي كائنا بعيدًا، يوجد في كونٍ موازٍ ربما، حيث توجد المكتبات والوراقون والحالمون، وحيث يختبئ الكاتب بين أكوام من الصفحات المطبوعة، مفقودٌ غالبًا، غريبٌ وربما ميتٌ، لكنه بالتأكيد غير موجود.
في مراحل القراءة التأسيسية كانت كل قراءاتي قصصًا وأدبًا أوروبيًا كلاسيكيًا مترجمًا، ينتمي إلى حقب تاريخية سابقة، وعندما قرأت الأدب العربي كان كل الكتّاب الذين اقترحهم أبي عليّ كتّابًا ما عادوا على قيد الحياة؛ المتنبي، المعري، طه حسين، العقاد، المازني، المنفلوطي، جورجي زيدان. كما أني لم أعرف في محيطي أي كاتب أو كاتبة، رغم أنه وللمفارقة كانت الشاعرة العُمانية سعيدة خاطر مديرة مدرستي في الإعدادية ومشرفة الطالبات على دفعتي في الجامعة، إلا أني لم أعرفها بصفتها شاعرة، حتى تخرجت من الجامعة وانضممت لاحقًا إلى أسرة الكاتبات العمانيات في 1995.
عندما جاء أبي لزيارتي في المستشفى بعد ولادة بكري، قلت له وأنا مرهقة، ها أنا ذا قد فعلتها يا أبي، أنهيت دراستي الجامعية، تزوجت، حصلت على وظيفة وأنجبت، فعلت كل ما علي فعله في سنة واحدة، فرد علي وكأنه يطمئنني إلى امتداد فكرة صلاحيتي، لكن هذه أولى الخطوات يا ابنتي.
لا أظن أني اقتنعت بكلامه حينها، فقد كنت أكثر حزنا من أن أرى ذلك.
كان ذلك أواخر عام ١٩٩٣، ولم نكن قد سمعنا بعد باكتئاب ما بعد الولادة، لكننا كنا نعيشه، أستطيع أن أؤكد على الأقل أني عشته، وبالنسبة لي امتد الموضوع منذ نهاية عام ١٩٩٣ حتى كتبت أول نص لي أواخر عام ١٩٩٥ أو ربما بدايات ١٩٩٦، لا أتذكر.
قبل ذلك كان وجعي يخرج على شكل أغانٍ، أغني كلاما في رأسي وأنا أقود سيارتي بشكل انتحاري في طرقات مسقط، ولم أكن أعرف أني كنت أغني للموت والكآبة، رغم أني كنت أعيشهما وبحدّة، أو ربما لهذا السبب تحديدًا.
عندما أفكر الآن، يبدو لي أن ناصر ابني هو من حرك الكتابة بعصا طفولته السحرية، فعندما كبر قليلًا صرت أضعه على كرسيه الخاص بالسيارة، وصرنا نحب الذهاب إلى كل مكان معا -باستثناء المختبر الذي كنت أمارس فيه وظيفة التحليل الكيميائي لعينات المياه- كنا نحب الذهاب إلى بيت الجدة والبحر وحديقة القرم الطبيعية ومحل الورد في فندق الإنتركونتيننتال، وهناك علمته أسماء الزهور: الماري جولد، ملكة الليل، زهر الليمون، الأقحوان، الياسمين، الورد، الريحان، زهر الرمان، لكنه تعلق أكثر ما تعلق بالقرنفل عندما زرعه أبي في حديقة المنزل، وقطف منه ناصر ضمة أخذها إلى جدته.
تعلق ناصر بالقرنفل، وصار يسمي كل الزهور قرنفل، وعندما عرضت عليه أن نذهب للبحر كي نجمع الأصداف، فرح جدًا وقال لي: «سأهديك من البحر قرنفلة»، وهكذا كتبت نصي الأول «قرنفلة البحر»، ولأني كنت عاشقة للسيمفونية التاسعة أتبعته بـ «مقاطع من سيمفونية مهداة إلى بتهوفن»، لا أتذكر ما الذي كتبته فيها، ولا أعرف مدى حقيقة علاقتها بناصر، لكني أعرف أنها كانت نتاجًا طبيعيًا للضياع في عالم يكشف عن نفسه بشكل مباغت.
في تلك المرحلة تشعبت قراءاتي، فراوحت بين الأدب والتاريخ وعلم النفس ثم تمددت قليلا فتوسع نطاق اهتمامي إلى السياسة. كنت أكتب، مع ذلك لم أكن كاتبة، على الأقل لم أعرفني كذلك، حتى بعد أن نشرت نصوصي القصصية الأولى في الصحف المحلية: صرصار وتيه واثنين مبارك جدًا، وربما حتى بعد نشري لمجموعتي القصصية الأولى «رفرفة» في 2004 وغبار 2008، وصائد الفراشات الحزين 2011 ، كنت أراني قارئة أكثر مني كاتبة، وكان ذلك مريحًا جدًا، وهكذا أجلت لأطول وقت ممكن الدخول في عالم الكتابة، ليس بوصفه عالمًا أدبيًا وجماليًا ومعرفيًا ولكن بوصفه عالمًا تنافسيًا وضاريا -من الضراوة- بالضرورة أو بلا ضرورة.
نعم، لم تكن لي أحلام أو طموحات تتعلق بالكتابة، كان كل ما يشغلني وبشكل طبيعي هو الحياة، حياتي الصغيرة، التي كان أولادي جوهرها ومعناها، لذا لم تحضر الكتابة بالنسبة لي ولا حتى النشاط الثقافي بوصفه نشاطًا موازيًا، بل على الأكثر هو المكان الذي أذهب إليه لأغمض عينيَّ وأستريح. في المقابل كنت أمًا، ولم أفعل ذلك اضطرارًا أو وفق إكراهات أو تنميط اجتماعي، بل لكونه جزءًا من طبيعتي، أنا الفتاة التي حلمت دائمًا أن تصبح أمًا.
وصلت إلى مرحلة الإقرار بأني كاتبة في وقت متأخر، ربما بعد أن كبر الأولاد، بعد أن صار بإمكانهم أن يعتمدوا على أنفسهم بشكل كبير، وهناك صرت مستعدة للتفكير فيما يسمى المشروع، المشروع الذي يخصني، مشروعي الأدبي.
كان عمري خمسة وثلاثين عامًا عندما أصدرت «رفرفة» أول مجموعة قصصية، وكان عمري سبعة وأربعين عامًا عندما أصدرت «الباغ» أولى رواياتي.
أدرك أني وصلت متأخرة، وربما فاتتني بعض الأشياء، لكني وصلت في الوقت المناسب كما أظن، ذلك أني كنت قد اكتسبت من القراءة ومن التجربة الإنسانية ما يؤهلني لمحاولة الكتابة الروائية.
الآن أقرأ كثيرًا عن الصراع الجندري، وعن وقوع المرأة بين خيارات الأمومة والكتابة، ولا أستطيع بأية حال أن أقلل من العبء الذي أعرف أن نساء كثيرات من الأجيال السابقة ومن مجايلاتي قد وقعن تحته، لكني فيما يخصني ويخص تجربتي لا يغريني الادعاء بأكثر مما أعرفه وخَبِرته، إذ إن أمر أمومتي كان محسوما، فقد سبق السيف العذل كما يقال، فلم أضطر للاختيار بين أمومتي وأسرتي والكتابة، لكن ربما كان لي اختياري الخاص، أقصد إما أن أختار الكتابة أو الجنون.
هل بإمكاني اعتبار نفسي من الكاتبات المحظوظات؟
ربما، ولعدة أسباب، أولها أني تربيت في محيط يسود فيه النقاش وغالبًا ما كنا نصل إلى ترتيب يناسب جميع الأطراف، وإن لم يعني ذلك رضا أي طرف بشكل تام، وقُيِّض لي أيضًا زوجٌ مشغولٌ، وغير مكترث بنشاطاتي الإبداعية، مما منحني مساحة واسعة للحركة، وثالثها -وهذا مهم جدًا- وجود السيدة جوزفين سالسيدو، معاونتي المنزلية، التي حملت عن عاتقي الكثير من الأعباء المنزلية، وما زالت بعد ثلاثين عاما تعتني بالمنزل وبي، وكنت محظوظة على وجه الخصوص أني وصلت متأخرة إلى مكان محفوف بالمخاطر والحفر والفخاخ ويرتاده الكثير من قطّاع الطرق.
مثل الجميع أيضًا واجهت تحديات اجتماعية واقتصادية وثقافية ومعرفية، لكني لا أرى بطولة في ادعاء المعاناة أو تضخيمها، ولا يغريني التركيز على المكابدات، نعم للأدب أن ينشغل بذلك، أقصد المكابدات، أما الحياة فتنشغل بنفسها، وأنا مشغولة بالحياة.
هو الأدب، مكاني الأثير، المكان الذي نذهب إليه لنستريح، لنرى الحياة، تلك الحياة الموازية، تحدث عندما لا نريد أن نتورط فعليا في حدوثها، سواء أكنا كتّابًا أو قراءً، عندما نريد أن نعيش حياة نجرب فيها الأذى والمتعة والجراح والمغامرة بشكل افتراضي، أن يكشفنا مشهد أو بيت شعر أو عبارة خاطفة، أن تفضح دواخلنا دون أن تعلق لنا المشانق، أو على الأقل نوهم أنفسنا بذلك، أن نمضي حفاة إلى الغابة دون أن تدمينا أشواكها، أن يصفنا من لا يعرفنا فيبقى دائما بعيدًا وآمنًا، أن يكشط عن أرواحنا تراكم أذى العالم، بيد أننا في كل ذلك غير ممسوسين، أن نقدم فيه رؤيتنا لأنفسنا والعالم دون أن نؤخذ بالضرورة بجدية تامة.
هذا ما يفعله الأدب، أن يصلنا ويفصلنا، أن يجرحنا ويكشفنا ويفضحنا ويمتعنا، وأن يصبح ملجأ لنا حتى منا، لكنه ليس سببًا في تعاستنا، ليس سببًا في تعاستي أنا على الأقل، ولا أريده أن يكون.
أما الأمومة، فهي مكاني الأول، المكان الآمن الذي أريده بكل قلبي، راضية بكل أهواله؛ عواصفه وجراحه وندوبه، بكل تحدياته ومخاوفه وإحباطاته، وبكل ما يورثه فينا من جبن وبخل وحمق، لكن أيضًا بكل أفراحه ومباهجه ودفئه الذي لا يعوضه شيء.