جودت فخرالدين
كتاب الحُبّ
سأبدأ بالكلام على «كتاب الحبّ»، الديوان الذي أصدره عبد العزيز المقالح في العام 2014، وجعله ينضمُّ إلى عائلة الدواوين التي أصدرها قبل ذلك،على مدى ما يقارب العقديْن، والتي حملتْ عناوينَ ذات صيغةٍ واحدة، هي مركَّبٌ إضافيٌّ يبدأ بكلمة «كتاب». الأوّل في هذه العائلة هو «كتاب صنعاء»، تلاهُ«كتاب القرية»، ثم «كتاب الأصدقاء»، ثم «كتاب المدُن»، ثم «كتاب الأمّ»…
وتجدرُ الإشارةُ إلى أنّ المقالح كان قد أصدرَ، قبل هذه العائلة من الكُتُب الشعرية، كثيرًا من المؤلفات المتنوعة في مجالات الشعر والنقد والفكر، سوف أتطرّق إليها، أو إلى بعضها، في سياق هذه المقالة.
العناوين في عائلة الكُتُب هذه، تدلُّ على خطّة الشاعر في إجراء مسْحٍ شاملٍ لتجاربه على أنواعها ، مخصّصًا لكلّ واحدةٍ من هذه التجارب كتابا مستقلا. وصنعاء هي البدايةُ لدى المقالح، والنهايةُ أيضا. هي المكان الذي آثرَهُ على الأمكنة كلِّها. بل هي المكانُ الذي اكتفى به دون غيره من الأمكنة، فلازمَهُ والتزمَ بعدم ِالسفر ِمنه، وذلك منذ عدّة عقود. فلا عجب إذًا أنْ يكونَ «كتابُ صنعاء» الأوّلَ والأهمَّ والأقربَ إلى قلب الشاعر ومزاجه، من بين الدواوين التي شكّلتْ تلك العائلة التي أشرْنا إليها.
وأما « كتاب الحبّ»، فإنه يضمُّ أُولى البدايات، بداية البدايات، الكتابات الأولى … وكأني بالصديق الشاعر عبد العزيز المقالح قد أراد العودةَ إلى تلك الأجواء القديمة، المفعمة بالأحلام والآمال والبراءة والحبّ والتوثّب، احتجاجًاعلى الأجواء الضاغطة، التي جعلت الفضاء ضيِّقًا، والتي أحلَّتْ محلَّفسحات الأمل أنواعًا من التعقيد والتخبُّط والعنف والتعصُّب، لم تقتصرْ على اليمن، بل تعدَّتْهُ إلى مختلف البلدان العربية، التي كانت على الدوام واحدةً موحَّدةً في وجدان المقالح وتطلُّعاته.
كأني بالمقالح قد أراد أنْ يُثْبِتَ في «كتاب الحب» قصائدَهُ التي تشهَدُ على بدايات تكوُّنه الثقافيّ والعاطفيّ. هذه القصائد ينتظمُها موضوعُ الحبّ، وتقبضُ على لحظاتٍ شفيفةٍ من مراحل الصِّبا والشباب.
والكثير من هذه المقطوعات الشعرية المثْبَتة في الكتاب نَظَمهُ الشاعر خلالَ
إقامته طالبًا في مصر. ومعظمُها مؤرَّخٌ في السبعينيات، فيما يعودُ بعضُها إلى نهاية الستينيات من القرن الماضي.
الحبُّ في هذا الكتاب هو صُوَرٌ وتصوُّراتٌ حالمة. إنه صُوَرٌ وتصوُّراتٌ تتداخلُ فيها نزعاتٌ بريئة، وأوهامٌ جميلة، وأشواقٌ وخيْباتٌ وآمال. إنه الحبُّ الذي جوهرُهُ البراءة، والذي يتشكَّلُ من مشاعرَ متضاربة. ففيه الأملُ والتعثُّر، وفيه الاكتفاء والحرمان، وفيه الفرحُ والحزن، وفيه الانطلاق والانكسار… بل فيه كلُّ ما يشعرُ به الفتى في بدايات تفتُّحه، أو بالأحرى في المراحل الأولى من تكوُّنهِ العاطفيّ، إذْ تكونُ الرغباتُ جامحةً والأحلامُ كبيرةً.
هو الحبُّ الذي ينطوي على أسراره الطرية. هو الحبُّ الذي يجعلُ من الحبيبة
مثالًا للصفاء والطهْر والجمال.هو فنُّ الاحتفاظ بالسِرّ، كما يعبِّرُ المقالح :
«حين تحبُّ امرأةً وتحبُّكَ،
حاولْ أنْ لا يعرفَ وجهُ الليل،
ووجهُ الصبْح بهذا الحبّ،
ولا تجعلْهُ كتابًا مفتوحًا
تقرؤهُ الأيدي أو تلمسُهُ الريح،
تبعثرُهُ صُوَرًا في الطرقات،
وأسئلةً في أفواهِ الناس».
أراد المقالح،في هذا الكتاب، أنْ يفصحَ عن رغبته في استرجاع مساحاتٍ للضوء والأمل، مساحاتٍ راحتْ تبتعدُ عنّا وتبتعد … ويكادُ يحجبُها زمانُنا الملوَّث. وقد عبَّرَ عن ذلك في كلمة الغلاف، إذْ قال : «أدري أنه موسمٌ بائسٌ وكئيب، وليس موسما للحبّ والغزل. لكنني أراهن على المستقبل، وعلى الخروج من زمن البندقية والخنجر إلى زمن الوردة والكتاب … وها أنذا أنشرُ قصائدَ الحبّ هذه.. وأخشى أنْ يأتيَ زمنٌ تكون الحربُ فيه أكثر سخونةً، وحينئذٍ لا يبقى هناك مكانٌ للكتابة ولا للشعر ولا للنشر» .
وجه اليمن
كثيرةٌ هي الجوانب التي يمكننا التطرق إليها في الكلام على شخصية عبد العزيز المقالح. وإذا كان قد عُرف أولًا بكونه شاعرًا وناقدًا، فإنه -إلى ذلك- صاحب تجربة نضالية، وصاحب تجربة فكرية وأكاديمية طويلة. في تجربته السياسية النضالية كان المقالح من أبرز المتحمسين لقيام الثورة في اليمن، ومن أبرز المنخرطين في صفوفها. ولم يكفّ بعد قيام هذه الثورة في أوائل الستينيات من القرن الماضي عن التعاطف والتفاعل مع قضايا العرب الوطنية والقومية.كما ظل من أبرز الساعين إلى الوحدة في المستوييْن : اليمني بخاصة، والعربي بعامة.
وفوق هذا كلّه، اضطلع المقالح بمهمة أكاديمية تربوية جليلة. فقد كان له أن يؤسّس الجامعة في اليمن، جامعة صنعاء. أسّسها وعمل رئيسًا لها. وقد نمتْ هذه الجامعة وتوسّعت حتى أصبحت لها فروع وكلّيات في أنحاء اليمن كلّها. وبسببٍ من علاقاته الواسعة والغنية داخل اليمن وخارجها، استطاع المقالح أن يوظّف في الجامعة مختلفَ الطاقات والكفاءات المتاحة، وعملَ على استقدام الأساتذة الجامعيين من مختلف الأقطار العربية للمساهمة في إنماء الجامعة وتطويرها.
في الشعر، يمكننا القول إن المقالح أطلق شرارة الحداثة في اليمن. وذلك من خلال ما أصدره من دواوين، ومن خلال رعايته التجارب الجديدة الواعدة. فقد فتح المجالات أمام الأجيال الشعرية الشابة من خلال المنتديات ومجالس الشعر والمجلات والمؤتمرات التي أكثرَ من عقْدها في اليمن بمشاركات من الخارج.
أصدر المقالح مجموعات شعرية كثيرة، ابتداءً من «لا بدَّ من صنعاء» و»مأرب تتكلّم» و»رسائل إلى سيف ذي يزن»، إلى «هوامش على تغريبة ابن زريق البغدادي» و«الخروج من الساعة السليمانية»، وصولًا إلى «أبجدية الروح»، وبعدها «كتاب صنعاء» وغيره من الكُتُب التي ذكرتُها في بداية مقالتي هذه.
في المؤلفات الأولى، يبدو واضحًا من العناوين تركيز الشاعر على مفردات يمنية مفعمة بالدلالات التاريخية والرمزية : صنعاء، مأرب، سيف بن ذي يزن … الخ. وهي مفردات لم يخْلُ منها شعر المقالح من أوّله إلى آخره. لقد سعى المقالح دائمًا إلى التعبير عن الشخصية اليمنية حاضرًا وماضيًا، وكذلك في ما يرجو لها من انعتاق وتطوّر. وهذا السعي لم يحُلْ دون التعبير عن سيرة ذاتية، أرادها المقالح ممتزجةً بسيرة عامة، هي سيرة المكان أو البلد الذي أحبَّه. هكذا كان وجهُ اليمن جليًّا في كتابات المقالح، أو متخفّيًا وراء ما تجلّى فيها من تشكّلات متنوّعة.
تجربة المقالح الشعرية الطويلة اقترنت بتجربة نقدية طويلة. وهذه الأخيرة هي ثمرةٌ لعمله في الصحافة من جهة، ولعمله في التدريس من جهة ثانية. وإنْ كانت في الأساس منبثقةً من همومه الشعرية. تناول المقالح في كتاباته النقدية كثيرًا من القضايا المتعلقة بالشعر والأدب العربييْن. أذكر من هذه المؤلفات : «الأبعاد الموضوعية والفنية للشعر المعاصر في اليمن»، «شعر العامية في اليمن»،
«أزمة القصيدة العربية (مشروع تساؤل)»، «من البيت إلى القصيدة»، «أصوات من الزمن الجديد»، «ثلاثيات نقدية». لقد أراد المقالح لتجربته النقدية أن تكون استكمالًا لتجربته الشعرية في التعبير عن همومه الثقافية التي احتضنت اليمن وأطلقتْها في المدى الأوسع.