مؤلفات عدة في الفكر، الهوية، الحدث، الحب، الغناء، المعنى ولعبته، التأويل، الحقيقة والاسئلة الشائكة حولها، نقد لتلك الحتيقة وللنص والنخبة وأوهامها، يعود على حرب بعدها الى القارئ مع «حديث النهايات فتوحات العولمة ومآزق الهوية» كاشفا في عمق وصراحة وجرأة عن مآزقنا. وان عودنا علي حرب وضع النقاط على الحروف واعادة ما لله لله وها لقيصر لقيصر، فإنه لم يتراجع مرة عن قول الحقيقة مهما كان ثمنها، وعن ابعاد شبح المعرفة المطلقة عن عيوننا وعقولنا، واذا كان علي حرب قرأ محمد أركون لم انطلق من فكر ديريدا في صوغ نظرته إلى العالم والى الذات، فهو بدوره رسخ اللالنهجية الدريدية، تلك التي تتطابق وتعددية الاحتمال حيث الهول المفتوح على أبواب الفكر المشرعة على اللامحدود.
من هنا حديث النهايات لعلي حرب، نهايات عصر مع ما تحمله فكرة العولمة من ايجابيات، إذ كما يقول، ليس علينا أن نعلم الغرب بل أن نتعلم منه. لذا، ولمواجهة الواقع 0ينطلق على حرب من مبدأ تفكيك منطقه وذلك ليتمكن من تفكيك الواقع وتغييره. هذا ما جعله يبتعد عن محمد اركون لأن الأخير ظل ايديولوجيا 0بينما بقي حرب يحفر في حقل المعرفة الذي لا تحده الايديولوجيا.
*لقد عنونت كتابك الجديد: حديث النهايات أليس في ذلك انسياق مع الشائع والرائج؟
– يفقد الفكر قوته وأثره، عندما يفقد راهنيته، أي صلته بالحدث والواقع الحي، ولا مراء بأن للحديث عن النهايات راهنيته، مادمنا ندخل اليوم في عصر من عصور الكائن يضعنا على عتبة التحولات الكبرى التي ننتقل معها من نمط وجود إلى نمط أخر ومن طور حضاري إلى طور جديد، من جراء ثورة الاتصالات وقنبلة المعلومات.
* ماهو مفهوم الراهنة عندك؟
– أن أندرج في زمني وأفهم حاضري، ومن لا يعقل حاضره لا يحسن الافادة من ماضيه ولا الإعداد لمستقبله، ولذا فمن يفكر بصورة حية وراهنة، ليس هو الذي يتعيش على أفكار مضت واستهلكت ولا الذي يفكر لعصور مقبلة، وإنما هو الذي يعيش اللحظة ويحضر وسط المشهد لكي يشارك في صياغة الحدث. فالأفكار والمفاهيم هي شبكات تحويلية تتغير بها عما نحن عليه، بقدر ما نغير العلاقة بالواقع، ثم لا ننسى بأن الزمن الذي نندرج فيه هو زمن متسارع يهمل ولا يمهل، بعكس الزمن اللاهوتي أو الايديولوجي الذي هو زمن الانتظار ليوم الدينونة أو للفردوس الموعود، ولذا فالفكرة لم تعد تنتظر جيلا أو سنوات لكي تنتقل إلى الناس أو إلى الساحة العامة، عبر مصافي الجامعات ومراكز البحث. فمن وقائع العصر أن العالم يتشكل الآن ويدار بواسطة الشبكة والمعلومة، فضلا عن الصورة والسلعة. ولا غنى لمن يفكر بصورة فعالة أن يأخذ هذا الواقع في الحسبان. من هنا فإن الذي يؤلف ويكتب ليس هو الذي يشكو الزمن ويدين الواقع ولا هو الذي يهجو التقنية وينعي القاريء. وإنما هو الذي يرسم خرائط للمعنى أو يبتدع سياسات للمعرفة، بقدر ما يقتحم مناطق جديدة للمساءلة والتفكير أو يجترح أساليب جديدة في المحاججة أو السرد والتعبير.
وهكذا ليست الفكرة أيقونة للتعبد ولا هي متحجرة نعود بها إلى الوراء، الأحري أن تعامل بما تفتتحه من الامكانات، أي من حيث قدرتها على التحريك والإثارة أو علي التوليد والتحويل.
* الا يخشى بذلك أن تخضع الفكرة لمنطق الصورة والسلعة فضلا عن التقنية؟
– للفكرة بما هي أداة للفهم والتدبر، منطقها والأحرى، القول ميزتها وقوتها، أي قدرتها على مجابهة الواقع بتفكيك منطقه وآليات اشتغاله، سواء كان الواقع تقنية أم سوقا، سلعة أم صورة، نصا أم مؤسسة.
بهذا المعنى فالأفكار هي أدوات للتغيير، عبر إعادة الصياغة والتشكيل. مثال على ذلك، نحن نقاوم الحاسوب بلغة المفهوم، عندما لا نتعامل معه كعائق، بل كحقل للامكان تتضاعف أو تفتني معه قدرات الإنسان، ليس فقط من حيث التخزين والإحصاء والتقدير، بل أيضا وخاصة من حث فتح الباب نحو السؤال والتأمل حول معنى الفكر والعقل والانسان نفسه، في ضوء الناظم الآلي والذكاء الاصطناعي ولكن لا ينبغي التبسيط. فالفكي هو رهان لتغيير قواعد اللعبة، أي جغرافية المعنى وعلاقات القوة، إذ هو سلاح ذو حدين: فالفكر الجامد أو المنفلق ينتج المراوحة أو التراجع أو العجز. أما الفكر الحي والمتجدد فإنه مصدر لتوليد المعرفة والقوة، إذ هو يتيح لصاحبه مقاومة ضغوط الواقع بقوالبه وشبكاته، بقدر ما يتيح له التحرر من مصادرات العقل ومسبقاته، من هنا فالمهم الا يخضع المرء لمقولاته أو يصبح اسيرا لشعاراته، إذ بذلك يفقد قوته ويخسر رهانه، ومن يفكر بصورة راهنة وفاعلة، هو الذي يقيم مع فكره علاقة خلق وتحويل أو تجديد أو تطوير.
* من الملاحظ أن الكلام على النهايات، نهاية التاريخ أو العالم أو الإنسان أو المثقف، إنما يثير الاستفزاز لدى الكثيرين، بقدر ما يفهم ذلك بوصفه انقطاعا عن الماضي أو شرخا في الذاكرة. ولعل هذا ما يخرج به القارئ لأقوالك حول العولمة، بمعنى أنك تسعى لفصلها عن كل ما سبقها.
– مع أن اللغة العربية هي لغة مجاز بامتياز، فإن أكثر الكتاب العرب ينسون ذلك، لكي يفهموا مفردة النهاية بحرفيتها. ولكن من السذاجة أن نعتقد بأن العالم سوف ينتهي.
فمعنى المقولة ان الواقع الذي نعيشه اليوم وننخرط فيه، يتغير بصورة بنيوية هائلة وسريعة، تجعله مادة لولادات جديدة أو مجازا للعبور نحو عوالم وفضاءات جديدة، أو فرصة لخلق موارد جديدة قد تتجلى في نمط للتفكير وفرع للمعرفة، أو في شكل للتواصل وأسلوب للعيش، أوفي صيغة للعمل ونموذج للتنمية. بهذا المعنى المجازي، لا شيء يولد من لا شيء. فما سبق هو الذي قادنا إلى أن نكون ما نحن طيه تماما كما أن مستقبلنا هو الذي يمكن أن يقود إليه حاضرنا.
فلنتحدث إذن عن نظام للوصل والفصل، كيلا ننفي عن الحدث جدته وفرادته.
والعولمة كظاهرة تبادلية تواصلية تجمع أو توحد بين البشر، إنما تتصل بما سبقها، لأن التبادل أيا كان نمطه وحجمه، هو واقع بشري. ولكن ذلك لا يعني أن نخلط المراحل والعصور والأنماط بعضها ببعض، كما يفعل الكثيرون من الكتاب والمثقفين على سبيل التبسيط والتعمية.
* أين موضع الخلط والتبسيط؟
– يتم التبس عندما تفهم العولمة كمذهب سياسي أو نظرية اقتصادية أو عقيدة فلسفية، على غرار ما تفهم مثلا الليبرالية أو الاشتراكية أو الماركسية. في حين أن المسألة تتعلق بجملة اجراءات وعمليات حضارية أو تاريخية، هي ثمرة الثورة العلمية والتقنية التي تتيح تحويل المعطى إلى معلومة رقمية ونقله بسرعة الضوء.
هذه الثورة تتجسد اليوم في التبادل الرقمي والاتصال الرقمي بقدر ما تتجلى في حوسبة الانتاج وأعلمة المجتمع. بهذا نحن إزاء واقع لا رجوع عنه إلى الوراء، إذ هو ليس من قبيل المقولة التي يمكن دحضها، وإنما هو قفزة حضارية يتبدل معها وجه الحياة. وقد قرأنا مؤخرا أن الشبكات دخلت إلى مكة المكرمة، كما شاهدنا على الشاشة طلاب الأزهر يشتغلون على الحواسيب. لنأخذ مثقفا هو من أشد الناس عداء للعولمة، أعني إنياسيو رامونيه رئيس تحرير جريدة "لوموند ديبلوماتيك" الشهرية، نراه يشن حملة شعواء على وسائط الاتصال والإعلام، فيما هو لا يتوقف عن إعلام القراء، في جريدته بالذات، أن بوسعهم قراءتها على الشبكات. مما يدل على أن العولمة باتت واقعا ينخرط فيه حتى الذين يعارضونها ويخشون منها، مما يجعل خوفهم من العولمة مجرد خوف من اللفظ والمفردة. من جهة أخرى لا ينبغي الخلط بين العولمة التي هي عالمية من نوع جديد، وبين عالمية العصر الصناعي أو العصر الزراعي. ذلك أن العولمة هي عنوان تندرج تحته تحولات هائلة يتغير معها العالم ببنيته ومشهده، بأدواته ومؤسساته، بمفاهيمه وقيمه، فضلا عن إيقاعه وزمنه، لنتوقف عند مسألة الزمن. نحن نتجاوز الآن عصر السيارة والطائرة، فكيف بعصر الحصان والباخرة.
ذلك أن ثورة الاتصالات تتيح الآن طي المسافات بقدر ما تتيح للمرء أن يتصل بأي نقطه في الأرض من دون أن يبرح مكانه. كذلك نحن نتجاوز الآن زمن النسخ باليد، كما نتجاوز زمن النشر بواسطة المطبعة نحو البث الالكتروني الذي يجري بسرعة الضوء. هناك مثال آخر على مدى التحول الذي نشهده مع عصر المعلومة، يتعلق بأسلوب الخلق ومضامينه. نحن نتعاطى الآن مع منتجات جديدة، لا هي بالمفاهيم ولا هي بالأدوات، لا بالنتاج الفكري ولا بالنتاج المادي، وأعني بها الأشياء الناعمة أو شبه المادية التي تؤلف ما يسمى اليوم "الواقع الافتراضي" كما يتجسد ذلك في النصوص الالكترونية التي تتجول في الفضاء السبراني، والتي يشتغل بها مواطن الشبكة أو المواطن البيني كما أوثر تسميته.
من هنا يتضح مدى التبسيط والخداع عند الذين يحدثوننا عن عولمة عرفها لبنان منذ مطلع الخمسينات، أو عن عولمة غربية بدأت في القرن السادس عشر، أو عن عولمة إسلامية في العصر العباسي. فكيف بالذين يحدثوننا عن عولمة ما قبل التاريخ فيما نحن نشرف على نهاية التاريخ. إذن ثمة منطقة جديدة من مناطق الوجود آخذة في التشكل، يترافق معها في جديد من الانتاج والاتصال والتداول، لا ينبغي الخلط بينه وبين ما سبقه، إذا أردنا أن نعرف معنى الأقوال أو أن نتدبر سير الأحداث.
* لماذا إذن هذا الخوف من أثر العولمة في أكثر البلدان والمجتمعات؟ الا يخشى. أن تزداد أوضاع البشر سوءا وأن يصبح الإنسان أقل إنسانية فيما الرأسمالية تزداد توحشا؟
– العولمة كتحول تاريخي أو كإنجاز تقني، إنما تتوقف أهميتها وخطورتها على كيفية التعاطي معها.
بالنسبة لي ليست العولمه جحيما ولا فردوسا. الأحرى أن نتعاطى معها بلغة المفهوم، أي من حث الامكان الذي تنطوي عليه أو يمكن استخراجه من فتوحاتها التقنية. لنأخذ مفهوما جديدا يجري تداوله الآن، هو «عمال المعرفة»، ويتعلق بالذين يعملون باستخدام الوسائط والتصرف بالمعلومات عبر الشاشات. هذا المفهوم يعني أننا نشهد ولادة فاعل اجتماعي جديد على المسرح، نتجاوز معه ثنائية النخبة والجمهور أو العمل الفكري والعمل اليدوي، فلا عمل بعد اليوم بلا معرفة، ومعنى القول أن العمل يقطب من الآن وصاعدا عاملا يستثمر طاقته على الخلق والتطوير، بقدر ما يتحمل المسؤولية ويعتمد على قدراته الذهنية، الأمر الذي يحرر العامل من كونه مجرد منفذ للأوامر من الكوادر العليا ومراكز القرار. ومن المفارقات في هذا الخصوص أن المثقف الذي أفنى حياته النضالية يدافع عن حرية الناس ومصالح الجماهير أو يطالب بتغيير الواقع والمجتمع، لا يرى الآن ما يحدث من تغيرات يتحرر معها الناس من وصاية النخب أو بيروقراطية الإدارات والدول. مما يدل على تعلقه الكاذب بالحرية أو على جهله بمعنى الحرية، بقدر ما يؤكد على أن المثقف لا يحسن سوى انتهاك ما يدعو اليه، أو على أنه الوجه الآخر للسياسي الذي يعارضه، إذ الصراع بينهما ليس من أجل الجماهير بل عليها. وتلك هي الفضيحة: لا يريد المثقفون للجماهير أن تتحرر من السيطرة والوصاية.
* انك تهرب من الكلام على سلبيات العولمة ومخاطرها لمهاجمة المثقف التي هي مهنة صرت تتقنها وتتفنن بممارستها.
– النقد هو جزء من مهنتي. وإنني أنتقد لكي أفهم ما يحدث، لا لكي أتشبث بمواقفي أو أغرق بتهويماتي حول الإنسان والحرية، فما نشكو منه، كتلوث البيئة أو التفاوت المريع بين الأغنياء والفقراء، هو ثمرة ما ندافع عنه بالذات، أي ثمرة إنسانيتنا التي نتباكى عليها. ولذا فمن الخداع والزيف أن نرد الكوارث والفظائع إلى التقنية وعصورها أو إلى العولمة ومعلوماتها. الأحرى أن نلتفت إلى جشع الإنسان ووحشيتا، إلى مفارقاته وفضائحه، على ما يصفه المسيح والقرآن، أو أبو العلاء وهيدجر.
* أي إنسان تعني؟
– الإنسان الذي يتردد بين التقوى والفجور أو الذي يطالب برجم غيره فيما هو لا يفكر إلا بالعمل مثله، أي الإنسان حيث الشر والشراسة والنرجسية والتكالب هي عروقه الضاربة وميوله المتأصلة أي هويته المنسية.
هنا مكمن العلة إذا أردنا أن نواجه المشكلة لا أن نهرب منها. ولذا فالممكن والمجدي الآن، لا أن نتفنن في هجر الأدوات والمعلومات، ولا أن نخترع كل مرة شيطانا نحمله المسؤولية، بل أن نفحص الشكل البشري الذي هو نحن، والذي يعتقد بأنه سيد الطبيعة وبأن الله قد سخر له كل شيء. ها هنا الإشكال. لنضع إذن أنفسنا على المشرحة، لتعرية طبيعتنا الشيطانية وفضح ميولنا العنصرية والتدميرية، لعل ذلك يجعلنا أقل عدوانية أو شراسة، في علاقاتنا بعضنا ببعض كأفراد وجماعات.
* الا يعني التركيز على هوية الإنسان تجاهل ما تعانيه الهويات الثقافية على أرض الواقع، خاصة في العالم العربي، من الغزو والهيمنة، من جانب الغرب بقيادة أمريكا، فضلا عن اجتياح العولمة للمجتمعات عبر تدفق الصور والمعلومات وأساليب العيثي؟
-لا مراء بأن العولمة كواقع جديد يقوم على إدارة العالم بواسطة المعلومة وبسرعة الضوء، إنما تخربط علاقة الإنسان بهويته، في كل مكان، الأمر الذي يخلق ما يسمى اليوم بأزمة الهوية. ولكن الأمر لا يقتصر علي العرب وحدهم، وإن كان إحساسهم بالأزمة هو أكثر حدة بسب نرجسيتهم الثقافية أو لكونهم عاجزين عن المشاركة الفعالة في صناعة العالم وادارته. هناك فرنسيون وأوروبيون وأمريكيون يشعرون بالمأزق تجاه المتغيرات مما يدل على أن الأمر عام.
* الا تشعر أنت بمثل هذا المأزق؟
السؤال هنا: ماذا علي أن أفعل تجاه ما يحدث؟ هل ألقي سلاحي وأندب حظي؟ هل أقف باكيا على اطلال الهوية العاجزة كما هي ردات الفعل المضادة للفهم والتعقل لدى غالبية المثقفين المذعورين من لفظة العولمة على طريقا السحرة؟
ما أحاوله هو العكس، أي خلق هامش للفعل والحركة، استنباط أجوبة ومعالجات على ما تطرحه العولمة من المشكلات والتحديات، هذا رهاني أن أتصرف كذات مسؤولة وفاعلة، قادرة على المشاركة في الحدث، كيلا أحول علاقتي بالأحداث والمتغيرات الى أفخاخ ومطبات.
* كيف تمارس هذه المهمة؟
– ان أعمل بخصوصيتي، كمشتغل في فرع من فروع المعرفة. من هنا انخراطي في المناقشة العالمية الجارية حول قضايا الساعة، للعمل على بلورة مفاهيم تشكل مساهمتي في قراءة الأحداث، كما هي مقولات المنطق التحويلي، سياسة الأفكار، الانا التواصلي، الإنسان الوسيط، المواطن البيني، الهوية المعولمة، وكما يتضح ذلك في كتابي: حديث النهايات. إذن أنا أسعي إلى الخروج من قوقعتي الثقافية أو الوطنية، لكي أشارك في توسيع مساحة المعنى وإغناء عالم المفهوم، وبصورة تغير مفهومي لهويتي الإنسانية ذاتها. فلا يليق بأحدنا أن يتحدث عن الغزو الثقافي. حديث الجاهل بالثقافة أو يقف موقف العاجز المستبد، على ما يفل الذين يهاجمون لفظة العولمة لكي يدافعوا عن هوية لا تولد سوى العجز والاخفاق.
* ولكنك تبدو بذلك مدافعا عن الغرب ناقدا لهويتك وثقافتك ومجتمعك.
– هذه مهمتي. إذ بالنقد أغادر هامشيتي وأفك آليات عجزي، بقدر ما أسلط الضوء على ممارساتي المعتمة أو أكشف عن العوائق التي تشل عندي إرادة الخلق والتحول، هذه المهمة بما هي تشريح للذات للكشف عن قصورها وعوراتها، تكتسب عندي أهمية قصوى، إذ هي السبيل إلى الخروج من حالة الجمود والمراوحة أو التعثر والتراجع. أما عقلية المحافظة والنزعة النرجسية ولغة الشعارات ومواقف تبجيل الذات والتهجم على الغرب، فإنها تموه المشكلة وتفاقم الأزمة.
* كيف تقيم اذن موقف تشومسكي الذي يوجه أعنف النقد لسياسة بلده وللنظام العالمي بل للمشروع الثقافي الغربي برمته؟ الا يعطي ذلك مشروعية لدفاعنا عن هوياتنا؟
– نقد تشومسكي هو في نظري دليل على قوة المجتمع الأمريكي وحيوية الثقافة الأمريكية والغربية عامة. أما دفاعه عنا فهو ملتبس بل خادع إذ هو يجعلنا نتشبث بواقعنا وعجزنا.
فالأولى بنا نقد ثقافتنا وسياستنا كيلا نزداد ضعفا وفقرا، ويزداد الغرب قوة واقتدارا. ولذا فإن نقدي، لهويتي لا يعني دفاعي عن الغرب. فأنا من الذين وجهوا أقسى النقد للإنسانية الحديثة، كما فعلت ذلك في كتابي لعبة المعنى.
غير انني لا اعتبر اننا مؤهلون لإلقاء الدروس على الغرب في الإنسانية، انطلاقا مما نحن فيه، ولا بالاستناد الى المرجعيات والنماذج القديمة، للإنسان اللاصوتي او الماوراءي، الاصطفائي أو النرجسي. فالأولى عندي ان ننتقد هويتنا للعمل على أنستة عقائدنا وشرائعنا ومؤسساتنا، على الأقل لكي ننتج صيغا حديثة تتيح لنا نسج علاقات فيما بيننا لا تقوم على النبذ والاستبعاد، ولا عي الارهاب والاقصاء،.
* هل معنى ذلك ان كل هذا الكلام على روحانية الشرق مقابل مادية الغرب فرديته لا أساس له من الصحة؟
– لننظر في مسألة الفردية التي تناولتها في كتابي، والشائع في العقول عندنا ان الحداثه الغربية تقوم على الفردية، فيما ثقافتنا العربية والاسلامية، تولي اهمية للتضامن والالتزام مع الجماعة، على ما يقول عندنا بعض الدعاة الإسلاميين. وهذا حديث خرافة في نظري. ذلك اننا نتناسى ان للفردية في الغرب وجهها الأخر، الإيجابي وهو استقلالية الشخص البشري وحريته في الإختيار، ازاء المومسات والسلطات الدينية والسياسية. ولا تعني استقلالية الفرد ان الغربيين يعيشون فرادى كما نتوهم، اذ لا مجتمع وإلا هو شكل من اشكال الالتزام والتواصل او التداول والتبادل، بهذا المعنى فالواقع هو عكس ما ندعي، اذ العمل في الغرب هو إنجاز جماعي مؤسسي تضامني، والدليل أخذنا عن الغربيين مؤسسات الضمان الاجتماعي وبالإجمال فنحن لم نصل الى مستواهم في هذا الخصوص، ان عقليتنا الفردية تشكل عائقا امام العمل بعقلية الفريق ومنطق الشراكة. وهكذا فاننا فيما ننتقد فردية الغرب، نأخذ من الفردية وجهها الفرداني او الشخصاني، كما تثبت ممارساتنا النخبوية والنرجسية في السياسة والدين. والعكس صحيح، بمعنى أننا نأخذ من النزعة الاجتماعية وجهها الكلامي والشمولي، اي عقلية الانغلاق وعلاقات القطيع، كما اثبتت معركة الزواج المدني الفاشلة في لبنان. وهكذا نحن نأخذ من الفردية اسوأها ومن الجمعية اسوأها، وتلك هي المفارقات الفاضحة في خطاباتنا.
* ولكن الا يدمر النموذج الغربي روح الإنسان من خلال الزحف التقني والتصحر المعدني والنمط الاستهلاكي؟
– صحيح. طالما تباهى الشرقيون، والمسلمون بوجه خاص، في السجال الحضاري القائم بينهم وبين الغربيين، بروحانية الاديان مقابل مادية الغرب وتقنياته.
في هذه المسالة ايضا ثمة خداع كبير، اولا لان الغالب على الفلسفة في الغرب مثاليتها.
ثانيا: لان مفهوم الروحانية لا يحتل مكانة مركزية في الإسلام، ففي النص القرآني تهيمن ازواج من المفاهيم كالظاهر والباطن والأول والآخر، وخاصة الغائب والشاهد.
وعالم الغيب ليس روحانيا، بدليل ان جنة الفردوس هي سريالية من فرط إباحيتها، وان الغزالي كفر الفلاسفة لنفيهم بعث الأجساد. ولا ننسى ان المسلمين عاشوا حياتهم في عصور ازدهارهم بكل امتلاء، ففتحوا البلدان بالنص والسيف، واقاموا امبريالية للاموال وإمبراطورية للجواري والقيان. والارجح عندي ان الروحانية الاسلامية هي تأويل متأخر للإسلام يوناني أو مسيحي. لا مراء ان الروحانية اصبحت فيما بعد من منازع الفكر الإسلامي وتراثاته. وهذا دليل على انه لا وجود لأصول صافية، كما نزعم. اذ الهوية هي محصلة روافد متعددة وعناصر متباينة وطبقات متراكمة تدخل وتتشابك او تتفاعل في مركب ثقافي يصب اختزاله الى معنى واحد او مركز واحد او بعد واحد.
ثم أين هي الروحانية التي نريد للغرب ان يستمدها من عالمنا؟ هل في نزاع اهل التوحيد على اقامة دار للعبادة في بيت المقدس؟ هل في الشجار للسيطرة على مصلى فناء جامعة؟ أم في الاشتباك بالمدي في حرم جامع؟ الأحسن لنا والأستر الا نتباهى على الغرب بروحانيتنا لان كثرة الكلام في هذا المجال هي غطاء لانتهاك القيم والتعاليم على ارض الواقع. والأهم لان علاقتنا بالروح ليست افضل من علاقه الغرب بها.
* يقودك الكلام دوما إلى اخراج الغرب بصورة تجعله الأفضل. اليس هذا معنى القول بأنه اكثر روحانية منا؟
– لا أقول بان الغرب اكثر روحانية، بل اقول ان علاقته بالمعنى والقيمة والمعرفة والحقيقة، ومن ثم الحق، هي اقوى واغنى واصدق من علاقتنا بها، بدليل انه منتج، او مبدع في مجالاتها فيما علاقتنا بها تبدو شكلية او جامدة او خادعة ومزيفة.
من هنا أرى ان حديث الروحانية يرتد علينا، وهذا ما يحملني على تفكيك علاقتي بالمعنى والأصل والحقيقة، لكي اخرج بهويتي مفرجا احيا به حياتي بصورة غنية ومثمرة، تقوم عل الاستحقاق والازدهار.
* لننقل إلى المثقف الذي يستأثر دوما باهتمامك ونقدك؟ كيف تقيم واقعه؟ واين اصبحت مقولة نهاية المثقف أو بالأحرى أين أصبحت أنت منها؟ وهل المثقف هو صاحب مهنة فاشلة كما تقول في كتابك الأخير؟
– المثقف تحول الى مجرد داعية او واعظ بعد ان استنفدت الأفكار التي تعيش عليها، على ما تشهد على ذلك علاقته بمقولات الحرية والعقلانية او التنوير والتقدم. على هذا النحو الخص وضعه الآن: فهو يطرح قضايا لا يقدر عليها أو لا يعرف معناها أو لا يحسن الدفاع عنها. وسوف يستمر في التراجع والخسارة، ما لم ينقلب على ذاته ويغير شبكة مفاهيمه ونماذجه في العمل وسياسته الفكرية بالذات، واعني بها طريقته في ادارة افكاره وشعاراته.
* اين تكمن المشكلة بالتحديد؟
– مشكلة المثقف في أنه لا يعرف اين هو الاشكال. ولنستعرض فعلا وضع المثقف، ماذا نجد اسئلة؟ سلسلة من المفارقات والفضائح، فهو بات الآن في المؤخرة ولكنه مازال يتوهم انه في الطليعة. كان داعية للتغيير فاذا به يخشى اليوم المتغيرات التي تفاجئه وتصدمه يهاجم الغزو الثقافي فيما هو ثمرة من ثمار الثقافة الغربية. يدعي عشق الحرية ولكنه الأقل ممارسة لها. يمارس. وصايته على القيم والقضايا العامة ولكن الناس لم تعد تهتم بمقولاته ومواقفه. يدافع عن مساع الجماهير، في حين هو يسيء اليها بنخبويته الثقافية، يتعامل مع افكارا كنماذج للتطبيق بينما هي شبكات للتحويل.. باختصار: يعتقد ان مشكلته مع السلطة التي تصادر عقله وحريته، في حين ان مشكلته الاولي هي مع افكاره بالذات، أي مع مصادراته العقلية وثنائياته المزيفة.
* اية ثنائيات تقصد؟
– لنتوقف عند ثنائية المثقف العضوي والمثقف التقني، نحن ننخرط في جدالات عقيمة لرفع راية الاول ضد الثاني. ولكن هذه ثنائية واهية، لأن المسألة الآن ليست ان نختار بين هذا وذاك، بل كيف يستعيد المثقف العضوي، الملتزم بالشأن العام، فاعليته وراهنيته بعد فشل مشاريعه التحررية وسيناريوهاته التقدمية.
* كيف يستعيد فاعليته؟
– ان يعيد الأمور الى نصابها، بحيث لا يجعل مهمته النضالية تخنق قدرته على الانتاج المعرفي والابداع الفكري.
فالواحد يفعل ويؤثر في مجتمعه وعلى ساحته بقدر ما يبتكر بأفكاره مساحات وصيغا أو مشاريع وأساليب جديدة للعمل والتنظيم أو للعقلنة والتدبير. لنعد إلى ماركس نفسه، الذي هو صاحب أكبر شروع للتغيير، فهو لم يكن زعيم حزب أو مناضلا ميدانيا كلينين أو كاسترو، ومع ذلك فإن شبكة المفاهيم التي ابتكرها لقراءة العالم، قد أسهمت في تشكيل وعي جديد، بقدر ما أسهمت في خلق ما لا يحصى من التكتلات الاجتماعية والتنظيمات السياسية والساحات النضالية.
وهكذا فالأفكار الخارقة تخلق مجالات لممارسة الفاعلية والتأثير. والسؤال هنا: ماذا يفعل الآن أتباع ماركس ومقلدوه وسواهم من أصحاب المشاريع وحملة الشعارات؟
إنهم يحولون أفكاره وأفكار هيجل أو كنط وديكارت إلى أيقونات ومتحجرات، أي يحيلون المفاهيم الخصبة إلى معارف ميتة أو إلى مقولات مستهلكة، والأحرى القول يحولون الابتكارات في مجال العقل والحرية والاستنارة والتقدم إلى عجز فكري أو إلى قصور عقلي أو إلى فشل نضالي.. من هنا فالمهمة الآن هي أن يضع المثقفون على مشرحة النقد والتفكيك ما قادهم إلى الهزال والهشاشة أو إلى التراجع والاخفاق، أي أفكارهم وممارساتهم: عقليتهم النخبوية ونرجسيتهم الثقافية، عدتهم المفهومية وقوالبهم المعرفية، مشاريعهم المستحيلة ومثلهم الخاوية، أساليبهم النضالية وأشكالهم التنظيمية. سياستهم الفكرية واستراتيجياتهم العملية.
* هل يشمل هذا الحكم جميع المثقفين؟
– بالطبع لا. وإنما أعني أولئك الذين أفنوا أعمارهم يمارسون وصايتهم على الناس باسم العلمانية والحداثة والعقلانية والحرية والوحدة، والآن وبعد فشل مشروعاتهم ونضالاتهم يحملون المسؤولية لسواهم. والأطرف هم أولئك الذين يريدون لنا أن نؤجل النقد حتى نسترد عقلنا ونبلغ رشدنا أو حتى ننجز حداثتنا وتقدمنا، أرأيت مرة أخرى أية آخره وصل إليها المثقف داعية العقلانية والاستنارة والحداثة؟
إنه يتمسك بما يولد ضعفه وعجزه.
* كيف؟
– برفضه نقد مفاهيمه وممارساته، ذلك أننا لن ننتظر حتى يقذف الله نورا في الصدر كي نمارس عقلانيتنا، بل بنقد أنظمة العقل ومعاييره والياته. ولن ننتظر من يدخلنا في الحداثة كي ننتقدها، وإنما ننخرط في صناعتها بنقد نماذجها لا بتقليدها. كذلك نحن نجابه الضغوطات بإعادة ابتكار مفهوم الحرية بعد أن تحول إلى شعار يولد على الأرض المزيد من العسف والاستبداد، غير أن المثقف الذي طالما رفع شعار النقد، قد أصبح أصوليا تقليديا يحافظ على أفكاره ويصونها من المتغيرات، مع أن النقد هو الطريق إلى الخروج من العجز والقصور، وهو مهمة دائمة لا تحتمل التأجيل، لأن العقلانية والحرية والحداثة ليست ماهيات ثابتة أو مكتسبات نهائية، بل مهام دائمة تتطلب المراس والصناعة والبناء المتواصل، عبر إعادة الانتاج والابتكار، ولكن إن المثقف لا يعرف ما هي المهمة بقدر ما يجهل مصدر الأزمة، وذلك هو الجهل المركب والعجز الفاضح.
* لننتقل إلى محور آخر يتعلق بثنائية المثقف والسياسي. ما رأيك بما قاله الدكتور هشام شرابي حول مهمة المثقف: كشف الحقائق أو رفعها للنخب الحاكمة؟
– مع تقديري الكبير للدكتور شرابي على مساهماته الفكرية المتمثلة في تحليلاته للعلاقات الأبوية والسلطة الذكورية، فإنني أخالفه في تصوره لمهمة المثقف. فالمثقف وأعني به هنا الفيلسوف أو المفكر تحديدا، ليس ساعي بريد بين الشعب والسلطة، ولا هو مجرد محقق، فكشف الحقائق هي مهمة تتكفل بها اليوم علي أحسن وجه الصحافة ووسائل الإعلام التي تزود المجتمع بلأخبار والوقائع أو تسلط الضوء على الخفايا والفضائح. ولا أظن أن الناس العاديين يعرفون أقل مما يعرفه المثقفون في هذا الخصوص. ولذا فإن مهمة المثقف ليست في أن يمثل الناس أو ينوب عنهم، بل اختراع فكرة تتجلى في شبكة للقراءة أو في نظرية للعمل، وبصورة تتيح رصد التحولات واستباق المجهولات، بقدر ما تتيح تشخيص الواقع أو معالجة الأزمات. ويقفز إلى ذهني الآن مثال العلاقة بين المفكر البريطاني انطوني غيدنز وبين رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير. فالأول لا يشتغل بكشف الحقائق ورفعها إلى الثاني،ولكنه سعى إلى تجديد الفكر السياسي والاجتماعي، من خلال نظريته حول الطريق الثالث أو الوسط الجذري. وهذه النظرية التي هي الآن مدار النقاش عالميا، تحاول تجاوز ثنائية الاشتراكية والرأسمالية أو اليمين واليسار، لكي تضع أمام رجالات السياسة إمكانات جديدة لمعالجة الأزمات الاقتصادية في المجتمعات الديمقراطية، هذا مثال على أن المثقف يناضل ويفعل بما يبتكره من أفكار، لأن مشكلته هي مع أفكاره بالدرجة الأولى.
* لماذا تهرب دوما نحو نقد المثقف وتنسى نقد الواقع؟ لنافذ مفكرا كبيرا أنت من الذين تأثروا به وساروا علي نهجه في التفكيك هو الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، فما رأيك بالتصريح الذي أدلى به مؤخرا في أحد الحوارات التي أجريت معه: ما يحصل في العالم ليس إنسانيا ولا منطقيا على الاطلاق.
– مع تقديري البالغ لدريدا، فإني أجد أن قوله يصدر عن واعظ لا عن فيلسوف. لأن الفيلسوف لا يقفز من الوقائع من أجل إنقاذ مثله المنتهكة. قد تكون هذه مهمة رجالات الدين والأخلاق.
أما الفيلسوف فانه يجابه ما يحدث ويصدم بتفكيك آلته المنطقية ومنظومته الخلقية من أجل دعامة ترتيب علاقته بأفكاره وصياغة مواقفه من جديد.
* أليس في ذك استسلام للواقع؟
– بالعكس من لا يعترف بما يقع تهمشه الوقائع. ولذا فنحن نقاوم الواقع عندما نقوم بتشخيصه، باستخدام لغة مفهومية جديدة تسهم في تغييره بقدر ما تتكشف عن إمكان جديد للتعقل والتدبير. وإذا كانت البشرية، بعد كل مشاريع التنوير وعصور التحرير ما تزال تشهد المزيد من الفقر والبؤس أو الظلم والعنف، فليس ذلك انتهاكا لانسانية الانسان، بالعكس، ما يحصل هو ثمرة إنسانيتنا بالذات، أي نتيجة للمنطق الذي ندافع عنه. والأولى بنا أن نعترف بذلك حتى لا تفاجئنا بربريتنا باسمرار.
* ما العمل والحالة هذه؟
– الممكن في نظري ليس إدانة الواقع الفاحش، بل تفكيك الوضع الذي لا يقود إلا إلى ما نشكو منه، أي صور الإنسان الاصطفائي والنرجسي أو النخبوي والامبريالي أو الأعلى والمتعالي، هذه هي المهمة الآن: وضع إنسانيتنا على المشرحة لتعرية ما ينتج البؤس والوحشية والدمار، والمساهمة في تشكيل مفهوم جديد للإنسان، تتغير معه هويتنا وعلاقاتنا فيما بيننا بقدر ما تتغير علاقاتنا ببقية الكائنات. وهذا هو رهان الفكر في عصر العولمة والوسائط: التخلي من دور الإنسان المتأله أو الوصي أو صاحب الدور الرسولي النبوي، نحو الفرد البشري الذي يتعامل مع نفسه بوصفه وسيطا لا أكثر، وذلك من منطق المسؤولية المتبادلة والشراكة في صناعة الحياة والحفاظ على المصير.
* لنتوقف عند مسألة الحرية كيف تتعامل معها أنت بالذات؟
– إعادة النظر في مفهوم الحرية بعد الذي أصاب مشاريع التحرير من الاخفاق أو الانهيار، وإعادة النظر تقتضي التخلي عن المقولات السائدة في التعاطي مع المسألة، كالنخبة والجمهور والوصاية والضحية، فالنخبوية ولدت الاستبداد باسم التحرير والتنوير. وعقلية الضحية تولد الهشاشة أو تعيد انتاج الأزمات، الأحرى أن نتعامل مع الحرية من خلال شبكة جديدة من المفاهيم، كالإنتاج والابداع والفاعلية والمسؤولية والشراكة. وعندها بدلا من الحديث عن نخب وجماهير، نتحدث عن قطاعات انتاجية أو من فاعل اجتماعي أو عن ذات بشرية قادرة على الخلق والابتكار، يستوي في ذلك المثقفون وسواهم من العاملين في بقية القطاعات، بحيث يجري التبادل والتفاعل بين كل الفاعلين والمنتجين كمسؤولين وشركاء في عملية البناء أو التنمية أو التغيير.
* كيف تترجم مفهومك للحرية إلى موقف عملي ميداني؟
– طبعا هذه مهنتي. المعرفية أعني العمل على تطوير مفهومي. للحرية، أما من حيث المهمة العملية، فلا أعتقد أن المثقفين والكتاب هم أجدر من سواهم بممارسة الحرية. والساحة الثقافية في لبنان تشهد على ذلك. وعندي مثال حي وطازج يقدمه الفيلسوف الألماني هابرماس الذي هو فيلسوف العقل التواصلي وصاحب نظرية في الحوار الديمقراطي والمحادثة العمومية..
ولكن ذلك لم يمكنه من إقامة حوار ديمقراطي أو محادثه عقلانية مع زميل له أصغر منه سنا، قد ألقى محاضرة لم تعجب هابرماس الذي شن عليه حملة ضارية وحاول تأليب الأوساط الفلسفية والاعلامية ضده، والمغزى من ذلك أولا أن المفكرين والفلاسفة هم أفشل الناس في تطبيق أفكارهم، لأن الأفكار لا تطبق، وإنما تحتاج إلى صرف وتحويل على أرض الواقع، والمغزى من جهة ثانية أن العلاقات بين النظراء لا تنظمها المثاليات. أقصد التعلق الطوباوي بقيم الحرية أو الديمقراطية أو العقلانية وإنما هي تمارس في حقل من علاقات القوة وفي سياق الصراع على المصالح أو الفوز بالمناصب والمواقع. من هنا فعلاقة الواحد منا بالعقل أو بالحرية هي مراس ذاتي وصناعة مفهومية وعلاقة نقدية دائمة يقيمها المرء مع أفكاره ورغباته وسلطاته.
* سؤال أخير: ما تعلقك على المظاهرات التي اندلعت في مدينة سياتل في الولايات المتحدة الأمريكية، بالذات، ضد العولمة ومنظمة التجارة العالمية والإمبريالية الأمريكية؟ الا يحملك ذلك على إعادة النظر في مواقفك؟
– ملاحظتي الأولى أن المظاهرات التي حصلت هناك تدل على أن الانقسامات القومية والدينية لا تحكم وحدها الصراعات بين البشر. هناك أيضا الصراعات بين الأغنياء والفقراء أو بين القاهرين والمقهورين، مادامت المجتمعات البشرية لا تتوقف عن توليد التفاوت والاستغلال والظلم. ملاحظتي الثانية هي الفسحة الديمقراطية في المجتمع الأمريكي التي تتيح التظاهر والتي جعلت الرئيس بيل كلينتون يعلق على المظاهرات بقوله: ينبغي أن نسمع ما يقوله المعارضون، في حين أن أكثر المناهضين للعولمة والإمبريالية عندنا، لا يعترفون بالأخر ولا يستمعون إلى رأيه.
ملاحظتي الثالثة هي أننا نهاجم الإمبريالية الغربية أو الأمريكية، مع أننا نتباهى بالامبريالية التي أقمناها في عصر هارون الرشيد. وهذا شأن الفرنسيين، انهم يتحدثون عن امبريالية أمريكية بعد أن فقدوا إمبرياليتهم.
* إنك تبرر الإمبريالية !
– أردت فقط الإشارة إلى أن الامبريالية، بما هي توسع وانتشار، ثمرة الانتاج والإبداع، ونسيان هذه الحقيقة هو جهل بخاصية الحضارة بقدرها هو جهل بمصادر القوة. ومعنى القول أن ما نحتاج إليه نحن، هو أن ننتج ونبتكر ما به نتوسع ونتبادل مع الغير، كيلا نحول النضال إلى مهنة فاشلة. بقي الأهم وهو تعليقي على التظاهرات، وما أراه هو أن مثل هذه الأساليب في النضال لم تعد تغني ولا تسمن، لأن العالم يتغير الآن بطريقة ينبثق معها مفهوم جديد لتغيير.
* بأي معنى؟
– بمعنى أن العالم لا يغيره الآن جمهور المتظاهرين أو المتمردين في الساحات العامة، كما لا يتغير بعقلية الطليعة الجديدة. أي لا يتم بعقلية المثقف المتنور الذي يعتبر نفسه أكثر وعيا من الناس العاديين، أو الذي يجمع ويحرض أو يقود المهمشين والمقهورين، بوصفهم قاصرين أو غير واعين، كما يفعل أو يعتقد مثقفون كبار، هم نجوم وسط المشهد، كبيار بورديو وجاك دريدا، فلا يمكن لمن يمارس نجوميته أن يحرر سواه، هذا أسلوب في النضال أثبت فشله، أي أنتج المزيد من القهر والبؤس، من هنا أرى أن النضال في الساحة العامة سوف ينتهي مع نهاية المثقف، فلكل عصر شكله في النضال ومفهومه للتغيير.
حاورته: صباح الخراط زوين (شاعرة ومترجمة من لبنان)