مدخل الى المغامرة :
المغامرة الشعرية كشف جديد بحد ذاته ، والولوج الى هذا النوع من المغامرة هو تحد من نوع آخر لا يتقنه الكثير من الشعراء ، وعندما تكون هذه المغامرة ذات طرح كتابي شعبي ، مغامرة تدور في فلك القصيدة الشعبية العامية فهنا يجب ان نتوقف وهنا يجب ان ندرك بديهيا ان هذا الشاعر / المغامر يقتحم عوالم جديدة كل الجدة ، جديدة في فضاء هذا النوع من الكتابة الشعرية التي ظلت مخلصة لسنوات طويلة لتقليديتها وكلاسيكيتها في شكلها الكتابي رغم محاولات الخروج البطيئة والخجولة والتي تراجعت في السنوات الأخيرة بسبب طغيان مد الشكل الشعري الكلاسيكي .
ان القصيدة العربية عموما تعيش تحولات كثيرة على صعيد الكتابة الشعرية سواء على صعيد الشكل او المضمون فمن قصيدة التفعيلة الى قصيدة النثر الى قصيدة الومضة ذات التكثيف الشعري القصير والعالي، والقصيدة الشعبية ليست بمنأى عن كل هذه التحولات فهي جزء من المشهد الشعري ككل وانا لا ارى كثير اهمية للتقسيمات التي تطرح ، فالشعر هو تلك الحالة الشعورية التي تندفع لتترك اثرها على الورقة والحالة الشعرية لا تعترف كثيرا بالنوع او الشكل الكتابي ، والشعر واحد جاء بأي لغة او لهجة فهو تلك الشحنة التي خرجت على شكل لغة مقرءة سواء كانت هذه اللغة عامية ام فصحى عربية ام غيرها ، والشعر – اي شعر – يخضع لكل التغيرات الاجتماعية او الثقافية ويتأثر بالتسارع الحياتي الذي يعيشه الانسان ، فهو كائن يتطور بتطور المحيطات حوله .
ماذا يحتاج الشاعر ليعيش اي مغامرة شعرية جديدة ؟
ان القراءة فعل معرفي مهم لتنمية وصقل اي تجربة شعرية والمغامرة بحد ذاتها تحتاج الى اكتشاف والشاعر المغامر لا بد من تسلحه بما يعينه على مغامرته خصوصا اذا كان هذا المغامر يجتاز اراضي بكرا جديدة ويدخل الى فضاءات تطأها اقدامه لأول مرة . ان الاطلاع على التجارب الشعرية وتقنيات القصيدة الحديثة هو مما يفتح مدارك كل شاعر ومما يعينه في مغامراته الشعرية ، فكل تجريب جديد يحتاج الى وعي والوعي تسبقه قراءة واطلاع وتشرب واقتناع بالفكرة ، ثم تخرج هذه الفكرة في حالة اللاوعي الطبيعية اثناء الكتابة الشعرية وفي النهاية تشكل ثيمة وصفة تسم كل تجربة شعرية .
ان القصيدة الشعبية او العامية بوصفها لغة تنتمي للشعب او للعامة (في مقابل النخبة) اصبحت في طرحها الجديد تتجاوز هذا المفهوم ، فهي تجاوزت هذا المفهوم الشعبي الضيق واصبحت القصيدة العامية قصيدة مثقفة تتوسل الكثير من التقنيات الشعرية والطروحات الحديثة في الكتابة الشعرية ككل . واصبحت كقصيدة لا تقل شأنا فيما يكتب او يطرح او يناقش من قضايا على صعيد الهم الانساني او على صعيد التوظيف الحديث للتقنيات الشعرية الجديدة .
ان القصيدة الشعبية الحالية تمر بتسارع لا يمكن تجاهله سواء على صعيد اللغة او على صعيد الشكل مع احتفاظها بهويتها الكتابية ، هذا التطور يرافقه ايضا تطور آخر على صعيد اللهجة ، فهما يذهبان سويا بخطين متوازيين ، وربما يقول قائل ان القصيدة الشعبية صارت تقترب اكثر من الفصحى وهو ليس اقترابا بقدر ما هو تحول تشهده اللغة المحكية بشكل عام ، فالتطور الثقافي والمعرفي كفيل بأن يلقي بظلاله على باقي مناحي الحياة ومن اهمها اللغة . ولعلني لا اجازف ان اقول ان الشاعر العربي القديم كان يقول قصيدته بلغته المحكية التي يتحدث بها فلغة قصيدته لا تختلف كثيرا عن لغته التي يمارسها في حياته اليومية وهكذا هو الشاعر الشعبي اليوم فهو اكثر اقترابا وعفوية في قصيدته من لغة حديثه اليومية فلا غرابة ان تتعدد مستويات القصيدة الشعبية طبقا لثقافة كاتبها لكنها في النهاية تنطلق من لغتها اليومية على عكس القصيدة الفصحى التي اصبحت لغة كتابتها تقليدا يحافظ عليه شعرائها وهم يدركون ذلك الشرخ الكبير بين لغة حديثهم اليومية وبين لغتهم المكتوبة .
وفي تجربة الشاعر حمود الحجري ذلك الاهتمام الكتابي الكبير على صعيد التجربة الشعرية ، هذه التجربة التي تتعدد مناخاتها وفضاءاتها والتي نستطيع ان نجملها في اربعة اصدارات شعرية تشكل مجمل التجربة الى الان والتي لم تتوقف بعد ، فلا زال الشاعر محملا بالكثير من الافكار والمغامرات والكشوفات الشعرية الجديدة. هذه الاصدارات هي :
– الغرفة بلد ، وزارة التراث والثقافة 2007 م
– تتسع حدقة على آخر مداها، الانتشار العربي 2009
– ممتلئ بروح المغامر، الفرقد 2010م
– شق فجرك ظلامي وانجلت عتمتي، الفرقد 2012م
وقبل ان ندخل الى تفاصيل هذه الحكاية الشعرية المثيرة والمهمة والتي هي جديرة بان تستوقف اي متتبع وباحث في الشعر الشعبي الحديث ، قبل ان ندخل الى تفاصيل هذه التجربة من خلال الاصدارات الاربعة التي جاءت متعاقبة خلال فترة زمنية متقاربة ، سنحاول في البدء ان نضع صورة اجمالية لهذه التجربة وان نتتبع خط سيرها الأدبي.
التشكيل الخارجي للنص / الديوان :
بدءا من ديوان «الغرفة بلد» ومرورا بـ « تتسع حدقة على آخر مداها» حتى الديوان الأخير «شق فجرك ظلامي وانجلت عتمتي» نجد ان الشاعر يتبنى خطا شعريا واحدا يتصاعد مع كل ديوان شعري ، فبدءاً من الديوان الشعري الأول يستطيع القارئ ان يتبين الخط الشعري الذي يتبناه الشاعر ويستطيع ان يلحظ التطور الذي يتصاعد مع باقي الاصدارات الشعرية اللاحقة سواء على صعيد الشكل الخارجي للإصدار او على صعيد تشكيل النص او على صعيد الفكرة والمضمون . اذ اننا من الديوان الأول نستطيع ان نكتشف الخط الكتابي الذي يتبناه الحجري في باقي اعماله ، فديوان «الغرفة بلد» هو المؤسس لباقي التجربة الشعرية في الاصدارات الاربعة .
وللأمانة اقول ان تجربة الحجري في دواوينه الاربعة هذه هي تجربة متفردة على صعيد ما يكتب من شعر شعبي ليس في حدود الاقليم العماني وحسب وانما على صعيد التجربة الشعبية الخليجية ككل، فهذه التجربة تطرح اشتغالا آخر مختلفا وتطرح نسقا كتابيا شعريا جديدا . ولعل تجربة الحجري هذه تؤسس لمرحلة كتابية جديدة يقتحم فيها الشاعر الشعبي عوالم كتابية غير مطروقة ويطرح اشكالا غير معتادة في تاريخ الشعر العامي ككل .
وليس ثمة غرابة ان يطرح الحجري تجربة شعرية شعبية مختلفة ، تجربة تستقي مواردها وافكارها من الثقافة العامة ، ففي ظل تداخل الاشكال الأدبية مع بعضها البعض وسيطرة الثقافة العامة على مجمل المطروح والمكتوب لن نجد غرابة ان يقتحم الشاعر الشعبي هذه المعمعة وان يكون جزء فاعلا ومكملا فيها ، فهو جزء من هذا السياق الثقافي المتصاعد يوما عن آخر من خلال ما يطرح من اشكال ادبية مختلفة تلقي بظلالها على مجمل ثقافة المجتمع ، فالأشكال الأدبية تتجاور وتتحاور لتشكل في النهاية مشهدا أدبيا متكاملا .
وبالعودة الى تتبع تجربة الحجري من خلال هذه الاصدارات الاربعة وكما قلت سابقا فإن الحجري يطرح شكلا شعريا آخر مختلف فعلى صعيد الشكل الخارجي لهذه الاصدارات الأدبية نجد ان الحجري يتبع تقليدا افتتاحيا جميلا يتواصل معه مع كل اصدار ، فهو يفتتح كل اصدار بمقطع شعري فصيح ، ليوصل الحجري رسالة مفادها يؤكد ما قلته سابقا من تجاور كافة الاشكال الادبية واتصالها ببعضها البعض وليقدم صورة جديدة للشاعر الشعبي المثقف الذي يتفاعل ادبيا وثقافيا مع كل ما يطرح على صعيد المعرفة والثقافة الانسانية . وهذه المقاطع الشعرية التي يستفتح بها الحجري اصداراته هي افتتاحيات لا تأتي اعتباطا فثمة انتقاء ينم عن سعة اطلاع ، فكل المقاطع هي مقدمات تختزل الفكرة العامة للنصوص الشعرية . وقد تتعدد هذه الافتتاحيات لتصل الى 3 مقاطع افتتاحية كما في ديوان «تتسع حدقة على آخر مداها» حيث عمد الشاعر الى تبويب الديوان الى 3 ابواب مشكلا كل باب فكرة مستقلة بذاتها تطرح مقدمتها الخاصة بها والتي تختزل عموم فكرة الباب ومن ثم تأتي النصوص مكملة الفكرة العامة تباعا لكل باب . وهذا التبويب هو شكل جديد ربما يطرح لأول مرة على صعيد الكتابة الشعرية الشعبية . ففي الباب الأول من هذا الديوان والمعنون بـ« للبياض أغنية» يفتتح الشاعر الباب ببيت شعري لقيس بن الملوح :
صغيرين نرعى البهم ياليت اننا
الى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
في البيت السابق لقيس بن الملوح يطرح فكرة الطفولة ، ويستثمر الحجري هذه الفكرة في الباب باكمله متخذا بيت قيس بن الملوح كعتبة اولى للدخول الى فكرة الباب ، ثم يتلوه الباب الثاني والذي عنونه بـ«كشف» مفتتحا الباب بمقطع للشاعر العماني سماء عيسى ( ثمة ما يحترق / ليضيء لنا / عتمة الكائن ) واما الباب الأخير فيفتتحه بالمقطع الشهير لـ محمود درويش في جداريته الشهيرة (هزمتك يا موت الفنون جميعها) والذي عنونه بـ : «على حافة قبر»، لنجد ان هذه الافتتاحيات ما هي الا عتبات اولى تتجاور مع العناوين الجانبية لتشكل الفكرة العامة لكل باب .
ولو اردنا ان نسلط الضوء اكثر على تقنيتي الافتتاحيات والتبويب التي استعان بها ووظفها الشاعر في مجموعاته الاربع هذه لوجدنا ان ثمة يد فنانة وواعية تعمدت ان تقدم بعدا فنيا جماليا تشكيليا آخر يضاف الى البعد الجمالي الشعري في نصوص المجاميع . ففي المجموعة الأولى «الغرفة بلد» يصافحك اول ما يصافحك بيت للمتنبي يستفتح فيه الشاعر مجموعته التي تنوعت بين الذاتية والعاطفية والذي جاء بيت المتنبي مناسبا لغرض هذه المجموعة ومقدما فكرة مبدئية لعموم نصوص المجموعة بأكملها :
وما صبابة مشتاق على امل
من اللقاء كمشتاق بلا أمل
والذي ألحظه بين المجموعتين الأولى والثانية ان النصوص في المجموعتين هي نصوص جاهزة تمثل مرحلة كتابية معينة تعمد الشاعر تقسيمها الى مجموعتين ولم يشركها جميعا في مجموعة واحدة ، وجاء هذا التقسيم لغرض فني تعمده الشاعر وافتتاحيات المجاميع تشهد وتوضح هذا التقسيم .
بعد افتتاحية بيت المتنبي في المجموعة الأولى (الغرفة بلد) ننتقل مع الشاعر الى فهرس القصائد والتي وضع لها عنوانا فنيا جميلا : «أشياء الغرفة»، خارجا بهذا العنوان من نمطية العناوين التقليدية وامتدادا فنيا جميلا لعنوان المجموعة الرئيسي. ان هذا الحس الجمالي الذي يضفيه الشاعر على مجموعته يجعلنا ندرك ان الشاعر لا يقتصر دوره فقط على الكتابة الشعرية وعلى توثيق النصوص فقط ، انما هو ايضا يمتلك حسا جماليا فنيا نجد لمساته في طباعة المجموعة واخراجها وتنسيقها الداخلي والخارجي ايضا، فلم تعد المجاميع الشعرية هي مجرد مجاميع لتوثيق النصوص وانما اصبح التشكيل الجمالي والاخراج الفني يلعب دوره في اخراج الشكل النهائي للمجموعة الشعرية ابتداء من اللوحة ومرورا بالفهرسة وليس انتهاء بتشكيل الغلاف الأخير .
أما الديوان الثالث من هذه التجربة وهو الديوان الموسوم بالمغامرة فله جمالية تنسيقية وتبويبية أخرى ، فمنذ البداية الاولى لتلقي هذا الديوان يدهشنا الحجري بعنوان ملفت وجديد في طرحه: «ممتلي بروح المغامر» وهو عنوان فيه ما فيه من المغامرة سواء في طرحه كعنوان او بما يشي من نصوص تتوشح صفة المغامرة . وهو ديوان مغامر حقا ذهب فيه الحجري في مغامرته الشعرية الى تخوم جديدة في طرحها . وبما ان المغامرة محفوفة بالكثير من المخاطر وكون ان الشاعر يدرك ان في طرحه هذا الديوان هو تحد للذائقة ومغامرة غير مامونة العواقب كان لزاما ان يقدم لقارئه هذا العنوان الصادم منذ بداية تلقيه للديوان ليهيئه لدخول هذه المغامرة . في الصفحة الخامسة من هذه المجموعة يقدم لنا الشاعر (دليل المغامرة) الذي سيتبعه القارئ اثناء تصفحه للمجموعة وما دليل المغامرة هذا سوى فهرس المجموعة الشعرية التي تنظوي تحتها نصوص المجموعة الشعرية . واذ يشعر القارئ وهو يمر بهذه العناوين الجانبية في المجموعة يشعر وكأنه يتصفح بالفعل كتاب مغامرة ينوي الاقدام عليها ، فهو يتبع التعليمات المدرجة في كتيب المغامرة هذا. هذا الشعور النفسي الذي تعمد الشاعر ايصاله للمتلقي هو جزء من صناعة الكتاب الشعري اذ ان الشاعر يتعمد ان يشرك القارئ في هذه الأجواء ، ليتجاوز الديوان الشعري في طرحه الصفة البسيطة والعادية مدخلا القارئ في فضاءات شعورية جديدة . وكما عودنا الشاعر في كل اصدار بإفتتاحياته الشعرية التي يتخذها عتبة اولى لمجاميعه فهو في هذه المجموعة يقدم لنا مقطعا شعريا في غاية العذوبة للشاعر العماني الجميل : اسحاق الخنجري ، ممهدا الحجري للقارئ نوع هذه المغامرة التي ينوي الدخول اليها ، فهي ليست سوى مغامرة شعرية عاطفية ، تمتزج فيها مغامرة التجريب الشعري بمغامرة الحب العنيف ، (نفضت اعماقي/فلم أعثر/على فرح سواك) يقول الخنجري ، ليقول بعده شاعرنا كلاما كثيرا على خطى هذه الافتتاحية الموغلة في عاطفتها .
في ديوان (شق فجرك ظلامي وانجلت عتمتي) يمارس شاعرنا فعلا اخراجيا وتبويبيا آخر ، فهذا الديوان والأخير في تجربته الى الآن هو امتداد للمغامرة الكتابية في الديوان السابق ، والذي قدم له افتتاحية شعرية للشاعر العماني سيف الرحبي ، افتتاحية شعرية تختزل الجزء الأول من الديوان ، حيث بوب الشاعر لهذا الديوان في الفهرس في النهاية بعنوانين فقط . هذين العنوانين هما عبارة عن قصيدتين طويلتين مكونتين من مجموعة من المقاطع الشعرية ، حيث حملت القصيدة الأولى عنوان الديوان والتي احتوت على (38) مقطعا شعريا تنوعت بين العمودي والتفعيلة والخروج الى النثر في بعض الأحيان بينما جاءت القصيدة الأخرى والتي عنون لها بـ : «لغة أخرى» مكونة من 24 مقطعا شعريا مختزل راوح فيها بين التفعيلة والنثر ايضا . في هذا الديوان بالذات الكثير من الاشتغال والتجريب الشعري سواء على صعيد الشكل واقصد به معمارية القصيدة وبنائها الخارجي او على صعيد المضمون والبناء الداخلي . ان هذا الطرح الشكلي الجديد الذي طرحه حمود الحجري في هذا الديوان هو مفاجأة شعرية جديدة على صعيد الأدب الشعبي فالتنسيق الشكلي والكتابي للقصيدة الشعبية التي يكتبها في هذا الديوان هو نوع من الطرح الجديد الغير مسبوق. لقد نسق الحجري الديوان بشكل متعمد طبقا للنص الشعري المكون من مجموعة من المقاطع ذات التكثيف والاختزال الشعري العالي وقد قام بترقيم هذه المقاطع على طول القصيدة وعلى طول توالي الصفحات حتى نهاية الديوان ، كما ان بعض المقاطع احتوت على اهداءات وذلك طبقا للغرض الشعري لكل نص ، كما في المقطع (12) من النص الأول والذي جاء على شكل نص عمودي مهدى الى
( ع.ح) وهكذا في اكثر من مقطع شعري في النص الأول من المجموعة .
الخط الداخلي للتجربة :
في مضمون تجربة الحجري من الداخل جمالا لا يقل عن جمالية الشكل التنسيقي الخارجي ، فهما خطان يمران متوازيان يقودهما الوعي الشعري الواحد ويصبان في خانة ابداعية واحدة . ان سمة التحديث والتجريب الى جانب الشعرية في تجربة شاعرنا هما متلازمات تحرك سير هذه التجربة فشاعرنا لا يبحث عن الجديد من خلال الشكل فقط بل من خلال المضمون ايضا ، من اجل هذه نجد هاتين الثنائيتين حاضرتين وبقوة جنبا الى جنب وهي تشكل عموم التجربة بأكملها . فمن الديوان الأول يحرص الشاعر على وحدة الموضوع في كل ديوان ويشتغل على هذه الثيمة طيلة الاصدارات الأربعة ، من اجل هذا نجد تصاعدا مبهرا وجديدا في هذه التجربة . فكل اصدار له فكرته وتجربته التي تختلف عن الآخر وله عوالمه التجريبية الجديدة ايضا.
سأحاول هنا ان اتحدث اجمالا عن مجمل مميزات المجموعات الاربع، اعني الخط الكتابي الذي تنتهجه التجربة من بداية صدور المجموعة الأولى الى المجموعة الأخيرة (شق فجرك ظلامي وانجلت عتمتي).
يشتغل الحجري في تجربته على نوع من الكتابة الشعرية الحديثة التي تتوسل الحداثة في خطها الشعري . فنرى الاشتغال الداخلي للنص يتوازى في سيره مع البناء الشكلي الحديث للقصيدة ، في وقت لا يغفل حضور القصيدة العمودية بشكلها الكلاسيكي ، اقصد البناء الكلاسيكي للقصيدة العمودية ، لكنه هنا ايضا يلبسها لبوسا حداثيا جديدا لا يجعلها تنفصل عن الخط الكتابي العام للتجربة .
فالقصيدة العمودية هنا نجدها حاضرة بطرح شعري حديث يتجاوز الخط الكلاسيكي المتعارف عليه فبدءا من اللغة وليس انتهاء بالمواضيع التي يشغلها هذا الشكل الكتابي نستطيع ان نلحظ ذلك الخط الكتابي الحديث ، ولهذا الحضور مميزاته التي لا نكاد نغفلها ، فاللغة المكتوب بها هي لغة حديثه في نسقها وطرحها ونبرتها الكتابية ، لغة ترتفع عن مستوى الحديث اليومي ، لغة تتوسل الثقافة والقراءة والمعرفة أو هي لغة «عامية مثقفة» ان جاز لي تسميتها . ربما يحاول شاعرنا هنا ان يطرح شكل كتابي شعري جديد من خلال لغة عامية مثقفة تحاول ان تحاور العالم والوجود وتتجاوز ايضا في طرحها النسق التقليدي المتعارف عليه في لغة القصيدة الشعبية . من اجل هذا ستاتي هذي القصيدة جديدة في طرحها ولغتها وهذا الطرح سيتجاوز مبنى اللغة الى فضاءات وتأملات شعرية حديثة . فهي لغة حديثة وجودية متاملة لا تنحاز للنسق الكتابي التقليدي حتى في أفكارها ومواضيعها المطروحة ، فمن فكرة الموت الى الطفولة الى اجترار الكثير من الذاكرة الانسانية المسلوبة متمازجة مع الأفكار الذاتية والعاطفية المطروحة في الكتابة الشعرية التقليدية .
وسأحاول ان اقف قليلا هنا في قضية اللغة التي تثيرها تجربة حمود الحجري . ان ما تعيشه اللغة العامية من تحولات سيلقي بظلاله بالتاكيد على مجمل المشروع الكتابي العامي و الذي اعنيه هنا بالتحديد لغة الشاعر القارئ المثقف او ما ينتجه من شعر شعبي مقروء . ان تركيبة اللغة المحكية عند الشاعر الشعبي الحديث اصبحت تأخذ ابعادا كلامية كثيرة ، فلم تعد لغة الشاعر هي اللغة ذات التراكيب الكلامية البسيطة ، فالثقافة المقروءة تحضر بقوة في انتاجه الشعري الكتابي وهي اذ تحضر، تحضر جنبا الى جنب مع لغته المحكية العامية ، هذا المزج اللغوي الجميل انتج لنا لغة شعرية و كلامية حديثة و هي في رأيي طرح شعري جديد او سمها لغة شعرية جديدة . وهذه اللغة غير منفصلة عن الكاتب ، فهي حاضرة حتى في لغة حديثه اليومية وان كان هذا الحضور يظهر بنسب متفاوتة الا انها تشكل في عمومها جزءا من لغته وهويته الذاتية الشخصية . اذن عندما تنتقل هذه اللغة من المشافهة الى الكتابة فهي تقدم شكل لغوي كتابي جديد ، وهذا ما نجده حاضرا في لغة الحجري الشعرية .
ولكوننا نتحدث عن القصيدة العمودية بشكلها الكتابي الحديث سنعرج الى بعض الأمثلة ندعم بها فكرتنا هنا ، ففي نص «شي من اللاشي» من ديوان (الغرفة بلد ) نقرأ :
و أنا يا ما نخلتك يا شوارع روحة و جية و ياما تقت لأضوائك و شدتني دوايرها
نطلتك كنك المال وزرعت بخصبك أغنية مرامي نافذة / شرفة تدور عين شاعرها
هذا النص الذي يأخذ بعدا وجوديا ذاتيا في تأمله والذي يصادفنا اول ما يصادفنا من عنوانه ذات النبرة الكتابية الفصيحة «شي من اللاشي» والذي ينسحب بعد ذلك من خلال لغته الشعرية الحديثة والتي تتجاور مع المخزون الثقافي الشعبي الذي تقدمه اللهجة العامية ، فالنص هنا متجاوز في طرحه بداء من فكرته الوجودية الذاتية ومرورا بلغته الحديثة الى جانب مفرداته العامية الحاضرة في النص . لنقراء هنا ( شوارع ، تقت ، اضوائك ، مرامي ، نافذة .. ) ثم لنقراء هنا : ( روحة ، جية ، نطلتك ، نخلتك ) ، هذا المزج الثقافي الشعري الجميل يقدم لنا شكل كتابي عامي جديد ، انها لغة عامية اخرى .. لغة جديدة يتوسلها الشاعر الشعبي في نمطه الكتابي الحديث لغة تتوسل ثقافته الجديدة لكنها لا تنفصل عن مخزونه الشعبي الحياتي المعاش .
هكذا يحاول حمود الحجري ان يقدم شكلا شعريا جديدا لقصيدته العمودية ، ولنأخذ مثالا آخر ، مثالا يتجاوز الجانب اللغوي والشكلي للقصيدة ويبحر اكثر للهم الانساني الوجودي :
ابن لـ آدم !! أدك حصون مجدي واطحن بليلة كفاح الطوبة الطوبة ،صباح كفاحي ومسعاي
يناديني سعار الرغبة – يناديني – وأمشي له وأرسم للعما خطواته المتعثرة جواي
( نص : كشف ، من ديوان : تتسع حدقة على آخر مداها )
ومن القصيدة الكلاسيكية العمودية ينقلنا حمود الى تجريب شكلي شعري آخر ، ألا وهو قصيدة التفعيلة ويحاول من خلال تقنيات قصيدة التفعيلة ان يقدم شكلا شعريا جديدا يضاف الى القصيدة الشعبية الحديثة .
فقصيدة التفعيلة عند حمود تحاول ان تستفيد من تقنيات القصيدة العربية الحديثة فنراها تتخلص من شكلها الغنائي البسيط الذي اعتادت عليه في قصيدة التفعيلة الشعبية ، ونراها تطرح اسئلة وجودية وانسانية وفلسفية :
تعرفيني يالنخيل؟
تعرفي الطفل اللي كنته ؟
وكان يتشاقى عليك
يا ما رد دشداشة شعوره مشققه
(نص :عامد كان بطعم آخر ، من ديوان : تتسع حدقة على اوسع مدى)
ومن نص آخر يقول :
وأنا القف ثلاثيني
وتسرقني طواحيني
من المنفى
رسالة
للغزالة
دمعتين وحرقة ما تنطفي
اشربي من نبع ضلعي
اصدق شعور وفي
مدري ليه امي بتبكي
من تجي سيرتك تبكي
( نص : الى المطلة من شرفة القمر ، من ديوان : تتسع حدقة على آخر مداها)
فهنا قصيدة التفعيلة تأخذ ابعادا واغراضا كلامية وتأملية اخرى . وتتطور قصيدة التفعيلة لتاخذ اشكالا أخرى مختلفة ، اشكالا اكثر اختزالا وتركيزا سواء في الفكرة او الشكل المعماري للقصيدة كما في ديوان ( ممتلي بروح المغامر ) الذي اشتغل فيه على قصيدة التفعيلة بتقنياتها المختلفة ، فقد استفاد من التقنيات الحوارية داخل النص ، كما استفاد من تقنية التكثيف الشعري داخل المقطع الشعري الواحد . فنرى كما في نص « من نافذة سيارة مرت « انه اعتمد على تقسم النص الى 17 مقطعا شعريا مكثف ، وهو شكل جديد من اشكال الكتابة الشعرية في القصيدة الشعبية :
(1)
تنزلق قطرة ندى
في الوثير ،الوثير
روعة بتغري الشذا
لون وفخامة
(2)
ليل يتشاقى على صبحه
صبح ما همه سوى ليله
(3)
يشقيك من نافذة
وش ناوية
وهكذا .. الى المقطع السابع عشر، وهذا الشكل الكتابي القائم على ترقيم المقاطع يظهر في اكثر من نص في نفس المجموعة الشعرية ، وهي هذه المجموعة كما اطلق عليها مجموعة تظهر فيها روح المغامرة الشعرية بحق ، فقد طرحت هذه المجموعة نصوص متجاوزة وجديدة في طرحها فقد اشتغلت على تقنيات شعرية جديدة ، وهنا يظهر الجانب القرائي النقدي للشاعر واستفادته من تقنيات القصيدة الحديثة .
كما ان بعض نصوص التفعيلة الطويلة قد تخلصت من تقنية التقفية المتعارف عليها في قصيدة التفعيلة ليترك النص يسترسل بكل انسيابية كاسرا نمط التقفية التقليدي معتمدة على الايقاع الداخلي التي تنتجه الأشطر وما تحدثه علائق الكلمات مع بعضها البعض :
اذكريني
اذكريني في الممرات الحميمة
في الفصول اللي بـ تمرك جالسة وحدك
بدوني
في اماسينا الجميلة
في المقاهي
في عيون الأصدقاء
في الطريق اللي تهجيته وتهجاني
واللي يا ما نام لي بـ اسفلته قلب
في المطر يغسل غبار الشبق
بأذكار علوية
ثم يتطور هذا التجريب لتكتمل ذروته مع ديوان ( شق فجرك ظلامي وانجلت عتمتي ) والذي جاء متجاوزا في تقنياته الكتابية ليكتمل به مشهد التجريب الشعري عند حمود الحجري .
في هذا الديوان وهو الأخير حتى كتابة هذه القراءة شي من الطرح الكتابي المختلف في تجربة القصيدة العامية ككل، فقد احتوى هذا الاصدار على نصين شعريين طويلين حاول فيهما الحجري ان يقدم خلاصة تطوره الكتابي وتجريبه في القصيدة الشعبية / العامية . فبداء من فكرة الديوان الجديدة والمتجاوزة في الطرح والتي يمكن ان نعتبرها مغامرة بحد ذاتها والتي هي امتداد لفكرة الديوان السابق ( ممتلي بروح المغامر ) لم يكف الحجري عن استعذاب هذه المغامرة التي تطورت معه في ديوانه الأخير (شق فجرك ظلامي وانجلت عتمتي ) ، وليس انتهاء بالشكل الكتابي الجديد داخل النص الواحد ، فقد قام بتقسيم النصوص الى مقاطع شعرية مكثفة مارس في كل نوع تنويع كتابي جديد ومختلف ، ففي النص الأول والذي حمل اسم المجموعة احتوى على 38 مقطع شعري مكثف تنوع بين الشكل العمودي والتفعيلة ومحاولات الخروج الى قصيدة النثر وحتى المقاطع التي جاءت على شكل قصائد تفعيلة مكثفة او ما تعارف على تسميته بقصيدة الومضة تخلصت من نمط التقفية التي تنتهي به المقاطع . هذا الشكل الكتابي قائم على الاختزال والتكثيف في الفكرة ، كما ان جميع مقاطع النص تتضامن وتتكاتف لتخدم الفكرة العامة للنص ، وما الاهداءات في بداية بعض المقاطع الا جزء من منظومة الفكرة العامة للنص . والفكرة العامة للنص هي ايضا لا تخلو من الجدة الى جانب طريقة الطرح التي اعتمدها الحجري لتقديمه للفكرة . ولا يفوتني ان اذكر ان المقاطع العمودية التي جاءت داخل جسد هذا النص لم تخلو من الجدة والابتكار ايضا سواء على صعيد الفكرة او على صعيد الشكل المعماري للكتابة ، ففي المقطع (27) نقرأ :
تكتب تفاصيل وحدتها قصيدة .. الجدة ،وتفترش صمت الحصير..
المهتري ،مثل باقي اشياء عديدة .. ألوانـــها كالحة ، ما تستثير ..
غير الشعور البئيس ومزيده .. من هم ، من غم ، من طعم مرير
فنحن نرى ان هذا النص لا يمكن قراءته الا بدفعة ونفس شعري واحد ، فقد اعتمد الشاعر على تقنية التدوير في النص العمودي ، وهذا التدوير قائم بين الشطر والآخر وبين البيت والذي يليه ، فقراءة هذه القصيدة تستوجب التتابع في القراءة لأكتمال فكرة النص .
أما النص الثاني من هذه المجموعة وهو نص طويل آخر تكون من 24 مقطع مكثف ، اعتمد على تقنية قصيدة الومضة ذات التكثيف الشعري العالي واسماه : « لغة أخرى» ، وهي بالفعل لغة شعرية أخرى كما يدل عنوانها الذي يقدم هو الآخر فكرة مبتدئة لماهية هذه الكتابة الشعرية ، سأختار هنا عشوائيا بعض المقاطع المرقمة كنماذج لهذا النص :
(2)
هـ العين
خبرني :
ما لها رادع ؟
(6)
كنت أحسب اللجة
بحر
لين خضتك
(7)
بها فتك
وبها هتك
وحشود
وبربرية
وصهيل سيوف
وصليل خيول
وبها
وبها
ولو .. ما بها
ما به عذاب ونار !
ان وحدة الفكرة والموضوع في تجربة الحجري تمثل ملمحا اساسيا في تجربته ، فنحن نرى ان لكل ديوان تجربته وخصوصيته الكتابية وهذا ما يظهر من خلال الدواوين الاربعة ، فقد اعتمد حمود على مسألة الاشتغال على الديوان الواحد ذي الفكرة الواحدة في ديوان بأكمله وهذا ما يميز التجربة لديه .
حضور البيئة في التجربة
تكاد تشكل البيئة ملمحا مهما من ملامح التجربة الشعرية عند حمود الحجري ، فحضورها القوي في مجمل التجربة هو ما يكاد يشكل سمة مهمة فيها ، فلا يكاد يخلو نص من هذا الحضور ، وتتنوع اشكال الحضور في هذه التجربة بأشكال مختلفة ، فمن مفردات البيئة العامة كأسماء الاماكن الى مسميات الأشياء والاشخاص الى حضور اللهجة العامية بمختلف مستوياتها . وتذوب هذه المفردات داخل جسد النص مشكلة الهوية العامة لعموم التجربة بحيث اننا لا نشعر باي افتعال او اقحام لفظي . ولعلنا نقول ان الشاعر حمود الحجري هو من انجح التجارب الشعرية العامية التي استطاعت ان توظف البيئة العمانية وان تقدمها بشكل حداثي جديد بحيث انه يستفيد من تقنيات الحداثة والكتابة الشعرية الجديدة في وقت حافظ فيه على حضور البيئة العمانية، وتتجلي مستويات الحضور بشكل مختصر كالتالي :
* اللهجة :
جنبي على المقعد
اسمع حكايتك
اقاودك وانتي
ما ينفد جرابك
* المكان :
انتي الظاهر
بيوت وناس
رحتي انتي
راحت الظاهر
* مفردات المكان :
والسبلة بـ ثوب التفجع والنواح تصافح ايام السواد المدلهم
السبلة اللي دك وقفتها اجتياح جرافة جلفة بلا قلب وندم
*البيئة الزراعية :
شريان هالقرية فلج ياهو تحدر واستمر
شريان هالنابض وصال له زمان يخايله
* الشخوص :
سقى يا معلم القرآن
قبرك وابل
يخرج مزاريب البيوت الساهمة
من صمتها الممتد
جرح أغبر
*الفنون المغناة :
أي طرق ؟ وأي لال ؟ وأي داني ؟
أي طعم ؟ وأي لون ؟ وأي ريحة
ان مستويات حضور البيئة تختلف وتتنوع في هذه التجربة وما هذه الا لمحة سريعة ، وحضور البيئة في تجربة الحجري تحتاج اشتغال خاص يرصد هذا الحضور الذي يأخذ اشكال كثيرة ابعد مما رصدته هنا في هذه العجالة .
تساؤلات حول التجربة
اللهجة :
استطرادا لفكرة حضور البيئة المتمثلة في اللهجة العمانية في تجربة حمود الحجري، لا يفوتني ان انوه هنا الى ما يمكن ان اسميه مبدئيا تناقض وتداخل اللهجة في القصيدة والتجربة الواحدة ، ففي الوقت الذي نجد فيه حضور البيئة العمانية في هذه التجربة ، البيئة بكافة مستوياتها التي ذكرت المتمثلة في اللهجة او المكان ، فإننا الى جانب آخر نلحظ دخول مفردات من خارج البيئة او من خارج لهجة المكان التي ينتمي لها صاحب التجربة ، قد يحدث هذا الدخول نوع من التناقض لدى القارئ ونوع من التساؤل للوهلة الأولى ، فنحن امام تجربة شعرية نجد فيها حضورا للهجة والبيئة العمانية وفي نفس الوقت نلحظ وجود مفردات من خارج بيئة المكان ، هذا التساؤل يظهر الحاحه اكثر ما يظهر في القصيدة العامية الشعبية ، ربما لأن القصيدة الفصحى تجاوزت هذه المسألة كون اللغة الفصحى لغة مشتركة ينتمي لها كل الكتاب العرب ، لكن ماذا بشأن القصيدة العامية ؟!! ، هل أصبحت اللهجات العامية العربية هي الأخرى مشتركة بحيث اننا لن نستغرب وجود مفردات من لهجات عربية أخرى في تجربة شعرية عمانية ؟! ، هل أصبحنا فعلا نعيش في زمن عولمة سقطت فيه حتى الحدود اللغوية ايضا ، بحيث اصبح القارئ العامي العماني لا يستغرب من وجود مفردة في قصيدة عمانية ، مفردة تنتمي لبيئة كلامية أخرى . أليست القصيدة العامية تنتمي للهجة ، الا نرى نحن ايضا التطور الذي يحدث للهجة ، ألم يقتحم الاعلام المرئي والمسموع عوالمنا الكلامية ايضا بحيث ان اللهجة هي ايضا كائن يتأثر ويتحول ، الا نعتبر ما يحدث للقصيدة الشعبية نوعا من التحول الذي يحدث للهجة العامية ايضا .
شيء آخر ، اليست الكتابة الشعرية هي لحظة كتابية لا واعية ، الا تختار كل قصيدة لغتها ومفرداتها ، الا تكون هذه المفردات في مخزون الذاكرة ويتم استدعاؤها استدعاء عفويا لا واعي ، هل نستطيع في لحظة الكتابة ان نحذف مفردة ما في وقت استطاعت هذه المفردة ان تلخص الحالة الشعورية التي نحتاجها ونشعر بها ، ماذا لو استبدلنا هذه المفردة استبدالا قسريا بحجة انها لا تنتمي للهجة او للمكان ، في وقت نشعر ان هذه المفردة هي المفردة المناسبة والتي تعبر عن الفكرة والحالة الشعورية الآنية ، الا يؤثر هذا الاستبدال سلبا في توصيل الفكرة والحالة الشعورية ؟! اتساءل ايضا ، هل من مهام الشاعر التوثيق للهجة ، اليست هي مهمة يجب ان تضطلع بها مؤسسات أخرى !! . الا يؤثر التقوقع على اللهجة في مسألة توصيل القصيدة، السنا بحاجة الى هذه اللغة البيضاء لتوصيل قصائدنا الشعرية للآخر ..
لكن وعلى الجانب الآخر ماذا عن الهوية .. هوية الكتابة، اليس للكتابة الشعرية هوية ، حتى في القصيدة الفصحى نستطيع ان نكتشف هوية القصيدة وانتماءها الجغرافي ، ماذا لو استمر تأثر القصيدة الشعبية العمانية باللهجات العربية ألا يفقدها ذلك هويتها وخصوصيتها كلهجة وكقصيدة تنطلق من اللهجة المحكية . هل هذه المفردات الدخيلة في القصيدة الشعبية العمانية هي فعلا مفردات حاضرة في حديثنا اليومي بحيث انها جزء من لغة الحديث اليومي ، اليس دخولها في القصيدة العمانية دخولا قسريا متكلفا ، الا نشعر بتناقض قرائي بين قصيدة تستوحي تفاصيلها من المكان العماني ثم تأتي مفردة دخيلة لتعبر عن خصوصية المكان الذي لا تنتمي له . أليس من المفترض ان تنطلق القصيدة الشعبية الحديثة من اللهجة العامية وان تقف على القصيدة الشعبية الموروثة ثم تواصل تطورها من هذه الأرضية بدل التأثر باللهجات المحيطة والقصائد الشعبية القادمة من خارج المكان ؟!
اليس للهجة العمانية خصوصيتها التي تختلف في تركيب اللفظة وطريقة نطقها عن اللهجات الخليجية المحيطة والتي من المفترض ان نقدمها للآخر كخصوصية شعرية وان ننطلق منها في كتابة قصيدتنا العامية . ألا تقف باقي القصائد العامية الحديثة على أرضية لهجاتها ألم تنطلق منها ومن خصوصيتها : كالقصيدة العامية المصرية واللبنانية والسعودية و.. ألم تتأثر القصيدة العامية العمانية بالقصائد الشعبية القادمة من الخليج وغيره بحيث انها افقدتها خصوصيتها وطريقة نطقها للمفردات . ألا نجد ذلك الفرق الكبير بين القصيدة الشعبية العمانية الموروثة والقصيدة الشعبية الحديثة في طريقة تركيب المفردة ونطقها ؟!!
كل هذه الأسئلة تحضر في ذهني وانا اتتبع تجربة حمود الحجري الشعرية ، وسأعرج هنا الى بعض الأمثلة تاركا للقارئ الحكم بعد طرح سيل الأسئلة أعلاه .
– حضور مفردات من خارج البيئة للتعبير عن خصوصية البيئة : في النص القادم من ديوان ( شق فجرك ظلامي وانجلت عتمتي ) والذي يحمل الرقم 23 من النص الأول في المجموعة نجد هذا النص الذي أهدي إلى ( ع . ح ) والذي يستحضر احد الشخصيات العمانية التي تنتمي لبيئة الشاعر والتي تحضر فيه مفردات المكان العماني بشكل لافت ( السبلة ، البوري ) :
يتحلقوا كل ليلة وكل صباح يرموا على صف الوسايد ثقلهم
يدخنوا من بوري الوقت المتاح تبغ الحكي وشتى الدواير تر تسم
الى ان يقول ..
لين انت رحت وكل أثر وياك راح وسبت للذكرى كلام من ألم
هنا أشعر ان كلمة ( سبت ) هي كلمة خارج السياق العام لجو القصيدة ، حيث ان الجو العام للقصيدة لا يستحمل هذه المفردة الدخيلة التي يأتي حضورها شاذا وصادما داخل مشهد البيئة العمانية في جو القصيدة العام . ونفس الكلام يقال في المقطع رقم (17) من نفس النص ، والذي يستحضر فيه النص حارة الشاعر العمانية ثم نجد بيتا كـ :
ما عاد الجارة للجارة تنده وترطب أيامك
فنفس الكلام يقال عن كلمة ( تنده ) مثل ما قيل عن كلمة ( سبت ) ، ولهذا النوع من المفردات حضور كبير في التجربة ككل .
– الميل الشديد للتسكين : ويظهر هذا كثيرا في تجربة الحجري، فهو كثير الجنوح للتسكين لضرورة وزنية احيانا وبشكل غير واعي في احيان أخر، وهذا التسكين ناتج من التأثر اللاواعي للهجات الخليجية القادمة من خارج البيئة والمفردة العمانية والتي وصلت الينا من خلال النصوص الشعرية الخليجية في وقت ان هذه المفردات أو الحروف يطالها التحريك أكثر من التسكين ، سأورد هنا بعض الأبيات التي طالت مفرداتها التسكين وسأضعها بين قوسين :
1 – هم ما حكوا لك هالسواد المكتحل (بأبيضْه) نام
وطاح ،طاح المخمل الشفاف يهدي السحر طولك
فهنا نلاحظ أنه عمد الى تسكين حرف الضاد في كلمة ( أبيضه ) في وقت انها تحرك في اللهجة .
2- تنام في جلدك حكايتْـك ،تسترسل
في بوحك المشبوب ،كل العطر بأنسامك
أيضا في كلمة ( حكايتك ) عمد الى تسكين التاء ليستقيم الوزن والتي هي في أصلها تحرك في اللهجة .
هذه المفردات في تركيبتها اللفظية وطريقة نطقها لا تنتمي كثيرا الى اللهجة العمانية بقدر ما تنتمي الى لهجات قادمة من بيئات أخرى ، وما ذكرته هنا ليس سوى أمثلة صغيرة للتأثر الذي تعيشه القصيدة الشعبية العمانية والذي حادت فيه عن تركيبة المفردة العمانية وطريقة نطقها .
لغة الكتابة :
هل يحاول حمود الحجري ان يقدم لغة كتابية شعرية جديدة ، ألا تميل هذه اللغة الشعرية الى الفصحى أكثر من ميلها الى العامية ، ألا يمكن أن نسمي لغته الشعرية في تجربته هذه بأنها لغة متفاصحة ، أقول هذا وانا اقرأ نصوص هذه التجربة التي تميل في مجملها الى التأثر بالقصيدة الفصحى سواء في لغتها الشعرية أو في تقنيتها الكتابية ، الا يمكن ان تفقد هذه اللغة الكتابية القصيدة الشعبية خصوصيتها ، واذا اعتبرنا ان هذا الشكل الكتابي هو شكل شعري كتابي جديد فإلى أي نوع نصنفه هل هو شعر شعبي ام شعر فصيح أم هو شعر وكفى !! ، سنقول تجاوزا ان اللغة تتطور واللهجات العامية يطالها ما يطالها من تطور ، ولكن هل وصلت اللهجة العامية الى هذا المستوى من التطور أم هي لغة متجاوزة للهجة العامية ، ربما هي كلغة أقرب الى لغة المثقفين ، الى لغة حديثهم ، هل ممكن ان تتحول هذه اللغة المثقفة الى شكل شعري كتابي .. ربما ، هذا ما لا يمكن ان نتكهن به !!
يمكنني ان اعتبر هذه اللغة تجريبا شعريا جديدا ، لغة تحاول ان تقف في الوسط بين العامية والفصحى ، وحتى تقف هذه اللغة على قدميها فإنها تحتاج الى زمن لتتكيف مع هذا النمط الكتابي ، حيث انه كنمط يحاول ان يطوع المفردات الفصحى لينطقها بشكل عامي وهذه المحاولات يظهر فيها أحيانا ما يظهر من التكلف اللفظي والذي تميل فيه اللهجة الى التسكين بينما تميل اللغة الفصحى الى التحريك ، والذي يفقد بعض المفردات او المقاطع شعريتها من حيث صعوبة نطق بعض المفردات الفصحى باللهجة العامية وارتباطها بالوزن الشعري الذي بنيت عليه القصيدة ولنأخذ على ذلك بعض الأمثلة :
1-
وش المانالوج اللي يثور
ب هالدائرة المتلونة بالأسود
اللامستقرة
مثل زئبق
وش من حديث حامي
2-
الشاشة اللي تبث
العواطف / الانفعالات / الاشتهاء / الاكتفاء
التلون
التبدل
القادرة على التمويه
الفاشية للسر
المعبأة بالذخيرة والعتاد
المجردة من كل شي .
في المقطعين السابقين نجد مفردات من قبيل ( المانالوج ، المتلونة ، اللامستقرة ، الاشتهاء ،الاكتفاء ، المعبأة .. ) وهي مفردات في تركيبتها اللفظية تنحو ناحية اللغة الفصحى والتي يحاول الشاعر هنا أن يطوعها لتأخذ نطقا عاميا عامدا الى تسكينها لتحتفظ بأيقاعها الوزني .
خاتمة
كانت هذه الورقة رصد لتجربة الشاعر حمود الحجري من خلال دواوينه الأربعة :
– الغرفة بلد
– تتسع حدقة على اخر مداها
– ممتلي بروح المغامر
– شق فجرك ظلامي وانجلت عتمتي
والتي حاولت فيها ان اتتبع الجوانب الفنية والابداعية لهذه التجربة الكتابية العميقة والجديدة في آن ، والتي اعتبرتها تجربة مختلفة في خط الكتابة للقصيدة الشعبية الحديثة . والحق ان هذه الورقة ليست سوى استعراض خارجي لجوانب هذه التجربة وتتبع لخط سيرها الكتابي والا فإن هذه التجربة غنية بالكثير من الثيمات الكتابية التي بإمكان اي قلم نقدي تتبعها . لم تكن هذه الورقة هي ورقة نقدية بالمعنى النقدي القائم على الحفر والبحث في التجربة وانما تتبع لخط سيرها وعرضها كتجربة جديدة تستحق المتابعة . وبحكم قربي من تجربة الشاعر فإني ارى حمود الحجري شاعرا مسكونا بهاجس الكتابة والتجريب والبحث والمغامرة وهو شاعر يشتغل على تجربته قرائيا وكتابيا وتجربته لم تتوقف عند هذه الاصدارات الاربعة وانما لديه نصوص كتابية وتجريبية وشعرية أخرى سنجد فيها الجديد في اصداراته القادمة .
الذي اريد ان اقوله ان تجربة حمود الحجري التي رصدتها في هذه الورقة هي تجربة شعرية ثرية تستحق المتابعة والقراءة النقدية وهذا ما اردته من هذه الورقة لعرض هذ التجربة والتي قصدت بها ان الفت الاقلام النقدية لتتبع هذه التجربة الثرية ، اذ ان تجربته تثير الكثير من الاسئلة حولها ، وهذا هو سر نجاح هذا النوع من التجارب، وهذه التجارب هي التي تصنع التغيير في اي مشهد كتابي .
طاهر العميري