إن بداية الفكر صراع وخلاف ــــ
ليس فقط مع الآخرين
وإنما مع أنفسنا أيضاً.
ايريك هوفر
ليست الفلسفة ثمرة أشخاص أذكياء فحسب، إنما تمنحنا الأفكار والإبداعات المميّزة التي تقترب مع الجميع، فالفلسفة بالتالي ليست حكراً على المفكرين، وإنما قد يمارسها الناس العاديون في حياتهم اليومية، إذ عندما لا يكون المرء منشغلاً بمجريات الحياة وروتينها وتفاصيلها المملة، قد نجده يتوقف لحظات للتأمل في معجزات الحياة، ويفكر في أسرارها ونظامها الكوني، وقد يتساءل أحيانا عن حقيقة الكون؟ وبما تتعلق حقيقة هذا الوجود؟ إن الإنسان بطبعه شخص فضوليّ، لا يسعه إلا أن يسأل ويتساءل بشأن العالم الدائر حوله، لهذا فهو يطرح على الدوام أسئلة لها جواب، قد لا يكون سهلاً، عن إمكانية معنى الوجود. يبحث المرء عن سبب يشرح فيه معنى الكينونة، وغالبا ما يراوده السؤال الأزلي الشهير: من يكون؟ ما هي مكانته في هذه الطبيعة؟ إن ذهن الإنسان مسلح بذكاء عال يجعله يفكر بعقلانية ومنطق، يرجحان فطنته وإدراكه. لقد منحته الطبيعة القدرة على التحليل المنطقيّ، ومعالجة الأمور بشكل واع متوصلاً إلى منطق قد يكون سليماً في حياته، وهذا الأمر يجعله قادراً على التشكيك والتساءل والتفكير على نحو عقلانيّ عميق، حتى أنه كلما فتح نافذة للحوار والسجال وناقش يكون قد إقترب من إطار الفلسفة والفكر. بمعنى آخر كلما ناقش الأفكار وتبادل الآراء فأنه يفكر بالضرورة بطريقة فلسفية، دون وعي منه. إن الفلسفة لا تتعلق كثيراً بالحصول على أجوبة حول الأسئلة الأساسية التي تطرحها، بقدر ما تتعلق بعملية التطوير الذاتيّ للمرء، أي أنها الطريق التي تقود السؤال والإجابة كليهما إلى الأمام، وتطوير السؤال للوصول إلى إجابة محايثة ممكنة، أي أنها الطريق للجواب وليس الجواب. إن الفلسفة هي استخدام المنطق والنظرية المنطقية، وهي أن تثق بمفاهيمك وقراراتك أكثر مما تؤمن بآراء وقرارات الآخرين ومعتقداتهم. لكل إنسان ملكة يستطيع أن يميز بها بين الخير والشر ويعرف السيئ من الجيد، الإيجابي من السلبي، ما عليه إلا استخدام إدراكه ووعيه والثقة بآرائه وقراراته الخاصة، وأن لا ينقاد وراء معتقدات الآخرين وأفكارهم وقراراتهم. هكذا كان الفلاسفة الأوائل في اليونان والصين، فهم لم يكتفوا بالشروحات التي رسخها لهم الدين بشأن التقاليد والمعتقدات والمفاهيم الكبيرة، وقد كانوا يقولون بأنهم يريدون شرحاً أوسع من ذلك، وبدلا منه ذهبوا بحثاً عن أجوبة عملية ومنطقية، ومثلما نحن نشارك الآن زملاءنا وأصحابنا الأفكار والتساؤلات نفسها كانوا أيضاً يتناقشون ويتقاسمون الأفكار مع بعضهم الآخر. كان الفلاسفة يتبادلون الآراء ويتجادلون مع زملائهم الآخرين للوصول إلى أجوبة أكثر وضوحاً واتساعاً. إن المفكرين الأوائل هم الذين أسّسوا الحدائق المدرسية، كي يتعلم الآخرون الأشياء التي توصل إليها الفلاسفة أنفسهم، والأهمّ من هذا كله هو تعليم التلاميذ كيف توصّل الفلاسفة إلى أفكارهم، وذلك عن طريق الحوار والمناقشة والجدل، وهكذا كانوا يشجعون تلاميذهم دائماً على معارضة أفكارهم ونقدها، وعدم الاتفاق بالضرورة مع آرائهم بل مجابهتهم بآرائهم وأفكارهم المناقضة، أن ينتقدوهم ويناقشوهم وأن يصروا على أفكارهم وآرائهم الخاصة دون تراجع. وفي المقابل كان الفلاسفة يطوّرون أفكارهم ويعدلون فيها للحصول على أفكار جديدة كي يصلوا إلى نتائج أخرى وأفكار جديدة. واحدة من أكبر الأخطاء المألوفة لدى الإنسان هو سوء الفهم الكبير لهذا الأمر، إذ يعتقد الناس أن المفكرين يفكرون بشكل منعزل، وأن الفيلسوف يعمل على أفكاره بشكل منفصل بعيداً عن الآخرين، وهذا ما لا يحدث بصورة دائمة، لأن الأفكار الجديدة تنمو وتتطوّر بالحوار والمناقشة مع الآخرين، وهكذا فان أغلب الأفكار تتغير خلال الإنصات إلى الآخر وعبر تبادل مختلف الآراء، لهذا تتجدد الأفكار وتصبح أكثر جمالاً من خلال النقد والبحث والتحليل.
ان الشك هو أول خطوة
للوصول الى الحقيقة!
دينيس ديدروت
حوار، مناظرة، جدال، مناقشة!
أهم نموذج لهذا النمط من الفلاسفة هو الفيلسوف سقراط، لقد كان سقراط يعود دائماً لأسلوب المحاورة والجدال خلال مناقشاته مع الآخرين. لم يترك سقراط وراءه أي كتابات لفلسفته، ولا توجد حتى نتائج لفحوصات أفكاره واختباراته الكبرى التي توصل إليها بشق الأنفس عبر طريق صعب، غير أن سقراط كان يرى أنه لا يعرف شيئاً، بينما كان ينظر إليه الناس على أنه أذكى رجل في العالم، لأنه أعلن أنه يعرف بأنه لا يعرف. لقد كانت مبادرة سقراط الكبرى التي تركها خلفه للعالم هي فلسفة “الحوار” وهو الأساس الذي أقام عليه فلسفته. إن القيم المهمة التي أسسها سقراط هي تقاليد الحوار، المبنية على النقاشات والسجال الدائر بين الأفكار، كي يتوصل الآخرون إلى مفاهيم أعمق من تلك الحقائق الوجودية الأساسية، لقد عمل سقراط على ترسيخ تقاليد الحوار، وأكد على أن الحوار هو أساس كل شيء. إن طريقة سقراط في ترسيخ الحوار هو على العموم عندما يخرج إلى الشارع يتحاور مع الناس يسألهم عن مفاهيمهم تجاه الحياة والوجود، ثم يطرح أسئلته المشكّكة ويحاول تشكيكهم، فيبدأ يفترض ويخمن كي يحصل على مفاهيم أعمق وحقائق أساسية أكبر. لقد كتب افلاطون تلميذ سقراط كل شيء عن فلسفة معلمه سقراط عبر محاورات، وكانت الشخصية الرئيسة لهذه المحاورة هو سقراط نفسه. لقد استخدم أغلب الفلاسفة فيما بعد، بعد موت سقراط، تقنية المحاورة في كتاباتهم، وقدموا أفكارهم بطريقة المناهض أو المؤيد، أي السلب والإيجاب حول الفكرة نفسها، بدلاً من شرح أفكارهم للقراءة تحت مشرط النقد. لقد كان بعض الناس ينتقدوا الأفكار الجديدة دون فهم حقيقي، وبدلاً من أن يتقبلوا آراء الآخر، كان سقراط يواجههم بقلب منفتح متساءلاً، ومعارضاً، بتعليقات عادة ما تكون لمّاحة. على سبيل المثال: ولكن! ماذا لو؟ كيف يكون هذا الأمر هكذا؟ لقد ناقش الفلاسفة من أولهم إلى آخرهم المعنى الحقيقي للحياة من منظور فلسفيّ، وقدّموا باستمرار مختلف السجالات والآراء، وعبر هذه السجالات تطور الفكر الفلسفي بعد مجيء افلاطون وارسطو طاليس وآخرين في العصر اليوناني القديم، لقد كانت نقاشات افلاطون وتلميذه ارسطو طاليس على سبيل المثال متناقضة كلياً. كان أحدهما يناقض الآخر دائماً، ولكلٍّ منهم أسئلته ونظريته ومفهومه الخاص. وقد ظلت هذه الطريقة قائمة بين الفلاسفة، متمسكين بها إلى يومنا هذا. إن هذه الحوارات المتناقضة والنقاشات الكبيرة أدت إلى ظهور أفكار جديدة أخرى كبيرة طرية وطازجة. ولكن لماذا مازالت الأسئلة الفلسفية تُطرح؟ ولماذا يتجادل المفكرون حتى هذه اللحظة دون التوصل إلى أجوبة حاسمة حول قيم الوجود؟ لماذا لم يتوصل المفكرون إلى أجوبة كافية لتلك الأسئلة الأساسية الكبيرة؟ ما هي الأسئلة التي شغلت وما زالت تشغل أكبر عقول الفلاسفة والمفكرين في العالم؟
المعرفة والوجود!
عندما ظهر الفلاسفة الأوائل الحقيقيون في اليونان القديمة قبل ما يقارب 2500 عاماً، ألهمهم العالم من حولهم. فقد نظروا بدهشة إلى الأرض المليئة بمختلف المخلوقات والكائنات التي تعيش عليها، نظروا بانبهار وتعجب إلى السماء، وتساءلوا عن الشمس والقمر والكواكب والنجوم، راقبوا المناخ وتغييرات الطبيعة كالهزات الأرضية، الزلازل، كسوف الشمس، خسوف القمر، نظر المفكرون إلى كل هذه الظواهر الطبيعية وكانوا يبحثون دائماً عن تفسيرات لها بعيداً عن تفسيرات الأساطير والمعتقدات الدينية. لقد بحثوا عن أجوبة ترضي فضولهم وتقنع ذكائهم. وأول سؤال فلسفي شغل عقول الفلاسفة هو: ماذا يحتوي الكون؟ ولم يمضِ الكثير حتى توسع السؤال ليشمل سؤالاً آخر ألا وهو: ما هي الطبيعة الحقيقية في هذا الوجود؟ ما هي المادة الحقيقية التي يحتويها كل شيء في الكون؟ يتجه هذا السؤال إلى تخصص آخر في الفلسفة يطلق عليه “الميتافيزيك”، أي علم ما وراء الطبيعة. على الرغم من أن الكثير من هذه الأسئلة الأساسية حصلت في الواقع على أجوبة علميّة إلا أن الكثير منها مازال يدور في إطار البحث، وهناك أسئلة محيّرة، حيرت عقول الفلاسفة والمفكرين وظلت بلا إجابات مقنعة، ومازالت تدور في فلك العقول، يبحث المفكرون لها عن إجابة، على سبيل المثال: لماذا يوجد شيء بدلاً من اللاّ شيء؟ لماذا يكون الكائن كائنا بدلاً من ألا يكون؟ ليس من السهولة الإجابة على هذه الأسئلة، وبما أنّ وجودنا نحن البشر يدخل ضمن إطار وجود هذا الكون، كجزءٍ أيضا منه، يتساءل الميتافيزيقيون عن سبب مقنع وحقيقي لوجودنا فيه، وماذا يعني أننا كائنات واعية، مُدركة؟ كيف نعيش ونشعر بالعالم من حولنا؟ هل الأشياء موجودة من حولنا بغض النظر عن رؤيتها أم عدمها، وهل نحن نشعر بها أم لا؟ ما العلاقة بين الجسد والوعي ـــ وهل هناك شيء أسمه روح خالدة؟ إن هذا الجزء ينتمي إلى علم الميتافزيقيا، العلم الذي يشتغل على القضايا الوجودية، ويطلق عليه “اودنطولوجيا” وهو فرع كبير وسبّب أساسي أيضاً للكثير من الفلسفة الغربية. عندما بدأ الفلاسفة بالتعمق في سؤال كيفية تكريس أنفسنا للتعلُّم واستيعاب العلم والمعرفة بشكل عقلاني منطقي، توصلوا إلى سؤال آخر أساسي واضح وهو: “كيف يمكننا أن نعرف؟” إنه غصن آخر واسع في علم الفلسفة وهو “نظرية المعرفة”، ويشمل دراسة الطبيعة وحدود استيعاب / فهم الإنسان، كم وكيف يمكنه أن يتعلم وكيف يُخزّن المعلومات في دماغه. إن سؤال هذا الغصن المركزي والأساسي هو: كيف نهتدي للمعرفة؟ أو كيف نعرف ما نعرفه؟ هل نحن مولودون بجزء من المعرفة، أم لعلنا نولد معها كلها؟ هل “لدينا المعرفة منذ الولادة” أم أن المعرفة نكتسبها ونتعلمها عبر الخبرات الشخصية؟ هل يمكننا أن نعرف شيئاً ونكون متأكدين منه من خلال التفكير والتحليل المنطقي فحسب؟ تلك الأسئلة أساسية للتفكير الفلسفي. ينبغي علينا أن نثق بعلمنا، معرفتنا ومعلوماتنا أولاً كي نستطيع مناقشتها والجدال حولها فيما بعد، ومن أجل الوصول إلى نتائج صحيحة، علينا أن نحلل بطريقة سليمة، ينبغي أن نضع حدوداً معقولة لمعرفتنا واستيعابنا، وإلا سوف لن نتمكن من المعرفة فيما إذا كنا نعرف حقاً أم أننا نعتقد أننا نعرف، وذلك لأن حواسنا قد تخدعنا معتقدين بأننا نعرف في حين أننا لا نعرف.
المؤمن بالخرافات والمعتقدات الأسطورية
يُشعل النار في العالم
والفلسفة تطفئ لهيبها!
فولتير
المنطق واللغة!
كي نقود مُناقشة فلسفية أو فِكْر ما معين، ينبغي أن نؤسّس إدعاءً لأثبات حقيقة البيانات المختلفة، ثم نبنيها معاً على شكل سلسلة من الأدلة والبراهين الفكرية كي تقودنا إلى استنتاجات منطقية معينة. قد يبدو الأمر سهلاً في وقتنا الحاضر، ولكن عندما فكر الفلاسفة القدامى في بناء سلسلة من الحجج والبراهين العقلانيّة، وجدوا صعوبة في التوصّل إلى إنشاء منطقها، مما جعلهم يقومون بالفصل بينها وبين المُعْتَقَدات والأساطير السابقة، وهذا جعل تفسيراتهم تختلف عما كان سائداً بين الناس من تفسيرات وأساطير خُرافيّة واهية. لهذا كان الفلاسفة مرغمين على التوصل إلى طريقة يثبتوا فيها الأفكار التي توصلوا إليها، والتي تخالف وتعاكس أفكار الأديان وتفسيراتها المقبولة آنذاك. عندما اضطر الفلاسفة مرغمين إلى إثبات أفكارهم ظهر المنطق، ــــ ظل المفكرون يجدّدون هذا الأسلوب، وظل المنطق يتطور ويتجدد، فيما بعد، مع مرور الوقت، وخلال فترات طويلة تطور المنطق وازدهر. في بداية الأمر كان المنطق عبارة عن محض وسيلة أو أداة يمكن للمفكر استعمالها كحجة قوية، أو كبرهان لتحليل فيما إذا كانت فكرته مقنعة بما فيه الكفاية أم غير مقنعة، ثم تطورت لاحقاً القوانين الخاصة بالمنطق، وأصبح للمنطق فرع وغصن خاص به في شجرة علم الفلسفة، وكما في العديد من الفروع والأغصان في شجرة علم الفلسفة يملك المنطق علاقة حميمة وقريبة مع العلم وخصوصاً مع علم الرياضيات. إن البنية الأساسية في علم المنطق التي يمكن إثباتها هي الحجج والبراهين، وهذا يشبه تماما اثبات البراهين وحلولها في الرياضيات، تبدأ بافتراض الأفكار وترسم عبر طرح سلسلة وعدد من الحجج والبراهين، ثم بعد الحسابات / أو التحليل يتم التوصل إلى النتيجة، لهذا لجأ الكثير من الفلاسفة وأكبر مفكري التاريخ أمثال فيثاغورس ورينيه ديكارت وغوتفريد لايبنتز إلى الرياضيات كي يشرحوا الحقائق الصعبة غير القابلة للنقاش، لذلك لن نفاجأ وليس بالأمر الغريب أن نجدهم ماهرين جداً في علم الرياضيات. على الرغم من أن المرء يعتقد أن فرع المنطق هو الأكثر دقة من باقي فروع الفلسفة لأنه المجال الذي يختص بتحليل الأفكار صواباً أو خطأ، إلا أنه ما ظهر لنا وتبيّن من بعض البحوث والدراسات أن الإجابة ليست بهذه السهولة. كان التطور والتقدّم في علم الرياضيات في القرن 1800، قد تطلب طرح أسئلة أخرى جديدة بدلاً من قواعد المنطق التي شكّلها وأنشأها ارسطو طاليس، وفي العصر القديم بيّنت لنا عبارات زينون الشهيرة أن بإمكاننا أن نتوصل إلى نتائج معقولة وذلك عندما نطرح اللامعقول والمنافي للعقل بشكل واضح، وبمساعدة الحجج والبراهين الواضحة الصحيحة نصل إلى نتائج واضحة مفهومة.
واحدة من أكبر المشكلات هي أن فلسفة المنطق تعبر عن الأفكار بالكلمات، والكلمات يمكنها أن تخدعنا لأن فهمنا للجمل والكلمات أحيانا يحمل معنيين أو ربما يوجد معنى مخفي وراء الكلمات، وهذا الأمر يختلف في علم الرياضيات التي تستخدم الأرقام والرموز، ومن أجل الابتعاد عن ذلك الغموض والنزعات المخفية في الكلمات ينبغي للحوار المنطقي أن يكون قوياً مبنّياً على لغة دقيقة وواضحة جدا، وينبغي علينا أن نتفحص ونُدقق جميع الحجج والبراهين والأسباب كي يمكننا التأكد من أنها تعني ما نعنيه. عندما نتفحص ونتحقق من حجج الآخرين ينبغي علينا أولاً تحليل الخطوات المنطقية العقلانية التي اتخذوها أو التي قاموا بها، وكذلك نتفحص الكلمات التي استخدموها، لمعرفة مدى تماسك المنطق وقوة المعنى الذي يحمله. من خلال هذه العملية ظهر غصن آخر في الفلسفة هو: فلسفة اللغة، وقد ازدهر هذا الفرع في القرن 1800، ويقوم علم فلسفة اللغة على فحص الكلمات والتدقيق في معانيها.
أخلاق، أدب، فن وسياسة!
بالنظر إلى أن اللغة غير جليّة، وقد تحمل معانني خفية، حاول الفلاسفة شرح معاني الكلمات بحثاً عن إجابات للأسئلة الفلسفية، إن هذا النوع من الأسئلة سبق لسقراط طرحها على المواطنين في أثينا، في محاولة منه لمعرفة ما يشعرون به حقاً بشأن مفاهيم الحياة المختلفة، (كي يفهم ما هي آراء الناس فعلاً)، استطاع سقراط أن يطرح أسئلة بسيطة، على سبيل المثال: “ما هي العدالة؟” أو “ما هو الجمال؟” عندما فعل ذلك، كان يبحث عن شيء آخر أكثر من معنى ظواهر مُجرّدة ــــ ليس هذا فقط، وإنما ما كان يجذبه هو فحص مبادئ الناس الأساسية نفسها. لقد أراد سقراط أن يعرف ما الأشياء والظواهر التي نراها مهمة في حياتنا، وما هي طريقة العيش الجيدة من منظورنا. في مثل هذه المناقشات كان سقراط يستفز الناس، يستجوبهم ويشكك بمفاهيمهم للحياة، والعيش والأشياء التي يعتبرونها مهمة، كان يستطلع الآراء كي يتفحّص ويعرف ما المبادئ الأساسية لحياة “جيدة”، وكيف نعيش حياة طيبة، كريمة، ماذا تعني العدالة حقاً؟ وماذا تعني “السعادة” فعلاً؟ وكيف نتوصّل إليها. لقد أراد سقراط أن يعرف كيف يمكن أن نتوصل إلى حياة جيدة، سعيدة، وهكذا فإن الوصول إلى تلك الحياة الطيبة، السعيدة وعادلة هو الأساس لفرع من فروع الفلسفة الذي يطلق عليه اسم فلسفة الأخلاق (أو علم الأخلاق). أما الغصن المجاور لذلك الفرع والذي يَتَعَلَّق بـالجمال والفنون ما الجمال، وما الفن فيطلق عليه غصن علم الجمال. من خلال تفحصنا ودراسة القضايا الأخلاقية في حياتنا الفردية، الشخصية ومنظورنا للجمال والحياة الجيدة أي (عبر المنظور الشخصي لكل مواطن)، فإن هذه خطوة طبيعية للبدء في التفكير في القضايا المتعلقة بنوع المجتمع الذي نرغب في العيش فيه – كيف نتحكم في الحقوق والواجبات والالتزامات التي يجب أن يتحلى بها المواطن الفرد وما إلى ذلك، (أي عبر دراسة القضايا الأخلاقية لحياتنا الفردية نفكّر تلقائياً بنوع المجتمعات الذي نرغب العيش فيه ــــ كيف سيقودنا ذلك وأي واجبات تتطلب منا وأي حقوقٍ وامتيازاتٍ يمنحنا وغيره). إن هذا النوع من الأسئلة والأفكار تشمل فلسفة السياسة، وهو الغصن الأكبر في شجرة علم الفلسفة. لا يزال الفلاسفة يتساءلون في كل العصور، منذ القدم حتى عصرنا الحالي، يقدمون الأفكار والنماذج والمخططات لمجتمع مثالي، جيد، وكيف يجب أن يكون المجتمع منظماً بصورة مثالية، بدءاً من افلاطون ومدينته الفاضلة، إلى كارل ماركس وبيانه الإشتراكي.
اوه، ايتها الفلسفة يا أمنا
يا قائدة الحياة
أنت المربية الفاضلة
يا طاردة الكسالى
كيف كنا سنكون؟ وكيف كنا سنعيش من دونك؟
كيف كانت حياتنا من دونك ليس أنا فقط
وإنما البشر جميعاً؟
سيسيرو
الدين: شرق وغرب!
تختلف جميع الأغصان الفلسفية عن بعضها البعض الآخر، فهي غير متصلة ببعض، لكنها متداخلة، وغالبا ما يصعب علينا تحديد إلى أي غصن تنتمي بعض الأسئلة الفلسفية. إن الفلسفة تشمل في أغلب الأحيان عدة مواد، كالعلم، التاريخ، والفن، ولكن أصل منشأ الفلسفة بدأ من الأسئلة حول الدين، والمُعتقدات والأساطير الخرافية، وحول بداية تكوين الكون والوجود.
كانت الفلسفة تدقق أيضاً وتفحص الدين، وذلك عبر طرحها الأسئلة عن الإله: هل الله موجود؟ أو هل روح الإنسان خالدة لا تموت؟ لهذه الأسئلة جذور في الميتافيزيقا أي تشمل علم ما وراء الطبيعة، “الغيبي”، ولكن لها أيضاً معنى وأهمية كبيرة في إطار علم الأخلاق، لقد كان بعض الفلاسفة يتساءلون، على سبيل المثال، هل منحنا الإله الأخلاق أم أنها من بناء الإنسان وحده؟ وهذا جعلهم يتساءلون أيضاً إلى أي مدى يملك الإنسان خيارات حرة خاصة به؟
لقد نمت الفلسفة الشرقية، وتطوّرت في الصين والهند من خلال “الطاوية والبوذية”، حيث لا توجد حدود واضحة بين الفلسفة والدين، على الأقل حسب ما تقوله الفلسفة الشرقية، وهذا يشكل أكبر اختلاف بين فلسفة الغرب والشرق في هذا الإطار، على الرغم من أن الفلسفة الشرقية، لا تؤيد كثيراً مبدأ العقائد لوجود الإله في تكوين الكون، إلا أن دينها وفلسفتها نوعاً ما يتصلان ببعضهما البعض، انهما مرتبطان ببعضهما البعض مما يجعلنا نحن الغربيين نعتقد بأنهم مؤمنون. كان الفلاسفة الغربيون يستخدمون المناقشات المنطقية أحيانا للمجادلة عن إيمان الأديان لدى اليهودية، والمسيحية، والإسلامية، ولكن الإيمان عند الشرقيين، هو جزء متكامل ومندمج بالفلسفة، وهذا التكامل لا يوجد بين الغربيين. إن القواعد الأساسية للفلسفة الشرقية تختلف كلياً عن القواعد الأساسية للفلسفة الغربية، كان اليونانيون الأوائل يطرحون الأسئلة الميتافيزيقية، ويعتبرونها منفصلة عن المفهوم الفلسفي، بينما فلاسفة الشرق الأوائل في الهند والصين يعتبرون الإيمان جزءاً متكاملاً مندمجاً بالفلسفة، وهذا التكامل غير موجود عند الغربيين، فهم يعتبرون أن إجابات هذا النوع من الأسئلة مُتضمَّنَة في الدين وليس في الفلسفة. كما كان الفلاسفة الصينيون الأوائل يكرّسون معظم أوقاتهم لدراسة فلسفة الأخلاق والسياسة بعيداً عن الميتافيزيقيا وعلم ما وراء الطبيعة.
أن تتبع مناقشة أو محادثة أو جدال!
خلال مسار التاريخ، زودتنا الفلسفة بالعديد من الأفكار الهامة والمؤثرة. سنقدّم في هذا الكتاب عدداً من الفلاسفة المشهورين عالمياً وأفكارهم المشرّفة، سنقدم جملة أو فقرة مقتبسة من نصوصهم أو خطاباتهم الهامة، وملخصا موجزا عن أفكارهم وأعمالهم التي قدمت الكثير للفلسفة، وجعلت الفلسفة مفهومة لدينا، ولعل أشهر مقولة فلسفية عرفها التاريخ هي: (“أنا أفكر، إذن أنا موجود”). إن هذه العبارة الشهيرة تعتبر من أهم الأفكار الفلسفية عبر التاريخ، وقد شكلت نقطة تَحَوُّل وانعطافة كبيرة في مَجرى الفلسفة، التي قادت الفلسفة إلى الأمام وصولاً إلى العصر الحديث. ربما هذه العبارة لوحدها، بمعزل عن سياقها لا تعني الكثير، ولكن خلفها الكثير من النقاشات والمجادلات. إنها استنتاج مأخوذ من سلسلة من الحجج التي تتعلق بطبيعة المعرفة. إذا اتبعنا فقط منطق ديكارت وتعليله الذي قاده إلى الاستنتاج الذي توصل إليه، فإننا سنفهم مدى أهمية أفكاره، وعندها فقط نفهم إلى أي مدى أخذته أفكاره ــــ وما هي النتيجة ــــ التي ندركها، عندها ندرك أهمية هذه الأفكار، (أي عندما نقرأ جميع نقاشاته من أول كلمة إلى آخرها، ندرك مدى تأثيرها فينا، وسنفهم أهمية منطقه وأفكاره). هناك الكثير من الأفكار الفلسفية في هذا الكتاب، قد تبدو لك مربكة عندما تلقي عليها نظرة سريعة، ولكن إذا قرأناها جيداً ستتوضح لنا أكثر. بعض الأفكار قد تبدو واضحة وأنها مؤكدة، وأحيانا تبدو مُتَضاربة، غريبة، أو ربما نجدها ضد المنطق. أحيانا نقرأ بعض الأفكار التي ينطبق عليها كلام الفيلسوف برتراند راسل الذي يقول: “إن مغزى الفلسفة هو أن تبدأ بفكرة بسيطة، إلى حد أنها لا تبدو جديرة بالذكر، ثم تنتهي بأفكار متناقضة إلى حد لا يصدقها أحد.
الطريق إلى السعادة يأتي
من خلال تخفيض مُنظم للعمل.
“أي عمل أقل يزيد من سعادة البشرية.”
برتراند راسل
كان الفيلسوف البريطاني برتراند راسل معتاداً على العمل الشاق طوال حياته. مجموع أعماله تشكل عدداً كبيراً من المُجَلّدات، وقد كانت أحد أهم المصادر الرئيسية السائدة التي أثرت على فلسفة القرن 1900، ضمن إطار الفلسفة التحليلية. خلال فترة حياته الطويلة وحتى عند بلوغه سن 97، ظل راسل ناشطاً اجتماعياً يعمل بجد واجتهاد لا يَكِلّ ولا يتعب، ولكننا نتساءل لماذا يقترح هذا المفكر النشط الذي استمر يعمل إلى آخر لحظة في حياته، أنه ينبغي علينا العمل لساعات أقلّ؟ في مقال كتبه راسل “في مديح الكسل” نشر لأول مرة عام 1930 في خضم الكساد الاقتصادي، وهي الأزمة الاقتصادية العالمية التي أعقبت انهيار وول ستريت 1929.
ربما كان يبدو الأمر بلا ذوق، ومن غير مناسب التشجيع على الكسل في زمن وصلت فيه نسبة العطالة إلى تقريبا ثلاثين بالمائة في أجزاء من العالم. ولكن بالنسبة لرسل، كانت الفوضى الاقتصادية نتيجة لاتباع موقف متجذر وخاطئ عن العمل. كان يقرّ ويدعي أن العديد من أفكارنا حول العمل ليست سوى خرافات ينبغي تصحيحها، تقويمها وتعديلها من خلال تفكير سليم.
ما هو العمل؟:
لقد بدأ راسل بتعريف العمل وتحديد معناه، يرى أن هناك نوعين من العمل. العمل الأول يهدف إلى “تغيير مَوضع المادة من مكانها من الأرض وعلاقتها بالمواد الأخرى”. يُشكل معظم هذا النوع من العمل بصورة أساسية الأعمال اليدوية. العمل الآخر هو “إخبار الآخرين بتغيير مَوضع المادة من مكانها من الأرض وعلاقتها بالمواد الأخرى” أي (يعمل أشخاص على إصدار الأوامر). يمكن تمديد النوع الثاني من العمل إلى ما لا نهاية ليشمل عمل أعداد كبيرة من البشر. يمكن للمرء تعيين أشخاص لقيادة أشخاص آخرين كي يقومون بنقل المواد، ولكن يمكنك أيضاً تعيين أشخاص آخرين يقودون الأشخاص الذين يقدمون الأوامر، بل ويمكن توظيف المزيد والمزيد لتقديم المشورة وتنظيم موظفيهم، وما إلى ذلك. إن النوع الأول من العمل غالبا ما يكون غير مريح، ويتقاضى الشخص عنه مرتباً رديئاً، في حين العمل الآخر هو أكثر راحة وأجوره أفضل، حيث يتقاضى الشخص فيه أجراً أكبر. كما يُحدد راسل ويشرح معنى الوظيفتين المختلفتين فيقول، إن هذين النوعين من العمل المختلفين يحدّدان أيضاً نوعين من الموظفين – العامل والمشرف، (النوع الأول هم العمال والثاني هم المديرون أي الأشخاص الذين يقودون العمال) – والذي يرتبط بدوره بفئتين اجتماعيتين، الطبقة العاملة والطبقة الوسطى. ويضيف راسل إلى هاتين الطبقتين طبقة ثالثة، التي يقرّ أن على عاتقها تقع الكثير من المسؤولية – أنها الطبقة العليا “الطبقة البرجوازية” أو طبقة المُلاك، وهي الطبقة التي تتجنب العمل، لا تعمل إطلاقاً ويعتمد أصحابها على حرث جهود الآخرين بشكل تام كي يُحافظوا على راحتهم وينعموا بكَسَلهم. وفقاً لراسل، فإن التاريخ مليء بهؤلاء الذين قضوا معظم حياتهم بالعمل الشاق ولكن لم يحصلوا على شيء على الإطلاق عدا ما يسد رمقهم، ويبقيهم وعائلاتهم على قيد الحياة، بينما ينعم سادة الحروب، الكهنة، والطبقة العليا الكسولة بالسيطرة على كل فائض الأرباح، ومُصادرة كل ما يُنتجه الكادحون وحرمانهم من كل شيء. يقول راسل إن هؤلاء المستفيدين دائماً الذين شكلوا أساساً جائراً، ظالماً، غير عادل لأخلاقيات قانون العمل، نسمعهم يغردون ويثنون على العمل الشاق ويضفون بريقاً إضافياً للجهود المُضنية. إن هذه الحقيقة وحدها كافية لجعلنا نُعيد فورا تقييم أخلاقيات العمل، وذلك لأننا عندما نمدح ونُشجع العمل الشاق نشجع لا إراديا اضطهاد أنفسنا.
يقول راسل:
إن مواقفنا تجاه العمل غير منطقيّة.
فنحن نُقيّم مختلف أنواع العمل بمختلف الطرق.
نحن نفترض أن العمل بحد ذاته أمر جيد.
وإن هذه المواقف تؤدي بنا إلى نكبات وانزلاقات وبالتالي إلى تعاسة.
ولكن ينبغي علينا أن نتفحّص وندرّس فيما إذا كان العمل يُشكل قيمة حقيقية وأن القيام به صحيح، نعمل فقط على تنفيذه.
عمل أقل يزيد من السعادة البشرية.
مقولة:
يقول راسل: لقد سببت الأزمة الاقتصادية في القرن 1900
أكبر كآبة في العالم، بالنسبة لراسل يعتبر ما حدث أكبر
إثبات لأخطاء الرأسمالية، لذا ينبغي انتقادها، أنه سبب كافٍ
لإعادة تقييم أخلاقيات العمل من جديد.
إن مُجابهة راسل الشديدة مع المجتمع التي تُؤَكِّد على أن الصراع بين الطبقات الاجتماعية يقف وراءها إلى حد ما فيلسوف القرن 1800 كارل ماركس. على الرغم من أن راسل كان يشكك دائماً بالماركسية، إلا أنه كان مقتنعاً بهذه النقطة. يأتي مقاله النقدي الذي كتبه ضد البلدان الماركسية مُعادلاً ومُشابهاً تماماً لنقده للرأسمالية. لقد أثر مَفهوم راسل أيضاً على الفيلسوف ماكس ويبر، وكتب كتابه “الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية”، الذي نشر لأول مرة عام 1905. كما أثر راسل بنظريته على ويبر خصوصاً تفحّصه للمُطلبات الأخلاقية المتواجدة خلف مواقفنا تجاه العمل ـــ يقول راسل، ينبغي أن نتحدى تلك المُتطلبات، على سبيل المثال نحن لا ننظر إلى العمل كأداة التزام أو واجب نقوم به فقط، وإنما ننظر إليه أيضا كسمة، مزيّة، وينبغي أن ننظر إلى مختلف أنواع الأعمال ونفهمها وفق جدارتها، وحسب تَسَلْسُلها الهَرَميّ. نحن ننظر إلى العمل اليدوي بشكل عام على أنه أقل قيمة وجدارة من العمل العقلي، ونكافئ البشر حسب ما نعتقده ونعتبره كقيمة وليس حسبما ينتجونه. ولأننا ننظر إلى العمل بحد ذاته كشيء هام، ذي قيمة عالية، فاننا لدينا نزعة لفهم الأشخاص العاطلين وتقييمهم على أنهم أقل قيمة من الناس الذين يعملون. وهكذا كلما فكرنا بالأمر أكثر كلما أصبحت مواقفنا تجاه العمل أكثر تعقيداً وسيبدو مفهومنا للعمل أكثر إرباكاً وحيرة. إذن ما الذي يمكن أن نفعله كي يشعر الجميع بالرضا؟ إن اقتراح راسل بهذا الخصوص هو ان لا ننظر إلى العمل على أنه عبارة عن مُصطلح تابع لتلك الأفكار الأخلاقية الغريبة، العجيبة القادمة مما تبقى من انطباع مُقَدَّس لزمن ماض قديم، أن نترك كل هذا وننظر إلى مفهوم العمل كمصطلح يعبر عن حياة بشرية مُرضية ممتلئة متكاملة، على هذه الطريقة وهذا الشكل ينبغي أن تستمر حياة البشر. إذا فعلنا هذا الأمر، يقول راسل، سيكون من الصعب علينا تجنب الاستنتاج الذي هو ينبغي أن نعمل لساعات أقل. ويتساءل كيف سيبدو الأمر إذا كنا نعمل ساعات أقل، تكون أوقات العمل مجرد أربع ساعات فقط؟ أن نظامنا الحالي للعمل يتضمن قسمين من الناس، النظام الأول هو أن تعمل ناس وتستمر تعمل لساعات طويلة وهم تعساء لا يشعرون بالرضا، والقسم الآخر ناس لا تعمل وهم أيضا تعساء، لا يشعرون بالراحة. يبدو أن هذا النظام غير مفيد للبشرية، وذلك لأن الجميع غير راض.
مقولة:
يرى راسل، أنْ لا يجوز أن يقضي المرء أوقات الإجازة
بالتعافي من أعباء العمل، على العكس من ذلك،
بل ينبغي أن تُشكل الراحة الجزء الأكبر من حياتنا،
وأن تكون مليئة باللهو والخلق والإبداع.
أهمية اللعب:
يقول راسل عندما نُقَلِّل ساعات العمل نكون أكثر حرية. إذ يشعر المرء حُرا ولديه الوقت الكافي ليطور اهتماماته الإبداعية. “إذا قمنا بنقل الأشياء هنا وهناك وغيّرنا مكانها من مكان لآخر”، يكتب راسل “فهو أمر غير ممتع، لا يُشكل إثارة عاطفية ولا هو ذروة الشعور بالسعادة في حياة البشر”. إذا سمحنا للعمل بأن يأخذ جزءًا كبيراً من أوقات يَقِظتنا ونشاطنا، فلا يمكن أن نعيش حياتنا بشكل كامل مكتمل. يعتقد راسل أن الإجازة من العمل، التي كانت في السابق يتمتع بإمتيازاتها عدد قليل من الناس، ضرورية لحياة ذات معنى وأكثر ثراء. بالإمكان الاعتراض على تخفيض ساعات العمل، ومن الممكن قول إن هناك العديد من البشر لا يعرف ماذا يفعل بباقي يومه إذا عمل لأربع ساعات فقط في اليوم، لكن راسل لا يعتقد بهذا، ويقول إذا كان هذا صحيحاً فمعنى ذلك “أن مجتمعنا يحكم على الأشياء مسبقاً قبل أن تحدث”. ويقول إن مقدرتنا على اللهو والاسترخاء والراحة والاستجمام تضررت جرّاء العمل وفعاليته. إن المجتمع الذي يأخذ الإجازة على محمل الجد سيأخذ الدراسة والتعليم بجدية أيضاً، ويقصد راسل، لأن الدراسة والتعليم تعني أكثر من أنها مجرد تدريب يَتَدَرَّب المرء فيه لحياة العمل.
عندها سينظر المجتمع إلى الفن بشكل جدي، ويأخذ العمل الفني على محمل الجد، فلأن ثمة الوقت الكافي للفنانين لانتاج أعمال ذات جودة عالية، دون أن يكونوا مُرغمين على إرهاق أنفسهم والكفاح من أجل إعالتها. إلى جانب ذلك سيتعامل المجتمع مع حاجته للتَرفيه والتسلية بجدية عالية. يعتقد راسل أن هذا يعني أيضاً أن المجتمع لم تعد لديه الرغبة في الحروب، وذلك “لأن أعمال الحرب تعني أعمالاً كثيرة، ثقيلة، شاقة، ومُرْهِقة لنا جميعاً”.
مقولة: عندما نربط فكرة العمل بأمر عظيم، وأنه يُشكل
لنا قيمة لا مثيل لها، يُسبب ذلك أذى وضرراً كبيراً لنا.
برتراند راسل
الحياة المتزنة:
قد يبدو أن مقال راسل كان يهدف إلى “اليوتوبيا” حيث يطمح إلى مدينة فاضلة يتم تقليل ساعات العمل فيها إلى أقل حد ممكن. ولكن حتى لو قمنا بتخفيض أوقات العمل إلى أربع ساعات في اليوم كحد أدنى، فان ذلك بالتأكيد لا يعني أنه سيؤدي إلى ثورة اجتماعية كما كان يحلم راسل. كما أن اعتقاده بأن التصنيع سيحررنا أيضاً من عمالة الأيدي العاملة هو غير مقنع تماماً، وذلك لأنه في النهاية فالمادّة الخام والمواد الأولية للمنتج الصناعي ينبغي جلبها من مكان ما، ينبغي استخراجها من منجمها، والعمل على إعادة صقلها، تصفيتها وتكَرِيرها وتصديرها إلى مواقع الإنتاج والتصنيع، وكل ذلك يعْتَمد على العمل اليدوي، أي الأيدي العاملة.
على الرغم من هذه المشاكل، فإن وجهة نظر راسل تُشير إلى أننا نحتاج إلى أن نمعن النظر في مواقفنا تجاه العمل، الآن كما هو الحال سابقاً، وأنها وثيقة الصلة بمواقفنا سابقاً، اننا ننظر بنفس السياق الذي كنا ننظر إليه في الماضي. نحن نرى أن أسبوعاً طويلاً من العمل هو أمر “طبيعي”، ونكافئ بعض أنواع الأعمال بشكل أفضل أكثر من الأخرى. بالنسبة للكثيرين منا، لا هذا ولا ذاك يُشكل لنا حلاً مُرضياً كما نرغب، لا العمل ولا أوقات الفراغ تفي بتوقعات المرء وما يتمناه. ومع ذلك لا يمكننا أن نتجنب شعورنا بالارتياح من عبء العمل، عندما ننتهي من أعمالنا. يُذكرنا راسل أنه لا ينبغي لنا أن نُدَقِّق فقط ونحرص على استعراض حياتنا العمليّة دون أن نرى القيمة الكبيرة التي تكمن وراء الضحك، والسخرية، والتكاسل وعدم القيام بأي شيء. كما يقول راسل: “نحن لم ننجح حتى الآن في القضاء على إرهاق أنفسنا، مازلنا نشجع على العمل والتعب الشديد، نبذل جهوداً كبيرة كما كنا سابقاً قبل ظهور الماكنات والآلات. لقد كنا بهذه الطريقة حمقى ومجانين، ولكن لا يوجد سبب معقول كفاية لمواصلة هذا الجنون.
مقولة:
إن مَذْهَب الطبيعة الأخلاقية لنظام العمل،
هو نوعية، طبيعة أخلاقية للعبيد،
والعالم الحديث لا يحتاج إلى عبيد.
برتراند راسل
سيرة ذاتية قصيرة عن حياة الفيلسوف برتراند راسل:
ولد برتراند راسل في ويلزي من عائلة ارستقراطية عام 1872. أصبح مهتماً في سن مبكر بمادة الرياضيات، ودرس هذه المادة في جامعة كامبرج. هناك التقى بالفيلسوف وايتهيد وكتبا معاً كتاب “مبادئ الرياضيات” بهذا الكتاب أثبت راسل نفسه ورسخها كفيلسوف قائد. التقى في كامبرج أيضاً بالفيلسوف فيتجنشتاين. أراد راسل أن تكون للفلسفة أهمية وتعني شيئا بالنسبة للبشر العاديين أيضاً. كان ناشطاً اجتماعياً سِلميّاً، يُعَلِّم ويُدَرِّس. كان يؤيِّد الإلحاد وكافح ضد الأسلحة النووية ــ وكتب أيضاً العديد من الكتب الفلسفية المشهورة. مات بمرض الانفلونزا في شهر فبراير من عام 1970.
1
لينا كامهد
ترجمة: أثمار عباس*