لم يصبح الشعر المغربي شعرا إلا بعد لأي، بعد جهد جهيد. من علائم هذا الجهد الجهيد، الهدم والتشييد، والسعي الحثيث إلى الجديد، إذ الأمر شعريا كان يتسم بالتأخر، وبالمراوحة، بين التقليد والتجديد، والاحتذاء والترجيع المشرقي.
ستينيا، بدا ما يمكن توصيفه بـ إحلال الوجه المغربي البناء الشعري من حيث تكريس الصوت الشعري، والتركيب ذي الخصوصية، والبحث عن كينونة شعرية مفارقة للصدى والاجترار. ولعل التجارب الشعرية على محدوديتها – لكل من محمد السرغيني وأحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني، وإلى حد ما عبدالكريم الطبال، رسمت المفارقة، وأسهمت في خلق صراع شعري وَارَبَ بين الريح الشعرية المشرقية التي كانت تهب على المغرب كأعتى ما يكون، والانبثاق الوجودي والجمالي الذي أفرزته هذه الشعريات المذكورة، انطلاقا مما كان يعرفه المغرب فترتئذ – من مخاض ومحاولة نهوض وبناء وطني.
ومع هذا، ظل الصدى المشرقي قائما، واستمر إلى بداية السبعينات من القرن العشرين. ولم يكن التلقي المغربي مسعفا في تحقيق النقلة المرتجاة، و التحول المنشود للشعرية المغربية في هذه المرحلة التاريخية، ما يعني أن ضمور التحول الشعري، والفتح التركيبي، المطلوبين، متأت – بمقدار- من تلك «الإشاحة» الوطنية بسبب – كما أسلفنا- طغيان الشعرية المشرقية العاتية التي استتب لها الأمر، وتبنكت المكانة الأعلى، ومن ثم السطوة والسيادة.
فخروج الشعر المغربي الستيني، وبعض الشعر السبعيني من معطف الشعر المصري، والشعر العراقي، والسوري واللبناني، حقيقة لا مراء فيها، بالنظر للسبق التاريخي، وجملة شروط موضوعية تراكمت لتثمر الانتقالة النهضوية المشرقية المعروفة، التي طالت الفكر والثقافة والإبداع بعامة على مستوى السينما والمسرح والتشكيل والسرد والشعر.
ومن ثم، وجد المتلقي المغربي نفسه مشدودا إلى هذه اليقظة المتلألئة هناك، والمنسربة إلى أعطاف ما كان يتشكل شعريا – بالخصوص- في وطننا. فكان هذا المتلقي قلما يلتفت إلى المنتوج الإبداعي المغربي، متوهما أن ما يقرأه لشعراء مغاربة ما هو إلا صدى مشرقي بالتمام والكمال، والحال أن وجها آخر للشعرية المغربية تشكل وتأكد على رغم حضورالتأثير المشرقي. وزاد قوة وعنفوانا، وترسيخا للمحلية من بعض الوجوه، في المتن الشعري السبعيني على يد ثلة من الشعراء، واجهوا مشكلة الكتابة الأولى، ما يعني واجهوا تحدي القصيدة المغربية الأولى المتميزة والاستثنائية. وهم رفعوا هذا التحدي، وأبانوا عن مقدرة معتبرة فيما طرقوه وكتبوه وأنشأوه، يتعلق الأمر بمحمد بنيس ومحمد بنطلحة وعبد الله راجع، ومحمد الأشعري، وغيرهم.
بطبيعة الحال، سيعمل الزمن عمله في التجربة الشعرية إياها، أقصد التجربة الشعرية بالجمع.
ويتجلى هذا العمل في انكسار الحلم بانكسار الواقع، ما قاد إلى تجريب لغة جديدة موائمة وملائمة، وقاد – بالتالي- إلى تجريب أشكال بنائية، وأوجه تركيبية أعلت من قيمة الأنا، وأفسحت للذات الشعرية، والذات الشخصية المكلومة، الطريق إلى القول والإنشاد. وفي هذا الصدد، تندرج المدونة الشعرية الثمانينية وما بعدها، لسنا نؤرخ هنا، قصدنا التذكير والتمهيد لموضعة تجربة شعرية ذات خصوصية معلومة ، إنها تجربة محمد بنطلحة، فماذا عن التجربة؟ ماذا أعطت وقدمت للشعر المغربي ما جعله يتكيء على سمته ونعته وجهده وكده وثمراته؟ وكيف تطورت هذه التجربة حتى أوفت على المنشود، وحققت شعريتها من نبات متخيلها ولغتها وتصويرها وصوتها ؟ .
دخل محمد بنطلحة التجربة مستهاما، مغرما بالشعر، وبرقيق الكلام وبديع التصوير، يحمل حرائق المرحلة، وهي الحرائق التي تغلغلت في كتاباته الأولى من دون أن تطفو على السطح، وتملأه بقعا ودمامل ، أي من دون أن تهيمن الإيديولوجيا، ويهيمن الزعيق الحزبي الذي كان يتردد في فضاء وجنبات وجهات الفترة السبعينية الهشة والحادة في آن. ولعل جمرة الشعر، وماءه اللذين يسريان في الشعر جنبا لجنب، أن يكونا قد خففا من حضور المباشرة، والتقريرية والشعار، وهي المطاب التي عرقلت نماء الشعر، وطمست وجه الفن والجمال في المدونة الشعرية بإجمال . أفلت بنطلحة بجلده، اي بشعره من لهاث السياسة وإن كانت عذابات الوطن مندسة برهافة شفرة في ثنيات هذا الشعر، في «نشيد البجع» كما في «غيمة أو حجر» كما في «سدوم» . فالعناوين إياها التي تدمغ النصوص الشعرية، تلخص بذكاء وألمعية ما كان يعيشه المغرب، وما كانت تعرفه المعارك الوجودية بين النظام، والأحزاب الديمقراطية، من اصطراع شرس، ومن مد وجزر، وصعود للجزمات مقابل خفوت وانتكاس لوردة الأحلام، ونشيد الدم والآمال. تلك هي المفارقة العجيبة التي استطاع شعر بنطلحة إتيانها وهو يبني نفسه، ويتشيد على محف لغة جميلة، رائعة، لكن حادة ومسنونة، لها الوعيد فراشات، والوعد مخمل وبهاء.
وليس من شك في أن انخراط محمد بنطلحة في السجالات الفكرية والثقافية دفاعا عما يعتبره عين الموقف البين، وعين الشعر الصافي البديع، أفاده إفادة كبيرة في شحذ قلمه، وشحذ رؤيته ورؤياه، وتمنيع أسلبته، وتذويت صوته، كانت بعض القصائد الشعرية في مغرب السبعينات والثمانينات، حدثا عند نشرها وتداولها، ومقاربتها قراءة ونقدا. من هنا، بدأ التلقي المغربي يعرف انتعاشا، وتوثبا، وتيقظا، ومتابعة لما ينشر. بات شيئا جميلا يسمى الشعر، يجذب الانتباه، ويلفت النظر والقلب إليه. ومن هذا الشيء العجيب الجميل والجليل، شعر محمد بنطلحة وشعر عبد الله راجع، وشعر محمد بنيس، وشعر محمد الأشعري حتى لا نذكر إلا هؤلاء لأن أمثال المهدي أخريف، والأمراني حسن، ورشيد المومني وغيرهم لم يكونوا في مقدمة المشهد الثقافي والشعري العام، ربما لطبيعة أشعارهم من ناحية، ولتجربتهم النثرية التي لم يكن مرحبا بها بما يكفي، من ناحية ثانية، وبخاصة المومني وأخريف.
علما أن بنطلحة وراجع وبنيس الخ، لم يشكلوا الاستثناء الوحيد، ولا البديل الأوحد، كما لم يحكموا بالإعدام على التجربة الشعرية الستينية إذ استمر الستينيون ينتجون، ويزاحمون، بل ويتصدرون الحالة الشعرية المغربية إلى جنب السبعينيين الذين ذكروا. أما هؤلاء الستينيون، فلم يكونوا غير أحمد المجاطي، ومحمد السرغيني، ومحمد الخمار الكنوني إلى حد ما، فيما تواتر حضور الطبال الشعري، بشكل لافت، كما تقدم إلى الأمام محمد الميموني بعد أن « أبليا البلاء الحسن» في تركيب نص شعري جديد له المتخيل المشع رداء، والتصوير مطية ومركبا، والإيقاع دارة وخيمة.
فإذا عدنا إلى محمد بنطلحة، فإنه بصم المرحلة السبعينية والثمانينية شعريا بقصائد انعطافية، انعطف معها الشعر المغربي. في البال : «مواويل العزاء»، و»أي وجه لم تدسه الخيل»، وخولة»، و«ديوان الحال»، و«يا غبار السفر»، و»التآليل»، و«برج البطريق» و«أساور حجرية»، وجملة وازنة من نصوص مجموعته «سدوم» .
وفيما توقف بعض الشعراء لِعَيٍ أو لانهزام أو «لزهد» في الكتابة، واصل بنطلحة تشييد عمارته الشعرية بكل تؤدة، وحرص وعناد قطربي، وإن ظلت تلك الروح الغنائية الرهيفة الهفهافة تسكن أطواء شعره، والخضرة الخَضِلة تخضب وتروي أنساغه وعروقه وجذوره. تقف المرجعية مركوزة في التجربة، تقف حاضرة حضورها الملكي، ومجفجفة بكثيف أوراق دوحتها، وحفيف خمائلها، أي يسري التراث الشعري العربي فيها ممحوا بحذق، ويمشي في أوصال شعريته قراءات الشاعر المنتقاة، التي تمتح من حياض شعريات كونية باذخة، من «مالارمي»، و«سيلفيا بلات «، و«دكنسون» وغيرهم . ثم تنتصب جغرافيات ورقية لم يجسها إلا الشاعر، ولم يستطب «طوباها» أو يتلظى بجحيمها إلا هو، فيما رذاذها يصل القارىء الافتراضي المتمكن، المتلقي الذي أوتي صبرا وحكمة، لأنه في حضرة الشعر البهي، الممشوط، المُسَوى، المكتوب بمقياس العارف، وعيار الخائف المتوجس من التكرار والإجترار والسقوط .
الشاعر بنطلحة مقتصد في كلامه، وفي كثير مما يعمله ويأتيه، مقل في الظهور، والتظاهر، والمظهرية الكاذبة، عازف عن الضوء المصطنع، عازف على قيثارة الشجن، وبيانو اللوعة، وهو يوقع بالقسطاس والميزان عذاباته وصراعه مع اللغة وبها. الاقتصاد بهاء، الاقتصاد أناقة، وهي الأناقة عينها التي تتلبسه ويتلبسها، الظاهرة البادية المخبرة عليه، والواشية به مظهرا وَمَبْطَنا، برانيا وجوانيا، الواصلة إلى بنيانه الشعري القوي الهش في آن. القوي بلغته وبنائه وتركيبه ومخياله الفريد العجيب، يبني ويعلي فيهدم ليبقي على ما يصنع الشعر، على ما يتقوم به الشعر ويقوم عليه، على ما عذب الشعراء الهائلين في كل العصور، والسلالات والجغرافيات، وهو ما يمكن تسميته بإقدار اللغة على احتضان واستيعاب وصهر الكون والأشياء، على إنطاق اللامرئي، واستباق الآتي، على اقتحام الزمن والمكان بالفكر الشعري، والشعر الفكري، بالمخيال، بالمحسوس الثاقب الحديد، والملموس الرهيف المنكسر، وبالمتعالي وهو يلحس الحاضر، ويستقبل المستقبل.
تَطَوُرُ تجربة محمد بنطلحة بناء حاذقا، وتركيبا متقشفا، وجنوحها نحو الإستعارة البعيدة، الاستعارة القصية، الاستعارة السورياليه فيما يبدو للعابر المتعجل، والقاريء المتسرع، تجد كامل تفسيرها في الخطو بحسبان، ووضع القدم داخل مربعات، أو مثلثات يتشممها مشط الشعر كمثل الهندي الأحمر يتشمم بأذنيه على مبعدة فراسخ، هدير الرعود الآتية، وصفير القطارات المتعبة. وتجد تفسيرها وسرها في المشي بتؤدة، والتحرك الواثق، وتقليب المرجعيات الفلسفية والتاريخية والشعرية، ما يعني تقليب كتاب الكون. هي ذي شعرية بنطلحة لا تقول الكثير العميم، وبخاصة في إبحاره الشعري الجديد – بدءا من «بعكس الماء»، لكنها تقول القليل العميق، بعيد المهوى، سحيق القعر.
دال محموم، «ولا دال» هادىء ومستنيم إلى سكينة كأنها الغضارة تقطر صحوا، دال الشعر يحمحم في قصائد بنطلحة، ويَضْبَحُ، ويقدح دوامة من الدلالات لا تفضي إلى شيء، لا تفضي إلا لنفسها – وقد كان هذا أحد رهانات «مالارمي»-، وقد تفضي إلى شيء ما.. شيء غير متعين متى ما ألححنا على وجود هذا الشيء، وحضوره في المسافة الفاصلة بين الأنا والجمع، وبين الذات والواقع، وبين الشعور المتوثب، والحجر المتحجر، أي بين الروح وهي تسري معذبة، معلقة في «اللامبو»، والمادة وهي تتشكل في المتاح من النظر والرؤية.
كما أنه دال قد ينقلب إلى «لا دال»، إلى غموض وعتمة عندما تنهزم اللغة في حضرة المقول الشاسع، والجرح الفاغر، والنداء المفتوح على الجهات الست، وعلى الانكسار الذي يطول الأشياء، والناس والعالم، والهوية المشروخة الملتبسة، المتجاذبة المتنابذة، الممزقة من كل الأطراف.
تنهزم اللغة، ولكنها تلتمع وتومض بما تبقى من روح، ومن رماد.
ـ محمد بنطلحة
اسم مستعار
عند هيرودوت : هو الذي، حينما عثر على برج بابل
في صندوقه البريدي،
عثر أيضا
على
رقعة شطرنج
وحكمة قديمة : أعلى مراتب الحقيقة، الكذب
واليوم، حيث كل الحقائق مؤجلة : النبيذ إلى الغد،
والذكريات إلى حياة غير هذه، ماذا سأفهم؟ في موقع :
خلية نائمة، وفي آخر : لا ينام أبدا.
أنـا
كيف أكون معاصرا له،
وكل ما بيننا منذ ما قبل التاريخ
ظلال
وأقنعة.
إن ما يلفت الانتباه في نصية بنطلحة، اهتمامها الشديد بل و«المرضي» بعلامات الترقيم، وهو اهتمام غير مجاني، نابع من حرص شاعري على تقديد البناء، ومعيرة الصوت، وتشذيب اللغة، وتلوين المعنى بتدكينه وتدكيكه، وتسميكه وإن في حيز ضيق. فلا معدى لك وأنت تقرأ بنطلحة، من الانتباه اليقظ إلى شكل كتابته، وطريقة إتيانه «المعنى» أو اللامعنى، وتوزيعه الجمل العبارات والكلمات، بل والأحرف على وجه البياض، فإذا البلاغة الجديدة التجريبية ناجزة، وإذا الحذف وهو أحد عناوينها، دال أساس، أكبر بما لا يقاس، من دال المادة الحبرية وهي تندلق على الصمت الأبيض، والسكون الورقي الحاف. وهو عمل يساهم بقسط وافر في التعتيم كما في الإبهار والإدهاش. وقد يأتي الإدهاش من بعثرة المعنى وشقلبة الدلالة، والفنطاستيك، والشكية المحبوكة . فبنطلحة التاريخي الذي يتغشاه سياق زماني معين، ليس هو بنطلحة الورقي، وليس هو بنطلحة الرمزي: بنطلحة الشاعر. إذ في مكان آخر يقول بنطلحة : «لست شاعرا» ويتركك فريسة للتمتمة والإلتباس وأنت تحاول قراءة العنوان قراءة صحيحة تفضي إلى الدلالة الأعم، والمبتغى الكامن. فهل التاء هنا هي التاء المتحركة المرفوعة التي ترفع عن الشاعر شاعريته، وتجرده منها معضودة بناسخ النفي الفعلي: (ليس) ؟، أم هل هي التاء التي تصدمك إذا كنت شاعرا دَعِيا حين يقع عليها النصب، فتوقعك في الشرك، وتنصب لك فخ الفهاهة والادعاء بما ليس فيك.
فهذه اللعبة اللغوية الحاذقة هي إحدى مداميك شعرية محمد بنطلحة عليها يقوم جزء كبير من تجربته الحياتية والروحية والشعرية، وعليها تتأسس المعرفة بالتجربة أو الاقتراب منها بالحري.
اللعبة، بمفهوم آخر، تستدعي السخرية المُرة، وهي بُعْدٌ رئيس ومركوز في شعرية الشاعر. ومتى ما عنت السخرية في قصيدة من القصائد إلا ولفها مناخ سوريالي، أو دادائي أو سحري:
– دع لي كمأة مأهولة الحجرات
– حتى النصف –
بالحيتان .
دع لي يا نديمي
جورب الدفلى
وشِسْع الأرغن الحجري
أو عرج على آثار ضرب الخط في سبأ
فإن سريرة الممحاة معراجي
وإن دمي غريمي
فها نحن أمام نص شعري، لا تخطىء العين ولا الفهم عسره، وزئبقية معناه، ولا تخطىء ضلوع صاحبه اللغوي، ولعبه بمهارة على حبل التنافرات المعنوية، والتعارضات الدلالية، والغرابات المنطقية، فهذا النص وكثير من أشباهه في متن محمد بنطلحة، يقيم الحجة على اللغة لا على الشاعر، من حيث شسوعها وضيقها، قوتها الاعتبارية، وهشاشتها الخفية، ويقيم الدليل، من جهة ثانية، على تمامية الشاعر: سليل أبي تمام، ومالارمي وسيلفيا وآخرين. سليل السؤال التاريخي اللاشعري: لم لا تقول ما يفهم؟. وسليل الجواب المحبط الثخين: ولم لا تفهم ما يقال؟.
هل ممكن العودة الآن إلى الناقد « تايْن»، والنقد التاريخي، والفيلولوجي بعامة، للاستسعاف بمنجزه وخلاصاته من أجل فتح كوة وسط الظلام النصوصي، بالعودة – حسب هذه الأنواع النقدية – إلى تاريخ الشاعر، ومعراجه ومسراه، وحياته، ومزاجياته، للقبض على المعنى الساري.. والكامن في مدونته الشعرية؟.
لا أخال الجواب إلا قاطعا، وهو : وَلِمَ نجهد في البحث عن المعنى، أليس اللغة الشعرية، وهي لغة سامية، لغة ملكية، قمينة ببسط المعنى الذي ليس سوى هي : مبتدعة، متحررة من أثقال البلاغة الماضية، متحللة من النظم والخطية والرسالة.
بهذا المعنى، يقود بنطلحة معركته الوجودية مع النص، وهو ينكتب بين يديه، كما يقودها بعض الشعراء الهائلين ذوي القدم الراسخة، والرأس الدوارة، والشغف باللغة، والهيام بها.
ومع ذلك، لا نعدم فيما يكتبه الشاعر، عذوبة آسرة، ولغة منقوعة في الغنائية الراقصة، والموسيقا الخافتة. ولنا في النماذج التالية ما يدمغ بالصدقية قولنا : «عام الرمادة» – «حالة خاصة» – «حالة مختلفة» – «عسقلان» –عدن – «حين شممت رائحة الموت» – «مدار العوسج» .. إلخ،.
هي نماذج وعينات، وقعنا عليها بطيش من دون تقليب النظر في باقي النصوص التي يشهد لها صمتها وبياضها وصنعتها، بالكعب العالي في التعبير الشعري، والإنشاء الإبداعي، والبوح الخارق أو لصمت الصاعق. الممحاة شكل لا شكل له، موت مباشر، للعناصر والنتوءات. وفي هذا المحو، القاسي الوجودي، يستوي الشاعر بالأشياء، فإذا كلاهما إلى محو، وإلى تلاش، كما لو أن الأمر عشق وشبق ينتهي بقتل الأنثى للذكر.. ينتهي بقتل الشعر – اللغة للشاعر، ماحيا عنه كل توصيف وكل تشبيه ومماثلة :
-أكرر:
لا أنا الإسكندر، ولا أنا زوربا
أنا شاعر مجهول
أنا لا أحد.
الإقامة في المجهولية، تقتضي الإقامة في العرفان والمعرفة. لا مجهولية من دون معرفة، لا عدم من دون وجود، لا محو من دون انبثاق، لا خلاء من دون ملاء.. ولعل محمد بنطلحة وهو ينفي عن نفسه كونه الإسكندر المقدوني الفاتح، يترك الباب مواربا للمعنى، معنى الفتح، والغزو، والنصر. كما يستجلب المعنى من «زوربا» الشخصية البديعة الرائعة المجنونة المجذوبة التي تعلن عن انخطافها، وعلمها اللدني والبشري، بالرقص، والتيه، والضياع، ومن جهله بنفسه، أو يقينه بأنه لا أحد، ولم يقل : لا شيء.
ثم، هل نعتبر أن العمى بمعناه الثقافي والنفسي، لا بمعناه البيولوجي والذي يَسِمُ ويَصِمُ شعرية بنطلحة بوجه عام، قرين المجهول والمجهولية، قرين الصمت والبياض، والسمو، وقرين السخرية من مبصرين لا يَنَوْنَ يسقطون في الحفر التي حفروها، ويقعون في أحبولة العماء الفعلي بينما يعتقدون أنهم ينظرون. وَهَبْ أنهم نظروا، فإلى أين يتجه ناظرهم، وتتجه أبصارهم؟ :
ـ فالرخ أعمى
ومن حوله حدآت يرفرفن
في فلوات المجاز.
إذن،
نحن نمشي بعينين مغمضتين
ومن تحتنا الغيم.
من تحتنا سفن سوف تبحر
من قمم الهملايا
بنا.
ثم ترسو
أحقا سترسو؟
سترسو،
وتبحر،
ثم تعود وترسو
ولكن، أمام مرافىء أكثرها
من ورق ..
تنتهي قصائد بنطلحة الشعرية بذيول طيفية من حيث لا يحتسب القارىء، ولا يتوقع تلك النهاية، تلك النهايات. وفي هذا العمل ما يذكر بنهايات «سيليفيا بلات» الشاعرة الأمريكية، ونهايات مواطنتها الشاعرة «إيميلي دكنسون». وهي نهايات –كما نعلم- لها وقع الصدمة والمفاجأة، والسخرية، والشقلبة الدلالية. ولنا أن نموقع هذه النهايات العجائبية والغرائبية في مضمار النص بما هو ميدان وحقل للصراع والتنافس والتباري، تحتدم فيه اللغة باللغة، والواقع بالحلم، والخيال بالوهم، واللفظ بالمعنى، والمخيال بالحقيقة، والصورة بالمحسوس..
وهكذا، فإذا هي (أي النهايات، والضربات الفجائية)، صوتٌ خرج للتو من مُخْتَنقِ اللحظة الشعرية، وانبثاقٌ تبَجسَ من الحالة النفسية في غمرة صراع شرس مع الأشكال والدلالات الموطوءة التي صاغت النص منذ البداية إلى وصول الحالة.
فما لمْ يُؤْتَ المتلقي دراية بانبساط اللغة وانكماشها في رمشة عين ما يعني تبدل الحال الشعرية من سؤال إلى سؤال، سؤال أنطولوجي وجمالي بالتأكيد، فإنه يتوه، ويحتار، ويعرض عن الشعر الذي يجنح إلى هذه التركيبة النفسية البعيدة الغور، النابعة من قلق وجودي، وصراع نفسي وجمالي باللغة مع اللغة :
-لا يهم،
هكذا هي الأنهار،
مرة تاج
ومرة طعنة.
فأنت ترى الخلاصة الفجائية التي يختتم بها نص: «حيث لا ضفاف»، فهي أتت كانبثاق كمأة بعد رعد، أو مطر هطال بعد برق، أتت غير مدركة، وغير مفكر فيها عبر استنفار وانضفار الحواس، أتت من عين الشعر، عين الافتتان بالوجود، والأشياء، والانصعاق بها . وفي أماكن أخرى من شعر بنطلحة، يتقدم التصوير الشعري بهيا في غرابته، طائعا في مناعته، ذلولا في عصيانه، ساخرا في وداعته و»فقهيته»، [الفقهية من حيث معناها اللغوي والجنيالوجي]، ما يخلف ارتباكا في آلية القراءة والمقاربة، والتفكيك، ولكن ما يضفي سحرا على السحر، أليس الشعر الجميل الجليل سحرا ؟، وفي الأثر: «إن من البيان لسحرا». بيد أن للمفارقة بما هي تباعد وتعارض وتسمية، وتوصيفة ماكرة، يد في ما يرج النص تخييلا، وبناء، وترحلا مباغتا للصور والتماثلات؛ وقد تكون المفارقة الآن، عصب الشعرية الجديدة، وهي المسؤولة الأولى والأخيرة عما تجترحه هذه الشعرية من تركيب مدوخ وعجائبي، وتخييل يتوسل الصورة الغربية أسا، والحس والحدس إيقاعا وهيكلا:
ـ زينون الإيلي
توت عنخ أمون
والإنسان الأخير
(منذ أن ظهر في أقدم صورة رقمية
على هيئة ملاك. يضحك
وتحت إبطيه
سكين)
هؤلاء
والحاشية، أكلة سيقان الحشرات
كلهم يقولون الحقيقة
إلا أنا
ما حيلتي؟
أنا، لهذا ولدت
وليس كي أذبح كلما تأكسد النبيذ
كمنجتي.
بنطلحة لا يقول الحقيقة، بل يقول الشعر. لكن «أعلى مراتب الحقيقة الكذب»، يقول في مكان آخر. إذن، الكذب مدعاة إلى الحق بتزوير الواقع، والأشياء بطمسها ومواراتها خلف مَاكيِاجْ سميك من «البودرة» البيضاء والوردية. فمنذ ما قبل التاريخ كل ما يجري، كل ما يبدو، كل ما يحرك بنانا أو شفتين، كل من «هديناه النجدين»، يختفي في برقع، ويسكن الظلال والأقنعة، وينظر إلى أشباهه بعيون من زجاج، وينصت إليهم بآذان من طين.
وفي مفارقة حاذقة بين حكمة المصراع ما تحت العنوان. والاسم الفلسفي العمومي «بروتاغوراس»، يضع الشاعر اليد على مقولة الرياضي الفيلسوف «بروتاغوراس»، معضدا بها –فيما يبدو- نصه الشعري، وهي حيلة مجدولة بإتقان : «الإنسان مقياس كل شيء»، ثم سرعان ما يهدمها بعد أن يمهد لها بما يهدمها : في نصه الرفيع : «بيننا ملائكة».
……………..
-أنا أيضا
أنا الإنسان الذي بلا مزايا
حينما، قبل فقرة واحدة، وصلت
إلى حانة الباشا
كنت
ما أزال
أسبح
وكان البحر الأبيض المتوسط
يصفي حساباته
معي :
بروتاغوراس كذاب.
والعنوان، عنوان النص يشي بالضد مما يوحي به، وترعاه اللغة والتداول المعرفي الإنساني من ان الملائكة كائنات من نور، تسبح بحمد ربها، وتعبده آناء الليل وأطراف النهار، لا علاقة لها بشهوة ولا بملذة ولا بشبق ولا بعصيان.
فماذا تفعل الملائكة في الشارع العام.. هذه الملائكة التي يلتقي بها الشاعر وهو يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويسعى بأناقة نحو حانة أو مركبة أو بركة أو غطسة – بلا رجعة- في بحر الموسيقا والسمفونيات؟..
إنها ملائكة من طينة أخرى، تضع المساحيق والزجاج على وجهها، وترتدي أقنعة الناسوت والسكوت، فإذا هي – في الحقيقة- فجور وطاغوت.
فالشاعر خبرهم، واطلع على خباياهم، وسرائرهم، فتأكد له – بما لا مجال معه لتأتأة- أن: «الإنسان ليس مقياس كل شيء» كما ذهب «بروتا غورس»، بل الإنسان هو هادم كل شيء جميل، إن لم يكن مصدر شر كل شيء.
هي ذي المفارقات التي يلعب بها الشاعر، ويوظفها لتعطي بعدا لغويا ساخرا، وبعدا معرفيا، وبعدا بنائيا للنص، يسنده فيما هو يوتره، وينشر فيه القلق والحسرة، والرعشة، والصورة النابذة الجاذبة، والقرف في أحايين كثيرة.
تضحك صور بنطلحة من التنميط وعلى التقميط، وهي ضحكات تهتز لها أركان الصورة، وصرح اللغة. إنه الضحك الساخر، العارف الذي لكثرة ما تواتر، واحتل مواضع، ومواقف، ومسلكيات معينة، تسرب إلى الكلمة، إلى اللغة فإذا هي ضاحكة مستبشرة على رغم التعاسة العميقة التي تستبطنها، وعلى رغم الانكسارات المتوالية، والظلم الفادح، وصور النفاق الاجتماعي، والكذب الصراح والسرقة الموصوفة، و»التناص» الكاذب. فهل الضحك مزية وإكسير للكتابة الشعرية؟. أجل، هو كذلك، بل هو مزية المزايا إذا اقترن بعبء المعرفة، وأثقال التجربة، وأرتال الخبرة، واختبار الإنسان في الملمات، والإرتماء في حضن الناسوت قبل الصعود إلى الملكوت. ولعل الصمت الذي يلف قصائد الشاعر، وهو صمت محايث، نابع، متبجس من ظلال النص وأنواره، لا زائد، ولا فائض، ولا ملتصق بِعَنَتٍ . الصمت الموعى به الذي ينبني كتفا لكتف مع المكتوب، مع الحبر وهو يندلق على الصفحة، على البياض، والذي ينطوي في جزء كبير منه، على التأمل بما هو جوهر كل شعرية تنضج على نار هادئة، وصبر أيوبي هائل، وعناد قطربي لا يحد. ولعل هذا الصمت أن يكون وراء خطورة التجربة الشعرية الطلحاوية برمتها –أو في الأقل- منذ «بعكس الماء»، من دون إغماط التجربة الشعرية السابقة حقها من حيث هي واحدة من التجارب المغربية التي أرست القصيدة المغربية المعاصرة، وحققت لها الذيوع والانتشار والمقروئية، و»الاستقلالية» عن «المركزية»، إلى حد ما.
ومع أن نصوص الشاعر الجديدة، تنحو منحى تجريديا، كما يتبدى – فإنها تحتفي بالمرئي، بأن يوضع عليه اليد آن التحديق مليا في الصورة المفارقة، واللغة الحادة المتقشفة. أي أن استعارات الشاعر حسية في أغلبها الأعم، وفي أكثر حالاتها مفارقة وتوترا، وانجرارا نحو السوريالية.
وللموسيقى مكانها ومحلها في التجربة الشعرية، وذلك ما يَسِمُها بالغنائية بمعناها الشعري النقدي كما استقر لدى شعراء أوروبا، وأمريكا وغيرهم. الغنائية التي ينبني بها النص، وينهض عليها بعيدا عن مفهوم التطريب السطحي، والهز الردفي. فكل شعر لا ينهض بها، ولا تنهض عليه، يكون شعرا جافا فكريا بما لا يقاس، وهو –ربما- مزلق ومطب كثير من التجارب الشعرية المغربية، والتجارب الشعرية العربية.
الصمت والغنائية بما هما جوهر التجربة الشعرية لدى محمد بنطلحة، يغنيان اللغة الشعرية، ويغتنيان بها. فحين تعمى اللغة، يقودها الصمت في الدياجير والدياميس بعكازته الخرافية والأسطورية، نحو الضوء الرهيف والجرح السامي المتعالي :
ـ اللغة
حينما عميت عن كل شيء
تطوع الصمت
وصار عكازها.
إن الصمت امتداد للغة فيما يرى «باشلار»، وهو عكاز لها فيما يرى بنطلحة. وبين «التعكيز» والامتداد، يتوشح الشعر بتاج البياض، وقماشة العزلة الصافية، ورذاذ المعنى الطالع من «اللامعنى»، والدال من «اللادال» بما هو –في نهاية المطاف، وعند الاختبار – عصب الإيقاع الشعري، عصب المقول وغير المقول.. ومبدأ المفارقة، و»التيه السوريالي» الذي لا يسلم منه شعر يحترم نفسه، قبل أن يحترم قارئه. ولاشك أن المراد بالصمت، والمقصود من هكذا صمت، هو الحذف، وتقشير الحراشف، وإزالة الزعائف، وتكشيط اللحاء، فالشعر سمكة وشجرة.
الكلام الكثير مضر بالشعر، مسبب له وجع الرأس والصداع. وإذا أَنً رأس الشعر، وانصدع، وأصيب «بشقيقة» دماغية فصية كبيرة، ينهار كالآجُر، أو كما علب من كارطون يحاكي بها طفل شقي، قصرا في الخيال أو السينما أو «بْلاَيْ سْتَيْشَن» STATION. وقديما قال البحتري :
والشعر لمح تكفي إشارته
وليس بالهَذْر طولت خطبه.
ومن ثمة، يكون الصمت ثاويا وراء الحكي المقتصد، والسرد المختزل.. والنقاط المنثورة كحب الدجاج أمام الخم. مثل ذلك ملحمة «الأوديسا» التاريخية الجبارة، انظر ماذا يقول فيها الشاعر :
……………..
ـ ماذا تظن؟
الأوديسا برمتها
لم تستغرق أكثر من الوقت الضروري
لقرقعة الأصابع
ثم
خيمت
غيوم كثيرة
فوق مائدة العائلة.
ليس مطلوبا من محمد بنطلحة أن يتحدث عن بناء الملحمة، وعن شخوصها وأحداثها، وأسطوريتها وبذاختها، فذلك عمل المؤرخ والراوي، والسارد إذا شئنا. أما الشاعر فينبيء بالعجيب الغريب المفارق للحقيقة الواقعية، الملتصق تماما، بالحقيقة الشعرية. ولئن استغرق بناء «الأوديسا» بما هي عمل ضخم غير مسبوق، ولا ملحوق، عديد السنوات – فيما يروي المؤرخون القدامى- فإن بناءها في ملة واعتقاد الشاعر الشعري، لم يستغرق أكثر «من الوقت الضروري لفرقعة الأصابع» أي في أقل من دقيقة. وبهذا المعنى، وبهذا المفهوم، يكون الشاعر هدهدا، وتكون الحكايا والأقاصيص والوقائع، بلقيسا.
فالدلالة السوريالية إياها، تنطوي، على مادة الضحك. وهي مادة قليلة بل نادرة، لا تباع إلا مرة واحدة في العمر، لكنها تصاحب مشتريها عبر مراحل حياته، مؤازرة في الشدة، منفرجة في الغمة، مستبشرة في العبوس، منطلقة حيية في الكآبة والقنوط، ساخرة في وجه «الترتيب» الإنساني الذي أبدع القانون وما أبدع نفسه، وما التفت إليها ليعصمها من الماء، وقد فاض به التنور، وصعد إلى قمة الجبل بعد أن غمر السفح والقيعان والوديان. الضحك متكأ محمد بنطلحة شعريا ووجوديا، يشهره في وجه الألم، واعوجاج الأشياء، ويشرعه أمام الصفيق والمدعي، والكاذب، على رغم أن أعلى مراتب الحقيقة هي الكذب»، غير أنه الكذب الآخر، الكذب الشعري، الكذب على الكذب لاستئصال شأفته، واجتثات أصله وفرعه :
-السكة من عظام الموتى
عيونهم عجلات، والعربات ألفاظ، ولكن
عالقة
في
بخار المعاني ..
……………..
أنا باقٍ علي
أن أتفلسف أكثر
وأن أبرهن على أن كل نفق مهبل
وأن كل قطار حيوان منوي
هكذا نشأ الكون
………..
على الأقل
إذا بدأت عملا كن في نباهة اللقالق السعيدة
لا تختمه
واتركه مثل شعرة
فوق اللسان.
صنعة إبليس؟
عدم بالقوة
وَنِكْتارٌ بالفعل
هو ذا الضحك يلبس دشداشة السخرية العريضة، في المثل المغربي الدارج، نقول «وَسعْ قشابتك»، حينما يتعلق الأمر بالتعليق والتوصيف، و»التحنتير»،والنقد الاجتماعي اللاذع. والذي يصمد في وجه من ينتقده، ويعلق على لباسه أو هيئته أو سلوكه، نصفه بـ : «قشابتو واسعة».
والأمر كله كناية عن وجوب احتمال النقد سواء أكان بناء أو هداما، ما لم يخترق حريتك، ويخترم شخصك وكرامتك.
فما أسميته بالضحك الوسيع الذي يتخذه الشاعر بنطلحة وسيلة إجرائية، وذريعة شعرية عذبة وحادة، هو ما يمنح الفرادة لشعريته، والإدهاش لجمالية تجربته، وفنية إنشائه (الإنشاء هنا بمعنى الخلق، وبالمعنى الذي قعده الشكلانيون الروس).
ليس الضحك المجاني ما عنيت، أو الضحك (القهقهة) ما أردت، بل السخرية السوداء في أرقى تجلياتها، إذ السخرية السوداء تضمر الألم والمرارة فيما هي تظهر الضحك على الأشياء، والعلائق والموجودات. فليس غير الضحك محملا على الجد، وليس غير الجد عجينا للضحك في مضمار الشعر والفن. فمتى ما رغبنا في إضفاء حالة من الآدمية على الآدمي الفعلي، التجأنا إلى الضحك لتدوير الدم، وتنوير الوجنتين، و«تدميع» العينين، وإظهار القواطع والأنياب، والأضراس والنواجذ؟ ألا يضحك الضحك من الضحك وعلى الضحك؟.
لنتفلسف قليلا مثلما تفلسف محمد بنطلحة، فأمام انقلاب المقاييس، واختلاط المعايير، وسيادة قانون الغاب، وتسلط القردة على أمري وأمرك، وأمر العالمين، لا مندوحة للضحك، للسخرية من أن تكون، وترتفع عاليا منددة بالقحط العام، والقهر المبين، وتآكل القيم، وتسليع الإنسان والأشياء :
-(حتى الرب كتب الفردوس الطبعة الأولى)، ولم يقل : ها هنا آجُرةٌ إذا زالت انهار النص كله. الخطاطون هم الذين زادوا فيه، وكتبوا : كل آجرة، ها هنا، طوطم)..
…………………….
سوف يأتي يوم، وتصبح الفراشة
حاملة للطائرات
آنذاك، من أمازح : غوتنبرغ
أم أحد عشر كوكبا؟
أرأيت كيف تصبح قصاصة سياسية مغربية موضوعا للشعر، وفريسة للضحك الشعري، للسخرية المرة المبطنة، والاستعارة البعيدة، والحمولة السوريالية المقفلة. لكن مهلا، فالأمر يتصل بخبر مقاضاة صحافي مغربي صرح بأن حجارة القصر الملكي غير مقدسة، وكان يتحدث عما حل بقصر ب «الصخيرات». وقد قامت قيامة المخبرين، واعتبروا أن في المعلومة الصحافية هاته، مسا ب «القداسة»، والاحترام الواجب للملك، وللقصر الملكي. هي ذي المعلومة عادية، وباهتة، وغريبة في ما آلت إليه من أطوار، يتناولها الشعر فيعرضها على اللغة الملكية، وعلى القهقهقة العجيبة بإزاء هذا العجب العجاب، فإذا هي (أي المعلومة) نص شعري بين الحواشي، والأوصال، والمضمرات، على رغم غمسه في» لُوغاريتميات» الشعر، وطلاسم الإرادة الحرة، والضحك الأسود البديع.
(البقية بموقع المجلة على الانترنت)
وتستمر نصوص بنطلحة تقتات من الضحك بما هو سخرية ومعنى في واقع اللامعنى، وشمس مشرقة حارقة في ديجور حاف، ودكنة دامسة مخيمة. بالضحك، تستعين النصوص على الوقوف يركبتين خاويتين من كثرة الوقوف والانتظار، وتستعين على احتمال الوجود، والاستمرار فيه قبل أن يفيض عليها الوحل والضنك، ويبتلعها الشر الذي صنعته «الملائكة» البشرية الآثمة :
-أيضا،
فوق هذه الصفحة
في الأول، غالبا ما كنت أتردد
على مدافن العائلة
فقط
حينما أكون سكران
وفي الأخير، بسبب اللسانيات
صرت أخرس.
أوضح :
صرت، مثل ألبير قصيري من وراء زجاج المقهى
أضع يدي وراء أذني
وأشرع في تأمل الدوال – وهي
(مثلي ومثلك)
تهرول
هنا أيضا
فوق خط الزلازل
ظهرا لظهر.
الدوال تهرول كالإنسان، وربما كالشمس «تجري إلى مستقر لها» علما أن مستقرها هو الجهة الأخرى من الأرض، ومن هنا تصير الدوال متحركة، قلقة، نافرة مستنفرة، تبحث عن لغة ليست كاللغة، عن صمت يكون امتدادا لها، للغة وهي تحملها، موقعة دلالات أخرى، دلالات إضافية، دلالات غير دالة في معظم الأحيان. الدوال تهرول للقبض على الهارب الدائم، وما يكون هذا الهارب إن لم يكن معنى المعنى، معنى أن تكون إنسانا، تسكن لغة كوجود، وتكون موجودا كينونة وجودية تضيف وتعني. هي ذي حال الشعر الرفيع الراقي، المبلول بعرق السهر والصبر والعراك الدائم المحتدم مع الوجود والأشياء والناس، حال الشعر وهو يسعى إلى بناء «فردوس» على الأرض، وإن دارت به، وتحوطته الأسنة والحراب، والبوم، والسواد الضارب، وماكينات التكنولوجيا، والتعليب والاستهلاك. ألا يثير ذلك ضحكنا، ضحك الشعر والشعراء في الأقل، من كونه / كونهم يشقون ليسكنوا لغة يسكنها معهم لصوص القيم، ومبدرو الإرث البشري، وسارقو الضوء والهواء ؟ .
إنها القيم الخالدة قيم الحق والعدل والخير والجمال، ما يروم الشعر وما يهتف بها ولها، وما يسطره منذ أن وعى شاعر قيمة اللغة، وقيمة الوجود، وقيمة أن تكون اللغة نعمة، ويكون الوجود معبرا إلى الموت، والموت مسلكا إلى الحياة الأبدية والخلود. هكذا أدرك الشاعر بنطلحة نعمة اللغة، وفضل الشعر، فاستطاب العيش والرفقة، وأخلص الإخلاص جميعه لهما، فاستحق أن يكون شاعرا.
تنويه :
تجب الإشارة إلى أننا اعتمدنا في قراءة محمد بنطلحة ، مجاميعه الشعرية التالية :
ـ « بعكس الماء « ، « قليلا أكثر « ، و» صفير في تلك الأدراج « .
——————-
محمد بودويك