أوريا فالاتشي- كاتبة إيطالية
ترجمة – دلال نصرالله : مترجمة كويتية
علمت هذه الليلة أنّك موجود؛ نطفة حياة قد هربت من العدم. كنت مستلقية بعينين فاغرتين/ محدقتيْن في اللاشيء، وفجأة، في العتمة، تيقنت: نعم، أنت هنا. أنت موجود. كأنما طلقة قد اخترقت صدري. توقّف قلبي. وحين عاد نبض خفيف إليه، ذهلت ذهولًا شديدًا. أدركت سقوطي في بئر عميقة كل شيء فيها مشكوكٌ فيه ومُرعب. ها أنا الآن هنا، حبيسةٌ فيها. حاوِل أنْ تفهمني: ليس خوفًا من الآخرين، لأنهم لا يهمّونني. ليس خوفًا من الرّب لأنّي لا أومن به، وليس خوفًا من الوجع لأنّي لا أخافه. أنا أخاف منك، من الحال التي اختطفتك من العدم وربطتك بجوفي. لم أتجهّز للتّرحيب بك، رغم أنّي أنتظرك منذ زمن طويل. لطالما سألت نفسي سؤالا شنيعًا: “ماذا لو أنّك لم تُرِد أنْ تولد؟ ماذا لو أنّك اقتربت منّي وأنت تصرخ: “من طلب منك إنجابي؟ لماذا أحضرتيني إليه، لماذا؟”. الحياة كبد يا طفلي. إنّها حربٌ تتجدّد يوميًّا، ولحظات الفرح فيها وجيزة وندفع ثمنها باهظًا. كيف عساي أنْ أعرف أنّ التّخلص منك لن يكون صائبًا، وكيف أفهم أنّك لن تفضّل العودة إلى الصّمت؟ لا يمكنك التكلم معي؛ لأنك نطفة حياة قد خلقت للتّو. لعلّها ليست حياة؛ بل احتمال لوجود حياة. كم أودُّ لو أنّ بإمكانك مساعدتي بإيماءة، إشارة واهية. تزعم أمّي أنّي قد منحتها إشارة؛ ولهذا قرّرت إنجابي.
لم تكن تريدني. وجدت نطفتي في لحظة عدم اكتراث لبشريْن. وعلى أمل ألّا أولد، أذابت دواء في كأس كلّ ليلة، وشربته بانتحاب. شربته حتّى آخر رمق حتّى تلك الليلة التي تحرّكت فيها في رحمها، وركلتها لأخبرها ألّا تتخلّص منّي. كانت تقرّب الكأس من فمها لحظة منحتُها تلك الإشارة. قلبت الكأس فورًا وبصقت المحلول. كنت أحبو تحت الشّمس بعد شهور قليلة بانتصار. أجهل ما إذا كانت ولادتي أمرًا جيّدًا أم لا. أعتبرها سوء طالع وقت حزني. أعتقد إنّي كنت لأندم لو لم أولد؛ بما أنّ لا شيء أسوأ من العدم. سأذكّرك من جديد: أنا لا أهاب الألم. نولد مصحوبين به. إنّه ينمو فينا، ونعتاد عليه كما نعتاد على وجود ذراعيْن وساقيْن في أجسادنا. وأنا لا أهاب الموت؛ فموتي دلالة على ولادتي، وهروبي من العدم. لا أخشى شيئًا كالعدم، ألا أكون، ألا أوجد، ولو بمحض مصادفة، بخطأ، بعدم اكتراث آخريْن. يراود عددًا كبيرًا من النّساء تساؤل عن السّبب الذي يدعوهن لجلب طفل إلى العالم؟ أليجوع؟ أليبرد؟ أليُخان ويُهان؟ أليُذبح في حرب؟ إنّهن لا يؤمن بأنّ جوعه سيُشبع، وبرده سيدفأ، وسيُخلص له ويُحترم ما عاش، وسيُكرّس حياته لمناهضة الحروب ومكافحة الأمراض. لعلّهن على حق. لكن أليس العدم أفضل من المعاناة؟ حتّى حين أبكي على خيباتي، وأوهامي، وعذاباتي، أنا واثقة من أنّ المعاناة أفضل من العدم. ولو أسقطت هذه المقارنة على الحياة، على إشكاليّة أنْ تولد أم لا؛ فإنّ كلّ وريد في جسدي يصرخ بأنّ ولادتك أفضل من عدم ولادتك. لكن هل يحق لي فرض هذا المنطق عليك؟ ألا يعني هذا أنّي أجلبك إلى هذا العالم لخاطري وحدي؟ لا يهمني إذا أنجبتك لي وليس للآخرين. لست بحاجة إليك البتّة.
لم أتلق منك أي إجابات، ولم تمنحني أي إشارات، وكيف عساك أنْ تفعل؟ مضى وقت قصير للغاية؛ لو أنّي طلبت من الطّبيب تأكيدًا على وجودك فإنّ كل ما سيفعله هو التّبسّم. لكنّني قررت عنك: ستولد. اتّخذت قراري بعد رؤية صورتك؛ صورة جنين عمره ثلاثة أسابيع منشورة ومصحوبة بمقال عن تطوّر الحياة. وأثناء النّظر إليها، تبدّد خوفي سريعًا كما كان قد اجتاحني سريعًا. بدوت كزهرة غامضة. أوركيدة شفّافة. في القمّة يمكن تمييز ما يشبه الرّأس، وبروز سيصبح دماغًا. أسفله فراغ سيصبح فمًا. بالكاد تُرى خلال ثلاثة أسابيع. يوضّح شرح الصّورة أنّ طولك ثماني إنشات. لا زال في طور النّمو عيناك وشيء يشبه العمود الفقري، ونظام عصبي، ومعدة، وكبد، وأمعاء، ورئتان. قلبك موجود، وحجمه كبير؛ أكبر من قلبي بتسع مرّات. إنّه يضخّ الدّم وينبض بانتظام من اليوم الثّامن عشر. كيف أتخلّص منك؟ ولماذا أكترث بنشأتك مصادفة أو خطأ؟ ألم ينشأ العالم الذي نحن فيه مصادفة، ولربما خطأ؟ يقول النّاس إنّه لم يكن هنالك شيء باستثناء هدوء جم، صمت عظيم بلا حراك، ثمّ حدثت شرارة، انقسام، وما لم يكن موجودًا أصبح موجودًا الآن. أعقب الانقسام انقسامات أخرى: غير متوقعة، بلا معنى، بلا اكتراث بالعواقب. ومن بين العواقب نمت خلية، وهي كذلك لربما مصادفة أو خطأ، قد تضاعف ملايين، وملايين المرات حتى تكوّنت الأشجار والأسماك والبشر. أتعتقد أنّ هنالك من فكّر بالمعضلة قبل الشّرارة؟ أتعتقد أنّ هنالك من تساءل عن رأي تلك الخلية؟ أتعتقد أنّ هنالك من تساءل عن جوعها، وبردها، وحزنها؟ أشك في ذلك. حتّى لو أنّ تلك الكينونة موجودة –إله ربّما مقارنة ببداية البداية، قبل الزّمكان– فإنّه لن يأبه بالخير والشّر. حدث ما حدث لأنّ هنالك إمكانية لحدوثه، وفقًا للكبر الوحيد المشروع، وأطبّق ذات الأمر عليك. أنا أتحمّل مسؤولية الاختيار.
أتحمّلها بلا أنانية يا طفلي. أقسم أنّ لا متعة أشعر بها من جلبك إلى العالم. لا أتخيّلني أثناء المشي في الشّارع. لا أتخيّلني وأنا أرعاك وأحممك وأعلّمك الكلام. أنا موظفة، ولدي مهام واهتمامات أخرى كثيرة. أخبرتك من قبل إنّي لا أحتاجك، لكنّي سأحملك شئت أم أبيْت. سأفرض عليك ذات الأنانية التي فُرضت علي، وعلى أمّي، وعلى جدّتي، وعلى جدّة جدتي لأمّي، انتهاء بأوّل إنسان أنجبته إنسانة، سواء أأحب ذلك أم لا. لعله كان سيفزع لو أتيح له الاختيار، وسيقول: لا، لا أريد أن أولد. لكن لم يسأله أحد عن رأيه، فولد ومات وعاش بعد أنْ أنجب إنسانًا آخر لم يختر، واستمر الإنجاب ملايين السّنوات، وصولًا إلينا. وفي كل إنجاب أنانيّة لم نكن لنوجد لولاها. تحلّ بالشّجاعة يا طفلي. ألا تعتقد أنّ بذرة الشّجرة تحتاج إلى الشّجاعة ليخترق برعمها سطح التّربة وتنمو؟ رياح قادرة على قلعه، ومخلب جرذ قادر على سحقه؟ لكنه يواصل النّمو ويقف منتصبًا وينثر بذورًا أخرى تصبح جزءًا من الغابة. إذا صرخت يومًا علي قائلا: “لماذا جئت بي إلى العالم؟”، فسأجيبك: “فعلت ما فعلته الأشجار، لملايين وملايين السّنوات قبلي. اعتقدت أنّه الخيار الصّائب”.
يجب ألّا أعدل عن رأيي عند تذكّر أنّ البشر ليسوا أشجارًا، وأنّ معاناة الإنسان التي سببها وعيه، لهي أعظم آلاف المرّات من معاناة الشّجرة، وأنّه لا نفع من أنْ نغدو غابة، ولا تنتج جميع البذور أشجارًا؛ لأنّ معظمها يُفقد. هذا محتمل يا طفلي: منطقنا يعج بالمتناقضات. في اللحظة التي تنطق فيها بأمر، ترى عكسه. بل وتدرك أنّ العكس صائب أيضًا. قد يكون سؤالي عبثيًّا. في الحقيقة، أنا في حيرة من أمري، ومشتّتة. لعلّ السّبب هو عدم ثقتي في أحد إلّاك. أنا امرأة اختارت العيش بمفردها. والدك ليس معي. لا آسف على ذلك، رغم تحديقي المتواصل في الباب الذي خرج منه بخطى عازمة، دون أنْ أحاول إيقافه، كما لو أنّه لم يعد هنالك شيء لقوله.
أخذتك اليوم إلى الطبيب. لم أرد تأكيدًا على وجودك؛ بل طلبًا للمشورة. أجابني بهز رأسه، وإخباري بأنّي عجولة. لا يزال عاجزًا عن البت في الأمر، ويجب أنْ أعود إليه بعد أسبوعين بتأهّب لاكتشاف أنّك محض وهم. سأرجع إليه، فقط لأثبت له أنّه جاهل. جل علمه لا يعدل حدسي. كيف لرجل أنْ يفهم امرأة على وشك الإنجاب؟ إنّه عاجز عن الحمل… أهذه خصيصة أم حدٌّ من القدرات؟ حسبت الحمل خصيصة إيجابيّة حتّى البارحة؛ بل وحتى امتيازًا [للنساء]. لكنّني أراه اليوم تقييدًا، بل وحتى إفقارًا لهن. هنالك شيء مهيب في احتواء حياة أخرى داخل جسدك، في أنْ تعرف أنك شخصان عوضًا عن شخص واحد. يستبيحك أحيانًا شعور بالانتصار، وفي السّكينة التي تصاحب ذلك الانتصار لا شيء يزعجك؛ لا الألم الجسدي الذي ستواجهه، ولا العمل الذي ستضحي به، ولا الحرية التي ستتخلى عنها. ستولد ذكرًا أم أنثى؟ أريدك أنْ تكون أنثى. أريدك أنْ تمر بما أمر به. أتّفق مع أمّي التي تعتقد أنّ الإناث بائسات. تنهّدت أمّي كلّما تكدرت، وقالت: “آه، ليتني ولدت رجلًا!”. أعلم علم اليقين أنْ عالمنا قد ابتدعه الرّجال للرّجال. سلطتهم قديمة بقدم نشوء اللغة…
لكنّي سأكون سعيدة أيضًا إذا ولدت ذكرًا. لعلّي سأكون أسعد؛ لأنّك ستتخلص من إهانات كثيرة، والعبوديّة، والاسترقاق. إذا ولدت ذكرًا، فلن تخشى اغتصابك في شارع معتم، ولن تضطر لاستغلال وجهك الجميل لتنال القبول من النّظرة الأولى، ولا استغلال قوامك الممشوق لإخفاء ذكائك. لن يقول لك النّاس أنّ الخطيئة قد نشأت لحظة قطفك للتّفاحة. ستعاني بقدر أقل، وستتمرد دون أنْ يُستهزأ بك. لكنك ستنجرف نحو نوع آخر من العبوديّة والظّلم؛ فالحياة شاقة على الرّجال أيضًا، كما تعرف. ستحظى بعضلات أقوى، ولهذا سيطلبون منك رفع أحمال أثقل، وسيلقون على عاتقك مسؤوليات تعسفيّة. ستكون لك لحية، وسيضحكون عليك إذا بكيت، أو احتجت إلى الحنان… وسيطلبون منك أنْ تَقْتل أو تُقتل في حرب، وسيأمرون باشتراكك في تخليد الاضطهاد المجهز له في الكهوف. ومع ذلك، أو فقط لهذا السّبب، فإنّ كونك رجلا سيكون مغامرة رائعة، ومهمة لن تخذلك. أتمنى أنْ تصبح الرّجل الذي أحلم به لو ولدتَ رجلا، عطوفًا على الضّعيف، شديدًا على القساة، وكريمًا مع محبيك.
استسلمت البارحة لمزاج سيئ. سامحني على حديثي معك عن التّخلص منك. مجرّد كلام، ليس أكثر من ذلك. لم أعدل عن اختياري رغم تفاجؤ المحيطين بي. تكلمت مع أبيك أمس. أخبرته عنك. هاتفته لأنّه مسافر، ومّما سمعته منه، أيقنت أنّ الخبر سيئ بالنّسبة له. سمعت في البداية صمتًا عميمًا، ولم ينقطع الاتصال. ثمّ سمعت صوتًا أجشَّ وتأتأة: “كم سيحتاج؟”. لم أفهم كلامه، فأجبت: “أعتقد تسعة شهور. أو أقل من ثمانية أشهر الآن”، ثمّ صار الصّوت الأجش عاليًّا: “أتكلّم عن المال”. سألته: “أي مال؟”. “المال اللازم للتخلص منه بلا شك”. أجل، قال “التّخلص منه” وكأنّك طرد. وحين شرحت له بهدوء جم أنّ نيّتي مختلفة، جادلني جدالًا طويلا فيه نصح لي. نصائح تنطوي على تهديد، وتهديد ينطوي على تزلّف. “فكّري بوظيفتك، بمسؤولياتك. ستندمين يومًا ما. ماذا سيقول النّاس”.
الهوامش
* مقتطف من كتاب قيد التّرجمة ولم ينشر بعد.