من أعمال الفنان فيصل جلال – عُمان
سمير عبد الفتاح*
واكتبني
“… واجمعهم حولك، دعهم يزاحمون المجلس والهواء، دعهم يثرثرون الوقت والمكان. وامضغ ما تيسر من رحيق النبات الأخضر وباعد بين أمانيهم، ثم وازنهم بين راحتيك وقد يئس منك جزءٌ منهم. وعندما يشعشع الليل قل لهم ما انتويت من ارتخاء، ما انتويت من هجوع. ثم اكتبهم… اكتبهم بحبر السواد؛ بقلم ثُلمت أسنانه قبل قرون، اكتبهم كرؤيا؛ كابتسامات صغيرة…
اكتب عنهم في أعلى الصفحة؛ اكتب بحروف أرقتك قبل انزياحهم إليك. اكتب بنفس الحرف الأزرق المائل للاخضرار؛ بنقاط اتكأت على الوهم فانسالت في أزقة النسيان…
اختر أقربهم اليك؛ ابعدهم عن قلبك؛ تمعن فيه، تجاوز رأسه المنهمك بسنوات طيش لم يحسبها أحد، وانحدر نحو قلبه الذي أُوجع حتى الثمالة، ثم أمسك يديه اللتين طالما أرقتك… واكتبه في وهم اللقيا؛ بارداً ومحجوراً بالسواد، اكتبه بخطٍ أقرب للنشيج… وعندما يغلبك سواده استدر، واكتبها: فائزة، اكتبها كما تُكتب الأشياء الجميلة؛ اكتبها كطيرٍ ضاج بالبياض، اكتبها كموج ليلٍ قمري.
ثم تجاوزهما إلى آخرين يشدونك وسطهم، اكتب أحدهم في منتصف الصفحة، اكتبه بخطٍ مائلٍ للزرقة؛ اكتبه كريشة وعين، واكتب إحداهن في راء الريبة، اكتبها كقنديل يطل على الجرف البعيد؛ اكتبها كمطر رمادي يرنُّ في مكان سحيق…
واكتبني معهم؛ اكتبني في أعلى الصفحة؛ اكتبني كطير؛ اكتبني بخطٍ ماثلٍ للسواد؛ اكتبني في جهة القلب.. اكتبني كحروف شمسٍ قاربت الغروب؛ اكتبني كرمحٍ خاض عن المكان فغار في البعيد؛ اكتبني كوهج…
ثم لا تتركنا إلا وقد استظل كلٌ منا بنفسه… لا تتركنا إلا وقد حدثتنا عنا…”
( رواية (اكتبني) – مقاطع من الصفحات (2/3/4) – عدد صفحات الرواية 210 صفحة قطع صغير)
(هامش: رواية عن كاتب أُصيب في حادث سيارة، ولم يعد قادراً على الكتابة، وهو مشوش بشخصيات كثيرة في رأسه لم يستطع كتابتها، شخصيات حقيقية وعدها أن يكتبها.. لكنه لم يتمكن، وشخصيات تمنى أن يكتبها ليعرفها أكثر، لذا طلب من كاتب آخر مهمة كتابتها لينزاح ثقلها من عليه. الكاتب الآخر اختار الكاتب الأول لشخصية الراوي.. الذي فوجئ بتحوله من صيغة الفاعل إلى المفعول، فحدث هذا التداخل في تركيبة السرد.)
النص الأول (الساكن بنفسه المُجتر بغيره)
” وكان هو، في الزاوية قليلاً نحو اليمين، بنفس اليد التي تستقر لفترات طويلة على مسند الكرسي لدرجة أن البعض يعتقد إنها جزءٌ من الكرسي… كان هو يلقي بكلماته في نهاية حديث عن صيد الأسود…
أمامه كانوا يسمعون بشغف -أو هكذا حاولوا إظهاره- لم يقاطعه أحد، كانوا متوثبين لأي إشارة توقف ليندفعوا في نوبة تصفيق حادة تُشعرهم أنهم مازالوا أحراراً غير مقيدين. ”
(روايات النصوص الخمسة الاولى – رواية النص الأول – مقطع من صفحة (7) )
(هامش: خماسية روائية عن متن السيد الرئيس)
وخز
“… ملمس الصخرة الباردة أيقظه تماماً.. البرودة التي انتقلت عبر قدميه الحافيتين ايقظته، وبدأتْ بإخراجه من دائرة السحر، آثار قدميه الثقيلة رسمت على التراب الخشن خيطاً متقطعاً امتد من بيته إلى الصخرة التي تنتهي بهاوية سحيقة. يده اليمنى كانت تحمل مطرقة يستخدمها في تشكيل الصخور على هيئة مجسمات مختلفة.. أما يده اليسرى فكانت تحمل إزميل النحت. كان ما يزال تحت تأثير ذاك التمثال الذي تراءى له في الحلم، تمثال مكون من قسمين أحدهما يمثل رأس نسر، والآخر جسد إنسان يحمل إزميل نحت، ولهباً أحمراً يشع من حول الرأس والسيف.
الملمس البارد للصخرة أيقظه تماماً وتلاشى الحلم تماماً.. وصورة التمثال التي يطاردها أخذت بالخفوت. الريح الخفيفة الباردة دفعته للأمام قليلاً فتراجع بخوف خطوة للوراء…
لم يعرف كيف سار الطريق كله من منزله إلى هنا؟! ما يتذكر هو أنه ما بين اليقظة والنوم كان يطارد صورة منحوتة النسر التي بدأتْ تتجسد له منذ رحيل زوجته عن المنزل قبل شهرين.”
(رواية (وخز)- صفحة (7)- 180 صفحة قطع كبير)
(هامش: لكل عمل فني حكايته الخاصة، و(هشتاي) النحات الهندي الأحمر لم يكن استثناءً، والرواية هي سرد لما جرى له عندما قرر الاشتغال على نحت يقدمه كقربان ليسمح له زعيم القبيلة بالرحيل إلى الجانب الأخر من العالم للحاق بزوجته. في البداية كان يريد استخدام جذع شجرة كمادة للنحت، لكن خوفه من تمازج الأرواح الشريرة مع بقايا روح الشجرة دفعه لاستخدام صخرة صماء لم تتعلق بها حياة من قبل. ومن هنا بدأت معاناته الحقيقية، حيث لم تجد الأرواح الشريرة مكاناً سوى أحلامه لتتمازج معها).
الوصايا السيئة
” تشعر بحسرة لأنك لست سيئاً، تشعر بالغبن لأنك لست مخادعاً، تشعر بالوضاعة لأنك لم تتمرغ تحت الأقدام.
بحور الآخرين عذبة.. ويرتوون منها، بينما بحرك مالح.. وأنت ترويه…
أعماقك تصرخ: ما الصواب الذي ارتكبته لتكون هكذا…”
( رواية (الوصايا السيئة) – صفحة (ا) – 200 صفحة قطع متوسط )
(هامش: رواية عنك وعنا. بكثير من الشجن، وقليل من المراوغة تحاول الرواية الغوص في الأعماق البشرية، وإظهار الأشياء السيئة التي يحاول البشر إخفائها بادعاء النقاء. وبشيءٍ من خوف، وكثيرٌ من توجس يقوم بطل الرواية بفتح الأبواب التي يُعتقد -عادةً- أنها قد تقود لحياة أفضل من تلك التي نعيشها.)
رواية راء
” تفترض في نفسك القدرة على الكتابة.. هذا الافتراض يقودك للبحر، تنتقي صخرتين؛ واحدة لتضع عليها الأوراق، والأخرى تتخذها سنداً لظهرك. ثم تواجه البحر وأنت تقول له إنك ستكتبه.
الموجة التي غمرتك انتزعتْ من يدك القلم، وبللتْ الأوراق، وبعثرتك على الرمال.
تنظر للبحر، ترى يده ممسكة بالقلم، والأخرى تتوسد الأفق. تبتسم للبحر، لكنه يقول لك إنه لن يكتبك…”
(رواية الراء – مفتتح- 261 صفحة قطع صغير)
(هامش: رواية عني أنا، رواية تحكي عني وعن البحر، وقد جاءتني فكرتها عندما كنتُ اسبح، وكدتُ أموت غرقاً، وبعد إنقاذي -وأنا ممدد على رمال الشاطئ وأنا ارتجف- جاءتني هذه الرؤية وأنا بين الحقيقة والخيال. وإلى الآن تتداخل هذه الرؤية في عقلي، وأتساءل فعلاً هل في تلك اللحظة -لحظة البرزخ بين الموت والحياة- تبادلنا أنا والبحر الأدوار؟!)
رواية كاف من نون
“…الباب الذي أغلقته خلفك لم يُصدر صريراً مزعجاً هذه المرة، هي ما زالت واقفة هناك بين البحر والجبل، تقول لها إنك هنا. فستدير بانحناءة كاملة نحوك وهي تدعوك للجلوس قليلاً. وتعطيك مع رعشة يديها كوباً من الماء، وتسألك عما تريد.. تحدثها عن الطريق الذي عبرته خلال أيامك الأربعة الماضية.. تحدثها عن أمتعتك التي سلبك إياها الطريق.
تحدقْ فيك بصبر.. تنتظر فترة صمت منك لتهز رأسها مشجعة إياك على المواصلة. فتحكي وتحكي. وعندما تشعر هي أنه لم يعد لديك ما تحكيه.. تشير لك لتنهض… تتجه إلى زاوية المكان… فيحتل مكانك شخصٌ آخرٌ، تبتسم له المدينة، وتسأله عما يريد.
تسمع الجالس بجوارك يقول:” المدينة هكذا.. المدينة مقهى مهما جلس فيها الغرباء يجب عليهم مغادرتها وترك المكان لآخرين.” تخبره أنك لستَ غريباً، وأن هذا المكان يعرفك جيداً. لكنه يبتسم بخفوت وغريبٌ آخرٌ يجلس بجوارك…”
(رواية كاف من نون – صفحة (67) – عدد الصفحات 358صفحة قطع كبير.)
(هامش: هذه هي المحاولة الأولى لكتابة رواية عن مدينة صاخبة لا تمل من نداء العابرين لتُلصقهم بشوارعها وأزقتها. وسيتتبعها رواية أخرى -عن مدينة أخرى قاهرة- ربما تتمكن من الطيران)
رواية الدال
“دعهم يأخذوك على حين غِرة… دعهم يبتسمون وهم يلوكونك ببطء… دعهم ينفثوك بين الرماد… ثم توسد بقاياك… وتخفف من دمعٍ طالما شق مجرى له في وجنتيك…”
(رواية الدال – مفتتح النص – 365 صفحة قطع صغير)
(هامش: نص طويل أقرب إلى منظومة سردية، هنا الجزء الأول، والجزء الثاني سيحمل عنوان رواية (العين). الجزء الأول بضمير الأنا، والثاني بدون ضمير ثابت.)
(جفول)
” تقول لنفسك إنك لن تهرب هذه المرة؛ لن تراوغ؛ وستكتب نفسك كما هي، ستكتب الأشياء التي لم تبح بها لأحد.. السنين الضائعة، حتى الأوهام الصغيرة لن تنسى إدراجها على الأوراق.
ستكتب كما ينبغي لرجل شريف، ستفي بوعدك الذي طالما قلت إنك ملتزم بالوفاء به.
في أعلى الصفحة اسمك سيكون افتتاحية، بعدها عمرك الحقيقي. ثم تضع عبارة الإهداء: (إلى الذي لم يكن أنا). بعدها ستضع عنواناً فرعياً تحت مسمى (الانبثاق).. وفيه ستؤرخ لأيام لم تعشها أبداً.
وكرجل شريف ستكتفي بسرد الأكاذيب التي تعتقد أنه بالإمكان أن يصدقها الأخرون.
وبعد عشر صفحات ستضع العنوان الفرعي الثاني (الوهج)، وتحته ستدرج كل أحلام مراهقتك؛ بدايةً بحلم الطيران، وانتهاءً بالحمى التي اضاعت ضوء عينيك في منتصف انحسارها، ثم أعادت ضوء عين، واكتفت بخسف الأخرى.
كل أحلامك ستكفيها عشرون أو ثلاثون صفحة، بعدها العنوان الفرعي الثالث (الانبعاث) وفي متنه ستكتب ما حدث وما لم يحدث.. حتى قرارك بالاستناد على جدار، ورؤية ما حدث لك طوال الخمسين سنة الماضية.
وباقي الأوراق سيكون عنوانها (الرتق) وستخصصها للتأمل؛ تأمل حياتك كرجل شريف لم يكذب أبداً دون داع، ولم يؤذ أحداً دون أن يكون مجبراً على ذلك… الحوادث كلها؛ الخيبات التي دفعتك في نهايتها-خصوصاً بسببها (هي)- إلى محاولة الانتحار تحت عجلات شاحنة.. ستكتب عنها في الصفحات الأخيرة… لكن قبلها، ستنوح في خمس أو ست صفحات، ستبكي أيامك التي تناثرت هباءً… ستبكي كما لم تبك في صحوك أو نومك… ثم ستفيض بحديث عن رحلتك الأولى لبلادٍ قاهرة. سيكون حديثاً مخلوطاً بشجن لعدم قدرتك على الذهاب إليها مرة اخرى. بعدها ستترك صفحتين فارغتين كإشارة للفراغ الذي عشته لعامين بعد طردك من عملك بسبب اختلاسك مبلغاً مالياً؛ نفس المبلغ الذي استخدمته للسفر. صفحات أخرى لعودتك إلى قريتك، عمرك حينها كان في منتصف الأربعين، كان ذلك خيارك الوحيد حينها؛ مدخراتك انتهت، وزواجك فشل. خمس صفحات ستكون أكثر من كافية للخمس سنوات التي قضيتها في الحقل تزرع وتحصد، وتصطاد الطيور والأرانب، قبل أن توقظك المدينة ذات يوم قاحل، وتدعوك للعودة إليها. ثم ستكتب ما تعرفه عن طيش الخمسين. وتنتهي بغرفة في مستشفى تُحدق بلامبالاة بجسدك الذي خذلك، ولم يستجب لأوامرك كما ينبغي ويرتمي تحت عجلات الشاحنة، واكتفى بالاصطدام بجانبها الأيمن. ”
(مخطط لرواية الشخص الذي لم يخذل نفسه تحت عنوان “جفول”)
خفوت
“مرق بين الطاولات بسرعة، كأس الشاي اصطدم بالأرض، فتناثر الزجاج بين أرجل الطاولات.
ابتسامته الممزوجة بخوف كشفت عن أسنانه المتآكلة بفعل التسوس، وحشرجة خفية خرجت من فمه أكملت المشهد.
والده توفي قبل ثلاثة أيام، لكنه لم يعرف مغزى ذاك الموت حتى الآن…
صاحب المقهى كان يستند على طاولة وهو منهمك بمراجعة حساب إيراد اليوم السابق. صوت تحطم الكأس جعله يرفع رأسه قليلاً، لكن ضحكات عامل المقهى جعلته يعود للانغماس بمراجعة الحساب.
تراجع الطفل الصغير أكثر للوراء، وسرعان ما استدار واختفى بسرعة.”
(رواية خفوت – الجزء الثالث – عنوان فرعي “الصغير” صفحة (1))
(هامش: عندما توفي محمد الحرازي ترك وراءه سبعة أبناء، الاكبر في الثانية والعشرين، والأصغر في السادسة من عمره. ترك لهم دكاناً صغيراً ممتلئاً بجرائد وكتب قديمة وبعض الصور التذكارية، وديون أقلها دين يقدر بإيجار الدكان لثلاثة أشهر. وحده الابن الأصغر استمر في حياته باللعب لعدة أيام بين طاولات المقهى المجاور لدكانهم، قبل أن يتلقى تلك الصفعة التي أزالت ثلاثة أسنان متسوسة من فمه، وأعادت تشكيل حياته كلها. الرواية من ثلاثة إجزاء الأول (الرحلة)، والثاني (المقام)، والثالث (الصغير). الجزء الأول (الرحلة) عما قبل انتقال الحرازي إلى مدينة صنعاء بشكل نهائي في نهاية سبعينات القرن العشرين، وما جرى خلال فترة السبعينات. و(الرحلة) تبدأ مع جلوس الشاب محمد الحرازي في ساحة تشبه الاستراحة تتوقف فيها الشاحنات الكبيرة -بعد اجتيازها المنحدر الجبلي الذي يشكل الجزء الأصعب من الطريق الذي يربط العاصمة صنعاء بمدينة الحديدة وباجل- وسماعه لأحاديث سائقي الشاحنات، وذهابه إلى صنعاء بين الحين والآخر عبر تلك الشاحنات التي تمر عبر ذلك الطريق، وصولاً إلى قراره بالانتقال نهاية السبعينات مع زوجته وابنته الكبرى.
والجزء الثاني (المقام) عن فترة مكوثه في صنعاء حتى وفاته في بداية العام الفين وخمسة عشر، وتنقله بين أكثر من عمل حتى استقراره في دكان لبيع الجرائد القديمة والكتب والخردوات الصغيرة. والتحولات التي حدثت لمدينة صنعاء خلال تلك الفترة.)