أفترض أن الحديث عن سؤال النقد في المشهد العماني بات في خانة المؤجل؛ ذلك أن أي حديث مهما ادعى الإلمام بناصية القول في متاريسه وآفاقه هو حديث لن يكون سوى حديث بلاغي لا أكثر. لذلك كانت ولا تزال الكتابة ولادة طبيعية تقطفنا من أحاسيسنا الأولى الطازجة وكأننا موجودون حقا، هذا القلق هو الذي دفعني وأنا أقاوم تصحر الورقة البيضاء إلى تخطيط وجهة نظر شخصية عساها تزيح عني رداء الحيرة، وبخاصة وأنا أنظر إلى المشهد النقدي في عمان بعيني القاصرة التي لن تكون بطبيعة الحال أفضل من عيون أخرى أكثر اطلاعا ودراية وممارسة، لذا فإن مغامرة الخوض فيه مضاعفة: مرة لعدم امتلاك صفة محددة تخول الحديث عن «النقد في عمان» في ظل وجود من يمتلكها في الساحة الثقافية العمانية، ومرة لأن «النقد في عمان» أشبه بالشيء الذي تراه ولا تجده، تلمسه ولا تقبض عليه. وأن تتحدث عن شيء هذا سَمْته مؤكد أنها مجازفة كبيرة!
حسنا إذن، لا أظن أن ثمة لقبا يثير رعب المسؤولية في نفس حامله أكثر من ألقاب ثلاثة: أن تكون قاضيا، وأن تكون طبيبا، وأن تكون ناقدا! ومرد ذلك إلى عدم قابلية الخطأ في تشخيص الحالة أو الحكم عليها، وذلك بخلاف غيرها من الألقاب التي تتخذ نتيجة العمل فيها مدى طويلا حتى تتخلق في شكل قابل لقياس دقة الاشتغال وصوابه.
وكما أن الخطأ الطبي قد يكون قاتلا، فكذلك الخطأ القضائي، ومثله الخطأ النقدي، بيد أن هذا الأخير ليس قاتلا – بالمعنى الفيزيائي – لمن تصدر فيه كسابِقَيه، وإنما قاتل – بالمعنى الأدبي – لمُصدرِه قبل غيره ما لم يكن عارفا بصنعته خبيرا بها. أضف إليه أن الطبيب والقاضي كليهما يَفضُلان الناقد في كونهما يملكان صفتيهما الرسمية بحكم شهادة علمية تعترف بمهنتيهما، فلا يحاججهما عليها أحد، ولكن الناقد ما من شهادة علمية تسميه ناقدا إلا ما ينجز من عمل نقدي يتخلق عبر الوقت في مشروع واضح المعالم ومحدد الرؤى، لذا فإن الألقاب النقدية المطروحة بمجانية هنا وهناك – على امتداد وطننا العربي – تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر من جهة، وحذر قبل إطلاقها إذا ما أردنا للنقد أن يحظى بمكانته التي يستحق من جهة أخرى. ويحق لنا أن نسأل عن حال «النقد في عمان»، وهو سؤال يعلو – في كل مناسبة أدبية أو ثقافية – عما سواه، بحثا عن حراك نقدي يوازي حركة النتاج الأدبي المتصاعدة في مختلف فنون الكتابة والإبداع، لترتفع معه وتيرة الشكوى من غياب النقد الموضوعي في المشهد الثقافي العماني – والمشهد العربي عموما – رغم تفاؤل بعضهم بأن المناخ الإنتاجي الحاصل يشكّل أرضا خصبة لميلاد حركة نقدية نشِطة في البلاد، وهي نظرة تفاؤل لها ما يشفعها، غير أنها في المقابل تصطدم بعدد من التحديات التي وجب التفكير فيها بصوت مسموع إذا ما أردنا التوصل إلى حلول لها.
إن وفرة الإنتاج الأدبي مؤخرا شعرا ونثرا يسيل لها لعاب الباحث الشغوف في جديد هذا المنجز – وقديمه بطبيعة الحال – لأن المعادلة (النقد أدبية) تُسلّم بأن النقد إنما هو عملية تابعة لعملية الإنتاج الأدبي، ومتى ما كان الإنتاج وفيرا افترضنا في المقابل حراكا نقديا مماثلا يسير جنبا إلى جنب لتحقيق مناخ ثقافي فاعل، تأخذ الأطراف المختلفة برؤى بعضها نهوضا بالمشهد الثقافي العام، ولكن هل حققت وفرة الإنتاج الأدبي في عمان وفرة نقدية في المقابل؟رغم الجهود التي يبذلها الأشخاص المشتغلون في الحقل النقدي في عمان، وإسهاماتهم البحثية والنقدية – المقدّرة – التي تطالعنا بها الملاحق الثقافية والمجلات الدورية بين الفينة والأخرى، وكذلك الإصدارات النقدية هنا وهناك، فضلا عن الجهود والمبادرات التي تنهض بها المؤسسات الثقافية كالنادي الثقافي، والجمعية العمانية للكتّاب والأدباء، والصالونات الأدبية التي بدأت تنشط في الآونة الأخيرة بعقد ندوات وجلسات نقدية في النتاجات الأدبية، أقول على الرغم من تلك الجهود إلا أن الحركة النقدية في عمان لا تزال دون النشاط الذي نطمح إليه، ولأسباب سترد مفصلة في السطور القادمة، وهو قول يصح إطلاقه على المشهد العماني وعلى غيره من المشاهد الثقافية، فليست عمان بمختلفة عن غيرها من الأقطار العربية في هذا النقص، وما مقولة الدكتور صلاح فضل بأننا «نعيش زمن المجاعة النقدية» إلا دليل على ثبوت فرضية القحط النقدي الذي يستلزم الوقوف عنده بحثا في تحدياته لتفكيكها ومعالجتها.
إذ لابد أن تسبق ميلاد الحركة النقدية المنشودة وتنتجها جهود شخصية ومؤسسية، فضلا عن ضرورة احتضان الحركة الناشئة احتضانا صبورا متعدد الأطراف، يأخذ مداه حتى يُنتج مشتغلين بالنقد أولا، ونقادا – تاليا – قادرين على قيادة المشهد النقدي بما يحقق حركة ثقافية فاعلة تأخذ بالأدب العماني إلى المستوى الذي يطمح إليه الجميع.
ولعل واحدة من أبرز تحديات قيام حركة نقدية فاعلة تتمثل في تحديد: من هو الناقد؟ وما وظيفته وأهميته؟ وما هي شروط العملية النقدية؟أسئلة ثلاثة حتمية قبل الخوض في ملابسات المشهد النقدي في عمان ودرجات حضوره وغيابه، فما الذي يفرّق الكاتب عن الناقد، ويفرقهما معا عن المثقف؟ فإذا كان كلاهما مثقفا، فإن الناقد هو المثقف الأعلى درجة في سلم الثقافة، وإذا كان كلاهما كاتبا، فإن الناقد هو الكاتب بعقله لا بإلهامه، ومتى ما عرفنا ذلك اتضحت في أعيننا وظيفة الناقد ومهمته التي تتطلبها كل مرحلة ثقافية. فالنقد – بصفته علما له شروطه ومبادئه، وفنا له تقنياته وإدهاشه – لا يزال غائبا أو مغيبا عن الإدراك، فمتى ما عرفنا النقد بصفتيه العلمية والفنية الراميتين إلى الكشف والإضاءة والمساءلة – لا الانتقاد والانتقاص – أمكننا النظر، من بعد، إلى الناقد ووظيفته بعين تبعد الشك والريبة التي تجعله مغضوبا عليه في كل حالاته وأحواله، كما تجعله متهما بالنخبوية والشللية من جهة أخرى.
ولعل الأهم الذي يستدعي الإجابة عنه في زحمة السؤال، هو: ما الذي قدمناه من أجل إيجاد حركة نقدية فاعلة وصناعة ناقد عماني؟ إذ في الوقت الذي يدعو فيه الجميع إلى صناعة المبدع في شتى المجالات واحتضانه وتشجيعه، تغيب الدعوة إلى صناعة الناقد، فإذا كانت الكتابة الإبداعية التي هي فن بحت مرتبط ارتباطا وثيقا بالموهبة والاستعداد الفطري تقام لها الورش والدورات التدريبية من أجل صناعة كاتب حقيقي، فهل حظي النقد بالنصيب نفسه من تلك الورش والدورات التي بدأت تظهر هنا وهناك، وانطلقت في عمان مؤخرا مع ورشة (الحكاية وما فيها) التي نفذتها اللجنة الوطنية للشباب في صيف 2014م، وتلاها إشهار (مختبر السرديات العماني) في أواخر سبتمبر من العام نفسه، الذي وعد بدورات وورش في صنوف الكتابة السردية؟ في الواقع – وإجابة عن السؤال أعلاه – يبدو أن الجميع ينظر إلى النقد والناقد بأنهما الحاصل دون تحصيل، وأنه الموجود دون إيجاد، وأنه – أي الناقد – أغنى من الحاجة إلى مثل ذلك الإعداد، لأن الافتراض الذهني يقول إنه جاهز للنهوض بمسؤولية ما هو بصدده لمجرد تصديه للاشتغال في الحقل النقدي. هذا صحيح (نسبيا) لأن الناقد وفق نظرة واقعية – وإنصافا له – هو المبدع (فوق العادة)، والمنوط به كشف الإبداع الأول وإبراز مكامنه، فالنقد سيد الإبداع وأرفع مراتبه، وبه تتحدد قيمة صنوف الإبداع الأخرى متى ما كان في مساره الصحيح وفاعليته القصوى، ولكنه يستحق – في المقابل – أن تؤهل كوادره و(تصنع) بورش مماثلة ودورات تهيئ المتصدين للعملية النقدية – لاسيما الشباب منهم – للاضطلاع بمهامهم النقدية بعيدا عن الكتابات الانطباعية التي لا تقدم عمقا أو المقالات الصحفية العابرة. وعودا إلى التحديات التي تواجه العملية النقدية المشهد الثقافي في عمان فإني أفصّلها كالآتي:- المؤسسة الأكاديمية: رغم ما يتطلبه النقد من موهبة وذكاء واستعداد فطري، إلا أنه في شقه الآخر عبارة عن صناعة تتطلب بيئة تصنع من الفرد ناقدا، ومؤسسات أكاديمية تؤهل/تصنع الناقد وتسلحه بالمعارف التي تخوله ولوج العمل النقدي بكفاءة، فإذا كان يقال «إن الشاعر يولد شاعرا»، فإن الناقد تتم صناعته، فهل تضطلع المؤسسة الأكاديمية بمهمة صناعة الناقد لأبعد من مجرد تهيئة سبل نيل الشهادة الجامعية وحسب؟نقول ذلك لأن التعويل على المؤسسة الأكاديمية لا يقتصر على صناعة الناقد وحسب، ولكنه يتوسع ليشمل دورها في قيادة قافلة الثقافة في أي بلد، بيد أن المؤسسة الأكاديمية – كما يلحظه كل ذي بصر – حصرت مهمتها في تفريخ أعداد من الباحثين عن عمل، وما عاد البحث العلمي بارزا ضمن مهماتها كما يفترض أن يكون! والحديث عن المؤسسة الأكاديمية يقود إلى الحديث عن دور الناقد الأكاديمي الذي تكاثرت علامات الاستفهام حول دوره في المشهد الثقافي، إذ يغيب الناقد الأكاديمي عن الساحة، ليتركها للقارئ العادي أو المدوّن والمغرّد والناشر على صفحات الفيسبوك، وفي أحسن الحالات يتركها للكتّاب أنفسهم الذين بدأوا حركة تعويضية تعوّض غياب الناقد بالكتابة عن نتاجات بعضهم ومناقشتها ضمن فعاليات قراءة تقام هنا وهناك، وهي قراءات غير متخصصة ولا يعدم أن تقع في مطب الاحتفاء والمجاملات، وفي أحسن الحالات سَوق الملاحظات أو طرح التساؤلات.وقد يبدو – على الأقل – أن المؤسسة الأكاديمية مطالبة بأضعف الإيمان، وهو طباعة الرسائل الأكاديمية في مكتباتها وإتاحتها للقراء، لاسيما تلك الرسائل التي حظيت بقرار (الإجازة مع الطباعة)، دون أن نرى للطباعة أثرا رغم مضي السنوات على بعضها، فإتاحة الموجود أسهل من إيجاد غير الموجود مع ضعف العذر.- الكسل البحثي: إذ ما أكثر الباحثين في النقد الأدبي ممن يتوقف دورهم فور تحصيل الشهادة الجامعية، فيركنون إلى الدعة الروتينية القاتلة التي توفرها لهم الحياة الوظيفية والاجتماعية، وينهون بذلك مسيرة بحث توقفت عند شهادة عليا كانت لها حسنة إنجاز أطروحة بقيت في أرفف مكتبات الجامعة. وقد يبدو هذا «الكسل البحثي» مبررا في ظل توزّع الباحث بين وظيفته التي قد تبتعد أو تقترب عن مجال بحثه النقدي، وبين الضغوطات الاجتماعية وواجباته العائلية، غير أنه مبرر غير مقبول إذا سلَمنا بأن الإبداع أرقى درجات التحدي. ومن جانب آخر فإن عملية التفريغ الممنهجة التي يجب أن يشرف عليها مجلس البحث العلمي – أو غيره من مؤسسات الدولة ذات الصلة – واجبة ومستحقة لأصحاب المشاريع الفكرية التي يشكل النقد أحدها، لأن الفكر عملية متصلة، لا ينبغي أن يزاحمها شيء من مشاغل الحياة إذا ما أردنا للمشاريع الفكرية أن يكون لها شأن في مشهدنا.- العلاقة الملتبسة بين الكاتب والناقد: فلا يبدو الاشتغال بالنقد محفزا للمشتغل فيه، ولا مغريات حقيقية تجعل من الناقد يستمر فيما هو فيه سوى شغفه بالعملية النقدية، نظرا للعلاقة الملتبسة بين الناقد والكاتب منذ أن كان أدب وكان نقد، فهو (الناقد) ممقوت ومكروه ومُتّهم متى ما قال عكس ما يهواه الكاتب (وقلة أولئك الذين يؤمنون برسالة النقد وافقت أم اختلفت)، وهو ممقوت ومكروه ومُتّهم كذلك وإن وافق هوى الكاتب بدعوى التملق والمجاملة والشللية. وقد وعت الكيانات الثقافية الممثلة في المؤسسات المبادرات والصالونات الثقافية هذه الإشكالية، فعمدت إلى جعل الكاتب والناقد وجها لوجه خلال تناول العمل الأدبي في فعاليات القراءات النقدية التي تقام هنا وهناك، ولعل هذا ما يكسر الجبل الجليدي بين الطرفين ويجعل من الناقد قريبا نافذا، كما يجعل من الكاتب متقبلا راضيا مهما اختلفت وجهات النظر وتناءت بغية تجاوز المرحلة الراهنة، نشدانا لمراحل أكثر نضجا من عمر الإبداع الحقيقي.- غياب الحافز: ففي الوقت الذي تتوالد فيه الجوائز وتتناسل احتفاءً بمنجز إبداعي شعرا ونثرا، فإن تلك الجوائز تضرب صفحا عن المنجز النقدي، وكأنه مما لا يجدر أن تختصه جائزة ما فتكرم أصحابه، فيظل حبيس دوره القديم مقيّما ومرشِحا لمن يستحق تلك الجوائز من زمرة الأدباء والكتاب فقط.
وأخيرا، يبدو أنه يتوجب علينا جميعا أن نكف عن الشكوى ونباشر العمل فورا، فوحده العمل يحقق نتائج ملموسة، وكل ما عداه ما لم يكن مشفوعا بخطة عمل فلن يكون أكثر من مجرد جعجعة لن تعيد الحصان مجددا إلى الطريق الصحيح، ومن جانب آخر، أحسب أنه آن الأوان للمشتغلين بالنقد – على قلتهم – أن يؤسسوا نقابتهم أو جمعيتهم النقدية التي ستضمن على الدوام مناخا من المناقشة والبحث والعمل النقدي الذي يكفل ازدهاره، وبما يحقق حركة نقدية منهجية ومنظمة تعمل على سبر المنتج الأدبي العماني وفق رؤية تروم الشمولية وتحقق العمق والأثر، وبما يجعل من النقد فكرا له كيانه الذي يتمدد ليشمل صنوف الإبداع كافة.
دون أن نغفل أهمية تقدير النقد بوصفه صمام أمان، وضمانة من ضمانات المنافسة الأدبية التي تعلي من شأن الأدب الرفيع وتمحص الرديء بما يجعله يقوى مع الوقت؛ فلا يختلط صافيه بكدره. وإن كان من مطمح أخير، فهو الرجاء بمراعاة أصحاب المشاريع الفكرية عامة و(النقدية خاصة) وخصهم بفترات تفريغ – مشروطة بالمتابعة من مجلس البحث العلمي أو سواه، وجهات عملهم – تخولهم الاعتكاف من أجل إنجاز أعمالهم الفكرية بما يرفد الثقافة العمانية بكنوز علمية رصينة تضاف إلى المكتبة العمانية والعربية. وبعدها فقط سيحسن النظر إلى واقع أعقب العمل لا الشكوى.
——————————————–
منى بنت حبراس السليمية