يأخذ المسرح دائما وجوها جديدة مثل المدينة تماما. ومكانه يكاد ان يكون مطابقا الى نموذج وشكل المدينة، هذا بالإضافة إلى ان له صدى قويا في عالم اليوم المتغير. فالمسرح مثلما يقول «يوسف الصديق»، (لا يتأسس إلا في واقع عمراني مدني، مثله في ذلك مثل الفلسفة)(1)، وهذا الرأي يلقي بنا مباشرة في احضان المسرح الاغريقي الذي كان نتيجة للمدينة، وقوانينها التي استمد منها المسرح قوانينه.لا سيما ان المدينة قد اثرت في شكله ومضمونه ومعماريته على مر التاريخ، وانتقلت به من الهواء الطلق الى الصالة، ومن الكنيسة الى الشارع، ومن الصالة الى المعامل، وساهمت في تأسيس فضاءات مسرحية له متنوعة ومختلفة، وجعلت منه يلتقي بجمهوره اينما يكون هذا الاخير بواسطة الوسائل والمواصلات والإعلام، والتكنولوجيا الحديثة التي ساهمت بتطويره بشكل سريع، وألقت به في سرعة عجلة العصر ومتطلباته الملحة. وقد اخذ المسرح شكله وجوهره الحديث من المواجهة مع التطورات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي حدثت في العالم، بحيث تزامن هذا التطور مع تعدد اشكال المدينة على نحو متزايد، وقد لعبت المدينة دورا اساسيا في مهماته الجديدة.
بلا شك أن هذه المادة المفتوحة تهدف ضمنيا إلى معرفة فيما إذا كان المسرح كفن وكمكان وكخدمة للشعب وكممارسة اجتماعية، قادرا في بداية القرن الواحد والعشرين على ان يأخذ او بالأحرى أن يسترجع مكانته الكبيرة التي فقدها في النصف الثاني من القرن العشرين بسبب العديد من العوامل، التي يمكن تلخيصها في أن الحاجة اليه تضاءلت وحل محلها السينما، الذي حل مكانها هي الاخرى التلفزيون، وقد جاء الانترنت لكي يؤثر على هذا الاخير بشكل كبير ويقلق مضجعه. يحاول المسرح اليوم أن يعيد مكانته والعمل على عدم الاستغناء عنه، مذكرا ومنبها من خلال طرق عروضه الجديدة ومعالجاته المسرحية الحديثة، أصله الاغريقي، الذي يقول: بأنه المكان الذي نرى فيه ما هو واقعي وافتراضي، وهو فضاء بصري، ومكان للاستماع والتصرف. إن انماط الحياة الجديدة، وحساسياتها، وتكنولوجيتها، وآفاقها التي تشكل صدى القرن الواحد والعشرين تدعو وتطالب بممارسات فنية ومدنية جديدة، وهذا ما يجعل اجهزة وآليات العصر المعروفة تضطرب وتهم نحو السرعة. ولكن قبل البحث في هذا الموضوع، لا بد من أن نذكر او نُذكرّ، بأن المدينة ليس بفضاء خال من النشاط وينتظر المسرح لكي يمنحها الحياة، إنها بلا شك تفيض دائما وابدا بالحياة، ومن كل نوع، وحينما نذكر ذلك، نفكر اولا وقبل كل شيء، بقاعات المدينة او المحافظة او المقاطعة، وبالأسواق والجوامع والكنائس، والمدارس والمستشقيات، والمحلات التجارية وورش العمل المتنوعة، وحركة المرور، ووسائل النقل العام؛ ونفكر ايضا بالناس الذين يسكنونها ويتجولون في شوارعها ويجلسون في مقاهيها، وبالذين يجلسون في سياراتهم الخاصة، وبالآخرين الذي ينتظرون بالفنادق، والذين يصلون مطاراتها ومحطات القطار، والموانئ وإلى آخره. لا سيما ان المدينة تصبح أثناء الاحتفالات الشعبية والدينية والوطنية بأكملها مسرحا: ابتداء من بوابة الدخول إلى مركز المدينة. ومرورا بالشوارع المزينة بديكورات باهظة تستعيرها الاستعراضات؛ والمنصات المزروعة في مفترق الطرق التي تقدم عليها لوحات غنائية وراقصة حية؛ وكذلك العربات المتحركة التي تتوقف فيها المواكب وتصبح خشبات متنقلة للعرض. وقد خرجت جميع الاحتفالات الشعبية، من معطف الاعياد الدينية وطقوسها، التي الهمت كتاب المسرح وجعلتهم يستعيرون شخوصهم المسرحية منها، من مجانين ومهرجين ومشعوذين، ويغذون فيها الكثير من مشاهد المتعة والانشراح؛ ويحاكون الخطب المضحكة، والساخرة التي يبالغ في نطقها الواعظون من فوق المنابر، وكذالك الحماقات، التي تستثمر الخدعة والمزاح، التي تطغى وتهيمن على مناخ وأجواء الأعياد الشعبية. وهذا يعني، أن المدينة نفسها عبارة عن فضاء للعب والعرض والمشاركة المستمرة قبل ان يأتي المسرح ويسائل او يتسائل حول اللعب الذي يجب ان يقدمها من خلاله. إن المسرح، مثلما يقول “يونس الوليدي” في كتابه الموسوم ” المسرح والمدينة تاريخ مشترك”: (ليس هو وسيلة العرض الوحيدة في المدينة، كما ان المسرح-باعتباره خلقا جماليا- ينبع من تجربة جمالية، ويلعب احيانا دور التجربة الحيوية للحياة الاجتماعية في المدينة، إذ أن بعض الاعمال المسرحية تستطيع ان تسمو الى مستوى تجارب علاجية في متناول المدينة، حيث تمكن من التسامي في الغرائز ومن الكشف عن الامكانات والطاقات المجهولة أو غير المعترف بها)(2). إذن، إن المدينة كانت ولا تزال منذ الازل بمثابة عرض ولعب من خلال كل ما يتفاعل فيها من وسائل اتصال مباشرة مع الجمهور نفسه او تحت غطاء مؤسساتي، سواء كان ذلك واضحا للعيان او خفيا. وإنها كذالك، قبل أن يأتي المسرح ويعيد انتاج الحياة وفقا لرؤاه وتصورات العاملين فيه، أي انها سبقت المسرح في اللعب، والعرض والجمهور، والحالات، والمواقف، والملاحظات المتبادلة. ولكن عندما يتناول المسرح أو يأخذ بالاعتبار او الحسبان، بعض ملامح الحياة التي هي في حالة عرض دائم ومستمر في المدينة، فهو يعتقد أن هذه المظاهر الحياتية والأفعال والنشاط الجمعي تفتقد الى بعض من الحياة، وأحيانا، لأنها تحتاج الى رجاحة العقل، والى تحسين نوعية عرضها وتقديمها، بفضل الخيال والخبرة والصقل. فالمسرح، في كل المجتمعات، كان عبارة عن مكان كبير للتجمهر الذي يأخذ على عاتقه، في ذات الوقت، مظاهر الطقس والاحتفال. وقد خُصص للجمهور فيه مكان أختلف وتغيرت مواضعه وفقا لتوالي العصور والحقب. وهذا ما سجلته معمارية المسرح نفسها التي أخذت هي ألأخرى، على مر الزمن، أشكالا وأبعادا مختلفة ومتعددة. وإن الأحداث المعروضة من قبل الممثلين سواء بطريقة منمقة أو واقعية، وفقا لما نريد أو نحاول الإقتناع به من خلال صدق الخيال، تنظم في جملتها عرضا من الوجود الإنساني الذي يسمح لكل واحد لأن يسائل صورته الخاصة، وتجعله يفكر من خلال هذه المرآة العاكسة. هنا يكمن جوهر المسرح الذي يحاول من خلال عمليه إدخال أو زج الممثلين في لعبته، اعطاء المظاهر الموجودة مسبقا في المدينة، نوعا من الحياة والطاقة الدراماتيكية والجمال. ولكن هذه الاحكام القيمية، إن صح التعبير، لا يشترك او يشاطرها الرأي بالضرورة سكان المدينة كلهم، وهذا ما يحدث في اغلب الاحيان بمدننا العربية التي اكثرها لا تمارس الحياة المدنية، ولم تأسس تقاليد مسرحية مثلما اسس لها المسرح الغربي. وقامت بتجريد المسرح من وظائفه الجمالية، بشكل من الاشكال، واختصرت تساؤلاته الجوهرية حول علاقة الانسان بوجوده وبالآخر وعلاقته بالسلطة وبما يحيط به من متغيرات وتحولات، بعوامل بديهية بسيطة واحيانا سطحية، مثل المتعة، واللهو، والوعظ، والتلقين، والاملاء، والدعاية، وتجاهلت انه، اولا وقبل كل شيء، حدث وفعل ثقافي يجب ان يكون فعالا، في الاحياء الصعبة،، على سبيل المثال، والسجون والمستشفيات، ودور الحضانة، أو يكون أداة تعليمية وعلاجية. ومن اجل ان يتطور كمشروع ثقافي، لا بد من استخدامه من اجل الفائدة، من خلال فعل المشاركة بين مجموعة اطراف تساهم في صناعة فرجته، وأحلامه وأوهامه وخياله ولعبه المسرحي الذي صار يتجاوز حدود الواقع، ويلقى بجمهوره بحقيقة الاحلام التي اصبحت فوق خشباته اكثر حقيقة من الوجود الحي نفسه. لقد ولد المسرح سواء في الشرق أو الغرب في أحضان الشعائر الدينية، التي انفصل عنها ببطء، واتجه إلى كل ما هو دنيوي. ويعتبر ذاكرة للشعب السياسية. فهو عبارة عن تظاهرات لفرق اجتماعية، تستعير طرق تعبيرها من الاحتفالات الكبيرة، الدينية والمدنية، التي تمارس وتجتمع داخل المدينة. ويتأسس الحدث المسرحي على هيئة شبكة من العلاقات تتحقق في الزمكان، في سلسلة من الاتصالات المختلفة: بين الممثلين والشخصيات والجمهور، وبين الفعل الدرامي والجمهور، وبين معمار المسرح نفسه. ومع ذلك فإن هذا التواصل المسرحي يكون حساسا بشكل خاص، لان الجمهوره لا يستقبل الرسائل المسرحية بنفس الطريقة، فالبعض، مثلما يقول دنيس بابليه، (يحصل على جزء منها، والبعض الآخر يقرأ هذا الذي لا يريد قراءته المخرج)، وذلك لان هذا التواصل، (عقلاني وغير منطقي، في ذات الوقت، ويلامس الفكر والحساسية، وحتى اعمق الطبقات، ويصل مباشرة الى الفسيولوجية الخفية للمتفرج(3). هذا بالإضافة إلى أن المسرح في اصله اليوناني “مدنيّ”. والعربي لم يؤسس وفقا “لادونيس” في بيانه المسرحي، مدينة، بالمعنى اليوناني، أي مدينة قانون وتشريع مفاهيم جديدة للحياة. لا سيما أن “اثينا” كانت “المدينة المسرحية”، وفقا لأفلاطون في كتابه “القوانين”، التي تسن قوانين المسرح، وتعالج اهم الصراعات الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية من خلاله. ففي الفترة التي ولد فيها المسرح بأثينا، كانت المدينة تقيس، مع إنشاء الديمقراطية، فعالية الخطاب المتبادل، حيث كان الحوار ينتشر في كل مكان في أثينا، في مسرح ديونيسوس مثلما في (بنكس Pnyx)، حيثما يوجد مقر البرلمان الشعبي. كان الإغريق “أقوياء بفن الحوار الذي يرتفع به العقل من المحسوس إلى المعقول”، حسب أفلاطون، و”بارعون بفن المحادثة”. لقد لاحظوا أهمية حضور المستمع المتحفز، الذي يسمح للخطيب بتشكيل فكرة تبقى، بدونه غير مكتملة. وهذا ما سمح للمواطن الاغريقي من تمثل فردانيته وبالتالي اكتشاف حريته وإبعاده عن العقلية القديمة المتمثلة بالثأر والعنف والحكم الفردي والإقطاعي وإلى آخره. في حين ان المدينة التي انشأها العربي، ( كانت تنويعا على الخيمة وثأرا منها في الوقت ذاته: أي انها كانت قصرا وجارية وحديقة، ولم تكن وليدة وعي تنظيمي-حضاري. بل يمكن القول، استطرادا، إن المدينة العربية المدنيّة، لم تنشأ حتى الآن)(4). وهذا يعني ان المدينة لا تعني المدنيّة بالضرورة، على الاقل في مجتمعاتنا العربية، لان المدينة على امتداد تاريخها الطويل، لا تتميز بعدد سكانها ولا بعماراتها الشاهقة التي تناطح السحاب، ولا بأنشطة الناس الذين يقيمون فيها، وانما وبالدرجة الاساس، بمميزات خاصة للوضع القانوني والتشريعي والاجتماعي والسياسي والثقافي والمعماري. وهذا ما لم يحدث في مدننا العربية، بسبب احتكار السلطة وتهميش عامل المواطنة والمشاركة ومصادرة الفضاءات العمومية التي يمكن اعتبارها برلمانا عاما، لمصالحها السياسية والدعائية التي انتجت ردود فعل شعبية كونت في شكلها ومضمونها ظواهر مسرحية احتواها المخيال الشعبي الذي كان وما زال يمارس نوعا من الاحتجاج المبطن كرد فعل لهذا الاقصاء الاجتماعي والسياسي والثقافي. يقول ادونيس، إن المدينة العربية ( لا تزال حتى الآن، دون مدنيّة، فهي ماديا، شكل اسمنتي للصحراء، واجتماعيا، شكل تراكمي، للعلاقات القبلية- الدينية)(5). بلا شك ان ادونيس يتحدث عن الماضي اكثر ما يتحدث عن الحاضر، ولكن ما بين الماضي والحاضر هنالك دائما وشائج تبني صروحا تشريعية وقانونية وثقافية واجتماعية وسياسية تظل بالضرورة عالقة في الذاكرة والممارسة وتضرب جذورها في المجتمعات وهيكلتها، ولهذا علاقة الانسان العربي بالمسرح تكاد أن تكون مزدوجة ومثقلة بالغموض والتناقض وتتأرجح بين (القبول من حيث المبدأ والرفض من حيث التطبيق)(6). وعلى الرغم من الانفتاح الذي شهدته الحركة الأدبية في العصر العباسي، حيث نما فن الحكاية والمقامة، خيال الظل، بفعل عوامل سياسية ودينية وشعبية، فإن الهدف الحقيقي منها، كان صَرْف النظر عما يحدث من أحداث سياسية وحركات تمرد وشقاق بين تيارات الفكر والسياسة. إن الأدب العربي قد عبر أشواطاً شعرية كبيرة امتزج فيها الشعر بالنثر والحكاية بالملحمة بحيث إن هذا الخلط والامتزاج عاش حتى العصر الحديث وتجسد بشكل اكثر دقة في أعمال كل من مارون النقاش، أبو خليل القباني، والرواد الأوائل للمسرح العربي. وظل سؤال يطرح نفسه، وهو لماذا لم يعرف العرب المسرح إلا بعد حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798 ؟ ولماذا يعتبر البحاثة العرب عام 1848 هو العام الذي ولد فيه المسرح العربي عندما قام مارون النقاش بترجمة وتقديم مسرحية “البخيل” لموليير ؟ إن الأجوبة التي تدور حول هذه الأمثلة متضاربة ومختلفة في منظرها، فمحمد عزيزة يرى، على سبيل المثال، أن ولادة ونشوء أي مسرح لا يمكن أن يكون إلا في جو مليء بالمتناقضات. ونحن نعرف أن إرادة المسلم هي جزء من إرادة الله ولا يمكن أن تنفرد بذاتها وتقوم بفعل المواجهة لإرادة الرب كما هو الحال عند أبطال اليونان في مواجهتهم للآلهة. في حين أن زكي طليمات يعزو السبب الرئيسي إلى حياة البداوة المليئة بالترحال الذي يتناقض مع حاجة المسرح للثبات والاستقرار. وهناك اراء وطروحات للكثير من الكتاب والبحاثة في هذا المجال تحاول اغلبها، ان تبرر، واخرى، تثبت وتبرهن، وثالثة تنفي، والى اخره، ولكننا لسنا هنا بصدد استعراضها او الاتفاق معها او رفضها، بقدر ما نحاول ملامسة الاسباب التي ادت الى عدم وجود تقاليد مسرحية لدى الجمهور العربي، وما هي أسباب تشكيكه بمدى جدية المسرح، وامتناعه عنه كواجهة مدنية وصرح حضاري، ولماذا لم ير الجمهور العربي في المسرح صورة مطابقة للمدينة كما يرى الاوربي على سبيل المثال. والجواب الذي يمكن ان نستخلصه من هذه المعادلة الشائكة، ربما لأن الجمهور العربي يعتقد بأن ما يقدم على المسرح ليس اكثر اثارة للأهمية مما يحدث في السوق، أو المحاكم، وفي المظاهرات السياسية من حيث الدوافع والأغراض والوسائل. ولهذا نرى هذا الأخير، ونقصد سكان المدينة يبتعدون عن المسرح ويهجرونه أو يغضوا الطرف عنه. ولكن المسرح بالمقابل، له وجهة نظر اخرى، تتلخص في ان العروض المتأصلة بالمدينة، تكون بطبيعتها في بعض الاحيان مضللة، واحيانا خادعة، بحكم بعض العوامل او ان بعض المؤسسات التي تقوم بتحريفها، وبتضليل الجمهور، وإبعاده عن جوهرها الأصلي من خلال عرضها وتقديمها بشكل منتهك يتماشى مع سياستها الثقافية التي هي دائما في موضع شك وريبة، وهنا يصبح المسرح فضاء للنقد: نقد خيانة الامانة والخداع؛ ويصبح المكان الذي يسود فيه الصدق والمشاعر والآراء الحقيقية، وفضاء تمارس فيه الديمقرطية كمظهر من مظاهر المدنية. وقد ولد المسرح وهو دائما في حالة احتكاك بين اولئك الذين يمارسونه، وأولئك الذين يمولونه من اجل استخدامه لأغراض نبيلة أو مشكوك بها. ومن هنا يأتي الاعتقاد بأن هذا الاحتكاك لم يعد موجودا ولم يبق منه سوى المصلحة من اجل الابداع الفني بجميع انواعها، طالما سيجد هذا الأخير جمهوره في النهاية، الذي من دونه، فهو لاشيء على الاطلاق. إن المسرح يعيش حالة صراع دائمة مع مموله، لأنه يتعارض مع منطق التسوية، والإحباط والحذلقة، وإنه في الاساس، وبكل بساطة، لديه ما يقوله. وإن التمويل غالبا ما يأتي من الشخص الذي بيده السلطة التي يمارسها وهو يعتقدا ان على الفن ان يخضع له، أو أن يكون اكثر قربا اليه من صاحب القول نفسه. وهنا يكمن الاحتكاك والصراع الدائم مع عملية الاستخدام التي تريد له ان يكون على هواه، رافضة المناقشة دائما. على العكس من السينما، التي هي اكثر انصياعا، لانها تجارة مربحة منذ بدايتها، وتنتج صناعة إعلامية، وإنها شركة لإيجاد التمويل، لهذا فهي دعائية أكثر وأقل دهاء ومكرا. هذا بالإضافة إلى أنها تحتاج من اجل ان توجد المزيد من الاموال اكثر من المسرح، ولهذا فهي تخضع بالمقابل للسيطرة والرقابة والاستثمار والتسوية، ربما لأنها تؤثر بالحشود. في حين ان المسرح يطرح الكثير من المشاكل، على العكس من السينما، لأنه فقير، وسريع الزوال ولا يمتلك اساسات رخامية. وهذا هو التعريف الاساسي له. إنه فن لا يمكن استنساخه، أو إعادة انتاجه كما هو، وإن الاشخاص الذين يشاهدونه من الرجال والنساء يختفون بعد انتهائه. وبما ان المسرح يعتبر مؤسسة ثقافية فهو معطاء، سواء شئنا ام ابينا، إنه يعلمنا ويثقفنا ويمتعنا من خلال افعال غير محسوسة يقوم بترجمتها الممثل من خلال حركاته وكلامه، بينما نحن نستمع ونشاهد وننصهر في “الوهم الدراماتيكي” ونصل الى اللحظة “التشويقية الاولى” التي اعتاد المسرح الاغريقي الحديث عنها. وهكذا ومن دون شعور، يصبح الممثلون بالنسبة لنا كائنات بشرية نعيش معهم مغامرتهم اكثر من مجرد مشاهدتهم وهم يلعبون. وكلما تتسارع الأحداث كلما تصبح مشاركتنا معها اكبر، الى درجة لم نعد نشعر بوجودنا، ولم نعد مجرد افراد، وإنما جمهور. وهكذا يمنحنا المسرح عبر اشكاله وطرق تعبيره، امكانية قياس نمونا وتطورنا. فهو يدعونا للبحث عن الحقيقة من خلال المتعة، ليس بعكسه للحياة الانسانية في مرآة، وانما من خلال التلميح لها وللتغييرات التي سوف تعاني منها المفاهيم الاخلاقية والمعنوية في المستقبل. يقول الدرامترج الألماني شيلر، أن “المسرح مؤسسة اخلاقية”، نعم، ان المسرح النقي هو اخلاقي، وهو في هذا المعنى، لم يقل ابدا كيف علينا ان نفكر، ولم يفرض علينا اطروحة معينة، بل يوحي ويشير فقط، وأحيانا، يناقش، ويكتفي بتشجيعنا على ان نكونّ آراءنا بأنفسنا، ويحرص على عدم التأكيد. وهذا منطق ديمقراطي بامتياز، إذ يترك المجال لحرية المتفرج في ان يختار. وعندما يتحول المتفرج الى جمهور من خلال هذه الظاهرة المحفزة التي تدعى المسرح، لم يعد المرء يفكر مثل أي كائن عادي. لانه اثناء العرض، يتبادر الى ذهنه بشكل لا شعوري أو شعوري بأن مثل هذا الشيء سيء وغير صحيح ام انه صحيح. وهنا يكمن سحر المسرح وجماله وخطره في آن واحد، لانه يزعزع النفس ويقلق مضجعها ويجعلها في حالة جدل مع نفسها ومع ما يحيط بها من إحداث. ومن هنا تنبع متعته وحيويته. ولهذا حاولت السلطات المستبدة على مر التاريخ، إضعاف صوته القوي منذ ولادته، وعملت على انتزاع لسانه من مكانه، وإن لم تستطع فتقوم بشرائه وإغرائه، وان لم يتجاوب معها ويلبي طلباتها، تقوم بإرساله الى الجحيم. ولكن المفارقة، أن المسرح كان وما زال، يستمد قوته اكثر فأكثر من كل محاولات الإسكات والقمع التي كانت تمارس ضده، وكلما ازدادت ظراوة القمع والاستبداد كلما ازداد المسرح قوة وبسالة، لأنه يدافع، وبكل بساطة، عن خطر موته المنتظر، أليس كذلك ما حدث في مجتمعاتنا العربية وعلى مر السنين ؟.
لقد اعتقدنا أن المسرح لا يمتلك سلطة بقدر ما يمتلك قوة، وحتى لو افترضنا انه كذالك، فعن أي سلطة يمكننا أن نتحدث ؟ عن سلطته في مواجهة المجتمع الموجود فيه؟ أم عن تقسيم السلطات الإنتاجية الموجودة في داخله؟. إن المسرح لا يملك سلطة وإن السلطة تنقصه، ومن هذا النقص الموجود فيه تنبعث قوته، وطاقته وحيويته، وهنا تكمن المفارقة. إنه فن وليس سلطة، مثلما أنه لا يمكن أن يكون مادة يمكن شراؤها وبيعها مثل لوحة فنية، لأنه وبكل بساطة يتموضع دائما وأبدا في حاضر مطلق لا ماض له، ولا تاريخ، ولا يمكن تكراره. إنه يكمن في لحظة العرض. وهذه هي قوته وليس سلطته. ومن خلال هذه العلاقة يستمد المسرح وجوده وحقيقته التي ساعدته على البقاء والخلود عبر العصور والثقافات. وإنه على الرغم من الوهم الذي يتخلله، في الغالب، له جذور حقيقية عميقة، وهذا ما يربطنا بالأشياء الأساسية ويحررنا من المظاهر.
هذا هو عمل المسرح، ولهذا السبب بالذات يواصل الفنانون عملهم على الرغم من الظروف الصعبة التي تصادفهم في الكثير من الاحيان في مهنتهم، ولهذا السبب بالذات أيضا يستمر المشاهدون، سنة بعد أخرى، بارتيادهم المسرح والتغذي منه. وانطلاقا من هذا السعي المشترك، لا بد من القول، إن المسرح يقدم وجها متلاحما لمختلف الممارسات المختلفة، من علم جمال، ونصوص وعروض. وهذا من دون شك من اسباب تعلقنا العميق به كفن. إذن، إن القوة هي جوهر المسرح. وهذا بحد ذاته ما يجعل له معنى عميقا في مجتمعات اليوم. ويكمن مصدر هذه القوة، في إمكانيته على أخذ الكلام في المجتمعات التي تتحلى بالديمقراطية، والقادرة على منح العاملين فيه وجمهوره، بعض الحرية. إن هذه الإمكانية على الكلام كافية وحدها لمقارعة حالات المنع والإسكات والتغييب التي تفرضها الأنظمة الظلامية والديكتاتورية التي يلذ لها أن تمنع المسرح من ممارسة حقه، وقوته.
كان المسرح منذ الأزل سياسيا وإن لم يكن كذلك بشكل كلي فإن السياسة فيه كانت تشكل عنصرا أساسيا من عناصر تكوينه. وقد ولد في جميع الدول العربية تقريبا نتيجة لحاجة سياسية أكثر من مما هي حاجة جمالية. لأنه نشأ كحاجة للمقاومة: مقاومة المستعمر والتقاليد الاجتماعية البائدة التي لا تتماشى مع لغة العصر ومدنيته وتغيراته المستمرة. ولكن بما أن الرقابة السياسة كانت آنذاك شديدة، وحرية التعبير مستعصية التجأ الكتاب المسرحيون العرب إلى تقنيات مسرحية غير مباشرة. ولقد وجدوا ضالتهم بشكل خاص بمسرح بريشت ودعوته إلى تغريب الحدث والموقف وجعل ما هو مألوف وعادي غير مألوف، للهروب من الرقابة ومن بطش أولئك الذين يتربعون على العرش بقبضة حديدية، وصاروا يعرضون الحدث بطريقة زمكانية تجعل الحكم عليها يأخذ بعدا زمنيا ماضويا، وهذا ما أتاح لهم فرصة ومساحة قليلة من الحرية. ولهذا بدى المسرح في الوطن العربي بكليته تقريبا وكأنه خطاب سياسي غير مباشر. لأنه ظل ولفترة طويلة محصورا وسجينا لهذه الإشكالية التي فجرت طرق وأساليب عديدة ومختلفة للعرض من خلال استخدام المخرجين والكتاب للعديد من تقنيات المسرح السياسي والتسجيلي والوثائقي، مثل كسر الجدار الرابع، ومحو المسافة بين الممثل والمتفرج، وخروج الممثل من بين صفوف الجمهور، ووضع المتفرج فوق الخشبة وإنزال الممثل إلى الصالة، وإلى آخره من التقنيات التي استخدمت بشكل بدائي ولكنها كانت تتلاءم في ذلك الوقت، مع واقع المسرح العربي ومسيرة تطوره. هذا بالإضافة إلى التجاء الكثير من الكتاب المسرحيين إلى التراث بحثا عن الهوية العربية للمسرح وعن حالات مشابهة وقريبة للواقع الاجتماعي والسياسي باستخدامهم للرمز والاستعارة، والتلميح والحكايات الشعبية والأساطير القديمة والتاريخ وإلى آخره. ولكن عزوف المتفرج عن المسرح ومجافاته له، وفراغ صالاته منه، يجعلنا نطرح الاسئلة التالية: كيف يمكن توطيد العلاقة بين جمهور المدينة والمسرح ؟ وكيف نجعل من المسرح وجها وواجهة حقيقية للمدينة ؟، وكيف يمكن جعل معمارية المسرح بمثابة مزار يشبه الى حد كبير مكان العبادة، وليس هيكلا غريبا ينظر اليه المارة بنوع من الريبة والشك او هيكلا حجريا يبعث على التوجس والاستغراب أو مكانا للنخبة من القوم ؟ كيف نؤسس مدينة فاضلة من خلال المسرح ونشيد مسرحا فاضلا من خلال المدينة ؟ بلا شك ان هذا لا يتم إلا من خلال النظرة الموضوعية لضرورة المسرح في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. إذن لا بد من سياسة ثقافية وبرنامج سياسي يساهم في خلق حالة الائتلاف والمودة بين المسرح والجمهور، وهذا ما يضع المدينة امام مسؤوليتها إزاء ظواهر الحياة الثقافية بشكل حقيقي وليس شكليا او دعائيا او تزويقيا. لا سيما ان الفضاء المسرحي مكان يجمع الممثلين بالمشاهدين ويدعوهم للمشاركة، من خلال الخيال، وعرض بعض صور عن العالم. انه عرض مشفر، يدعو الجمهور الى التفكير والاستثمار. وفي هذا اللعب الدائم بين وهم الواقع وواقع المشاهد يعمل سحر المسرح. إن الذهاب الى المسرح، يعني القبول بهذه الصيغة التي خضعت للتغيير على مر الزمن، وخاصة في السنوات العشرين المنصرمة؛ والذهاب إلى المسرح يعني، بطبيعة الحال، ومنذ عدة قرون، ارتياد مكان معين لهذا الغرض، توجد فيه صالة، وخشبة، في مبنى يسمى مسرح. ولكن الذهاب الى المسرح ، يعني أيضا، ارتياد عرض يمكن أن يكون مكانه الشارع، أو الشاطئ، أو سقيفة مهجورة، أو أي ساحة أخرى غير مصممة لان يقام فيها عرض. إذن، إن المكان المسرحي يمكن أن يكون ماديا وجغرافيا متنوعا، وقد اختلف وفقا للحقب والموضات والعصور. ولكن الفضاء المسرحي هو اكثر من مجرد مكان، إنه يتجاوز ذلك وأكثر عطاء. وإن المسرح فن اجتماعي بامتياز، يضع الانسان امام نفسه داخل المجتمع ، إنه فن الخلق والاداء والتفسير.
يقول الومبير من خلال كتاب روجيه باستيد: ( إن الفن لم يعد مجرد محاكاة للطبيعة، بقدر ما هو تقليد للنشاط التقني للإنسان)(7). إن هذا الاستشهاد يحمل في جوهره نوعا من الرفض والإنكار للبحث الانتروبولوجي الكلاسيكي. أي علينا ترك فكرة المحاكاة، والميل الغريزي للأشياء ونتجه صوب البراغماتية التي لم تعد فيها انتروبولوجية الفن مكلفة بالغريزة الفطرية للإنسان وإنما في مدى تطوره التقني … وإذا كان العمل قد أبدع الإنسان، فإن التقنية قد ألهمته مبادئ العقل. وقد طرأت تغيرات كثيرة على شكل الإنسان وهيئته نتيجة لانتقالاته من مرحلة إلى أخرى، بحيث أصبح التغيير سيرورة تبني وتكُون نماذج أخرى، وكل نموذج يخضع لنظام متحرك لا يعرف الثبات والسكون. إذن لا بد من اتباع حركة التاريخ التي نطلق عليها اليوم اسم التطور الحديث للإنسان. الكل في تطور، لأن الكل خاضع للتغير .. والنظام العالمي الجديد لم يختف أو يتلاشى ما لم يترك خلفه نظاما جديدا آخر. إن المجتمع العربي، شأنه شأن باقي المجتمعات لا بد وأن يتبع مسار الحداثة. وسواء كان هذا المسار جيدا أو سيئا فالقضية متعلقة في كيفية خلق هذه الحداثة وتسريبها إلى داخل المؤسسة الإدارية سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا. فالتقنية هي المسيطرة عالميا، إذن لا بد من التحرك وفقا للخطة العالمية من اجل معرفة الأنظمة الرهانية للسياسة والاقتصاد. الكل مطالب بالتحول على الرغم من حالات التعارض التي يمكن أن تواجه التغيير … والمسرح العربي مثله في ذلك مثل بقية المسارح في العالم، قد كابد مرغما من حالة التحول، فالمخرج، والممثل، وجميع من يعمل في حقل المسرح نجح في معرفة مكانه الحقيقي من عاصفة الأزمنة الحديثة. فلم يعد هؤلاء العاملون في مجالاته المتعددة مجرد وسائط سياسية، بل اصبحوا قادة عرض فني يسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم شأنهم في ذلك شأن الجمهور الذي هو الآخر قد تغير، واصبح له صوت قوي وفعال. فالجمهور مثلما تقول “آن ابورسفيلد” في كتابها ” قراءة المسرح”، (هو ملك الحفل وسيده الأوحد)[8]. هذا بالإضافة الى أن المجتمع لم يعد هو ذاته. وهكذا فمن خلال علم الجمال والمسرحة وأشياء أخرى، ولدت رؤى كثيرة نجحت في تجديد فن المسرح. أما الآن والحالة قد اختلقت واصبح ما هو جديد في السابق قديم وتغيرت الجماليات المسرحية والفكرية وكذلك الأنظمة وطرق الوعي والتفكير، والإخراج، والديكور، والسيناريو، والإضاءة والخ … وصاروا عناصر متطورة في العملية الإبداعية، مثلما لم تعد خشبة المسرح مجرد لوحات للقفز والخطابة الرنانة الكبيرة … وإنما هي أيضا قد أخذت شكلا آخر اكثر حداثة. فنحن بحاجة إلى مسرح آخر، وتجربة جديدة، يغير خلالها المسرح العربي شكله ومضمونه، خاصة عندما تخلى عن خطابيته وارتدى رداء العرض الذي يرقص فيه الممثل من الداخل.
منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والمسرح يمر بأزمة يمكن أن نطلق عليها أزمة الهوية، لدرجة أننا لم نعد نعرف اليوم ما هو المسرح ؟ هل هو إنشاءات بلاستيكية ؟ أم فيديو؟ أم حركة ؟ أم أداء ؟ هذا بالإضافة إلى أن العلاقة التاريخية التي تجمع المسرح والنص (المسرحي) هي أيضا قد وضعت موضع تساؤل وتحد عميق. ومع ذلك، إن هذه التغير الذي طرأ على هوية المسرح، قد تسبب في ولادة حوار مستمر مع باقي الفنون الأخرى. ولهذا نفضل الحديث من الآن فصاعدا عن المسرح المعاصر وليس عن الهوية. وسؤالنا هو: كيف يمكن أن يعيد المخرجون والمؤلفون المعاصرون رسم ملامح السياسة الثقافية للحياة المدنية ؟ وهل بالإمكان اعتبار مسرحهم شكلا من الأشكال الناشئة في المجتمع المدني الذي يبني اشكال الحياة الجديدة ؟ كيف يمكن أن يكون شكل هذا المسرح بعد انهيار الأيديولوجيات الكبرى، وبعد أن تغيرت قواعد اللعبة العالمية التي وضعتها الولايات المتحدة وقبلت بها أوروبا على مضض، بعد إن فرضت على العالم نموذجا واحدا فقط ؟. هناك العديد من التساؤلات التي يحاول “مسرح ما بعد الدراما” الاجابة عليها من خلال تجارب شعراء الخشبة، الذين يقومون بكتابة عروضهم مباشرة على المسرح، باستخدامهم كافة التخصصات الفنية من أجل خلق لغة حسية فورية في العرض. ففي ظل تعقد الأمور، وتحول الفوضى إلى نظام عالمي جديد، بات الأمر مختلفا تماما. ووجد الفنانون المسرحيون أنفسهم أمام تحديات كبيرة دفعتهم للبحث عن أدوات ونماذج كلامية أخرى، تستطيع أن تعبر وتصور هذا الذي يحدث لنا وبشكل جماعي، من خلال وضع حد لطغيان النص المقدس، واستخدام جرأة علامات أخرى، وقول ما يحدث لنا من خلال إشارات قادمة مباشرة من الخشبة، والانتهاء فعلا وبشكل جذري، من المحاكاة والتقاليد القديمة. وبدلا من أن يقيدون شعراء الخشبة أنفسهم بقوانين قديمة ووسائل تعبيرية لم تعد كافية ولا تؤدي إلى الغرض اللازم، انفتحوا وبشكل واسع على الأشكال الفنية الأخرى: التشكيلية، والبصرية، والموسيقية، والرقص والتكنولوجيا، مفترضين بالأساس، بأن كل العناصر المفيدة يمكن أن تأخذ مكانها على الخشبة. ولقد استضافوا في أعمالهم الحركية الفنون التشكيلية والصور ومشاهد الأفلام كعامل حقيقي في التمثيل. مثلما انفتحوا على الأشكال الهجينة التي تجمع كل أنواع الموسيقى، مثل: الروك، والأغاني، مرورا، بغناء الأوبرا والموسيقى الالكترونية. وقد اقترحت هذه الأشكال الجديدة تنظيما جديدا للخشبة، بعد ما فقد النص هيمنته ودوره، وإن جميع العناصر المسرحية صارت تحاول بناء قواعد نحوية لمسرح جديد، وبالتالي، أساليب تنظيم جديدة لعرض القصة. إن لغة مسرح ما بعد الدراما، مثلما يقول، برينو تاكيل، هي أولا، إخراج لكل ما يصنع الخشية.
الخاتمة
ومن أجل فهم ما هو المسرح وما هي علاقته بالمدينة، ربما علينا العودة إلى الاصول الأولى، إلى اليونان مسقط رأسه، التي يمكن أن نعرف من خلالها، أن المسرح قد ظهر كنشاط مستقل، في وقت متأخر نسبيا في تاريخ البشرية. لاسيما انه نبع كمحتوى وكجوهر، من خضم الممارسات الدينية الإغريقية، وعلى هيئة اغان ورقصات وقصص أو اساطير تحكى بأصوات عدة. ثم، انفصل، عن هذا الرحم الديني، شيئا فشيئا، وأصبح شكلا من أشكال الفن. وهذا ما يشير اليه “ارسطو” في كتابه ” فن الشعر”(9). وبطبيعة الحال، كان هناك في كل الديانات في العالم، نوع من طقوس العبادة الكاملة. ولكن لم تكن ابدا بمثابة عرض أو ممارسة فنية بحد ذاتها. وهذا المنطق، ينطبق ايضا على المسرح في اليونان في البداية، وعلى باقي البلدان الاخرى. وقد نشأ المسرح كما هو معروف، من طقوس العبادة والأساطير. ولكن في نفس الوقت، فإن معظم الانشطة البشرية، مثل، السياسة، العلم، الفلسفة، والدين، قد اخذت استقلالها في اليونان القديمة، وكذلك المسرح. ولكن هذا الأخير على الرغم من انفصاله واستقلاله، كانت له بعض الخصوصية، التي تكمن بسعيه الدائم في المحافظة على بعض الروابط والعلاقات مع باقي العناصر التي انفصلت عنه. فالمسرح لا يمكن أن يولد إلا في العالم الذي انفصل عنه، لانه يشعر اولا وقبل كل شيء، بالحاجة إلى الارتباط بمختلف العناصر التي انفصلت عنه. فالمسرح ليس فقط فن الحوار بالمعنى الذي يستعمل فن السرد والإلقاء، وإنما لأنه يرغب في إقامة روابط مع عناصر المجتمع الأخرى ومن دون توقف. وبالتالي، فإنه نوع من مفترق الطرق، ومكان، وفن العلاقات مع العناصر الاخرى. وإنه في النهاية، النشاط الذي يسعى دائما وابدا لتجسيد الحوار مع ما هو اجتماعي، وديني مقدس، وتقني أو علمي.
الهوامش
[1] – يوسف الصديق: نحو مسرحة ذات أرضية عربية إسلامية– ثم ماذا ؟ (مقال) مجلة «ثقافة», إصدار دار الثقافة ابن خلدون, العدد 8, ص 42, تونس 1972.
[2] – الدكتور يونس الوليد، المسرح والمدينة تاريخ مشترك”، مطبعة سيدي مؤمن، الدار البيضاء، عام 2002، صفحة 6.
[3] – BABLET, Denis. « Analyser la communication théâtrale. » in Le CNRS et sa communication. Paris : CNRS, 1984, p.38.
[4] – أدونيس ، “فاتحة لنهايات القرن،، بيان المسرح، دار النهار بيروت، تاريخ النشر 01/01/ 1998، صفحة 163.
[5] – ادونيس المصدر السابق، ص 164.
[6] – الدكتور علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، عالم المعرفة، 1980، صفحه 110.
[7] – Alembert, en Art et la société, cité par Roger Bastide. P 52.
[8] – UBERSFELD, Anne. Lire le théâtre. Paris: ?ditions Sociales, 1977.
[9] – Aristote, Les politiques, GF Flammarion, Poche – 4 janvier 1999.
محمد سيف