عندما ولجت من باب حجرة المستشفى نصف المضاءة، وجدته ملقى على السرير معطوبا تلاقت عينانا في لمحة من نظر جعلته يشيح عني ويخفض جفنيه.
خطوت فاحيته، وقبلت جبهته وقلت له: "لم أعرف إلا من ساعات". عاد ينظر الي بنظرة طويلة ولم يجب. كان صامتا يعكس وجهه حزنه، وقلة حيلته، وخفت أن يكون قد فقد النطق. قلت:- شدة وتزول.
عاد ينظر تجاهي ولم ينبس بحرف، وبدا على نحو كمن يحاول أن يتذكر شيئا ضاع منه، وراح يمسح جبهته بيده اليمنى السليمة، ويشد بها جلد رقبته الذي تهدل، ثم شرد وظل يتأمل الصورة على الحائط، ثم عاد وزفر زفرة عميقة أعقبها برسم ابتسامة ساخرة ومريرة.
سحبت كرسيا وجلست بالقرب من رأسه.
– سوف تنصلح الأحوال.
قلتها ولذت بالصمت، شد الملاءة التي تغطيه وأحكمها على بدنه. شعرت كأن ألمه قد تسرب الى أعضائي وكأنني أحمل مصيبته، وجعلت أفكر في ذلك الجو الخانق، وحالة الرطوبة الشديدة التي تحاصر المستشفى.
تأملت النيل الذي كان يطل من النافذة، وثمة مراكب راحلة، وجزيرة طافية موشومة بزراعات موسمية تنتظر حصادها، تناوشها بعض الطيور البيضاء، تطلق أصواتا تشبه الصراخ، ودخان مصانع الطوب يطو الى السماء في ستائر خفيفة مسودة. قال لي من غير أن يواجهني:
تأخرت
فوجئت بصوته يخرج واهنا، حينئذ شعت بداخلي لحظة من فرح قلت بصوت مرتفع قليلا:
– كنت مسافرا.. قالوا لي لما رجعت.
رأيته يحاول سحب جسده حتى ظهر السرير. نهضت لأساعده لكنه رفض واستكان مكانه ترمش عيناه برفات سريعة.
انفطر قلبي، وهربت من كلمات العزاء، وتذكرت من غير إرادة مني، حيث تتابعت ذكريات قديمة ولم أستطع أن أدفع عن رأس ذلك اليوم المطير الذي صحبني فيه الى قريته، وكنا نسير على جسر نهر صغير وسط الغيطان، وكان يسبقني بخطواته الواسعة، الرجولية فاردا ذراعيه مستقبلا الزخات، متكلما عن ذلك الشيخ العجوز الموحش الذي قابلنا خارج العمار وكأنه حارس الموت، وعندما وقفت أتأمله صاح في: كما تعرف، أنا وأنت ريفيان مثل حزمة من الخس، أما هذا فلا يبدو عنده الباطن مثل الظاهر، أنه ينتمي لهذا المكان الذي سوف يدفن فيه. سار خطوات ثم جاءني صوته: "سأنتهي من كتابي عنه قريبا". وسع من خطوه وسار تجاه البلد تجلجل ضحكته كالجرس، وأتذكر أنني سمعته يقول لي: "الحياة من أمامنا يا رجل".
برد النهار فجأة وشعرت به في عظامي، وهبت على الحجرة رائحة دواء نفاذة، وكان بمقدوري سماح عربات تنقل المرضى وتدرج على الممر الطويل تصحبها سعلات واهنة. كانت لمعة الضوء النافذة من أعلى الشباك الى بؤبؤ عينيه تبدو بغير جلال. ورحت أتذكر لونها العسلي الرائق وذلك الوهج الذي كان يشع منهما عندما كان يتأملني وهو يستمع الي ثم ينفجر من الضحك بصوت الجرس. سمعته يهتف بي:
– ما الذي سوف أفعله الآن ؟
حاولت أن أتسلل الى روحه، لكنه كان يهرب مني الى ذلك الأسى على نفسه، وكان مشغولا بتفاقم حالته، وأنه في كل الأحوال لم يستطع أن يستوعب تلك الضربة التي لم يكن ينتظرها قال:
– أنت تعرف. كنت أسعى أن تكون الأمور غير ما انتهت اليه.
– كلنا حاولنا، ولسوف تنصلح الأحوال.
– لكنني أنا الذي دفعت ثمنا فادحا.
صمتنا لحظة، ثم وضعت كفي فوق كفه وقلت:
– شدة وتهون.
أزاح يدي عن كفه وحرك يده السليمة وأمسك بها يده الميتة وظل يحرك بها أصابعا، وشرد بعيدا ثم قال:
– إن ما يضيع منك هو آخر الأمر حياتك.. تصور!!
بدأت أشعر بطعم دخان حريق مصانع الطوب في فمي، ورائحة دواء المستشفى تفوح من الأركان. وعدت مرة أخرى للممت وعدم الكلام، فيما راح يحادث نفسه:
– أنا في وضع لا أتمنى لأحد أن يكون فيه.
مسح جبهته بيده السليمة ثم نظر تجاهي بنظرة عدائية وقال بصوت مرتفع قليلا:
– لماذا أنا بالذات ؟ الآن لا يمكن الاعتماد على أحد.
– الدنيا بخير وما تزال صالحة للعيش.
وصلت اليه كلماتي مجانية وفارغة تصدر عن رجل يستطيع أن يغادره الآن ويذهب على رجليه الى داره، وبالرغم من أنني كنت أقولها صادقا لكنها بدت ككلمات العزاء في مأتم الأرياف،.
كانت الحجرة ضيقة ومدفونة بلون سماوي، بها سرير سفري من الحديد، بجواره كومودينو من الصاج الرمادي، ومنضدة عليها تليفزيون 14 بوصة بالألوان، وستارة على النافذة زرقاء يسقط من أعلاها ضوء مسائي شاحب، وصورة على الجدار لاكليل من الزهور داخل طبيعة صامتة. قال لي:
– افتح التليفزيون.
ضغطت مفتاح التشغيل فانبثقت الصور على الشاشة الصغيرة، في الوقت الذي صعدت فيه موسيقى كنسية تصاحبها أصوات انشاد لكورس خفي من النساء. كان الفيلم أبيض وأسود من طراز الأربعينات العتيق، يتجلى مشهده داخل كادر متحرك على زقاق قديم، مقامة على جانبيه بعض المنازل التي تشبه بيوت العصور الوسطى، والتي تنتهي بأبراج عالية وقد نصب فوقها صلبان من الحديد الأسود المشغول، تحمل جسد المسيح ساعة صرخته التي أطلقها "لماذا تركتني؟" وكانت مياه جوفية تنبع من بئر وتشق لها مسارا عبر الزقاق، وكانت صور لأغراب يضحكون بأشداق واسعة، ويجوسون في المكان.
أنزعج، وقال لي:
– أقفل.
حاول إزاحة الملاءة التي كف جسده، هممت لأساعده واقتربت من نصفه السفلي الملفوف باحكام، لحظتها هاجمتني رائحة نفاذة كرائحة الأمونيا، تنبعث من منامته التفت اليه فهرب مني، ولما لم يعد في مقدوره تحاشى نظرتي لذا ثبت وجهه في الجدار ولم يعد ينظر الي.
أحسست بمدى ألمه، وأنه من تلك اللحظة أكثر الناس انكسارا ولم أعرف لماذا شعرت كأننا – أنا وهو نجوس عبر حلم يشبه المتاهة ثم نعود مرة أخرى الى ذلك المكان الذي يقطن فيه الرجل حارس الموت.
تنبهت لما يجب عمله، ونهضت وأغلقت باب الحجرة، وفتحت الدولاب الخشبي. كانت ملابسه النظيفة مرتبة على أحد الرفوف تنبعث منها رائحة كرات العث. حملت غياره ووضعته على السرير وعدت اليه وحملته من إبطيه وأسندته الى صدري وسمعت نوابض السرير تهتز وكان رأسه ساقطا على كتفي، كان مستسلما الى آخر حدود ضعفه. خلعت منامته التي يرتديها على عريه، وتجردت من ملابسي أنا أيضا، وسمعت على البعد صوت الطيور على الماء، وصخب السيارات على الكورنيش، ورأيت ستائر الدخان تصعد الى السماء.
نحن عاريان تماما، كأننا لحظة ميلادنا القديمة، التي ولت، والتي نحاول عبرها الهروب من موت مؤكد.
حملته على صدري مثل طفل بلا حيلة، مستسلما الى حد احتباس صرخه الألم في صدره، وتقدمنا باتجاه البانيو، نخطو على بلاط الغرفة من غير بهجة، عاريين يجوسان في مشهد من عري ينتهى للماء ومحاولة دفع الموت المحاصر. أنزلته في الحوض من غير احتفال، وعدت أتذكر ما كان يحكيه لي عن أبيه، الذي كان يرده آخر أيامه لا يكف عن البكاء ومحادثة الميتين، وكان ينهض من النوم باحثا عنه فيجده وقد شرد في دروب القرية القديمة ينادي على الراحلين قبل آذان الفجر. سمعته يهتف لنفسه:
– كأنني أنتظر منيتي.
وازنت الماء ساخنا وباردا، وحولت ماء الصنبور الى الدش فانفرط على بدنه فشهق، ثم عدت وحولت ماء الدش الى الصنبور، وباشرت دعك جسمه بقطعة الاسفنج والصابونة المعطرة. كان مستندا لحاجز الحوض كغريق، وعندما انتهيت تأملته وأنا أقف أمامه. كان نظيفا ومضينا والماء يتسرب من على بدنه، ورأسه مستند الى ظهر الحوض باستسلام مريع.
فجأة، عبس وجهه واغتم وانسحب لونه حتى شحب، بعدها انفجر في ضحك متواتر، يجلجل في الحجرة بوحشية، يضرب الحوض بيده ويتمتم بكلمات لا أفهمها.
تركته حتى انتهت موجة الضحك فألبسته ملابسه بعد أن جففت له بدنه وارتديت ملابسي. أنهضته وحملته مرة أخرى، وعندما كنا قرابة السرير سمعته يحادث نفسه:"هذا شيء لا يمكن أن يرضى عنه الله". أراد أن يخطو وحده الا أنه سقط على صدري فرفعته من وسطه وأنمته على الفراش. مشطت له شعره وعطرته بالكولونيا التي يحبها، وجلست أمامه على السرير صامتا، قلت:
– كوب عصير؟
رفض، وظل يحدجني طوال الوقت بنظرة عداء نافذة. قلت فى نفسي "هو يحتاج الى الحظ". واصل النظر الي مما جعلني أرتبك، وأنشغل بحالة الصمت التي تسود المكان.
لما ساد التوتر رغبت في الانصراف، وأردت أن أخبره أنني سوف أعوده في الصباح، الا أنني فوجئت به وقد رفع يده اليمنى السليمة وهوى بها على وجهي في صفعة مدوية انفجرت في صمت المكان.
دهشت من تصرفه وأنا أقاوم ألما يدوي في رأسي.
شحب لونه، وبدا لي كأنني أواجه رجلا يموت، ثم رأيته يدير رأسه ناحية الحائط لينفصل عني تماما.
كان الجو خانقا وقد فرغ النهار، وكانت حمرة المساء تعلو شجر الشاطيء، وسرعان ما اختفت الطيور في رحاب الظلام الوشيك.
كنت أعرف أن خنقة الحر سوف تستمر، وسوف تزداد كثافة حتى يأتي الخريف، وربما الشتاء أيضا.
سعيد الكفراوي ( قاص من مصر)