قال عنه أحدهم أنه لو قُدّر لزمن التقسيم الإداري أن يسود لأصبح «مباي كابي» «دوما»(1) جيله. وفي الواقع كتب «مباي غانا كابي» الكثير. وُلد في «تياس» عام 1936 وتخرّج من دار المعلّمين العليا في «داكار». كتب بحماس شديد نصوصا من جميع الأنماط الأدبية السائدة. في «أبيض الزنجي» وفي «المرسوم» يبدو نتاجه الروائي هجاء للتقاليد والمؤسسات في مجتمع يدمرّه هوس حب الظهور.
«لوكمبا» محاسب محلّف ينتظر تعيينه كمدير عام للمكتب الوطني للزيوت بمرسوم من قِبل رئيس الجمهورية ويراهن على مساندة «إويمبي» وهو رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس النيابي وابن عم رئيس الجمهورية الذي يصغي لنصائحه.
ينفق الكثير على الحزب الحاكم ويهدي الكثير للنائب ويصبح عضوا مناضلا. بعد لقائه مع رئيس الجمهورية يصبح محاطا بالمعجبين الوصوليين كالموظف الحكومي المتباهي والتاجر اللبناني وصاحب المتجر المغربي… ويأتي أقرباؤه من الأرياف للسكن لديه. بعد حبكة حاذقة تأتي خيبة الأمل وتتبعها النوبة القلبية التي تودي بحياة «لوكمبا» وتنشر اليأس بين المقرّبين منه.
سرد تتتالى فيه النبرة الطريفة واللاذعة وتفوح منه رائحة السخرية والحقيقة القاسية والعدائية في كل صفحة تقريبا.
الروايـــــة
بدت فيلا «إويمبي» رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس النيابي بفخامتها على الكورنيش الجنوبي حيث تهب رياح الصّابيات.
ضغط «لوكمبا» على زر الجرس ثم تراجع وتكتّف. دقّ جرس الكنيسة البروتستانتية دقّة الساعة التاسعة. ضغط من جديد على زر الجرس وانتظر. ما الذي كان يحصل في دار رئيس اللجنة الاقتصادية؟
كان «لوكمبا» يحلم بموعد مع رئيس الجمهورية فانتظر طويلا في مكانه. هل عليه الإصرار؟ كان يخشى أن يزعج «إويمبي» الفضيل بما أنه سيضع مصيره بين يديه.
«إويمبي» إبن عم المواطن الأعلى.
الساعة العاشرة.
ما العمل؟ أيضرب الجرس بعصبية؟ أيصرخ «صباح الخير» بصوت عال؟ هل يكحّ أو يعطس بقوّة؟ هل يمشي جارّا حذاءه على العتبة؟ بدأ «لوكمبا» يرشح عرقا ويخجل من المارّة.
أعاد ترتيب عقدة «البابيّون» وقبّعته ومسح حذاءه الإيطالي الصنع بمحرمته المعطّرة وضغط على الزر بعصبية ثم تراجع واتّكأ على حائط القرميد الأحمر الذي يعلوه سياج ذو أشكال هندسية. كتّف ذراعيه. سمع هدير الموج الرتيب.
كان هناك رجل يرتدي طقما لونه «بيج» ويعتمر قبّعة «كاسكيت» وذو قفّازين أبيضين، يقف في وسط الباحة التي يغطي رقعة كبيرة منها العشب الأخضر الجميل. نُصِب فيها أربع ركائز وُضِع عليها أقفاص تترقّص فيها عصافير ذات ريش جميل.
في هذا الحيّ المخصّص للأمراء الجدد يمكنك أن تمتّع نظرك بطيور الكُركي المتوّج والبَلَشون الأبيض المتباهي المدجّن والنعام الصغير ذي المشية الملكية.
كان أحد الوزراء يربّي ثعلبا صغيرا بعناية بالغة لأنه لم يحظ بذئب صغير. كان قد طلبه من رئيس مكتبه الذي سافر إلى أوروبا بهذا الهدف. لم يستغرب أحد الأمر بما أن رئيس الوزراء يملك فيلا صغيرا يلبسه الحرير بألوان زاهية في أيام العيد مثل فيلة المهراجا وفيلة جزيرة «سريلنكا» البعيدة.
و كان وزير الخارجية فخورا بزرافته الصغيرة وأرسلت له مديرية تربية المواشي ممرّضا بيطريا خصّيصا لها.
– ماذا تريد؟ سأل الرجل وهو يجلّس ال»كاسكيت».
شعر «لوكمبا» بالإهانة: لماذا كلّمه هذا الرجل بهذه النبرة(2) وهو المحاسب المُحلَّف المعروف؟
أهكذا يتصرّف حاجب السيد رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس النيابي؟
عرّف «لوكمبا» عن نفسه وقال :
– لديّ موعد مع السيد الرئيس «إويمبي»!
– اسمك غير مُدرج على لائحة المواعيد.
– ماذا؟
– قلتُ أن اسمك غير مُدرج على اللائحة.
– كيف ذلك؟
ركض الرجل إلى مكتبه الصغير وعاد حاملا لوحة مربّعة الشكل ثُبّتَت عليها بمسمار معدني لائحة مكتوبة بخط اليد تحمل أسماء الأشخاص الذين سيقابلهم معالي النائب. قرأها بجديّة: «ديودوني كواكو» التاجر الكبير، «باتا باتا كوامي» متعهّد البناء والنقل الكبير، «إرنست لوي ليتيمبي» الرئيس والمدير العام و«آن روز كارلي ساكو» الرئيسة الشرفية لجمعية النساء الثائرات إلخ…
كان «لوكمبا» يستمع فاتحا فمه استغرابا.
– هذا كل شيء لليوم! أعلن الحاجب بعد أن وثب فوق اسم «لوكمبا».
– أقسم لك أن معالي «إويمبي» حدّد لي موعدا! أقسم لك!
– قلّ «الرئيس» وليس «معالي»! قال الرجل الذي كان شديد التمسّك بمنصب رئاسة رئيسه.
– الرئيس «إويمبي» حدّد لي موعدا. أقسم لك! قال المحاسب المحلّف مستدركا.
– آسف! اسمك ليس على اللائحة! قال الحاجب بلؤم ثم استدار وبدأ يبتعد بخطى عسكرية.
– عفوا! قال «لوكمبا» الذي كان متمسّكا بمقابلته مع رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس النيابي الذي كان – كما يُقال في السر- يملك أكثر من عشر فيلات حصل عليها كهبات اجتماعية من الدولة.
– نعم! أجاب الحاجب من دون أن يلتفت.
– ساعدني! فلا بدّ أنه نسي… فهو الذي أعطاني الموعد بنفسه! أقسم لك!
– وكيف عليّ أن أعرف ذلك؟ لم يقل لي شيئا لا من ضمن الأوامر العامة ولا من ضمن الأوامر الخاصة. وأنا مجرّد حاجب للرئيس «إويمبي»، لا أجرؤ على خرق البروتوكول الذي أتقاضى بفضله أجرا في آخر الشهر! البروتوكول هو البروتوكول! لا أحد يتلاعب بمصيره المهني!
لعب «لوكمبا» بطرف أنفه وعضّ على شفتيه وقرصها من شدّة القلق واليأس. لا بدّ من مقابلة «إويمبي» الفاضل ابن عمّ رئيس الرؤساء: رئيس الجمهورية، صاحب الشأن الرفيع «كالوندا». أعطى الحاجب ورقتين نقديتين بقيمة ألف فرنك أفريقي. وقال: «هذا ثمن الكولا».
استدار الرجل بخطوة رياضية ونظر إليه وابتسم وبرقت عيناه. ذهب الحاجب العادي ثم عاد.
– ألحيّتُ على رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس! سيقابلك البرلماني الموقّر الذي تضاف إلى صفاته الحميدة صفة ابن عم رئيس الجمهورية! ليس من الضروري أن تلمّح له عن خدمتي هذه! فأنا هنا من أجل هذا النوع من الخدمات!
شعّت عينا المحاسب المحلّف بالضوء، تنهّد بقوّة وشكره طويلا.
بعد ربع ساعة، أتى السيد الحاجب الكبير بلباسه الأبيض وقفّازه الأبيض وقبّعته الكاسكيت البيضاء ذات الحاشية الذهبية، واصطحبه بخطى كبير الخدم المتمرّس.
خلع «لوكمبا» حذاءه وتركه على عتبة باب الصالون الكبير كما يفعل التلامذة عندما يدخلون إلى خلوة معلّمهم.
– أدخل! قال النائب الذي اقترب ليلاقيه وقبّله بحرارة كسياسيّ محنّك.
ارتعش «لوكمبا» سعادة فها هو بين الذراعين المتينين لابن عم رئيس الجمهورية. يا له من امتياز! يا له من حدث عظيم!
رسم «لوكمبا» ابتسامة أمل صغيرة ثم ابتسامة عريضة. ماذا سيفعل في اليوم الذي يسلّم فيه على رئيس الجمهورية.
جلس «لوكمبا» بهدوء وبلباقة وبحرص على كنبة من المخمل الأحمر المزيّن بباقات زهور ذهبية.
أعجبه السجّاد الراقي الذي عُلّق كسجّاد حائط وكانت رسوماته ملفتة: مهرجان فرسان ملوّن بالقرب من واحة زرقاء وشجر نخيل رفيع، ومشهد حصاد في أفريقيا وفلاحون يقفون بصفوف من ستة رجال ينحنون وخلفهم نساء يضحكن ويحملن جرّات أو يطرقن على طبول صغيرة، وبعض الموسيقيين الذين يضيفون إلى العمل جمالا وروعة، وسباق زوارق يشارك فيه ثماني جذعيات(3)، وقد جلس المجذفون مصطفّين وصدورهم متينة وكأنها حُفِرَت بالفحم الحجري، تبدو مجاذيفهم متناغمة تحت التحليق المتقلّب للطيور البحرية.
سال لعاب «لوكمبا» أمام أثاث يليق بأمراء الخليج. وُضِع جهاز هاتف على طاولة صغيرة يغطّيها قماش غنيّ بالتطريز.
في كل ركن من أركان الصالون كان هناك مِبخرة من الخزف الصيني يتصاعد منها القليل من الدخان المعطّر. فاجأت «لوكمبا» مكتبة حجمها بعرض الصالون وكتبها مجلّدة بسخاء.
في الصالون الثاني كانت السيدة ممددة على كنبة من المخمل الزهري اللون المزيّن بالزهور الزرقاء، كانت تضع تحت رأسها وسادة آتية من دار تنجيد كبيرة في «مراكش».
على السجّادة الخضراء ذات الإطار الذهبي جلس عازف آت من بلدة في وسط البلاد وكان يعزف لها مقاطع موسيقية شهيرة وأناشيد فرسان وكان يرتجل لها المدائح ويؤلّف لها سلالة عريقة.
هذه البارونة التي كانت سابقا جديرة بالعشق بلونها الأسود الصافي مثل زنجيات السهول البريئات. ولكنها فتّحت لون بشرتها بمستحضرات صيدلية، على الرغم من خطابات وزير الثقافة المتكررة حول الزنوجة.
كانت شابة جميلة تدلّك لها رجليها وأخرى «تروّح لها» بالرغم من وجود المكيّف: كان هذا دلال بارونة حصلت على نبلها بمرسوم.
كانت تعتلي عرشها، وكأنها من السيدات الراقيات زوجات المديرين القدامى للمعامل الاستعمارية الكبيرة. وتشبه العشيقات السمراوات لمديري التعاونيات القديمة واللواتي كن يأتين لتمضية الفصل الجميل في منطقة «ريفيار دي سيد». أتت هاتان الفتاتان من وسط البلاد كي تعلّمهما وتجد لهما لاحقا زوجين مناسبين. لا بد أنهما يشتاقان لقراهما حيث- على عكس الحال في هذا الحي المخصص لكبار القوم – يغنّي ويرقص الجميع على وقع الطرق على الأواني المصنوعة من الكرنيب وعلى الأحواض المقلوبة، تحت ضوء القمر في الساحة حيث يجلس الناس في حلقة ليستمعوا للقصص والأساطير.
الميزة الوحيدة التي كانتا يستمتعان بها هي وجبة الأرز الكامل والسمك الكبير وبقايا البطو الدجاج والخبز المقرمش التي كانتا يتناولانها على العشاء مع السيد والسيدة وأولادهما الثلاثة. وكان هناك أيضا ماء البرّاد وبرامج التلفزيون الفلكلورية.
ضغط «إويمبي» على أحد الأزرار.
و بعد بضع دقائق أتت خادمة أنيقة بعصير الفاكهة في كؤوس تلمع كاللؤلؤ على صينية من فضّة. شكرها «لوكمبا» ومدح رئيس اللجنة الاقتصادية وأكّد له أن كرم الضيافة والانفتاح والجهوزية للاستقبال التي يتمتع بها لا تخفى على أحد في العاصمة.
ابتسم «إويمبي» الفضيل ابتسامة عريضة وانتفخ وحدّث «لوكومبا» عن أسفاره بينما كان الأخير يودّ أن يقول له عن أسباب زيارته على عجل. فحمله النائب معه من ضفاف نهر الـ«سين» إلى قلب «أوكرانية» ومن فندق «موتي» الكبير في «سيول» إلى بيوته الخشبية في «سيفين» ومن الأهرامات التي تحرس نهر النيل المقدّس إلى الأبقار المقدّسة والسلمية في الهند.
ضغط النائب من جديد على الزر. فأتى رجل في لباس الخدم الرسمي ومعه حلوى على شكل تنين على صينية مزخرفة على الطريقة اليابانية. ذهب ثم عاد ومعه قارورة من الكريستال فيها مشروب من الشرق الأقصى.
شعر «لوكمبا» بالتكريم وحسد هذا المدرّس الذي لم يعد يأكل الطبشور.
أراد «لوكمبا» أن يبوح برغبته للنائب ولكن الأخير استعاد سرد «الأوديسيه» وكان محاسبنا المحلّف قد نفذ صبره ولكنه لم يجرؤ على إظهار الأمر. فأخذه النائب من جزيرة «غراند إيل» إلى جزر الـ«أنتيي» حيث الفتيات جميلات كالجن وحيث ترقص الفاتنات الـ«رومبا»و الـ«سمبا».
استمع لرئيس اللجنة الاقتصادية الذي كان يصف له بكلمات ينتقيها روعة «فلورنسا» وسحر الـ«بندقية» حيث قوارب الجندول الملفتة وروائع «هلسنكي» التي وصف سحر شمسها في منتصف الليل بشغف. لقد زار هذه البلاد والأماكن خلال أسفار رئيس الجمهورية الرسمية، وكان هذا الأخير – كما يُقال في السر– يضرب أرقاما قياسية في عدد ساعات الطيران.
اغتنم «لوكمبا» فرصة صمت النائب وأطلعه على شهادته كخبير في المحاسبة وعلى مرسوم قبوله كمحاسب محلّف. وسلّمه رسالة توصية من قِبل شخصية دينية.
– سيدي رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس النيابي ونائب رئيس اللجنة الدائمة للحوار ما بين الشمال والجنوب، أنا مهتم ب…
– قل يا سيدي. لا تشعر بالحرج.
– أنا… أنا مهتم ب…
– قل يا سيدي. لِمَ تشعر بالحرج؟
– أنا مهتم بمنصب الإدارة العامة للمكتب الوطني للزيوت الذي سيُنشأ والذي تحدّث عنه طويلا رئيس الجمهورية «كالوندا» المعصوم عن الخطأ، منذ بضعة أيام في مؤتمره الصحفيّ الأخير.
– «كالوندا» المعصوم عن الخطأ! أنت محقّ! ابن عمّي لا غبار عليه. والنائب «كاماندا» كان على حق عندما جعل مجلسنا الموقّر يصوّت لاقتراح قانون يسمح بإقامة تمثال في قلب العاصمة لمعالي «كالوندا»، أب الأمة والمواطن الأعظم. وبفضله طُبِعت صورته على الأوراق النقدية وعلى الأقمشة المصنّعة.
ابتسم «لوكمبا»: لقد دغدغ أوتار النائب الأكثر حساسية.
– أنا مهتم بمنصب الإدارة العامة! قال من جديد وهو مكتوف الذراعين وحاني الرأس.
كان يقف كتلميذ أمام معلّمه.
– لا تشعر بالحرج! إجلس على راحتك! أنت في بيتك فأنت من الشعب الذي جعل مني الرجل الذي تراه اليوم. يجب على النائب ألا يتصرّف كالأمير أمام أحد الناخبين. عليه أن يكون خادمه المخلص!
– الإدارة العامة يا سيدي رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس النيابي! الإدارة العامة…
– أفهمك.
– شكرا يا سيدي الرئيس.
– ولكن… ما هي رتبتك في الحزب الحاكم؟
– أنا مناضل في القاعدة يا سيدي الرئيس.
– فقط؟
ارتعش «لوكمبا» وطنّت أذناه، عضّ شفتيه وابتلعهما ثم حكّ جبينه وطقطق أصابعه.
– منذ متى وأنت تناضل؟
– منذ ثماني سنوات.
– ثماني سنوات؟ فقط؟ أين كنت من قبل؟ ماذا كنت تفعل؟
بكى «لوكمبا»، طنّت أذناه من جديد وارتجف قلبه حتى كاد يتوقف.
سمع هذه الأسئلة المربكة والمحبطة عدّة مرّات. عضّ على شفتيه وفرك عينيه وابتلع ريقه.
و كان النائب يحدّق به كما لو كان يريد امتحانه وتعذيبه، كان يضع ساقا على الأخرى ويحمل في يده اليسرى «غليونا» غطاؤه من فضّة. ثم جدّل لحيته الصغيرة وشاربه الذي يشبه شارب فارس.
– ثماني سنوات! ثماني سنوات فقط! كرّر «إويمبي».
– ثماني سنوات! كرّر «لوكمبا» الذي راح يبكي من جديد.
– أم أنا فلدي عشرون سنة من النضال.
– أنت ركيزة للحزب ولديك رتبة «بارون» فيه! قال «لوكمبا» الذي ابتسم بمرارة لأن حظوظه باتت ضئيلة جدا.
– هذا صحيح! لقد ضحيت بكل شيء من أجل الحزب! حتى أنني تخليت عن زوجتي الأولى الكاميرونية التي كانت ترفض العمل السياسي.
– كانت على خطأ!
– السياسة تسيل في دمي وفي عظامي! وها أنا أنال ثوابي!
قال «لوكمبا» بعض الجمل اللطيفة والمجاملة أيضا.
– منصب المسؤولية الذي تبتغيه مهم جدا يا سيد «لوكمبا».
ولكن هذه الجملة لم تطمئن المحاسب المحلّف.
– سياستنا تفرض علينا ألا نثق بهكذا مناصب إلا بكبار المسؤولين في الحزب.
راح «لوكمبا» يتصبب عرقا.
– أنا مستعد للتضحية بنفسي من أجل الحزب.
– وستكون على حق! فالحزب يحفظ جميل الخدمات المقدّمة له. وبالأخص… أن وقت إعادة توزيع الأوراق يقترب. هذه فرصة للعمل.
– وكيف العمل؟
– ألا تعلم؟
شعر «لوكمبا» بالقلق. إعتقد أنه مذنب ارتكب جنحة أو جريمة إهانة سياسية.
– أحقا لا تعلم؟
تردّد «لوكمبا».
– أي سبيل تنصحني أن أسلك؟
– هناك سبل عدّة.
– ما هو الطريق الأقصر والأضمن؟
– عزيزي «لوكمبا»، لا بد أنك على قدر من البساطة… وأؤكد لك أنني لا أستخدم هذه الكلمة بمعناها السيء! انشئ لجنة مصغّرة أو اجعل أحدهم ينشئها من أجلك!
أراد «لوكمبا» أن يشد بشعره.
أي استراتيجيات عليه أن يستخدم؟ أي تعويذة؟ أي مشعوذ شهير عليه أن يستشير كي يثب بخطى عملاقة من رتبة مناضل في القاعدة إلى منصب مسؤول كبير كي يستطيع أن يطمح لمنصب الإدارة العامة في المكتب الوطني للزيوت الذي سوف يتم إنشاؤه قريبا؟ كيف يقنع رئيس اللجنة الاقتصادية؟ كيف يضعه في جيبه؟ تساءل «لوكومبا» الذي كان بحاجة للمساندة وللترفيع السريع.
– ضع أكبر عدد ممكن من الأوراق.
حنى «لوكمبا» رأسه.
– كل ورقة توازي مئاتي فرنك فقط! قال النائب محدّدا ووضع غليونه الخالي من التبغ على غطاء من الريش. ثم كرر: «ما تريده يحتّم عليك أن تصبح أولا مسؤولا كبيرا!»و أضاف: «لهكذا منصب يرشّح كل وزير وكل نائب وكل قاض وكل صاحب عِمّة أو عباءة أحد المقرّبين الذين يعيشون في حمايته. هناك أصحاب الشهادات العالية والمناضلون في الحركة الوطنية لشبيبة الحزب والذين يتولون مهمة تعميم إيديولوجية الحزب وهم ينتظرون جميعا مترقبّين منصب كهذا.
كان «لوكمبا» قلقا. دقّ قلبه بقوّة. كان يود الحصول على وعد فوري من النائب. ولكن ما العمل للحصول على هذا الوعد؟
فكّر بينما كان النائب يتسلّى بإزعاج بعض عصافير الدوري في قفص وُضِع على مقربة منه.
– سأناضل في لجنتك. سأبقى وراءك وتحت أمرك.
– حسنا.
وضع «لوكمبا» يده في جيب سترته وأخرج منه عشر أوراق نقدية كل منها بقيمة خمسة آلاف فرنك أعطاها للبرلمانيّ وقال له: «هذا قد يساعدك لوضع أوراق جديدة. سأسير خلفك. لن أفعل إلا ما تأمرني به.
– عظيم! سوف ترى أن للسياسة سحرها الخاص! أما بالنسبة للإدارة العامة التي تطمح إليها والتي تستحقها فعد إليّ… لنقُل… يوم الأحد المقبل عند الساعة نفسها.
أراد «لوكمبا» أن يتمنى عليه ألا ينسى وضع اسمه على لائحة المواعيد…
أبتسم «لوكمبا» لابن البرلمانيّ الصغير الذي كان يلعب بغزال من البلاستيك. لامس رأسهو وعده بلعبة. كان يجهل أن هذا الطفل يملك العشرات من الألعاب لأن التجار الذين يريدون الحصول على خدمات والده يرسلونها له مع سائقين بقبّعات وقفازات بيضاء.
خلف الباب كان هناك رجل بلباس سلطان بيده عصا من خشب الآبنوس. وكان معه صبي يحمل حقيبته التي تحتوي ربما على جميع الوثائق وجميع الخطابات حول تدهور التبادل الاقتصادي.
ترك «لوكمبا» في يد الحاجب العادي ورقة نقدية بقيمة ألف فرنك ووعده أن يعود ومعه اللعبة التي وعد بها ابن رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس النيابي…
حين دخل المحاسب المحلّف من باب بيته قبّلته زوجته «ماري جان» وعانقته وبلهفتها لمعرفة ما حصل شدّته نحو الصالون حيث كان البخور يشتعل في وعاء من الفخّار. كانت قد تعطّرت وبدت برّاقة في ثوبها الطويل. نزعت عنه سترته وحذاءه ووضعت له رجليه في وعاء من الماء الفاتر وغسلتهما بتأن ثم نشّفتهما بمنشفة اشترتها منذ وقت قصير. ركضت لتجلب له حذاء ناعما وضعت فيه رجليه بخفّة… حضنته وأشادت به وارتجلت مديحاو دغدغت رقبته. ابتسم «لوكمبا».
– قل لي… قل لي… ماذا عن موعدك؟
– تمهّلي يا «ماري جان».
– لماذا؟ ماذا تريد أو ماذا عليك أو ما الذي تجرؤ على إخفائه عني؟
– لقد اجتمعت بالسيد «إويمبي» الفاضل.
– هل ستحصل إذا على منصب الإدارة العامة للمكتب الوطني للزيوت؟
لم يجب «لوكمبا».
– متى سيصدر مرسوم تعيينك، مرسوم الرئيس «كولوندا»؟ أتظنّ أني سأبوح لأحد بهذا؟ ألا تأتمنني؟
ابتسم «لوكمبا».
ابتعدت السيدة بعض الشيء.
– لا تأخذي موقفا يا «ماري جان». علي أن أعود لمقابلة «إويمبي» يوم الأحد المقبل.
– ماذا؟ هل تجرّأ على تأجيل الموعد وهو الذي يستطيع إقناع ابن عمّه رئيس الجمهورية أن يفعل له ما يريد؟ لماذا الانتظار؟ لا أفهم!
– أين الحمَل الأبيض؟
– أنه هنا! ماذا تريد أن تفعل به؟
– أتعلمين يا عزيزتي… أريد أن أهديه للابن الأصغر لرئيس اللجنة الاقتصادية.
– وابننا الأصغر سوف يشعر بالملل!
– لا تقولي ذلك! الحَمَل طعم!
– أنا لست موافقة! ما يريده أصغر أبناء البرلماني هو ما يريده أصغر أبنائنا.
– أرجوكِ! إفهميني! ساعديني كي أصل إلى منصب المسؤولية هذا! عليّ أن أكون «أحدا»! علينا أن نطفو على السطح، أن نخرج إلى الأبد من حال الأشخاص النكرة الذين لا يصنعون من أنفسهم رجالا عظماء ولا يجمعون ثروات طائلة.
ابتسمت «ماري جان». شعرت أنها معنية وأنه بحاجة إليها.
غسل «لوكمبا» الحمل بالصابون المعطّر ونشّفه بمنشفته ولمّع أطراف قرنيه بالشمع.
حمله ووضعه بتأن في صندوق سيارته الـ«بيجو 504 « التي لا تزال بحال لا بأس بها…
بكل تواضع أهدى «لوكمبا» الحمل للابن الأصغر للبرلماني بوجود الحاجب العادي الذي بدا مذهولا.
– هذا لطف منك! قالت زوجة البرلماني الممدّدة على فرشة مطّاطية تحت شجرة مثمرة مزهرة. كانت معتادة على هكذا هدايا كريمة مبنية على الطمع. كانت الفتاتان لا تزالان تدلّكان رجليها والعازف لا يزال يعزف لها الملاحم.
– هذا قليل يا سيدتي فسيدي يساوي أكثر بكثير! أجاب «لوكمبا» الذي انحنى بارتباك وابتسم ابتسامة عريضة وعاد إلى سيارته حيث كان ينتظره ابنه حزينا.
ثغا الحمل حزنا…
– هل فرح السيد النائب؟ سألت «ماري جان».
– لم أره.
– ماذا؟ أهديت حمل ابننا لابنه في غيابه؟ أي هدف تحقق هكذا؟
– زوجته سعيدة جدا! هذا ما يهمّ! فمن ينال إعجاب زوجة رجل مهم يضمن رضاه! أكرّر لك أن زوجته سعيدة جدا!
دخل ابنهما الأصغر فجأة وارتمى بين ذراعيّ أمّه مطالبا بحمله الصغير وهو يبكي بكاء غزيرا وطويلا.
– سوف تحصل على غيره! على أجمل منه! سوف ترى يا صغيري!
بدت الأيام طويلة، طويلة جدا بالنسبة لـ«لوكمبا». استيقظ فجر يوم الأحد الذي طال انتظاره. وبدت له الساعات التي تفصله عن لقائه الثاني مع النائب لا نهاية لها.
قبل يومين، وبعد أن توسّل لنائب الرئيس المتعالي لفرع البنك، استطاع الحصول على سلفة بقيمة عشرين ألف فرنك. لحسن الحظ كانت مصاريفه اليومية مؤمّنة طوال هذا الشهر.
عند الساعة التاسعة إلا ربع توجه إلى قنّ الدجاج. وعاد ومعه طائر حبش.
– ما هذا؟ سألته «ماري جان».
– ساعديني يا عزيزتي! فأنا محتاج لمساندتك المعنوية والمادية في هذه اللحظات الحاسمة لتحديد مصيرنا! عليّ أن أصبح «أحدا»! وعليك أن تصبحي «أحدا»! أكرّر لك الأشخاص النكرة لا يصنعون من أنفسهم رجالا عظماء ولا يجمعون ثروات طائلة.
– ماذا ستفعل بطائر الحبش هذا؟
– سأهديه للابن الأصغر للنائب الذي سيساندني ويساعدني على الترفيع السريع.
ربط قدميّ الطائر ووضعه برفق على المقعد الخلفيّ للسيّارة. انطلق بعد أن رسم بيده إشارة الصليب…
لاقاه الحاجب بابتسامة عريضة، أخذ منه المال وشكره.
– طائر الحبش هذا للابن الأصغر للنائب.
– آه! قال الحاجب.
– هذا شيء رمزي! إنه مجرّد لعبة.
استقبل «إويمبي» «لوكمبا» بعد ساعة وكان «إويمبي» يومها يرتدي لباسا تقليديا يجعله يشبه رئيس الـ«كاميرون « «أهيدجو».
في اليوم السابق كان السيد وزير الدولة المسؤول عن الشؤون الثقافية قد ألقى خطابا مهما بمثابة برنامج عمل حول الحفاظ على الأصالة.
– مرحبا بك يا رفيق «لوكمبا»! صاح البرلماني.
ارتاح قلب المحاسب المحلّف الذي تشفّع إليه مجدّدا.
– لقد فكّرت بمشكلتك. من الممكن أن تنال مرادك! ولكن المرسوم لن يصدر بهذه السهولة.
تنهّد «لوكمبا» بقوّة لأنه كان يعتقد أنه سيجلس على العرش العظيم للإدارة العامة للمكتب الوطني للزيوت في وقت قريب.
– كيف أحوال السياسة؟ سأل «لوكمبا».
– في القريب سوف نضع أوراقنا الجديدة! أجاب البرلماني.
– حقا؟
– سوف أضع ثمانية آلاف ورقة على الأقل.
– ثمانية آلاف! كرّر «لوكمبا» متعجّبا.
– وعلينا أن نعطيها من دون مقابل للمناضلين ولنعترف بالأمر سوف يضعون هذا المال في قِدر الطعام أكثر مما سيضعون أوراقا في صناديق الاقتراع. يا عزيزي «لوكمبا».
شعر المحاسب المحلّف بالمديح بفضل عبارة «يا عزيزي» التي قالها بملء فمه ابن عم رئيس الرؤساء. مما أتاح له أن يطمح للترفيع السريع. تخيّل نفسه في مكتب توجد فيه شمعدانات جميلة وجدران تلمع كاللؤلؤ، يحيطه جهاز هاتف أبيض اللون وآخر أصفر. تخيّل وجود حاجب وفيّ يحلّ له مشاكله الشخصية بتكتّم، وخادم لا عيب فيه يجلب له قهوة الساعة العاشرة، وعصير فاكهة عند الحادية عشرة ولا يتكلّم معه إلا في حال تأهّب. وتصوّر نفسه يعقد مؤتمره الصحفيّ الأول في في قاعة كبيرة منوّرة في فندق أربعة نجوم وبحضور صحفيين محليين وأجانب. رأى نفسه يجيب ببراعة على أسئلة المقابلات ويترأس بصرامة الاجتماع الإداري الأول وفي يده جرس يفرض به السكوت.
أعطى «إويمبي» خمسة وعشرين ألف فرنك وأقسم له مجددا أنه سوف يكون وفيا وعلى أتمّ التأهّب.
– لدي مقابلة مع رئيس الجمهورية بعد غد. وبعد المقابلة سوف أتناول معه الغداء. فالسياسة وصلة القرابة تربطاني به.
– بعد غد؟ قال «لوكمبا» بحسد.
– بعد غد عند الساعة الحادية عشرة وخمس وأربعين دقيقة!
– وأنا متى سأصافح يده، هذه اليد العظيمة، اليد المنيرة للرئيس «كالوندا»؟
– سوف يأتي هذا اليوم! النضال يتيح لنا تحقيق كل الآمال.
– سوف تقابله بعد غد؟
– بعد غد!
حدّق به «لوكمبا» مبتسما.
– سوف أكلّمه عنك! قال النائب.
وقف «لوكمبا» فجأة وتنهّد بقوّة واضعا يديه على صدره وعيناه تلمعان.
– سوف تكلّمه عني؟
– لمَ لا؟ انني أرى فيك ميزات المناضل الذي سوف يصل إلى أعلى المراتب.
– وسوف…
– سوف أقول له أنك تستحقّ تشجيعه.
– شكرا! شكرا! قال «لوكمبا» الذي جلس مطمئنا.
– سوف ألمّح له بحذاقة أن يضعك على رأس المكتب الوطني للزيوت الذي يبني عليه آمالا كبيرة.
– ألف شكر! قال «لوكمبا» متأثرا.
– يا عزيزي «لوكمبا» إعلم أن الحزب لا ينسى خادميه الأوفياء! وهذا ما لا يفهمه بعض المفكّرين الذين، فور عودتهم من أوروبا، يطالبون بأعلى المراكز قبل أن يناضلوا. لن نترك السلطة تنزلق من بين أيدينا وقد حصلنا عليها بعد الكثير من المعارك والحرمان والإهانات والإصرار. مجّانية السلطة فكرة طوباويّة! الكفاءة لا تعني حق الحصول على المسؤوليات الكبرى. فهذه المسؤوليات تتطلّب معارك عدّة وأنبلها الإخلاص لقضية الحزب النبيلة. لن نتنازل أبدا عن جزء من انتصارنا لأشخاص مشكوك بأمرهم!
– أنت على حق!
– «لوكمبا»! هل أنت على علم بالاجتماع المناطقيّ المقبل؟
– لا!
– إنه يوم السبت المقبل عند الساعة الرابعة بعد الظهر في ساحة الحريّة…
شعر «لوكمبا» أن زوجته لم تكن يوما على هذا القدر من الجمال. استقبلته بلباقة تليق بشخصية ستصبح مهمة. نزعت عنه سترته وحذاءه وربطة عنقه وغسلت رجليه وعطّرت عنقه وانتقت الكلمات الرقيقة واللمسات الناعمة.
– ماذا عن المقابلة؟ سألته وهي تضع ذراعيها المعطّرتين والمزينتين بالفضة حول عنقه، وكان الأولاد يلعبون مع أولاد الجيران على الرصيف.
– حاسمة!
– غير معقول! ماذا قلت؟ كرّر ما قلت!
– حاسمة!
– إشرح لي يا عزيزي أني أحترق شوقا.
– السيد رئيس اللجنة الاقتصادية سوف يقابل رئيس الجمهورية بعد غد.
– ماذا؟ قالت «ماري جان» وهي تترك على خدّه علامة قبلة شغوفة ومعطّرة.
– سيستقبله رئيس الجمهورية بعد الغد. وسوف يكلّمه عني.
– عنك؟
– عني!
انهارت «ماري جان» على الكنبة وذراعاها موجّهتان نحو السماء. ثم عانقت «لوكمبا» الذي كانت عيناه تلمعان فوق صدرها المنتفخ.
– سوف يكلّمه «إويمبي» عني!
– يا له من حظ جيد!
– سوف يلمّح له أن يضعني على رأس المكتب الوطني للزيوت.
– وهكذا سوف تصبح المدير العام! من كان يتوقّع ذلك؟ سوف تصبح «أحدا»! سوف تصبح رجلا مهما! رجلا محسودا، يُشار إليه بالإصبع وتُلقى عليه التحيّة بانحناءات جميلة! سوف تعطي الأوامر! وسوف يركض الموظفّون لتلبية طلباتك! سوف تُكافئ البعض وتعاقب البعض الآخر!
– هذا صحيح! سوف يعلو شأننا معا!
– أراك جليلا تضع الأوسمة على صدور الخدم الأوفياء وتلقي خطابات مأثورة خلال حفلات افتتاح واستقبال.
– سوف يعلو شأننا معا! كرّر المحاسب المحلّف الذي وقف ومشى خطوة على طريقة مدير عام.
في أفريقيا، هناك خطى خاصة ومتدرّجة للموظّفين التنفيذيين وأخرى للتشريعيين وأخرى للقضاء الأعلى وأخرى للرؤساء والمديرين العامين.
– كيف تجدين هذه الخطوة؟
– حسّنها! إرفع كتفيك! قالت «ماري جان».
حاول «لوكمبا» مجددا.
– إحن رأسك نحو اليمنى بعض الشيء!
و هكذا فعل.
– هكذا! هذه خطوة تليق بك! ستصبح هذه خطوتك الخاصة!
– هناك أمر آخر يا «ماري جان».
– ما هو يا عزيزي «لوكمبا»؟
– من الآن فصاعدا سأعمل في مجال السياسة.
– وكيف ذلك؟
– يوم الأحد المقبل سوف ألقي خطابا خلال الاجتماع المناطقي! «إويمبي» طلب مني ذلك. سيكون من بين الحضور أركان الحزب ورجال دين ونقابيون ذوو شأن عال.
– سوف تكون خطوة مهمة جدا.
– خطوة عملاقة سوف تسيل لعاب الكثيرين.
– أني أخشى السياسة. فلها أضواؤها وظلماتها. وغالبا ما تكون الظلمات أكبر.
– ولمَ الخوف؟ الحزب واحد! والأعداء لا يجرؤون الظهور في العلن! الجيش لا يريد السلطة. ممَ الخوف؟ ليس هناك أي فوضى! مركبنا يسير نحو مستقبل مشرق لأن الذين يقودونه رجال عظماء. ثم يا عزيزتي «ماري جان» من لا يناضل لا يحصل على شيء. فالسلطة ليست عمياء.
– أرى أنك مُصاب! لقد نال منك «فايروس» السياسة والبكتيريا السياسية! حظا سعيدا، والأهم هو أن تتحلّى بروح المثابرة!
– سوف تناضلين أنت أيضا.
– ماذا؟ أنا؟
– أنت! ستساندينني! أني أحتاج لمساعدتك!
– لك ما تريد يا عزيزي «لوكمبا»! كل كياني وكل ما أملك لك!
– شكرا! سوف أترفّع وأسيطر على الحشود! سوف يعلو نجمي وينيركِ! أنا «لوكمبا إرنست» المدير العام المستقبلي للمكتب الوطني للزيوت سوف يعلو شأني برفقتك!
– سوف تنجح يا «لوكمبا».
– ولمَ لا؟ ألست محاسبا محلّفا؟ ألست أحد المتخرجين الأوائل من المعهد الوطني للإدارة العليا؟ لدي حسّ الأعمال الاقتصادية.
– لا أحد يستطيع إنكار ذلك.
دخل أحدهم. إنه «ليكونغو» بائع التذاكر وصديق «لوكمبا» منذ الطفولة.
– لدي خبر سار! إحزر يا «لوكمبا»! أنها كذبة الأول من نيسان يا «ليكونغو».
– أقسم لك بصداقتنا! إحزر!
– حزرت: لقد تزوجت مرّتين. على الرغم من التشدد المسيحي، تزوجت من السكرتيرة ولديك منها ولدان.
– لا! أخطأت! إحزر مجددا!
– ربحت تذكرة للحج إلى روما؟
– لا!
– لن أحزر.
– لقد بعثوا لك المفعول الرجعي! ثلاثمائة وإثنان وأربعون ألف فرنك بالإضافة إلى راتبك!
وقف «لوكمبا».
– ! ثلاثمائة وإثنان وأربعون ألف فرنك! سوف تنسى موسم الجفاف لبعض الوقت! لقد أحالوا المبلغ إلى حسابك المصرفي! صديقنا «باتاباتا» هو الذي أخبرني عبر الهاتف. هو من تولى الأمر.
قبّل «ليكونغو» «لوكمبا». ثم غادر على درّاجته النارية.
– سأحصل أخيرا على مكتبة أحلامي وسوف تبدل كنباتنا.
– وماذا عن التضحية في سبيل الحزب؟ عليّ أن أنفق المال من أجل ترفيعي السريع كالبرق! الاجتماع المناطقي آت! وهذا امتحاني الأول. علي! أن أبدو مقنعا!
– أهكذا تريد أن تبتلع متاهات السياسة كل المفعول الرجعي؟ سوف يمتصّون دمك ثم يتركونك تقع وقعة مدوّية. تذكر ماذا حلّ ب»موليلي برنار» الذي كان تاجرا كبيرا! لقد أفلسته السياسة! لم يعد لديه متجر في العاصمة! ولا فروع في وسط البلاد! أخذ الحاجب «كومو» سيارتيّ الأجرة المتبقيتين لديه وعادت زوجتاه إلى ديارهما! ها هو يبيع الكولا في السوق الكبير! فالسياسة التي وعدته بقرض كبير استغلته ثم تخلّت عنه.
– أنكِ متشائمة وعلى خطأ! أنا سوف أنجح! فسِماتي سِمات رجل سيصعد أدراج النجاح.
– فكّر جيدا يا «لوكمبا»!
– السياسة تفرض علينا التضحية! عليّ أن أبهرهم فور دخولي الأول إلى الحلبة! ثم… سيتمكّن «إويمبي» من لوي ذراع الرئيس «كالوندا». سوف أستعيد برئاسة المكتب الوطني للزيوت كل ما أنفقته. فيما بيننا يا سيدتي سوف نجني أكثر من مليون واحد خلال سنتين! ستملكين سيارة يابانية تقودينها بنفسك.
– وماذا عن رخصة القيادة؟
– من الممكن شراؤها! إنني أعرف الوسيلة.
– حسنا!
– ستملكين بستانا في الريف وسأملك حديقة في منطقة «تير-نوف».
– ياه! ليت هذا الحلم يتحقق!
– سوف نبني فيلا كبيرة ورائعة بفضل قرض من البنك الوطني للإسكان. وستدعم الدولة القرض بأكثر من ثلاثمائة فرنك شهريا!
– سيكون ذلك رائعا!
– سنمضي الإجازات السنوية في أوروبا! ربما في بلد «هوميروس».
– لا!
– في إيطاليا أو فرنسا إذا.
– لا! سنذهب إلى بلاد الشمس المشرقة أو بلاد الصباح الهادئ التي شاهدنا صورها في سينما»كاتاجكلو».
أتى يوم السبت في آخر الشهر.
كانت العاصمة تنبض بالحياة. منذ أسبوع صمّم الخيّاطون بعناية تننانير ب«خصر واط» للفتيات وكانت الأقمشة تحمل ألوان الحزب وصورة الرئيس وزوجته وهي ألمانية من «فرانكفورت». وصمّموا سراويل وقمصانا واسعة ذات أكمام طويلة للمناضلين وسراويل «بوبو» واسعة وسراويل عربية للعسكريين.
كانت تُقرع الطبول في كل حيّ وفي كل ساحة وفي كل مراكز لجان الحزب…
و قبل الانطلاق نحو الطوفان كانت النساء يتبادلن النصائح الأخيرة ويفكّرن في آخر استراتيجيات التألّق ويتساعدن على تزيين أنفسهن بدقّة.
فكل لجنة كانت تود الحصول على الكأس الذي سيقدّمه في اليوم التالي السكرتير الدائم للحزب أي رئيس الجمهورية. أحضروا من داخل البلاد الأحصنة التي ترقص على وقع آلة الـ«تاما» وهي طبول صغيرة لها غطاءان من الجلد وتُحمل ما بين الخاصرة والذراع وتُقرع بواسطة قضيب طرفه معكوف. كانت الأحصنة تثير الاعجاب بقوّتها وتعاليها وكانت تنفّذ أوامر الفرسان المتمرّسين الذين يرتدون ثيابا تذكّر بالفرسان السود القدامى أو برؤساء الكانتونات القدامى حين كان يستدعيهم إلى العاصمة حاكم المستعمرة.
و أحضروا الجمال. كان يمتطيها رجال يعتمرون عِمما تذكّر بمسافري الصحراء الذين لا يتعبون، زيّنوا أنفسهم بالتعويذات المتعدّدة الأشكال والألوان، وكانوا يجيدون إهداء أعيان الحزب الواحد لوحة فنّية نادرة الجمال.
و أتى أيضا المنشدون الذين يجيدون – بعد مواسم الحصاد الخيّر والصيد الوفير- نحت الكلام فيعطونه أشكالا عجيبة وألوانا وروائع غريبة ويجعلون منه كلاما مؤثرا ومثيرا ككلام الشعراء الذين كانوا يساندون الفرسان والشجعان في المعارك.
كانوا سيتحدّون بعضهم البعض بالمدائح لساعات عدّة، ثم يعودون إلى ديارهم بالتهليل محمولين على الأكتاف ظهرا لظهر. وسوف تهدي المنشدات المتميّزات أبياتا مختارة لكبار سيدات الحزب، أبياتا جميلة تذكّر بالشعر الذي كانت تغنيه المرافقات لإيقاظ الأميرات السود في مملكة «كومبي» القديمة. في أفريقيا هناك لحظات وساعات تقوى فيها الإثارة فيسيل الشعر من أفواه ملهَمة وسخيّة مثلما يسيل النُسغ من الجرح الطيب لشجر النخيل. أفريقيا قصيدة شاسعةو سحر أخّاذ.
– عليك أن تلقي خطابا اليوم! إن رئيس اللجنة الاقتصادية طلب منك ذلك! قالت «ماري جان» الجميلة بسروالها الـ«بوبو» المصنوع من قماش الـ«بازين» الأزرق الثمين وبحذائها الذهبي وسلاسلها الطويلة المرصّعة بكرات فضية ومرجانية.
– علي أن ألقي خطابا! خطابي الأول أمام الحشود يجب أن يكون الأفضل.
– الكلام في مثل هذه المناسبة يحتّم استعمال فن خاص. لا يتمتّع الجميع بقدرات البلاغة! و لكن الحشود ستفهم أنك تصقل سلاحك الأول وأنك تجتاز اختبارك الأول في حلبة السياسة المرعبة.
– الله والسيد المسيح سيسانداني.
– الله والسيد المسيح! كرّرت «ماري جان».
كان «لوكمبا» يرتدي ثيابا مثل الـ«دجيرما» أي أعيان الـ«نيجر». وينتعل حذاء أصفر مثل فرسان ال»هاوسا» في «نيجيريا» ويحمل عصا من خشب الآبنوس المنحوت مثل بطاركة الـ«باولي» في «غران-بسام». هذا الزي الذي كان لائقا عليه كان لأحد أصدقائه الذي يعمل كممثل في المسرح الوطني.
كانت تنتظره عند المدخل سيارة كبيرة أعاره إياها تاجر اسمه «قاسم» كان «لوكمبا» يهتم بحساباته.
كان السائق يرتدي لباس القيادة العليا… سكتت معا جميع الآلات الموسيقية، الغيتار التقليدي الذي ظهر في القرن الماضي في عمق السنغال والـ«كورا» والـ«بلافون» اللذين اجتازا حدود «غينيا» و«مالي» والكمنجات التي يتكلّم عبرها شعر الجياد والتي تملأ القلب وتتعب أقدام الراقصات. وسكت أيضا الشعراء الذين أشبعهم أعيان الحزب المعجبون بمدائحهم. رفع أحد منظّري اللجنة المناطقية ذراعيه نحو السماء واستدار نحو كل صوب فصاح الحضور صيحات ابتهاج وهلّلوا له.
إنه «كونان» السكرتير الإداري. تكلّم بعدّة لغات وطنية بشغف. ثم تكلّم بالفرنسية. روى المسيرة السياسية الرائعة التي سلكها الرئيس «كالوندا» ووصفه بأعظم بطل عرفته البلاد.
تناول أمور الإيديولوجية الوطنية والثورة التي يقودها المواطن الأعلى والخطّة التغييرية الحالية في الزراعة. وأعلن أن الأسعار سترتفع بالنسبة للمنتجين وأن الرئيس قد ينظر في تمديد مهلة تسديد الديون التي أخذها المزارعون.
لاقى هذا الكلام الكثير من صيحات البهجة والتهليل الجماعي.
تبعه منتخبون آخرون إلى المنصّة وتكلّموا بالوقار نفسه والسخاء نفسه، وكان همّهم مثل همّه أي نيل إعجاب رئيس الجمهورية.
و أخيرا أتى رئيس الجلسة، «إويمبي» الفاضل الذي أعطى الكلام لـ«لوكمبا»، فارتعش الأخير ورسم رمز الصليب بيده.
صبّت عليه جميع الأنظار.
– ولكن… منذ متى يهتم بالسياسة؟
– يا له من ترفيع سريع!
– غير معقول! كيف وصل «لوكمبا» إلى هنا؟
– هذا ما يُسمّى «الدعم بالواسطة».
– هذا لا يُعقل! إنه يصعد على أجسادنا!
– وسوف يبصق علينا ويحتقرنا حتى يأتي وقت يدوس فيه علينا!
كانت التعليقات كثيرة والمفاجأة كبيرة. رفع «لوكمبا» ذراعيه نحو السماء لكن أحدا لم يصفّق. ألقى التحيّة بلغته الأم ثم بالفرنسية. لم يهلّل له أحد. فالسياسييون لا يحبون الذين ينزلون بـ«المنطاد» ولا المقذوفين بمدفع.
– صفّقوا! أمر رئيس الجلسة.
فساد تصفيق مدوّ.
شكرهم «لوكمبا» وارتجل خطابا.
«رفاقي الأعزاء
أنتم من تساندون بكل قواكم وبكل قدراتكم الحزب الواحد الديمقراطي والثائر الذي يرأسه بحنكة لا مثيل لها رئيسنا المحبوب «كالوندا»…»
قاطعه التصفيق والتهليل والرقص لأنه لفظ اسم رئيس الجمهورية. فالتصفيق من تخصص المناضلين في القاعدة.
«أني أحيّيكم من موقعي كمناضل واثق وثابت. أحيّيكم أنا الذي يقدّر إنجازات الحزب العملاقة بإدارة قائدها المنوّر الذي لا نقاش حول قدراته، الرئيس «كالوندا».
موجة تصفيق جديدة.
«أني أقدّر إنجازات كثيرة قام بها رئيس الجمهورية لا يفيدنا تعدادها هنا.
في فجر استقلالنا صوّتم بنسبة 96،97% للرئيس «كالوندا» الذي كان قد خرج للتّو من سجون المستعمر السابق، سجون قادته إليها وأبقته فيها جرأته السياسية وحبّه الذي لا يتزعزع لأفريقيا. وبعد خمس سنوات أعطيتموه أصواتكم في الاستفتاء! جدّدتم دائما ثقتكم به لأن إنجازاته العملاقة وإنسانيته العميقة قوّت ثقتكم به. كم من جمهورية أفريقية تتمنّى أن يترأسها! في جميع المؤتمرات الأفريقية والدولية، يثير إعجاب نظرائه بفضل حكمته ومعرفته العميقة لمشاكل القارّة والحلول التي يقترحها. السيد الرئيس «كالوندا» ركيزة أساسية لأفريقيا.»
قاطعته موجة من التصفيق والتهليل والقرع على الطبول.
«رفاقي، لقد كان الدرب طويلا، ولكنه كان نبيلا. وبدل من أن نهلّل علينا أن نتماهى مع رئيس الجمهورية وأن نذوب فيه. وأقول للمترددين أن ينضمّوا إلينا فهناك متّسع من الأماكن للجميع. نحن العاصفة، لا يخيفنا النسيم!»
تفاقم التهليل.
«أعلم أن بعض الإيديولوجيات المغرضة تود اقتحام حدودنا وخلع أبوابنا وقتل أصالتنا. الرئيس «كالوندا» يطبّق النظام الاشتراكي على الطريقة الأفريقية الأصيلة. يرفض أن يقلّد غيره، أن يقف وراء آخرين وهو المنظّر اللامع للأصالة.
– الأصالة! الأصالة! صاح الحشد.
– الأصالة! الأصالة! كرّر «لوكمبا» منتصرا.
«يعرضون علينا المدافع والقذائف بدلا من القمح، دبّابات حمراء وطائرات برادار بدلا من المدارس والمستشفيات! يرفض الرئيس «كالوندا» ألاعيب الشرق والغرب! يرفض أن يسكتونا وأن يصنعوا منّا خدّاما لهم ومتاريس ينطلقون منها لاستعادة قارّتنا التي يتمناها الكثيرون. إنجازه عمل رجل حكيم وعمل نبيّ.
تهليل وقرع طبول وتهليل.
« من لا يؤمن بنظام الرئيس «كالوندا»؟
– أنا! صاح أحدهم.
إنه «يوكا» السكّير الذي لا قائد أعلى له سوى نبيذ النخيل. فضربوه وداسوا عليه وخلعوا عنه ملابسه.
«النضال يعني الجرأة والتضحية بالذات من أجل القضية الكبرى.»
وضع «لوكمبا» يده في الجيب العميق لسرواله الـ«بوبو» الواسع وأخرج منه رزمة أوراق نقدية جديدة بقيمة ألف فرنك وأعطاها لـ«إويمبي»، وأعلن:
«هذه مائة ألف فرنك أهبها للجنة المناطقية!»
ساد قرع الطبول فوق أصوات التهليل والابتهاج. فأعاد الكرّة.
«هذه مائة ألف فرنك أهبها لـ«إويمبي» لشراء أوراق على مستوى لجنته! إنه يستحقّ المزيد فهو له رتبة «بارون» لا غبار عليه في الحزب وهو خادم الجزب المخلص. النضال كما قلت يعني التضحية والتأهّب. يعني الإصرار والإيمان بقضية فوق الجميع! هذا هو الدرس الذي علّمنا إياه بلا كلل رئيس الرؤساء المعصوم والمحبوب «كالوندا»
ثم أعاد الكرّة.
«هذه مائة ألف فرنك أهبها لنساء لجنتنا كي ينظّمن حفلة للرقص لأن الفلكلور إسمنت صلب ولأنه يبعث الحماس. أنهن يستحقنّ أكثر من ذلك لأنهن يتمتّعن بثبات والتزامو نضال الرجال. ولذا فهن يتمنين أن يصبح لهن أخوات في المجلس! وهذا طموح محقّ يتفهّمه الرئيس «كالوندا» وأنا أطلب منكم أيها المناضلين والمناضلات أن تتمنوا له مديد العمر».
– العمر المديد للرئيس «كالوندا»! صاح رئيس الجلسة.
– العمر المديد للرئيس «كالوندا»! صاح الحشد.
نزل «لوكمبا» عن المنصّة وتوجّه نحو جوقة الطبول بخطى جليلة ورمى على العازفين رزمة أوراق نقدية بقيمة خمسمائة فرنك فراحوا يقرعون طبولهم بعنف.
كانت «ماري جان» تبدو مشرقة ومتباهية ومبتسمة وكانت ترد على التهاني وإشارات الأصدقاء. كانت هذه اللحظة لحظتها، لحظة انطلاق الشهرة.
قال «إويمبي» الكلمات الأخيرة ورفع الجلسة. وكان فخورا بدوره لأنه أطلق أحد الرجال ورفعه عاليا وجعل منه موضوعا للنقاش عند المساء في الباحات وتحت أشجار الحكمة الأفريقية.
تبدد الحشد على وقع الطبول الأخيرة وفي ترداد المدائح المجّانية للشعراء الذين صنع أجدادهم سحر بلاط القصور القديمة، وملح السهرات التي كان يترأسها رؤساء الكانتونات، وطعم وروعة الاحتفالات الكبيرة لدى النبلاء والكرماء في العصور الماضية.
عاد «لوكمبا» وزوجته إلى داريهما معتقدين أن الخطاب الهزيل الذي ألقاه المحاسب المحلّف إنجاز سياسي. كانا سعيدين وأصبح الأمل الكبير بين أيديهما.
– لم يعد هناك من حواجز تقف في طريقك! ستصبح المدير العام للمكتب الوطني المستقبلي للزيوت! قالت «ماري جان».
– أعتقد ذلك يا عزيزتي. وكيف كان خطابي المرتجَل؟
– رائع! من ناحية الشكل والمضمون والنبرة. كم كنت تلقائيا! وكم كنت عميقا! لقد شرّفتني وشرّفت أصدقاءك وأهلك! خطوت خطوة عملاقة! كانت إطلالتك على الحلبة السياسية إطلالة مقنعة!
– والذي فاجأني بشكل خاص هو اندفاع الحشد الجنوني الذي حصلت عليه بسهولة. لقد تبنوني! وهذا هو ما يهمّ!
– الحشد! لقد سحرته! لقد أسرته بشكل عجائبي.
توقّفت سيّارات عند المدخل ونزل منها رجال. إنحنوا وقبّلوا رجل السياسة الجديد وهنّأوا زوجته السعيدة والمنتصرة ثم غادروا.
حلّ المساء على المدينة، أحد أجمل مساءات أفريقيا الغربية. سكتت أصوات الطبول الأخيرة وعاد العازفون إلى الأرياف العطشة على متن عربات متمايلة ومصرصرة، وكانت الجياد والجمال المزيّنة بأشرطتها الملوّنة تدوس التربة الحمراء للطرقات المشقّقة. وعاد الراعي عازف الناي يتسلّق التلّة كي يصل إلى كوخه الأسود من الدخان وإلى قطيعه في وسط سهل واسع. وابتهج السهل تحت الظلال بانتظار القمر الذي سيرتفع قريبا من الشرق حيث بالكاد تظهر التلال…
كان «لوكمبا» السعيد مستلقيا على حصيرة من «غينيا» منجّدة بقماش قطنيّ من «مالي»، هذا القماش المقصّب بالأقلام البيضاء والسوداء، وهو المفضّل لدى السيدات الأنيقات اللاتي يجدن التسكّع قرب شاطئ «فاليمي» خلال السهرات الدافئة.
جلست بقربه «ماري جان» ودغدغت صدره المُشعر. كان أولادهما يلعبان في منزل الجيران.
كان «لوكمبا» يبتسم ويهنأ بلمسات يد زوجته المعطّرة. من شدّة سعادتها ارتجلت له قصيدة: «أنت نبيل يا «لوكمبا»! نبيل بالدم ونبيل بالمقام، يا عزيزي «لوكمبا» المنحدر من عائلة «لوكمبا» العظيمة. عندما تزوجت منك لم أضع يدي في كومة شوك! فوالدك كان خلال سباق القوارب في الماضي أفضل البحّارين! وخلال مواسم الزرع والحصاد كان ينال إعجاب جميع المزارعين والحصّادين وكانت تغني له النساء ذوات الأصوات الذهبية. كان أوسع من البحر! يا «لوكمبا» لن تأكل من وعاء الكلب فأنت الذي من أول تمايل بذراعيك ومن أول ظهور لك سحرت الحلبة وأذهلت الأبطال.»
كانت «ماري جان» تنتمي لإثنية الصيادين الذين يستطيعون بكلماتهم إخراج التمساح من النهر، التمساح ذو الظهر الشائك كي يمطيه الأولاد المطّلعون على الأسرار. كلماتهم شعر وسحر في آن واحد، تسحر وتثير الجسد وتزيده جمالا وتفرض الهدوء على آلهة المياه.
يُقال أن جدّتها كانت تحدّث خراف البحر وتأمر فرسان النهر.
و تابعت «ماري-جان»:
«قل لي يا أميري، قل لي، أرجوك قل لي ماذا ستعطيني غدا عندما يهلل لك الجمهور وعندما ستصبح لك كلمة القوّة وعندما سينحني أمامك أبناء جيلك ومن هم أكبر منك سنّا كالتلامذة؟! أنا لا أطلب سلاسل ذهب طويلة كسلاسل السلطانة، ولا خواتم فضيّة ثقيلة من أهل الصحراء المتأنقين! ولا أطلب بريق نجوم «لاغوس» ولا «لامبا» جميلات «غراند إيل» المصقولة من وهج الشمس ومن نسائم الريح الموسمية. إني لا أطلب إلا وفاء قلبك ودوام حبك يا حضرة المدير العام المستقبلي!»
ابتسم «لوكمبا» ووضع يديه على كتفي زوجته. تناولا العشاء في وقت متأخر.
– ما رأيك أن نتنزّه؟ اقترحت «ماري-جان».
– هيا بنا! أجاب «لوكمبا».
– أهنّئك يا «لوكمبا»! كنت رائعا! صاح رجل في الخمسينات كان جالسا على مقعد من الإسمنت أمام باب داره.
– شكرا! أجاب «لوكمبا» و«ماري-جان».
و بعد مسافة استوقفتهما امرأة بالقرب من مطعم حيث يأكل بعض العمال الأجانب والمحليين الآتين من قرى بعيدة:
– لو كنتُ الرئيس «كالوندا» لجعلت منك وزيرا أو سفيرا! فأنت تجيد الكلام! لقد كنت مثيرا للإعجاب في الاجتماع! يا له من خطاب!
– شكرا! قال «لوكمبا» مصافحا.
تقدّما متباهيان بالإطراء.
كان الليل حارا ولكنه كان رائعا. كانت هذه من الليالي التي تجعل الحكمة تسيل من فم البطريرك والحب العميق من فم المخطوبين والقصص والأساطير من فم حماة التقاليد، في تلك الأرياف حيث البشر أكثر براءة واتحادا.
لقد نسيت «ماري-جان» هذه الأرياف وقريتها على ضفة النهر حيث تسكب النساء المحتفلات أوعية من الحليب المخثّر ومن دماء الفحل الأسود والماعز البنيّ، في بداية موسم الشتاء.
عرفتهما امرأة شابة فدخلت منزلها مسرعة وخرجت ومعها قطعة قماش مدّتها على الأرض بعد أن رقصت بحركة إباحية ضجّت على إثرها سلاسل اللؤلؤ على خاصرتها.
– هذا القماش الذي خرج من حقيبتي سيكون طريقك يا صاحب الكلمات المستقيمة والقوية! كلامك عسل! كلامك سلاح! كلامك مفتاح يحارب الظلمات ويفتح كل الأبواب! هذا القماش طريقك يا من أصبحت سيدي النبيل. إمش فوقه يا صاحب النظر الثاقب والجبين الذي يشعّ بمستقبل عظيم! هذا القماش طريقك فهو أكثر نعومة من الدرب الرملي الرطب حيث تدوس أقدام الخادمة التي تتوجّه نحو العين عند الفجر! إمش فوقه يا من أصبحت أميري!
ثم رقصت خطوة أخرى وركعت أمام «ماري-جان» التي رفعتها.
وضع «لوكمبا» ورقة نقدية بقيمة ألف فرنك ثم خطا من فوقها.
– هكذا يتصرّف كبار القوم! صاحت المرأة التي شكرته وطوت قطعة القماش وذهبت.
كان «لوكمبا» يحتاح للمديح. وخلال هذه النزهة كان يطمح إلى أن يقطف عبارات التشجيع والتهنئة. كان يريد أن يقيّم مدى الشعبية التي اكتسبها من مداخلته خلال الاجتماع. توقّفا أمام مجموعة من المسنّين الذين كانوا يتناولون ماضيهم المبهم ويتناولون الشاي أمام باب مقرّ جمعيّتهم.
صافح «لوكمبا» الجميع ووجّه لكل منهم الكلمات الطيّبة.
– أتسمح لي يا «لوكمبا» يا بنيّ؟ قال أكبرهم سنّا.
– ولم لا؟ أجاب المحاسب المحلّف.
– سأكلّمك إذا بكل صدق! هذا كل ما يتبقّى لمن في سنّي.
– أنت على حق فأنت من سن والدي.
– السياسة خيانة وكذب. لا تعطها كل شيء! أترك دائما شيئا لنفسك! الثقة العمياء مدمّرة! عليك أن تحتفظ دائما بالحرص والشك. بالنسبة للبعض كنت متكلما بارعا في الاجتماع، وكنت سخيا! لقد كنت مثلك في سنّك. في زمن البيض! لقد كنت مستشارا على مستوى البلدية، ثم على مستوى القضاء، ثم مستشارا عاما لأفريقيا الغربية الفرنسية. والذين ساندتهم هم من قضوا عليّ! خسرت أموالي وقواي. والنتيجة؟ ها أنا منسيّ، نادم على سخائي وتعلّقي بأشخاص استخدموني كمنصّة للقفز، ثم بصقوا عليّ بعد أن حقّقوا طموحهم على كتفيّ. من أعددت وقدّمت ورفعت هم اليوم من الكبار وهم يحتقرونني. السياسة نكران للجميل، هي فن تدمير الآخر من أجل الوصول، وفن إدانة الآخر من أجل البقاء! كن حذرا يا «لوكمبا»! لا تفتقر من أجل الآخرين! احذر الترفيع السريع الذي يولّد الغيرة ويؤدي إلى السقوط المحطّم! من يكلّمك رجل متمرّس، رجل في الميدان، رجل ترك عائلته تجوع في لحظات الحماس من أجل حزب نعته بالساقط وتخلّى عنه! لا تنتحر! لا تكن أبدا عبدا لطموح سياسي! فقد تصبح يا بنيّ ضحية هذا الطموح!
– هذا كلام صحيح. لا تكن أبدا عبدا أعمى وأطرش لطموح سياسي! كرّر رجل آخر يملأ غليونه بتبغ ذي عطر قويّ ويبدو أنه كان رجلا جميلا.
– هل أنت على عجلة من أمرك؟ سأل الرجل الأول.
– لا! أني أتنزّه مع زوجتي.
– حسنا! أنا أشارف الإثنين وسبعين من العمر. السجن لم يعد بحاجة إليّ وثورتكم لا تتجرّأ على منعي من الإقامة هنا.
– ثورتنا، قال «لوكمبا» مصحّحا.
– لا! ثورتكم! ماذا يستطيع نظامكم أن يفعل ضدي؟ أن يؤخّر معاش تقاعدي؟
– نظامنا! إنه يعنينا جميعا! قال «لوكمبا».
فانفجر الآخرون ضاحكين.
– نظامكم لا يستطيع أن يقرّر نقلي اعتباطيا ولا أن يطردني!
زمّ «لوكمبا» شفتيه وابتلع لعابه المرّ. هذا الكلام الذي لم يكن متوقّعا من رجل في مثل هذا السن لم يكن يناسبه. وزوجته استغربت واهتزت عظمتها الهزيلة وتزعزعت كرامتها الركيكة وراحت تعضّ شفتيها.
– ثورتكم، التي قلّما تكون ثائرة، لا تستطيع إلا أن تعزّز أقلّية وأن تثري بعض الأشخاص على حساب الأكثرية. ماذا حلّ بوعودكم برفع الأجور من أجل رفع القدرة الشرائية؟ لقد غرق! نعم! في محيط بلا قعر! وماذا حلّ بوعودكم ببناء مسكن لائق لكل عامل،و بتخفيض عدد المساعدين الفنيّين بسبب تزايد عدد المتخرجين في سوق العمل المحلي؟ ماذا حلّ بالخطابات التي بُثّتْ عبر التلفاز والراديو والتي وعدت بالديمقراطية ووافقت على إنشاء أحزاب أخرى؟
كحّ «لوكمبا» وعطست «ماري-جان».
– الحياة صعبة! وماذا عن الطلاب المسجونين؟ وعن النقابيين التقدميين المتّهمين بالشيوعية الذين أوقفوا أو أُبعدوا؟ وأنت يا بنيّ تضّحي بنفسك وتخطب بحماس من أجل سياسة كهذه!
– يبدو أنك على نزاع مع السلطة! أجاب «لوكمبا». لم كل هذه الضراوة؟
– ليس هناك من نزاع! إني أريد فقط تحذيرك. لقد عشت تجربة السقوط! أريدك أن تتجنّب الانحدارات والمتاهات المظلمة. السياسة ناكرة للجميل، وسياستكم انتم على وجه التحديد! إنها تكسر وتقطّع كل الأوصال المتينة في سبيل المصلحة الشخصية. الأنانية تدوس على كل شيء يقف في وجهها. هناك مثل الرئيس «كالوندا»!
– أنت تكثر من الكلام! نبّهه عجوز هزيل يشبه البوم بنظّاراته المغبّرة.
– لـ«كالوندا» آذان وعيون في كل مكان! قال أحدهم بعد أن وضع عصاه السوداء على فخذيه.
– أنت تنتحر! بالتأكيد! قال أصغرهم سنّا وأناقة.
إبتسم «لوكمبا».
– هناك مثل الرئيس «كالوندا» كما قلت لك! ماذا فعل بصديقه «كوليلي» الذي أسّس معه الحزب؟ بعد أن أوصله إلى مرتبة عليا في السلطة التنفيذيّة وجد حجّة لإدخاله السجن. عندما أخلي عن سبيله خرج إنسانا محطّما! وتوفي بعد ثمانية أشهر.
– أنت تبالغ! قال رجل في السبعين من العمر يحمل قرآنا في يده.
صُدِم «لوكمبا» وخاف أن يُتّهم بالتواطؤ مع هذا السياسي الساقط لأنه لم يردّ بسرعة وبقوّة على أقواله القذرة والكاذبة، فسلّم باليد على البعض وابتعد بخطوات سريعة مع «ماري-جان» التي بدا عليها التعجّب.
كان عليه أن يتجنّب أن يغضب عليه أحد فهو متمسّك بالإدارة العامة للمكتب الوطني للزيوت.
فرفع الرجل صوته غاضبا: « السلطة في أفريقيا! أنها قوّة تدوس على أي عقبة مستعملة الخلاية السرّية والعزل والنفي والاتهامات المجانية والانتخابات… السلطة في أفريقيا! أنها قالب حلوى يتقاسمونه، إنها وعاء تمتدّ إليه يد أقرباء وأصدقاء ومجاملي الذي كلّف بالسهر عليها. من يستطيع أن يرى عكس ذلك؟»
سدّ «لوكمبا» وزوجته أذنيهما ولم يتجرّءا على الالتفات. فالأمل الذي يعيشان من أجله لا يسمح بذلك. كانا يريدان الإدارة العامة للمكتب الوطني للزيوت.
كم كانت مفاجأتهما كبيرة عندما وجدا في منزلهما إمرأة في الثلاثين من عمرها جالسة على مقعد صغير منسيّ في وسط الباحة.
– إني أحيّي وأبارك للذين أصبحا حديث العاصمة واللذين يتبعا الطريق السليم بدون شك! خطوتكما الأولى خطوة مارد! تابعا! لقد سمعت منذ قليل عن إنجازكما! أرى على جبينكما مستقبلا باهرا!
ابتسم «لوكمبا» وامتلأت «ماري-جان» بتباه سهل المنال. واستمتعا بهذه الكلمات.
– تفضلي إلى الصالون! دعتها «ماري-جان».
تبعتهما المرأة الشابة التي كانت تضع وشاحا أسود على كتفها اليمنى. وجدت الكلمات اللطيفة وعبارات المديح التي أنعشت قلب الزوجين المنتصرين.
– وما سبب هذه الزيارة المشرّفة؟ سألت «ماري-جان بعد أن بدّلت ملابسها وتعطّرت لاستقبال ذوي الشأن.
– أتيت لأهنّئكما! فكيف أجرؤ على الانتظار أكثر؟ فما أن تنتهي المعركة علينا تكريم البطل بالغار وبارتجال النشيد.
– شكرا! قال «لوكومبا» ممتلئا.
– شكرا! قالت «ماري-جان» منتشية.
– وهناك أيضا شيء آخر… قالت المرأة متردّدة.
– تكلّميّ! فالبيت بيتك! قالت «ماري-جان».
– الأمر الآخر هو… أن لديّ أربعة أولاد. لم يأكلوا طوال اليوم. لقد هجرني والدهم من أجل امرأة أخرى… بعض الرجال تأسرهم الأنانية كعبيد لها! عندما يلتهب جلدهم أمام من يثير رغبتهم، ينسون أولادهم ويحتقرون الدين ويدوسون على الأخلاق! أمّا نحن المخدوعات والمذلولات فلا يبقى لنا ملاذ سوى الدموع. آن الأوان أن يحمينا القانون ضد أزواجنا الذين يحملون قلوبهم كقلادة.
ثم بكت.
– فكّرت أن ألجأ إليك يا «لوكمبا» فأنت تساعد المحتاجين.
عضّ «لوكمبا» على شفتيه، وقال في نفسه أن هذه إحدى واجبات السياسي. دخل إلى الغرفة وخرج بعد بضع دقائق. أعطى المال بالخفية لـ«ماري-جان» التي وضعته في يد الزائرة التي بكت ودعت له.
ثم انصرفت.
دخلت امرأة ثانية، وكان لسانها معسولا.
– إذا كتب على النبيل أن يموت في الغابة فسيموت في فم الأسد وليس في فم الضبع! «لوكمبا»! في المرة الأولى التي دخلت فيها إلى الحلبة جعلت الأبطال يرتجفون. كيف ستكون جولة مصارعتك الأولى؟ إني اخترتك يا «لوكمبا» للجولة الكبرى!
– شكرا! قال «لوكمبا» الذي ظنّ فعلا أن له شعبية.
إزداد أمله درجة إضافية. أغمض عينيه وتخيّل نفسه على كرسي الرئاسة في مكتب كبير ذي جدران مبرنقة وأثاث فاخر، فيه مكيّف وجهازان تلفون.
– أفضل خيار هو خيار الله! قالت الزائرة الجديدة.
– علّهم سيختارونني للإدارة العامة للمكتب الوطني للزيوت.
– لقد تمّ اختيارك! تجرّأت المرأة بالقول.
بعد مواربة طويلة والكثير من الحرص صرّحت له عن مطالبها.
ابتسم «لوكمبا» وأعطاها ما تريد فانصرفت.
– ماذا سيحلّ بنا يا «لوكمبا»، ماذا سيحلّ بنا؟ سننفق مدّخراتنا ومصروفنا اليومي!
– من يريد العسل يا «ماري جان» لا يخشى النحل!
– سوف يجرّدوننا من ثيابنا!
– الصيّاد الذي يترقّب لا يكحّ!
أسرعت «ماري جان» القلقة وأغلقت الباب وأقفلته.
ناما في وقت متأخر تحت تأثير عطر مثير آت من «غينيا».
سُمِعت صفّارة سفينة. إلى أين كانت متّجهة؟ ماذا كانت تحمل إلى بلاد البيض؟ لم يكن الأمر يهم «لوكمبا» و«ماري جان» اللذين غرقا في أعماق حلم عظيم وعبثيّ وتبعا الطرقات الملتوية والمنعطفات والمتاهات التي قادتهما إليها أوهام كبيرة ومجنونة.
استيقظ «لوكمبا» باكرا بعض الشيء. اغتسل وارتدى ثيابه باهتمام. توقّف مرّات عدّة أمام مرآة الخزانة. من بين العطور اختار «كانو». وتردد ما بين العقدة وربطة العنق.
بالنسبة للحذاء اختار حذاء ذا مقدّمة مروّسة. ثم بدّله وانتعل حذاء ذا مقدّمة مدوّرة على موضة «الفاكسون». لم كل هذا الحرص وكل هذه الحركة؟
جلس في الصالون ثم عاد إلى المرآة ثم إلى العطور وكأنه ملكة جمال العالم.
قرر أن يرتدي ملابس تقليدية فساعدته «ماري جان» مبدية إعجابها.
بقيا وقتا طويلا أمام المرآة وتصرّفت «ماري جان» بفن وصبر اللواتي يُلبسن الـ«مانوكان»…
جلس «لوكمبا» على كنبة في وسط الباحة. كانت طيور الحمام الأخيرة تغادر شجر النخيل عند الجيران. تمدّدت «ماري جان» أمامه على حصيرة وبرزت تقاسيمها الملفتة من تحت لباس نومها المعطّر.
فكلّمها عن الخطاب وعن المكتب الوطني للزيوت وعن الرخاء الذي سينتج عنه.
– سأقدّم لكِ ما تنتظره كل امرأة. ستحصلين على سيّارة.
– حرف السين!
– وعلى فيلا!
– حرف الفاء
– وعلى بستان!
– حرف الباء!
– وعلى خادم!
– حرف الخاء!
– وعلى العزّة!
– حرف العين!4 عدّت «ماري جان» هذه الحروف وقامت وقبّلت يدا «لوكمبا».
– ستذهبين إلى مدينة «لورد» أو إلى «روما» كل سنة.
– إني أشعر بالإطراء يا «لوكمبا».
– سترافقيني إلى جميع حفلات الكوكتيل والموائد والاستقبالات! سنكون معا على المنصّة المخصّصة للشخصيّات بمناسبة الحفلات التذكارية للاستقلال وللزيارات الرسمية لرؤساء الدول.
– إنك تغمرني بلطفك يا «لوكمبا».
– ستصبحين سكرتيرتي الخاصة!
– كرّر ما قلت يا «لوكمبا»! كرّر ما قلت!
– ستصبحين سكرتيرتي الخاصة!
– هل سيكون لديّ دخل؟
– لم لا؟
دقّ جرس الكنيسة الساعة السابعة. تناول «لوكمبا» وجبة فطور سريعة ثم عاد إلى المرآة وسأل «ماري جان» رأيها بمظهره.
وصل إلى المجلس النيابي بعد عشرين دقيقة.
كان المجلس النيابي رائعا وجليلا وبهيا بطوابقه الثلاثة. له واجهة من الرخام والزجاج وأمامه عشب الـ«بيلوز» حيث تتنزّه بعض طيور المالك الحزين الرمادية وبعض طيور الكُركي العزيزة على قلب رئيس هذه المؤسسة العريقة الذي طرد جنائنيّا كان قد تجرّأ أن يخيفها.
كان المجلس النيابي محاطا بسور من الحجر المصقول، يعلوه سياج مزخرف برسوم شرقية مطلية بالذهب والـ«كروم» بشكل متتال. يحرس مداخله حرّاس يحملون أسلحة رشّاشة بأيديهم.
كان «لوكمبا» مصرّا على أن يحتلّ إحدى الشرف المخصّصة للحضور المميّز، تلك التي تجعله في مواجهة مقعد رئيس اللجنة الاقتصادية.
بعد أن ركن سيارته في المرآب، أخرج بطاقة الدعوى وتوجّه بجلال نحو رجال الأمن ذوي الشنبات الغليظة.
– احتراماتي! قال «لوكمبا».
– احتراماتي! ردّ رجال الأمن.
أظهر لهم بطاقته وقال:
– طلب مني رئيس اللجنة الاقتصادية أن أحضر الجلسة البرلمانية. أنا «لوكمبا إرنست».
كان يظن أن الجميع قد سمع عنه بعد الخطاب الذي ألقاه في الاجتماع، فكرّر:
– «لوكمبا إرنست»!
– من فضلك يا سيدي، إن المدعوّين والحضور لا يدخلون قبل الساعة الثامنة! قال المعاون.
خاب أمل «لوكمبا»، كان يطمح أن يكون أوّل من يدخل الشرفات كي يلفت أنظار أول من يحضر من النواب، مما سيضاعف حظوظه لنيل مرسوم يعينه مديرا عاما للمكتب الوطني للزيوت.
– رئيس اللجنة الاقتصادية… قال محاولا من جديد.
– لا داعي للإلحاح! التعليمات هي التعليمات! أجابه المساعد الأول الذي كان يبرز ميدالياته الجديدة.
– التعليمات هي التعليمات! كرّر الرقيب.
ما العمل؟ أن يقف في مكانه أو أن يعود إلى البيت حيث «ماري جان» ستمطر عليه بالأسئلة، فهي لم تعد تتنفّس إلا من أجل الإدارة العامة للمكتب الوطني للزيوت؟
توجّه «لوكمبا» نحو الشاطئ القريب. تأمل الموج الذي يبدو في البعيد كتجاعيد بسيطة تتحول إلى هضبات ثم إلى تلال وتصبح مرتفعات عالية تتقدّم بتباه وتصبح فاتنة وهي تحني جانبها المزركش بالأبيض. ترتطم بضوضاء، مكلّلة بالزبد الذي يتناثر على الشاطئ حيث تلهو السراطين. رأى في البعيد سفينة: ربما «تانكر» آتية من الخليج حاملة البترول الذي ستكون كلفته عالية على موازنة البلاد. أو ربما مركب-مدرسيّ لإحدى الدول العظمى. تأمل بإعجاب برقص بعض الصيّادين الذين يجذّفون ببراعة وهم نصف عارين ويثيرون الدهشة بعرقهم. وتابع تماوج بعض الطيور المائيّة وأطال الإمعان بطيران النورس المتناغم، ثم بطائرة «بووينغ» مسافرة ربما نحو البرازيل البعيد الذي سمع عن روعة كرنفاله في «ريو دي جانيرو» وعن «بي دي جراس» وعن أقاربه هناك ذوي البشرة السمراء وذوات الضفائر الطويلة كالأخطبوط.
«بعد بضعة أشهر من صدور المرسوم، سأفعل المستحيل لأزور البرازيل وأسجد تحت تمثال المسيح في «كوركوجيدو» وأرقص مع الفتيات ذوات الخصر النحيل على إيقاع الـ«سمبا»و الـ«رومبا»! لذا سأقنع رئيس مجلس الإدارة الذي سأغمره بخيري كي أضعه في جيبي.
على بعد خمسين مترا منه كان هناك رجل يحمل الحجابات والسلاسل الحمراء، على رأسه قبّعة زهرية اللون مكسوّة بأصداف الـ«كوري»، وكان قد توقّف ووضع حقيبته القديمة على الحصى السوداء.
حفر الرجل في الرمل بيديه وأخرج من حقيبته شيئا أداره سبع مرّات فوق رأسه ثم استدار نحو الجهات الثلاث المتبقية، تاليا في كل مرّة إحدى التعويذات. وأخيرا ركع وانحنى نحو الحفرة ووضع فيها الشيء بحركة متأنّية. طمّ الحفرة بعناية برجله اليسرى وحمل حقيبته وذهب.
كان «لوكمبا» قد تابعه باهتمام.
– إنه مشعوذ! ربما سيجبر ما دفنه هنا للتوّ الرئيس «كالوندا» على إبقاء أحد الوزراء على مقعده المريح، أو سيجبره على إبقاء أحد السفراء المذنبين في مكانه، أو سيلوي ذراع أحد الوزراء كي يعفو عن أحد الموظّفين من الدرجة الأولىالذي من كثرة ما حكّ الصندوق الأسود المؤتمن عليه جعله رمادي اللون.
نظر «لوكمبا» إلى ساعته وعضّ على شفتيه. الساعة السابعة وخمس وعشرون دقيقة. لقد توقف الزمن! قال في نفسه.
كان على عجلة من أمره، على عجلة كي يدخل إلى الشرفة المواجهة لرئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس النيابي. كانت زوارق الصيد تعود من الأفق البحري وكانت زوجات الصيّادين يصلن كمجموعات صغيرة ويضعن السلال الكبيرة على الشاطئ كي يمزحن ويثرثرن وينمّن عن الزوجات الثانيات وعن عشيقات أزواجهن ويتطرّقن إلى مواضيع جنسية يعلقن عليها بحركات لا تتناسب مع أعمارهن.
كانت الشمس تصعد في السماء ببطء وكأنها تشعر بدلال الصباح الرائع وبهدهدة أصوات جوقات المجذّفين الصافية بينما هي متّجهة نحو أفواج السمك التي حلمت بها ليلا.
تمشّى «لوكمبا» على الشاطئ الرملي حيث تنتشر الأعشاب البحرية التي تركتها هنا حركة المدّ. لمّ بعض الأصداف وتسلّى برميها إلى الأبعد أمامه وركض وراء سراطين تختفي بسرعة في حفرها.
كانت بعض القوارب الصدئة تتمدد على قطع من جذوع شجر النخل وتستعيد ذكريات أصبحت بعيدة أو أنها كانت تداعب أحلاما مستحيلة.
تأمل «لوكمبا» بالمعامل الشهيرة التي توضّب السمك المصدّر وورش تصليح الراكب الصغيرة والمتوسطة الحجم. مشى. كان الهواء ناعما. عندما نظر من جديد إلى ساعته كانت تشير إلى الساعة الثامنة إلا ربع. انتزع بابوجه بسرعة وحمله وركض نحو المجلس النيابي. وصل لاهثا ومتعرّقا كبطل أولمبي في لحظة النصر. ارتمى على الكرسي الذي كان يرغب به وامتلأت القاعة بسرعة. كان النواب قد ملّوا من إجازتهم البرلمانية الطويلة: سبعة أشهر.
رنّ رئيس المجلس جرسا من الـ«كروم» وكان يرتدي ثيابا تقليدية ويعتمر قلّوسة ليست من جلد الفهد، بل من جلد ابن آوى كما نصحه سيد العلوم الماورائية الذي كان يتولّى شأنه من بعد الله.
– الجلسة! صرخ محضِر الجلسة.
وبصوت قويّ وبالوقار المطلوب والمناسب لكبار بارونات الحزب، شكر رئيس مجلس النواب بعد أن مدح التي كان يترأسها رجل يتمتّع بعرض كتفين استثنائي. «كالوندا» العظيم المعصوم عن الخطأ الذي تسانده السيدة الأولى للجمهورية التي لا تتعب.
– قبل أن أذكركم بجدول عمل اليوم الذي أُعلِمتم به منذ أسبوع إلتزاما بالمادة 12 من دستورنا، أعطي الكلمة للنائب «مالونجا شارل» الذي سيقرأ لكم اقتراح المجموعة البرلمانية وهو الناطق الموقّر باسمها.
اتجه النائب نحو الميكروفونات. كان أنيقا. وبفضل كلمة التحرير الجميلة والمادة التي نشرها في مجلته الشهرية «المشاركة» وبفضل الاستشهادات التي يقتبسها من خطابات الرئيس «كالوندا» والتي كان يقرأها كل صباح في نشرة الأخبار الأولى على الراديو، جعل منه رئيس الدولة ممثله الإعلامي ثم نائبا. ركّز النائب نظّارته المطلية بالذهب وجال بنظرة متعالية على زملائه وعلى الحضور. ابتسم للصحفيين وأحكم وقفته أمام كاميرات التلفزيون الرسمي.
– زملائي الأعزّاء، لي عظيم الشرف أن أقرأ لكم الاقتراح الذي تولّت المجموعة البرلمانية واجب صياغته بكل سرور.
وقف النوّاب وصفّقوا وتبعهم المدعوون والحضور المكوّن من المناضلين الدائمين.
– يوجّه نوّاب المجلس النيابي بالإجماع تهنئتهم لرئيس الجمهورية وهو الأب الشجاع ومهندس الوطن المناضل الأعلى والقبطان الكبير الذي بيده الملهَمة التي لا ترتجف يقود قاربنا بعظمة نحو وعود الغد الكبيرة.
فازداد التهليل والتصفيق.
– فبالرغم من الجفاف لم يمت أحد من الجوع في هذا البلد. جعل الرئيس «كالوندا» من نفسه سفيرا لشعبه فوافقت أوروبا ودول أميركا أن تقدّم مساعدات كبيرة وقروضا مهمة جدا. فارتاح الريف وقرر أن يجدد انتخابه له.
و ارتجل الناطق الرسمي مُثارا:
– زملائي الأعزاء، أمام حضوره الدائم وهبة ذاته للوطن الممتنّ، ماذا ننتظر لنجعل منه رئيسا مدى الحياة؟
تهليل طويل.
– النقابات تأتمنه: اتحاداتهم التحمت بالحزب وأصبحت فرعا كبيرا منه. كبار رجال الدين مغمورون بلطفه وهو يستشيرهم باستمرار ويغازلهم فهم يساندون الحزب أيضا.
تصفيق وصفير من «تيالان» بهلوان الحزب.
– الجامعة هادئة: الطلاب مهتمون بدراستهم أكثر منهم بإديولوجيات مستوردة. التلامذة هادئون. أليس هذا إنجازا؟ الأسمدة والآليات لا بل وسائل الزراعة المتطوّرة اجتاحت الريف. أليست هذه ثورة؟
صفير وصخب.
– لم يعد المزارع مستغلّا من قِبَل التجار عديمي الذمّة. أصبح منتجا بفضل العلم الحديث وأصبح شريكا ومسؤولا. أصبح يدير أموره. أليست هذه ثورة؟ مديد العمر والصحة لقائدنا المنوّر رئيسنا الحبيب!
وقف الحضور وهلل: اتجّت القاعة ورفع النائب «مالونجا شارل» ذراعيه راسما رقم سبعة!
– الكلمة للسيد «إويمبي» رئيس اللجنة الاقتصادية ونائب رئيس الوفد البرلماني للحوار بين الشمال والجنوب.
وقف «لوكمبا» وصفق وصرخ: ألم يكن يود أن يرقص؟
أشار له «إويمبي» بيده وشكره بهزّة من رأسه. فكان هذا بمثابة أمل جديد للمحاسب المحلّف. شكر «إويمبي» الناطق الرسمي باسم المجلس.
– مشروع مرسوم لتأسيس المكتب الوطني للزيوت وتحويل ما تبقّى من رأس مال المؤسسة التي حُلّت إليه. وتقديم مساعدة مالية وقدرها ستمائة مليون فرنك أفريقي وتقديم العون المعنوي.
– ستمائة مليون! تمتم «لوكمبا» الذي سال لعابه. وما تبقّى من رأس مال اللجنة المنحلّة! قال متابعا بعد أن مرّر لسانه على شفتيه كمن يريد قطرة عسل أخيرة.
أعطى رئيس المجلس الكلمة لـ«إويمبي» كي يهتم بموازنة مشروع المرسوم بدلا عن المتكلّم باسم اللجنة الاقتصادية الذي تغيّب. فكان أداؤه رائعا مما أثار تهليل النوابو ترحيب الحضور وجعل «لوكمبا» يصرخ كي ينال الإعجاب ويستحق الإدارة العامة للمكتب الوطني للزيوت.
صُوّت للمرسوم بالإجماع. فشكر وزير الاقتصاد النواب بكلمات نيّرة.
في نهاية الجلسة أراد «لوكمبا» أن يصافح كل النواب وأن يهنّئهم فردا فردا على جدّية عملهم. بحث عن «إويمبي» ووجده. هنّأه وقبّله. آه لو كان باستطاعته أن يحمله ويركض به نحو سيارته الكبيرة الأميركية. فالرئيس «إويمبي» لا يأبه لسعر المحروقات المرتفع لأنه بالنسبة له مجّانيا ومتوفّرا بالكمية التي يريدها.
عندما شكره «إويمبي» كاد يذوب من السعادة والأمل.
– الإدارة العامة للمكتب الوطني للزيوت ستكون لي! لن تكون لسواي! لدي كل الكفاءات! قال في نفسه متنهدا بقوّة.
فعل ما بوسعه ليلقي التحية على وزير الاقتصاد الذي ستتولّى إدارته الوصاية على المكتب الذي يحلم به بجنون. يا للأسف! كان بعض رجال الأمن قد واكبوا الأخير حتى سيارته الـ«أس- أكس- ستروين».
– سأكتب له! يُقال أنه يعمل فعلا على ملفّاته وأنه شديد النزاهة!
نسى «لوكمبا» أن هذا الوزير، وهو الأكبر سنّا في الحكومة، كان قد أعار حوالي العشر ملايين فرنك لأحد أبناء عمّه وأنه مساهم في أكثر من شركة. وماذا عن سيارات التاكسي «بوني» الست التي حصل عليها من أجل زوجة عمّه؟ وماذا عن محطّات الوقود «موبيل» و«شل» التي حصل عليها وأهداها لزوجته التي كانت موظّفة؟
ذهب «لوكمبا» إلى مكتب «إويمبي» ليقابله ويهنّئه من جديد. ألقى التحية بتواضع ووجّه كلامه إلى السكرتيرة الخاصة للسيد رئيس اللجنة الاقتصادية.
كانت تبحث في خزانة معدنية مليئة بالملفّات. كانت سمينة وغير جذّابة، غريبة الأطوار بملابسها، تجرّأت على وضع أحمر الشفاه على شفتيها الغليظتين ولوّنت جفنيها بالبنيّ. لم تكن تضع نظّارة بل عدسات مكبّرة وكانت تضع الكثير من الحلي الذهبية.
ما أغرب هذه السكرتيرة الخاصة!
أجابته من دون أن تستدير وكانت تشدّ على حرف الراء والأحرف الأخيرة في الكلمات.
– من فضلك سيدتي!قال «لوكمبا».
– آنستي وليس سيدتي.
– عفوا آنستي. هل من الممكن يا آنستي أن تتلطّفي بإشعار السيد أن المخلص «لوكمبا» يود مقابلته.
– السيد الرئيس لا يستقبل أحدا اليوم! قالت الآنسة بحسم. فتحت ملف المقابالات وقالت له: بعد تسعة أيام! أيناسبك ذلك؟
– أنت لطيفة جدا، ولكن… هذا موعد بعيد بعض الشيء! قال «لوكمبا».
أعطاها خمسة آلاف فرنك وأراد الذهاب ولكن السكرتيرة نادته.
– إني ممتنّة يا سيد! إتبعني!
استجاب «لوكمبا» مبتسما.
– في الواقع لقد نسيت أن السيد «ماسمبا» المدير العام لـ«نوفيل تويلري» قد تراجع عن مقابلته. كان سيحظى بالمقابلة الأولى. سأضع اسمك مكانه. تفضّل بالجلوس.
شكرها «لوكمبا» وشعر بالارتياح! لقد أنقذته العملة الأفريقية.
كان «لوكمبا» يعرف أن الكثير من السكرتيرات الخاصات والعاديات والمميّزات، بحسب الترتيب الجديد، قد أُصبن بفيروس الفساد مثل أسيادهن…
دخل «لوكمبا». إنحنى وابتسم ابتسامة عريضة. وقف «إويمبي» أمام كنبته الكبيرة الجلدية ذات الصناعة الفاخرة، وخلف مكتبه الذي يبلغ طوله مترين والمصنوع من الخشب الأحمر الثمين ذي الزركشة المدهشة، مكتب يليق بملك قصر «بوربون».
كانت الدولة قد أنفقت الكثير لشراء هذه الحاجيات المستوردة التي لا داعي لها. الخشب الصلب والـ«كروم» والذهب تدلّ على ذوق الكبار. كان في الغرفة صالون حقيقي مؤلّف من أربع كنبات من المخمل النادر المزيّن برسوم ذهبية ومن بينها التنّينو فرس البحر، وكنبة كبيرة من طراز «لويس الرابع عشر» و قد عُلّقت فوقها ساعة حائط من الفضّة. على طاولة صدفية منفضات سجائر من الـ«بورسلين». وكانت السجّادة تحفة فنيّة من اليابان.
هنّأ «لوكمبا» النائب ومدحه ووضع نفسه بين يديه. أعطاه عشرين ألف فرنك ليشتري أوراقا جديدة. إستخدم كلمات إطراء وأذلّ نفسه أمام إبن العم القادر لرئيس الجمهورية صاحب السلطة العالية.
شكره «إويمبي» وجدّد وعده بمساندته للحصول على الإدارة العامة للمكتب الوطني للزيوت.
تنهّد المحاسب المحلّف بقوّة وتأثّر.
– وماذا بعد؟ قل لي ما هو طلبك الثاني؟
تردّد «لوكمبا».
– لا تشعر بالحرج! فنحن بارونات الحزب في خدمة من يخدمون الحزب!
– إني أحلم بمقابلة رئيس الجمهورية.
– هذا ليس بصعب! ستكتب له مع توصيتي وسيقابلك ابن عمّي الموقّر.
طلب «إويمبي» سكرتيرته الخاصة.
– عزيزي «لوكمبا» سيعطيك رسالة طلب مقابلة، إطبعيها له ليوقّعها! ثم تحضريها لي.
[ مترجمة من لبنان.
[[ فصل من رواية.