فلوران توسان3
ترجمة: إدريسية بلفقيه -مترجمة مغربية
«الكلمات منزل، غداء، تربية، عمل لم يكن لديها نفس المعنى بالنسبة له وبالنسبة لي. بدأت لا أرى تحت هذه الكلمات سوى أشياء ثقيلة وسواسية، لم أتخلص منها سوى لبضعة أيام، في السنة. «امنح زوجتك خمسة عشر يوما بدون غسل للأطباق ولا وجبات للتحضير، النادي يرحب بك.» والحرية، ماذا يعني ذلك. آه تضحك النفوس الطيبة، لا يجب أن يتزوج المرء عندما لا يرغب في تحمل العواقب، الرجال أيضا يتركون بعضا من ريشهم فيما يجري، وانظري حولك، إلى أولئك الذين لديهم الحد الأدنى للأجور فقط، إلى الذين لم تتح لهم الفرصة لاستكمال دراستهم، إلى الذين يصنعون البراغي طوال اليوم لا، من السهل جدا إثارة ثانية كل بؤس العالم لمنع امرأة من التحدث، وبسبب مثل هذا المنطق ألتزم الصمت.»
آني إرنو«المرأة المجمدة»ص.66
يُقْرَأُ عمل الكاتبة آني إرنو (Annie Ernaux) التي فازت بجائزة نوبل مِثل مربكة (puzzle). إن نصوصها المختلفة التي تشمل أجزاء كبيرة إلى حدّ ما من حياتها، والتي تكون دائما في قلب كتاباتها، تُشَكِّل قِطَعا مختلفة ترسم مَنْظرًا في كل مرة يتم تكبيره. في «المرأة المجمدة»، وهو ثالث أعمالها المنشور عام 1981، تتبع المؤلفة خيط الصَّبِية والفتاة الشابة التي كانتها لتفهم كيف أصبحت «امرأة مجمّدة» (femme gelée)، محاصرة بين دورها كزوجة، ودورها كأم، ووظيفتها كمُدَرِّسَة للأدب الفرنسي، كيف أصبحت تدريجيا جزءًا من الاختلاف بين الجنسين الذي لم تكن تدركه في طفولتها. أقل من مسار مُنْشَقّة طبقية، التي تحرِّرُ نفسها من وسطها الاجتماعي بفضل دراستها، يَرْوي عملها قصة امرأة تفقد كل الحرية التي حاول والداها تقديمها لها بِشَغْلها، كما لو كانت على الرغم منها، المكان الذي خصصه لها النموذج {المجتمعي} البورجوازي.
«المرأة المجمدة» تشبه أَوَّلا محكي الأصول (récit des origines). ترسم الكاتبة آني إرنو بورتريهات سريعة لنساء عائلتها، العاملات في أغلبهن4، قبل أن تتوقف عند كل من أبيها وأمها5. يتم إظهار الكثير من الحب والإعجاب تجاههما، للأب الذي يطهو، ويدير المقهى، ويَعمل في فناء الدار يدويا، ويأخذها إلى المدرسة بالدراجة الهوائية، كما للأم التي تدير البقالة المجاوزة للمقهى، تقرأ الروايات، وتُفهم ابنتها بعض المسائل، وتبين لها أن النِّساء هن أفضل بكثير من الرجال، وأنه يجب الاستمتاع بالحياة. الهدف الذي سعت إليه المؤلفة لايزال بعيدًا في الصفحات الأولى من روايتها، لكنها تصر في نوع من التكتم على حَقيقة أن والدتها هي التي تأخذها إلى الخارج، إلى بائع الكتب أو إلى نساء القرية -إلى منزل العرّافة حتى-، بينما يبقى الأب في الداخل. أو حتى على أن والدها هو من يقشر البطاطس، وأن أمها هي التي تمنحه شهية لا تشبع للحياة وأنها هي من عَرَّفته على القراءة. دون أن تقول ذلك بعد، تصور لنا الروائية إرنو منزلا محميا من المعايير الخارجية، غير مشكوك في خصوصياتها في مرحلة الطفولة.
مع ولوجها المدرسة، تكتشف آني النظرة المزّاحة لزميلاتها في الفصل أمام وِزْرَة والدها، وفي نفس الوقت الصورة الساذجة والتقليدية لربة المنزل التي يُشَكِّلها التعليم الديني6، والتي لا تتوافق معها والدتها. القدرة المطلقة التي وعدت بها هذه الأخيرة شريطة عمل جاد يتم تقويضها من خلال نظرة الأولاد، من خلال الرغبة في إرضائهم، أو إغوائهم، أو تكون محبوبة من طرفهم أو مرغوبة ببساطة. بريجت وهيلدا، وأخريات، يَمْرُرْنَ هذه السنوات من التعَلّم، بِتَعَلّم مزدوج: من ناحية، الخجل من الوالدين اللذين ينحرفان عن النماذج المجتمعية المهيمنة، ومن ناحية أخرى، العلاقات مع الجنس الآخر (l’autre sex) التي تَحُدُّ وتُقَيِّدُ. الفتاة الشابة التي تعتقد أنها تحرر نفسها من خلفية الطبقة العاملة التي تتحدّر منها أسرتها الصغيرة، تواجه قرارات أكبر مرتبطة بالنوع (genre). لكنها تُقْنِع نفسها بأن المستقبل سيكون مختلفا بالنسبة لها، بفضل دراستها وبفضل النماذج المضادة التي تراكمها وتُشَكِّلُها كَمُجَلِّيات.
في الربع الأخير من الرواية، تروي الكاتبة لقاءها مع زوجها المستقبلي، والحرية والمغامرة في الأيام الأولى، والزواج الذي حدث كفكرة عشوائية إلى حد ّما، وولادة الطفل الأول والانغلاق التام الذي يولده.
منظور المباراة لتصبح مُدَرِّسَة يبتعد، تقضي المرأة أيامها بمفردها في انتظار أن يكبر الطفل في المتنزه، التسوق في السوبر ماركت، وطهي وجبتين في اليوم. الزوج الذي يدعي نظريا أن زوجته مساوية له يزيد الفرق، وتتضح الأدوار إلى أقصى الحدود، المرأة في الداخل والرجل في الخارج، في العمل أو في الرياضة. ما بدا وكأنه قصة انعتاق (émancipation) أصبح مريرا. الأب والأم خاصتها هما أول من استنكر الفشل الذريع، عندما علما أن ابنتهما حامل، اعتبرا ذلك حادثا سَيئًا وعارًا، ربما تَوَقّعا القيود التي ستشكلها الأمومة (maternité) لابنتهما.
«المرأة المجمدة» كما تتضح من العنوان هي نتيجة بناء بطيء. تظهر فقط في الصفحات الأخيرة من الرواية، غير مُبَنْيَنة (structuré) إذا لم يكن ذلك من خلال فقرات وبضعة نهايات أسطر. التحقيق الذي أجرته آني إرنو لم يكشف عنها على الفور، بل طرح أَوَّلا التحرر عن طريق القراءة ومتابعة الدراسة، صيرورة امرأة تنتظر دورتها الشهرية بفارغ الصبر وتحلم بالحب والسفر. وتسعى الكاتبة باستمرار إلى تمييز في كل مرحلة من المراحل التي اتبعتها جُزْء الحرية في مصادر التكييف (conditionnement). هذه الأخيرة لا تأتي من الوسط العائلي بل من مكان آخر. وعلى العكس من ذلك، وَعْد الوالدين بالحرية الكاملة لابنتهما الوحيدة، وإعفاؤها من جميع الأعمال المنزلية لإخراجها بالكامل من مصير العمل في المصنع الذي تمكنا هما نفسهما من الإفلات منه.
هذه الحرية التي كانت بمثابة منارة لها طوال طفولتها، ستستمتع بها بالكامل خلال متابعتها لدراساتها العليا على الرغم من أنها مقيدة بالفعل بالعلاقات مع الرجال، المستحضرة بشكل سريع. الحياة المصورة على إيقاع القراءات والرغبات، والوجبات الطبخية التي يتم تناولها على الإبهام، والتجول الحر في الخارج بينما تدفع بعض الرفيقات عربة الأطفال -وهو ما يبدو أنذاك غير ممكن تصوره بالنسبة لها-، تقوم هذه الحياة، بالفعل، بإعداد التناقض مع ما سيأتي. هذه الحرية هي بالأحرى تُغَنّى بَدَلًا من أن تُعاش. لأنها تبدو بدهية قبل أن تنشغل الفتاة الشابة الحرة بالواجبات {المنزلية} التي سيتم تحضيرها وتقديمها للزوجين كل يوم- العمل الشاق و الرتيب الذي حفظها والداها منه، على وجه التحديد. الزوجة الشابة تَكْبت، تكبت، وتتعهد باحتضان المصير الذي تعتقد أنها اختارته بالكامل مع طفل {ـها البكر}. ما ترويه بعد ذلك ليس حب الأمومة (amour maternel)، بل الاحتجاز، المشروع المهني الذي قادها مثل نجم مخترق، الشعور بالوحدة العميقة، ساعات القيلولة الهشة المهددة باستمرار بالاستيقاظ الوشيك {لتلبية حاجات الطفل الصغير}، الأعمال المنزلية المتزايدة. بمجرد النجاح في مباراة التعليم، دون الشعور بالفرح. الحياة تشتد بعد الآن إلى دراجة أنه لم يعد هناك وقت لأي شيء، ولا حتى للفضول7. طوال روايتها لقصتها، تحاول آني إرنو عدم توجيه الاتهام إلى زوجها الذي أهدت الكتاب له، لكن هذا أمر لا مفر منه، وإن كانت متحيزة: كلما تعمقت في الأمومة (maternité)، تفعل ذلك أَقَلّ فَأَقَل ويَنتهي بها الأمر بالتمسك تماما بنمط الخطاطة العائلية التي هي خاصتها، أب ذَلِقُ اللسان وأمّ تعمل على إبراز شخصية الزوج (mère faire-valoir).
تبدو رواية «المرأة المجمدة» غير مكتملة. تتوقف مع ولادة طفل ثان، حيث تحبس المرأة نفسها حتى رقبتها في القالب -المجتمعي- البورجوازي الذي يدمرها، جسدها بعد الآن مفقود8 . يمكن أن يستمر العمل، مع إضافة نمو الطفل الثاني إلى نمو الطفل الأول، الولادة الجديدة من خلال الكتابة، الطلاق. ولكن على الرغم من التحقيق الذي تم إجراؤه بقوة استخدام الجمل الاسمية، الخطابات المنقولة والتي لم يتم الإبلاغ عنها صراحة، المليئة بالأوامر أو بتعبيرات المستنسخات؛ (المقول السابق) أو المدموغة (connotées) اجتماعيا التي تندمج في تدفق السرد وتمنحها رَوْنَقا خَفِيَّا أبعد من طابعها السلس، الخطّي، على الرغم من هذه الكتابة الخام (écriture brute) التي ترفض أي غائية، أو أي تجميل لما كان أو أي كلام مهيِّج، لا تزال هناك أجزاء من الماضي -ماضي راوِية «المرأة المجَمَّدَة»- يجب استكشافها. ثم تأتي رواية «المكان» (1983) المخصصة لشخصية الأب، إلى المسافة التي نمت بينهما تدريجيا عندما أخرجت إِرْنو نفسها من وسطها الأصلي. ثم «الحدث» محكي إجهاضها عندما ما كانت طالبة، والذي لا يمكن تتبع سوى أدلة سرية عنه في «المرأة المجمدة». أو كذلك «مذكرات فتاة» (2016)، محكي أول علاقة لها مع رجل بدا أنه عليه أن يجد مكانه في تكوينها كامرأة يقودها البحث عن الحب، لكنه عمل سيصدر في وقت لاحق، في عام 2016، عندما تكون الكتابة قد اكتسبت دورها الفاحص (inquisiteur) بالكامل، عندما يصبح القلم مشرطا جيّدًا. إن مَشْهَدَة (mise en scène) الكتابة في الرواية «المرأة المجمدة» لا تزال محتشمة على الرغم من أنها محسوسة، محتدة بكثافة المحكي الذي سيتم روايته، وسَعَته بالنسبة إلى الروايات التالية، التي تقلل من مجال الاستكشاف وعرض الأدوات المتاحة. وبالتالي فإن هذا المحكي يحتوي على ما سيأتي {من كُتُبِ روائية} دون إعطاء لمحة عن صيرورة (devenir) كاتبة «المرأة المجمدة». حب الأدب حاضر جدًا في النص، لكن الكتابة (écriture) لا تكاد تذكره إلا لماما، تخنقها الأمومة، موجودة فقط من خلال الكتاب نفسه ولكن خارج الكتاب -الكتاب الذي يشهد على الانعتاق- الانفجار الذي جعله الحجر الاجتماعي والعائلي ضروريا.
الهوامش
آني إرنو (Annie Ernaux) روائية فرنسية (الولادة: السين البحرية، 1940). عملت مدرسة أدب فرنسي. حصلت على جوائز مهمة: جائزة رينودو الأدبية (1984) وجائزة نوبل للأدب عام 2022. من أبرز أعمالها: المرأة المجمدة (1981)، المكان (1983) والسنوات (2008).
(رابط المقالة المترجمة)
فلوران توسان -كاتبة النص المترجم- أستاذة فرنسية بجامعة ريمس؛ (تخصص آداب عصرية) تُدَرِّس حاليا المسرح. من كتاباتها نذكر:
– Présences de Dostoievski dans Onzieme de François Tangruy (2023)
– Entre mise en scéne de l’émotion et évocation d’une présence: Hemingway à la Havane (2022)
«فيما يخص نسائي كانت كلماتهن رنانة، أجسادهن مهملة، ثقيلة جدا أو مسطحة جدا، أصابعهن خشنة، وجوههن غير مجملة على الإطلاق أو عندئذ المجموع، الذي يُرى في رقشات على الخدين والشفتين.» المرأة المجمدة، ص3.
«أرباب عائلات بلا رد، الأشكال الكبيرة المتشدقة في المنازل، أبطال الحرب أو الزعامات العمالية، أنا لا أعرفكم، أنا كنت ابنة هذا الرجل. أوديب، أنا لا أهتم به. أنا أحبها أيضا، هي. هي، ذاك الصوت العميق الذي أسمعه وهو يولد في حَلْقِها.» ن.م.ص7.
«في جلسات التعليم المسيحي في الكنيسة الباردة جدا، عبثا أحشو نفسي في الصفوف الخلفية مع المزاحين، تعيدني المديرة تحت نظارات القسيس. وبطاقات اعتراف يوم الجمعة، مؤسسة مروعة. يكتب المرء اسمه على ورقة تجمعها المعلمة وترسلها إلى الكاهن. بعد قليل، وفي وسط حصة درس المساحة، ستدخل فتاة، ستسلم ورقة للمعلمة، سيوقف الدرس، ستقرأ اسم المتعلمة بصوت عال. أن نعرف من هي الدقيقة بما فيه الكفاية، الأقرب إلى الرب، التي تريد أن تكون بيضاء وخالية من اللطخات. المجد لمن تنهض، تغادر وتعود بعد عشرين دقيقة بورقة أخرى واسم آخر.» ن.م.ص24.
« لذا، بعد ظهر كل يوم، أُخْرِج الصغير لأكون أُمّا لا تَشوبُها شائبة. أُخْرِجُ، أُسَمّي هذا العمل إخراجا، نفس الكلمة كما في السابق. لم يعد هناك خارج بالنسبة لي، بل كان الداخل هو الذي يستمر، مع نفس الانشغالات، الطفل، الزبدة وعلب الحفاضات التي سأشتريها في طريق العودة. لا فضول، لا اكتشاف.» ن.م.ص70.
« لقد انتهت دون أن ألاحظ ذلك، سنوات التعلم. بعد ذلك تكون العادة. مجموعة من الأصوات الصغيرة في الداخل، مطحنة القهوة، أوعية الطبخ، أستاذة مُتَرَوِّيَة، زوجة إطار يرتدي شاريلْ أو روديّي في الخارج. مُجَمَّدَة.» ن.م.ص81.