تغيرات متنوعة مست المرتكزات الجمالية للقصيدة المغربية من بدايات الاستقلال إلى الآن، ولم يعد المنجز النصي المعاصر يدافع عن الوطن المستلب من طرف الاستعمار، أو يعانق القضايا المصيرية للأمة العربية الإسلامية في فترة الستينيات إبان المد القومي، وانخراط الشاعر في ما سمي وقتذاك بـ«أدب الالتزام». انصرفت الذات الشاعرة لمجهولها الجواني، وعالمها الباطني لتتصالح مع أحاسيسها وحواسها أيضا. وتبحث عن علاقة صداقة محتملة، نقية، عميقة من كائنات المجال الإدراكي، والتفاصيل الصغيرة لحياة المخلوقات التي تحيط بفضاءات الشاعر، ومساره في الحياة والكتابة.
ضمن هذا الوعي بأسئلة التحولات التي تعرض لها جسد القصيدة المغربية المعاصرة، بدأ الشاعر المغربي يحفر طرائقه الجمالية والشعرية والتخييلية معلنا عن مغايرته للسائد والهش والجامد والمتداول، منخرطا في الاحتفاء بتجربته مع الأمكنة والمدن.
وعي جعل القصيدة تمارس حفرياتها بعمق في تضاريس المتخيل الشعري، وفي تراب الوهج الإبداعي، وأصبح من مهمات الشاعر الأساسية البحث عن منجز نصي يعيد القيمة لسلطة المدينة الرمزية باعتبارها أحد المكونات الرئيسة في بناء معمار الشعرية، وتخصيب الذائقة الإبداعية.
من قصيدة تحرض على الكفاح والاستقلال، والالتزام بقضايا الأمة عريبا وإقليميا، إلى قصيدة تمتدح الذات والأمكنة، وتكشف سحر المدن. ضمن هذه الانعطافة النوعية، بدأت القصيدة عند الشاعر المغربي المعاصر تؤسس مغايرتها واختلافها، بالحفر في تربة متخيل جديد يعي انتسابه للمدينة مسكنا ومأوى وإقامة رمزية، وحضنا لشغبه الإبداعي. يقول الشاعر أحمد مفدي في قصيدة «فاس شهادة ميلاد الوطن»:
يا ساكنتي
في الحبق الحوشي وأزهار الدفلى
تنتصبين براري أزهار… يملأ أرجك كل الأنحاء..!
إن قُدَّت من دبر سوآت العرب المنهارة..!
وتدلت قاب القوسين أو أدنى
كثبان الصمت كأشلاء محاره..!
تستنبق في القلب الهائم أسراره..!
وترنح في جوف المجهول هدير الملإ..!
مأخوذا في أنواء العشق وعاود بالليل دواره..!
فتدلي من سدفة غابات الهدب
وبين السدرة في البدء وما
بين أقاصي الغربة أصقاعا..
وابني من أنقاض خرائبهم فانوس إماره…
مدي فوديك مسالك عشق
ومدارات النشوة، فانتفضي أتباعا
ورواء حياة
ها تنغرس الظلمة في أسوارك ملتاعه..
مدي قبسا من عينيك
لعل الحائر في حبك يمسك
بالخيط الهارب من نقع الحضرة منصاعا
يضرب أخماس الحظ ويمشي
ممشوقا يطرق في السدفة أسماعه
فانساحي يا «فاس» مطرا
وانتصبي للعشاق بوادي الشعر المزجي وزرا..!
من يمشي في
غسق الليل يحاذر أن تأسر عيناه مساره..!
قد تشربه الظلمة في المسرى
حتى تتشكل رؤياه إناره..!
يا ساكنتي
قُصَّت أشجار التوت وقد
جرفت ممشاك ينابيع التيه..
أصوات الغيلان تعاقر ما
بين تلال الأطلس في
دائرة الشوق برازخ إقصاء الفرحة ما
بين الشوق وما
بين الغرب تراقب أن تركض فوق رقاب الأمة إن
نام العسس…!
فانتصبي يا «فاس» لأعلاق الشعر ملاذا ينبجس…!(1)
إن فعل القراءة المتأنية لمعاشرة القصيدة، والتجسس على أعماقها، يجعلنا نؤمن بتعلق الذات الشاعرة بعشق المدينة، حيث تصبح فاس دالا بانيا من دوال بناء الخطاب الشعري، وتساهم في تكثيف شعريته المفتوحة على ألق السؤال في علاقة الجسد بالمكان، الشاعر بالمدينة، ثنائية تعلنها الكتابة وهي تتهيأ في سفرها للغة تحتوي درجة قصوى من التعلق الحميمي للشاعر المسكون بفتنة الأمكنة، فاس رحما للألفة، ومحرابا لصلوات العاشق في حضرة غوايتها وتسلطها الرمزي على الروح والقلب في آن معا.
هكذا، راهنت القصيدة المغربية المعاصرة على اشتغال متخيل المدينة في بناء مشروعها الشعري والجمالي والإبداعي، مراهنة تقيس وعي الشاعر بالبحث عن أفق لكتابة شعرية تسعى لتعميق سؤاله الوجودي القديم مع المكان، المكان بشساعته، بفداحته، برعبه بفتنته، بألفته أيضا. (وفي تناولنا لتجربة المدينة ظاهرة الحياة العصرية على الإطلاق في الشعر العربي الحديث والتي كانت محصلة من محصلات تجربة الشاعرية العربية في تفاعلها مع الغرب مباشرة وفي امتداد خطها في تحولها أو في تعاملها مع التراث وبفعل عوامل اجتماعية اقتصادية، سياسية، وحضارية، لعبت جميعا في دفع الحياة العربية إلى التأقلم (وحينا الانصهار) في معطيات الحياة الغربية وأطرها، وبفعل ما ينتج من هذه التجربة الحياتية نفسيا وفنيا، نجد أن المدينة البؤرة التي تخلق الحياة المعاصرة أو تحول في شكل حاد نمط الحياة والحساسية إلى مضامين جديدة.(2).
أصبحت القصيدة، في منجزها النصي تستجيب للنداءات القصية والخفية في علاقة الذات الشاعرة بالواقع الخارجي من مدن وأمكنة محببة ومشتهاة، والاشتهاء هنا، ليس بمعناه الإيروتيكي، بقدر ما هو حنين مضاعف وعميق.
فالمدن، باعتبارها المكون الرئيس في توجه متخيل القصيدة، وفي بناء الخطاب الشعري المغربي المعاصر تطلبت من الشاعر شحذ ذاكراته البصرية، والإنصات الدقيق لتفاصيل المدن في حركيتها وانفتاحها وغموضها وفتنتها وَلُبسها وغوايتها أيضا.
لم تعد القصيدة في الشعر المغربي المعاصر تستسلم لشروطها التاريخية والجمالية والشعرية، وتطمئن لنفس المتخيل المكتسب سابقا. بل سعت للحفر في التضاريس الوعرة للغة والمتخيل، بحثا عن ينابيع جديدة تغذي رؤية الممارسة النصية: تقول الشاعرة وفاء العمراني:
شددت إليها رئة
من روح قديم ضافر الأنحاء
وترتيلة من خشوع الخلاء
مسافات تعري المتشابك الأبدي
تطعمني بالنذر
تحكي عن عودة البدء
ترسمني خريفا هيوبا أشمس
من ألق الوعد/انخضب
على حدق السؤال
أنا المشدودة لأحوالك بيروت
بألفي فراق
أأنا أنا
أم رعشة افتتان لا يغيب
أم خطوي أوراق الذهول؟!(3)
بألق العشق والغبطة والمحبة العميقة تكتب الشاعرة وفاء العمراني عن بيروت من خلال نص شعري ينجذب للأعماق، مسكون بالسؤال والحنين والوعد والفراق، حيث الغياب عن المكان/بيروت منفى، واسترجاع المدينة باللغة مسكنا وإقامة ومأوى، لتراهن الكتابة الشعرية في استراتيجيتها الواعية إلى الالتفات لشساعة المدينة، لسحرها الذي لا يقاوم، لرائحة تفاصيلها الصغيرة التي تستنبطها ألفة القصيدة وتستلذها. وتكمن قدرة الممارسة النصية الخلاقة في استطاعة الشاعرة وخبرتها على ترويض المكان/المدينة وأنسسنته وجعله أليفا ومنصتا لحرارة الذات الشاعرة وهي تستعد لسفرها في ذاكرة الأمكنة مستكشفة أن بإمكان القصيدة أن تكون سيرة لإقامة المدينة داخل اللغة. هو الافتتان بمدينة تنفتح على شهوة اللقاء، وتنخرط في سؤال الكتابة عن المكان بوعي يتجاذبه، الشوق والغياب. لأن (لا بداية ولا نهاية للمغامرة. هذه القاعدة الأولى لكل نص يؤسس ويواجه. لا بداية ولا نهاية الكتابة نفي لكل سلطة، وبهذا المعنى لا يبدأ النص لينتهي. ولكنه ينتهي ليبدأ، ومن ثم يتجلى النص فعلا خلاقا دائم البحث عن سؤاله وانفتاحه، لا يخضع ولا يستسلم ولا يقمع. توق إلى اللانهائي واللامحدود، يعشق فوضاه وينجذب لشهوتها. كل إبداع خارج على زمن الإرهاب، مهما كانت صيغته وأدواته.)(4)
بهذا المعنى، تشتغل القصيدة على المدينة/المكان بوصفه كائنا مستفزا، ومحرضا للذات الشاعرة لتقول فرحها أو حنينها في علاقتها الممكنة مع الأمكنة، وهي العلاقة التي تؤسس رؤيتها الجمالية لتخصيب متخيلات بناء الخطاب الشعري. في الاحتفاء بقراءة بلاغة المدن تختبر اللغة مجهولها في بناء الممارسة النصية، مشدودة للفضاء حيث الروح المبدعة تمارس طقوسها القصوى في الإنصات للكائنات، وللداخل الإنساني المفتوح على العتمة والإشراق والمجهول واليقظة والذهول. هكذا تتغذى القصيدة من فتنة المدن بوهج لا تعلنه إلا الكلمات: تقول الشاعرة وفاء العمراني:
بيروت لو تطيقين حبي
لو تطاولين
لو تستعصين!
أسميك التوثن
تستبيحني حالات
داهمت غنج «الروشة»
ساورت مكنون «الصخرة»
واستنزفت لغوايتها
مفاتن «الحريصة»
أمهد الطرقات…
لعطر ثناياك أن يضمخني
بالتلف الشفيف
ولي أن أعقد من وحشتي
وعيون العشاق
مؤتمرا للبهاء..(5)
تخضع الأبنية الدلالية والجمالية للقصيدة لمرجعية الفضاء/المدنية وسلطته الرمزية التي تدفع بالنص الشعري للتجسس على حركية الأمكنة (الروشة الصخرة الحريصة)، وللشاعرة فائض في الحب لا يمكن لبيروت الرائعة الجمال أن تتحمله أو تطيقه (بيروت لو تطيقين حبي). هذا الوعي بعمق المحبة للمدينة، ولغوايتها الآسرة يضاعف من شوق الذات، ويفتحها على مجهول الاشتياق للمكان المنفلت دوما. تقول وفاء العمراني:
كلما أوغلت في الغياب
أشرعني الغياب عليك
إيه زمني القادم/هواي القديم/
لجي الآتي/نسبي المخلى…
«صنين» بلاغة تغتال الشعر
«صور» قفل التاريخ
«صيدا» تعفر الأبد
«النبطية» ضوء يضلل السكون
«الليطاني» تشرد جرح على
قميص الجنوب
وهذا القلب شراع منسي
بين خرائب الفرح
خلاني عنه عنت لا يطاق
وتوأمتني إليه المسافة(6)
بناء المدينة بشعرية اللغة، وكثافة عنف المتخيل هو ما راهنت عليه الممارسة النصية للذات الشاعرة، وهي تبحث في التضاريس العميقة للأمكنة عن سر الألفة، أو سحر المصاحبة. المصاحبة التي تصبح اختيارا لولوج أسرار المدن وعتماتها الغامضة، وعتباتها الغريبة. في المصاحبة اكتشاف وكشف للمستور والمخبوء في تجاويف المدن، والدخول لأنفاقها بتسلل يَعِدُ لاستنطاقها بالكتابة والإبداع والقصيدة.
غياب عميق، وحب قديم جعل الشاعرة تصف الأمكنة (صنين صور صيدا النبطية الليطاني) بصور شعرية ممتعة يتداخل فيها ما هو شعري وتاريخي ليؤسس متعته من داخل اللغة وبها حيث (تبتدى الصورة في الدراسات الشعرية العربية والأوربية على السواء كمشهد للفتنة والغرابة والمتعة. وليس للمصور، ولا للمشاهد، نفس المرتبة أو الغاية، ومع ذلك فإن أنماط الصور المتباعدة تحقق لمنتجيها أو معيدي إنتاجها حدا معينا من سحر المشهد.)(7)
التقدم في قراءة التجربة الشعرية المغربية المعاصرة يفضي بنا للتساؤل حول إحساس الشاعر في علاقته بصورة المدينة وكائناتها، وهل استطاعت قصيدته ترويض المدينة/المكان بطريقة تنتج بلاغة المتعة والغبطة في النفس والروح معا؟
إن الكتابة الشعرية إعادة تفكيك الأمكنة/المدن برؤية الشاعر، الشاعر رائيا وكاهنا وعرافا، وقارئ كف الفضاءات التي تلتقطها كاميراته الشعرية بمقاس الافتتان. يقول الشاعر محمد الأشعري:
خجلا من جدار يلملم أحجاره
لذت بالظل
كان الشعاع الوحيد الذي سكبته الظهيرة
في صدأ الباب
منهمرا
ويد مثل نرجسة تتلألأ في رنة الطَّرْق.
والعابرون على أهبة لمصادرة الرعشة العابرة
كنت أرهف سمعي لوقع الحفيف الحريري
في هدأة البهو
عندما سقطت خفقة من بياض الجدار
وأمطرني الظهر بالعبق الوثني لأعشاب فاس
فكيف أحول وجهي،
ولما يزل صدأ الباب منهمرا فوق معصمها
والحنين الملفع بالصمت ينقر أسماءه
في نحاس النداء
شكون!
أنا
شكون!(8)
يعتمد الشاعر في قصيدته على متعة المدينة وسلطتها الرمزية التي أصبحت عنصرا بنائيا في الممارسة النصية، فاس العصية على الامتثال لشروط طاعة الحنين، يُسْكِنُها محمد الأشعري في خيمة اللغة، باشتياق العارف لا بتكهنات العراف، لتختبر الذاكرة قدرة السفر في المناطق البعيدة للأمكنة حيث المتخيل يستحوذ على الحواس بعبق شوق قابل للمصاحبة وإعلان المحبة و(من أبرز الظواهر التي يمكن ملاحظتها في شعرنا المعاصر من الناحية المعنوية غلبة بعض الموضوعات على هذا الشعر. وليس الظاهرة في حد ذاتها، أو في غلبة بعض الموضوعات على هذا الشعر. وليس الظاهرة في حد ذاتها، أو في صورتها المجردة، ظاهرة جديدة، فكذلك كان شأن الشعر في كل عصوره. فكانت هناك دائما موضوعات مشتركة بين معظم الشعراء. أما ما يميز الظاهرة في شعرنا المعاصر فهو أن الموضوعات المشتركة فيه موضوعات عصرية وجديدة، كموضوع المدينة، وهي في بعض الأحيان موضوعات عصرية وإن لم تكن جديدة، كموضوع الموت. وفي هذه الحالة الأخيرة تكون الرؤية ومنهج التناول والتعبير هي الأشياء العصرية الجديدة…
وهكذا تتبلور مع الأيام موضوعات جديدة للشعر، تنكشف للشاعر نتيجة لانهماكه العميق في روح الحضارة كما هو ماثل في إطار العصر، ومحاولته تفهم أبعاد هذا الوجه الحضاري وقيمه ومثله، ثم نتيجة لأصالة التجربة وبكارة الرؤية الشعرية على السواء.)(9)
لنقرأ سؤال المدينة في القصيدة، متخيلا وافتتانا، توهجا وابتهاجا، تنتجه الذات الشاعرة عبر لغة تستحوذ عليها درجة قصوى من مصاحبة الحنين، الحنين كاستعادة لمكان مفتقد، هارب، منفلت، عبر الممارسة النصية التي تدرج منطق الألفة بحفريات المعرفة لأسرار الأمكنة وهو بهذا، يحقق الشاعر شرطه الوجودي والكتابي والجمالي في إسكان مدينة يعشقها داخل بناء الخطاب الشعري، أو زارها، أو أقام فيها، أو قرأها بعين متمرسة ككتاب مفتوح على المحتمل والمجهول واللانهائي.
بسفر عميق للشاعر المغربي المعاصر مع اللغة، بدأ يبحث عن أراض شعرية خصبة وخلاقة، تجدد دماء القصيدة، فوجد في جماليات تشكيل المكان/ المدينة في المنجز النصي سندا للانتصار على فتنة الأمكنة وسلطتها الرمزية، تقول الشاعرة مالكة العاصمي:
في حوافي المدينة
أترك هذا المساء تلالي مواجهة للزوابع
كيف أواجه هذا المساء أنين السهول وَنَوْحِ
الأخاديد في جسدي
أزمتي مأزومة
ورؤاي سراديب هاربة
وسؤالي منتشر في المدى القزحي
أردده وأغنيه في غيهب الذاكرة
كيف أواجه هذا المساء حنيني لأمي
وكيف أعالج هذا البكاء الأليم
البكا المُتَفطِّر
هذا البكاء المعذِّب
نَوْحُ المجرات معتصر بفمي
وأنين المسافات.(10)
يشتعل الحنين في نفس الشاعرة عند مقامها في طنجة المفتوحة على البحر والريح، حنين يستدعي تلال مراكش الحمراء لتواجه وتقاوم الرياح القوية التي تعرف بها المدينة دائما، وهي «رياح الشرقي». حنين آخر إلى الأم يوقظه المساء فتحتمي الذات بالكتابة لمحاربة الفقد والخواء حيث تصبح الكتابة الشعرية هجرة الاكتشاف، وسفر الاصطياد، ضيافة التجسس على المدن تستجمع قوتها وتشحذ ذاكرتها البصرية لتفتح العين على خرائط المتعة في كل جزء من الأمكنة.
قصيدة مالكة العاصي تَعِدُ بالمفاجآت، وهي محملة بمطر الخيال، توجه بوصلة كثافتها الشعرية والتخييلية جنوب الروح، وهي تستعد لمصاحبة المدينة في أقصى توتراتها، وفتنتها، وفداحة شساعتها أيضا. ولأن (من تتبعنا لكثير من القصائد المعاصرة التي اتصلت بموضوع المدينة يمكننا أن نتمثل لهذه العلاقة أربع صور رئيسية. في الأولى نرى وجه المدينة ذاتها، وفي الثانية نباشر طبيعة التجربة في إطار الحياة بها، وفي الثالثة نواجه الموقف الجدلي الذي خلقته هذه التجربة في نفس الشاعر، وفي الصورة الرابعة والأخيرة نلمس العامل السياسي في تحديد تلك العلاقة.)11
الكتابة عن المدينة تجربة شعرية أنطولوجية يتعانق فيها الجمالي بالإنساني، حرارة القصيدة بغبطة الذات المبدعة في تنويعات وتشكلات نصية تخدم اللغة، وتقبض على جماليات بلاغة المدينة/ المكان. وكأن الشاعرة تدخل في لعبة استنطاق رمزية للمدينة من داخل فعل الكتابة الكتابة الشعرية تحديدا التي تسعف المخيلة لمساءلة أسرارها وألغازها وتاريخها أيضا.
بهذا المعنى، يصبح قلق استعادة المدينة داخل خرائط المتن الشعري عملا ضروريا وملحا في استراتيجية الكتابة عند الشاعرة، لتراهن عبر اللغة ومن خلالها في القبض على المكان المنفلت، والهارب. تقول مالكة العاصمي:
كل التقاويم ناطقة بمآل الطبيعة حال التشنج
تتخذ الأرض معراجها نحو كل المدارات
وتبدو العراجين مستلة من فسائلها
كاستلال الدواخل من جسدي
وقدود الرجال تدافع مسحوبة بخيوط الشياطين
نحو انبعاج الأثير
ونحو السقوط الأخير
فكيف أواجه هذا المساء زوابع عاصفة في
سراديب روحي
وعصف زوابع طنجة يقتلع الأرض من جلدها
ويهد النخيل.(12)
تمارس عين الشاعرة شهوة التجسس على مناخات طنجة الطبيعية، وفي انتقال الزوابع من المكان/المدينة إلى الروح/الذات الشاعرة ما يجعل حالة الحنين تتضاعف، وشدة القلق والعذاب تكتسح الروح والريح معا. «رياح الشرقي» بطنجة التي تصفها الشاعرة بالزوابع معروفة بقوتها وقسوتها، وفي غضبها تستطيع تكسير الأشجار، وجعل الجو غائما بالغبار والأتربة.
تبقى القصيدة منذورة لعملية الاصطياد والمطاردة، اصطياد المدينة باللغة في بعدها الوجودي والجمالي، ومطاردة اللحظة الإبداعية بشعريات تمتح عنف متخيلها من مكان هارب، أو مدينة مفتقدة.
وتترجم صورة اشتغال متخيل المدينة في المنجز النصي المغربي المعاصر الحالة الأنطولوجية التي تغذيها العلاقة القوية بين الذات الشاعرة والموجودات والكائنات بتجلياتها الواقعية والرمزية. لذا (تمثل قيمة المدينة في شعرنا المعاصر ظاهرة بارزة، لا يمكن تجاهلها، فما من شاعر معاصر إلا وقد أدلى بدلوه فيها، واتخذ موقفا منها سواء بالسلب، أو الإيجاب، وسواء أكان الموقف واضحا أو غامضا. صريحا أم مبطنا: كل بحسب تجربته. ومهمتنا الآن هي تتبع هذه المواقف ومحاولة استجلاء خلفياتها ومعرفة كنه حقيقتها وأوجه تمظهرها.
ولا ضير أن يعزى سبب اهتمام شعرائنا بالمدينة إلى تأثرهم بالغرب وبخاصة الشاعرات .س.اليوت فالتأثر واقع وباعتراف الشعراء أنفسهم مادام صدق التجربة متوفرا، وغنى اللغة وخصوصياتها ثابتا، وأصالة الطرح موجودة وعمق التعبير عن الواقع العربي وتفاعلاته كائنا.)(13)
تبني الشاعر المغربي المعاصر لثقافة عدم الثقة والاطمئنان للمنجز النصي للقصيدة التقليدية في بناء معمار متخيلها، جعله يبحث عن أراض أخرى بكر، وقصيدة تصنع فرادة رؤيتها، وتغير أمكنة تلقيها وانكتابها، حيث يصبح الخروج من الذات للدخول في مجهول المدن/الأمكنة قلقا تبنيه شعرية تحتفل بانتسابها لمرجعية المكان في بناء مفهوم جديد للنص.
المدينة ستتخلى عن هويتها الإسمنتية والهندسية والطبوغرافية، لتصبح أفقا لكتابة شعرية مشرعة على احتمالات متعددة في مقاربة الأشياء والكائنات بعين تتفحص جيدا سفرها بين ثقافات شعرية متنوعة، تساهم في تخصيب رؤية الشاعر لذاته والعالم. يقول الشاعر أحمد بلحاج آيت وارهام:
1
أرى حجرا من هجير البعاد
يمد إليك يديه
وأنت تفكين مئزرك العسجدي
هل الوقت بعض فواكهك الملكية؟
هل خصرك المطر القدسي؟
أذوب كما فضة في صـراطك
يسكبني العشق
أنًَّى يؤرخ جرحي سنابل أحلامه
وأنت الجراح التي إن تناء يت عنها
جفاني الوطن؟!
2
أرى حجرا من دم الشهداء يطوف
أرى قببا في بهائك تصعد
تصعد
تصعد حتى ائتلاف السكينة،
للروح فيك حدائقها
و لخمر الحبور معاصرها
ولشمس الكرامات أحوالها،
لم يصغك الزمان
ولكنما
أنت صغت تركيته
فارتمى
في سنائك
جدول حس
وفي سالفيك
ينابيع ضوء
فكيف تلومين شهقته من قوامك؟
هل يملك البحث قلبا سوى لازورد انتشائك؟
فيضي على النفس غبطة فجر
وقودي جموحي إلى عشب أسرارك الماكره(14).
إن تأبيد المكان/المدينة في القصيدة تغذية روحية ووجودية للكائن الشعري، وإشباع نهمه وجوعه عن طريق اللغة للأمكنة المفتقدة والهاربة والمنفلتة، وأحيانا تصبح الذات الشاعرة مغتربة وهي مقيمة داخل فضاءات المدينة، هذا الاغتراب والقلق يُوَلِّد خطابا شعريا كإبدال للمدينة الحقيقية.
بغنائية صوفية، وحنين عميق تستهدي القصيدة بصوت المدينة/المكان حيث فيوضات النفس وهوى الوجبات يؤسسان انشغالهما بمراكش مكانا للإقامة، ورحما للألفة.
بهذا المعنى، يمثل اشتغال متخيل المدينة مكونا أساسيا في بناء الخطاب الشعري المغربي المعاصر لإضاءة ممكنات القصيدة من الناحية الشعرية والجمالية والتخييلية، وهي تَعْبُر مضايقها في خلق سؤال عميق يعي ما تفعله الأمكنة في التفكير الإبداعي للشاعر. (فإذا كانت الحضارة الغربية وبالأخص مدينتها قد قدمت لشاعرها أشياء وسلبته أشياء، منحته الرفاه المادي وسلبته السكن الروحي، فإن المدينة العربية، أخذت ولم تعط، أخذت الاطمئنان الروحي، ولم تعط إلا الانكسارات والهزائم المتوالية، إضافة إلى العلاقات الاجتماعية فيها أقل تعقيدا وتركيبا من نظيرتها الأوربية، كما أن سرعة الزمن فيها أقل إيقاعا، وبالتالي فإن إيقاع الحياة بطيء هو الآخر، وذلك لأن المنجزات المادية أقل تطورا وتعقيدا، وبالتالي فإن الصورة الشعرية لابد وأن تكون أيضا أقل تعقيدا.
وبسبب من ذلك الإدراك، تكون تجربة شعرنا المعاصر مع عالم المدينة، قد تمكنت من تأسيس فرادتها وخصوصيتها حين استطاعت استيعاب واقعها، وتعرية خباياه، وفضح أدرانه، وتجلية زيفه، وكشفه لنا بكل تجلياته راسمة لنا مع ذلك ومن خلاله عالما حلميا، لا يمكنه أن يتحقق إلا عن طريق تلك التعرية الراصدة لجزئياته الصغرى، والتفصيلية، ومفارقاته، بدهشة طفولية، توحي لنا بجدة الاكتشاف وفرادة الرؤية، وأصالة التشخيص، موفرة من خلال ذلك انسجاما رائعا بين الواقع والحلم والسرد والمباغتة؛ الواقع العربي بكل مظاهره، والحلم المستقبلي بكل صبواته، والسرد الشعري والمباغتة الرؤياوية بكل طموحاتها.)(15)
إن تغييب الوعي لما يفعله المكان/المدينة في متخيل الشاعر المغربي المعاصر، يجعلنا ندخل في حوارات عميقة مع القصائد، باعتبارها حمالة أوجه، وأقنعة أيضا. والكتابة الشعرية حين تؤنسن المدينة عبر إسكانها داخل اللغة، تعي مضايق الانتماء لأمكنة مغايرة أو قريبة من الروح والطفولة والذاكرة لتؤسس عالمها الإبداعي والشعري والجمالي والتخييلي انطلاقا من سلطة المدينة الرمزية.
دخلت القصيدة المغربية المعاصرة في منعطفات تخييلية متنوعة لتقول المغاير والمختلف في أسفار منجزها النصي، بدءا بمقاربتها للكائنات الصغيرة، للمخلوقات المتعددة التي تعيش جنبا لجنب مع الذات الشاعرة (المدينة، البيت، الطبيعة…) وتقيم في مجهول أقاصيها ملبية النداءات الخفية للعالم الجواني لذاكرة المبدع وهي تتغذى من الوجود كما من الكتابة في هجرة مستمرة تبشر بالآتي واللحظي والعابر والمنفلت. يقول الشاعر محمد الميموني:
تطل النجوم القديمة
من شرفة
في سماء قريبة.
وتغرب في مجمع الظل
كل الشموس ولا يكشف الماء
عن سره في القرار المكين
ولكن بوح الخزامى
وحلم الحمائم
في غسق الصمت
يرفع كركرة الماء
من مهدها في الزمان العتيق
فدنو السماء
إلى همس أجنحة الروح
لكنها تتعالى
فما هي،
إن لمستها الأيادي، سماء
وبالتوق
يبدأ ما يتوالى…
وذلك روح القصيدة.(16)
مدينة شفشاون بشمال المغرب معروفة بطبيعتها الساحرة، ومجاري أنهارها العذبة، وسواقيها الغنية بالماء طيلة مدار السنة، ومروجها الخضراء وغاباتها التي تشم منها رائحة العرعار والخزامى والورد والياسمين، افتتن الشاعر محمد الميموني بفتنتها، فأسكنها في جغرافية القصيدة ورحم اللغة.
يستدرج الشاعر المدينة بدربته لحضرة القصيدة لأنسنتها، وجعلها أليفة، وقادرة على التعايش باستمرار مع قلق الذات الشاعرة، وهي تفتح خيمة ضيافتها لألق الأمكنة. إذ يصبح اشتغال متخيل المدينة في القصيدة المغربية المعاصرة مكونا بانيا في الخطاب الشعري.
قصيدة تختبر قدرة اللغة على امتصاص شساعة مدينة تسكن متخيل الشاعر بوهج الحنين. وفي عبور المدينة من بناء الهندسة، لبناء اللغة تستعيد الذات توهجها الأنقى في المضايق والمنعرجات، كأنها تجد شجرة نسبها الرمزي والشعري في امرئ شيخ الشعرية العربية ورحم متخيلها البدئي والبدائي.
يقول الشاعر أحمد المجاطي في قصيدة «كتابة على شاطئ طنجة»:
هل شربت الشاي
في أسواقها السفلى
غمست العام
في اللحظة
واللحظة
في السبعين عام
أم شققت النهر في أحشائها
قلت:
هي اليرموك
والزلاقة الحسناء
من أسمائها
قلت:
هي الحرف
على شاهدة القبر
يغني
وعلى سارية القصر
يموت
وعرفت الله في محبرة الرعب
وقاموس السكوت.(17)
في علاقة الشاعر بالمدينة/المكان تختبر اللغة مجهولها، وهي تتصيد الفضاءات بمغامرة جديرة بتأمل مضايقها ومآزقها. فالأمكنة لا تعترف بزوارها، ولا بالرجال الذين يمرون سريعا فوق ترابها ورمالها، ولا بالسياح الذين يلتقطون صورا من هنا أو هناك لمشهد، أو منظر، بل تعترف بعشاقها، بمريديها الذين يجعلونها (أي الأمكنة) جزءا من جسدهم وقدرهم وسعادتهم وشقائهم وحواسهم، والشاغل النبيل لكتابتهم. هكذا تصبح المدينة ضمن استراتيجية القصيدة في إنتاج المعنى، وتخصيب المتخيل.
إنه اختبار الكتابة الشعرية لقدرة الذات الشاعرة على مقاومة دهشة المدينة الفاتنة (طنجة)، وسلطتها الرمزية، وهي الإبدالات التي أقدمت عليها القصيدة المغربية في سياق بلورتها لوعي جديد ومتخيل مغاير يتخذ من مرجعية المدينة/ المكان، من الركائز الأساسية لبناء خطابه الشعري، من هنا يتحرر المكان من هندسته وجغرافيته وخريطته، وبرودته القاتلة، ليدخله الشاعر في دفء القصيدة، وخيمة اللغة، وكأنه يلاحق المدينة في الوجود والكتابة. كما أن هجرة النصوص وثقافة الضيافة أغنت الشعرية المغربية، وفتحت أفق التجسس على الترجمات الخصبة التي وصلت لساحتنا الثقافية متناولة المدينة في منجزها النصي.
يقول الشاعر أحمد المجاطي في قصيدة «سبتة»:
أنا النهر
أمتهن الوصل بين الحنين
وبين الربابه
وبين لهاث الغصون وسمع السحابه
أنا النهر أسرج همس الثواني
وأركب نسغ الأغاني
وأترك للريح والضيف صيفي
ومجدول سيفي
وآتي على صهوة الغيم
آتي على صهوة الضيم
وآتيك
أمنح عينيك لون سهادي
وحزن صهيل جوادي
وأمنح عينيك صولة طارق
وأسقط خلف رماد الزمان
وخلف رماد الزوارق
أقول عرفتك:
أنت قرارة كأسي
وقبضة فأسي
وعتب وكفارة
وصلاة
وزنزانة يشمخ الصمت في قبضتيها
وتعنو الدواة
أقول عرفتك،
أنت…
ويخذلني العشق
تصرعني قهقهات السكارى
فهل أنت واحدة من نسائي
العذارى
أم أنك عينان
غرناطة فيهما طفلة
آه قاتلتي أنت
حين أجوس شوارعك الخلف
حانا ومبغى
وحين أراك عطورا مهربة
وخمورا
وتبغا
وحين أراك على مدخل الثغر
عاشقة غجريه
مُضرَّجة تحت أحذية الهتك
لا حول للفتكة البكر فيك
ولا حول للنخوة العربية.(18)
قصيدة تتقاطع فيها فتنة التجسس على المدينة/المكان بجماليات المعنى الشعري، وحرارة تجربة الذات وهي تعاود سفرها للحنين عبر قوة اللغة في استرداد الأمكنة الهاربة من الواقع، وهذا الوعي الحاد بما يفعله المكان في متخيل الشاعر هو ما يوجه بوصلة القصيدة لتُقيم في تورط أسئلة تمتحنها الممارسة النصية لتهاجر في فضاءات تستلذها الذات الشاعرة.
في قصيدة «سبتة» للشاعر أحمد المجاطي تتأسس علاقة روح المبدع بالمكان خلال صداقة عميقة ومتينة تنسجها القصيدة بالأرض. القصيدة باعتبارها تشكلات لغوية تولد من رحم المخيلة، والأرض باعتبارها مساحة جغرافية تمارس سلطة الحنين أو بلاغة المكان الأبدي على الشاعر، باللغة يسيطر الشاعر على المكان لترويضه وأنسنته وجعله أليفا وصديقا. إن التعلق بالأرض/المدينة هو التعلق بالرحم الأمومي، بالشساعة المشتهاة.
الهوامش
1 . أحمد مفدي، فاس ميلاد الوطن، العلم الثقافي، السنة 27، 21/9/1996، ص7.
2 . مناف منصور، الإنسان وعالم المدينة في الشعر العربي الحديث، مركزا التوثيق والبحوث، لبنان، 1987، ص.33.
3 . وفاء العمراني، نص، بيروت.. لو تستعصين!، مجلة آفاق، عدد 57 السنة 1995، ص 57.
4 . محمد بنيس، حداثة السؤال، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 2، 1988، ص18.
5 . وفاء العمراني، نص: «بيروت… لو تستعصين» ن.م.س، ص.59 60.
6 . وفاء العمراني، نص: «بيروت.. لو تستعصين» ن.م.س، ص 60 61.
7 . محمد بنيس، الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها، 2 الرومانسية العربية دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط2، 2001، ص 144.
8 . محمد الأشعري، ديوان: مائيات، نص: فاس، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، الطبعة الأولى، 1994، ص 30 31.
9 . عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، الطبعة الثانية 1972، ص. 325.
10 . مالكة العاصمي، نص: طنجة، مجلة المناهل، العدد: 48 السنة العشرون، شتنبر 1995، ص: 264.
11 . عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، ن.م.س، ص. 329.
12 . مالكة العاصمي، نص: طنجة، ن.م.س، ص. 265.
13 قادة عقاق، دلالة المدينة في الخطاب لشعري العربي المعاصر، ن. م. س. ص.33ـ 34.
14 أحمد بلحاج آيت وارهام، نص: مراكش، مجلة المناهل، العدد: 48 السنة العشرون، شتنبر1995، ص. 269/270.
15 قادة غقاق، دلالة المدينة في الخطاب الشعري العربي المعاصر، ن. م. س. ص34
16 . محمد الميموني، نص: شفشاون الأعمال الكاملة، منشورات وزارة الثقافة والاتصال، المجلد الأول، مطبعة المناهل، الرباط، أبريل 2002، ص.175.
17 . أحمد المجاطي، نص: كتابة على شاطئ طنجة، الفروسية، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، ط 1، 1987، ص.ص.ص. 67 68 69.
18 . أحمد المجاطي، نص: سبتة، م.س.ص.ص.ص.ص 73 74 75 76.