يظهر صورة قاتمة للفلسطيني
و الأديان الثلاثة تتنازع
للاستحواذ على
الهيكل العظمي »المفترض«
للسيد المسيح
خلال تنقيب أثري في قلب الحي القديم لمدينة »القدس« تكتشف الباحثة الاسرائيلية »شارون جولبان« هيكلا عظميا مخبأ في مدفن قديم, العلامات الظاهرة على عظام الكف والأقدام, تاريخ الحاجيات المتواجدة بجانبه, ومجموعة من العناصر العلمية, تشير جميعها إلى أن الرجل قد مات مصلوبا منذ ألفي عام, فترة إدارة الحاكم الروماني ؛بونسيه بيلات« لفلسطين.
صلاح سرميني
يرسل »الفاتيكان« الكاهن اليسوعي الشاب »مات جوتييريز« للتأكد من حقيقة الاكتشاف, والتكتم عليه..
وينشغل رجل الدين, وامرأة العلم في الكشف عن الغموض الأكثر أهمية للانسانية, وعلى الرغم من التهديدات, المتلاحقة, والتعرض لخطر فقدان حياتهما, يستمران في البحث فيما إذا كان الجسد يخص السيد المسيح..
هذه هي الاشكالية التي اعتمدها الفيلم الأمريكي »المدفن« باسمه الفرنسي, و»الجسد« باسمه الانجليزي, لمخرجه »جوناس ماك كورد« وحاول إثارتها بإظهار ردود الفعل المتضاربة للسلطات التي يهمها الأمر: الفاتيكان, اسرائيل, والسلطة الفلسطينية.
يريد »الفاتيكان« التستر على القضية من أساسها, أكان الجسد يعود حقيقة للسيد المسيح أم لا, وأكثر من ذلك, استعادته لاخفائه, وتناسي الموضوع الى الأبد, لتفادي التأثير بمفاهيم الدين المسيحي, وإثارة تساؤلات عن البعث والألوهية?
بينما يرغب الاسرائيليون التفاوض مع »الفاتيكان« لمقايضة »الهيكل العظمي« باعتراف حسمي ونهائي بمدينة »القدس« عاصمة أبدية لدولتهم, يتبعه اعتراف العالم المسيحي, ومن ثم باقي الدول.
من جهتها, تعي السلطة الفلسطينية المخاطر المترتبة عن اعتراف كهذا على القضية, ومستقبل الدولة الفلسطينية نفسها.
يقول »أبويوسف« (ممثل الجانب الفلسطيني في الفيلم): سوف تفعل »إسرائيل« ما في وسعها للضغط على »الفاتيكان« , وابتزازه.
وحول هذه القضية يتمحور النزاع, معرفة حقيقة »الهيكل العظمي«, وما يترتب عليه من صراعات ومخاطر…
أشكال العنف والتعصب
كان يمكن أن يكون الفيلم مثيرا للجدل, لولا تحيزه الواضح للطرف الاسرائيلي, وتقديمه صورة نمطية عن الفلسطيني, الطيب والشرير على السواء, حجته في ذلك, إدانة كل أشكال العنف والتعصب:
– قرار »الفاتيكان« باستعادة »الهيكل العظمي«, بهدف الحفاظ على المقومات الجوهرية للدين المسيحي من الانهيار.. حتى لو تطلب الأمر اللجوء الى الكذب, النفاق, والمحاباة.
– تعصب الجماعات الدينية اليهودية المتشددة, تفسيراتها الصارمة والاحادية الجانب لتعاليم »التلمود«, واقدامها على إرتكاب العنف »الوديع« للتأثير في مجريات الأحداث.
– لجوء »أبويوسف« وجماعته الى الممارسات الأكثر راديكالية: تهديد التاجر الفلسطيني »حميد« للتعاون معه, سرقة المصباح الزيتي الفخاري لاستدراج الكاهن »مات جوتييريز«, التفجيرات وأعمال العنف المسلحة للدخول الى »الهيكل العظمي«,من »المدفن«, خطف طفلي المنقبة الأثرية »شارون« لمقايضتهما بـ»الهيكل العظمي«, خيانة »أحمد« الذراع اليمنى لـ»أبي يوسف«- لفحوى المقايضة, ومحاولة الخلاص من الطفلين- وربما المنقبة الأثرية أيضا- مقتل »حميد« برصاصة من مسدس »أحمد« اثر محاولته حماية الطفلين, العملية الانتحارية الأخيرة كمحاولة للخلاص, أدت الى موت »أبي يوسف«, ولم تف غرضها بمقتل الكاهن »مات جوتييريز«, وتفجير المحفظة المحتوية على »الهيكل العظمي«.. باختصار, كل أشكال الارهاب.
وأكثرها مباشرة, مشهد دخول الفلسطينيين الى »المدفن« للاستحواذ على »الهيكل العظمي«, بدأ بعبوة ناسفة في سيارة قريبة من الموقع, وطلقات رصاص متوالية, وانتهى بالقبض على زمام الموقف, ورجال الانقاذ يحملون جسد أحد رجال الدين اليهود, بينما يلتقط آخرون البقايا المتناثرة فوق أرضية الشارع.
نفس اللقطات التي يشاهدها الاسرائيليون- والعالم يوميا- على شاشات التليفزيون في نشرات إخبارية تلخص عمليات المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة.
وكيف لنا, نحن المتفرجين العرب استقبال لقطة يقبض فيها جندي إسرائيلي على مقاتل فلسطيني تمكن من الدخول الى »المدفن«, ولكن الكاهن الطيب ؛مات جوتييريز« يتوسل الجندي بضراعة بألا يقتل الفلسطيني.
الطيب والشرير
وبدون عناء, تتلخص صورة الفلسطيني من خلال الشخصيات الفاعلة في الأحداث بالأوجه التالية:
؛حميد (مكرم خوري) صاحب حانوت بقالة, أراد حفر غرفة أرضية خلف متجره, واكتشف مدخل »المدفن« فأخبر السلطات الاسرائيلية فورا, هو- كما ظهر في الفيلم- فلسطيني طيب, يخاف على نفسه, وأفراد عائلته, يتعاون طواعيا مع الاسرائيليين, ومجبرا تحت ضغط التهديد مع الفلسطينيين لمراقبة ما يحدث, وتزويدهم بالأخبار والمعلومات, واستخدامه أخيرا كطعم لاستدراج الكاهن »مات جوتييريز«, والباحثة الاسرائيلية »شارون« الى »أبي يوسف« بعد اختطاف طفليها لمقايضتهما بـ»الهيكل العظمي«, وفي حركة فطرية لمنع »أحمد« أحد مرافقي »أبي يوسف« من قتل الطفلين, تصيب »حميد« طلقة طائشة, فيموت.
»أبو يوسف« (محمد بكري) بسيط, هادئ, ماكر, واثق من نفسه, هو صلة الوصل بين السلطة الفلسطينية (والعربية المسلمة بشكل عام), والكاهن »مات جوتييريز« و»شارون« المنقبة الأثرية الاسرائيلية, انه يعمل بسرية مع نشطاء آخرين يقومون بالمهمات التحضيرية, ولكنه هو نفسه وراء أساليب التهديد, السرقة, العنف, ثم الانتحار عندما تحاصره القوات الاسرائيلية, في لقطة تجمعه مع الكاهن يتنازعان على الحقيبة المحتوية على »الهيكل العظمي«, وقد توضحت بسهولة رغبة المخرج بأن يموت »أبويوسف« لوحده, فهو الناشط المدرب على كل العقبات القتالية التي يمكن أن تواجهه في مهماته, بينما الكاهن, المسالم جدا, وفاقد الخبرة لأي مهام قتالية, يتمكن بحركة بهلوانية من انقاذ نفسه, الحقيبة, والباحثة »شارون«.
ولكننا في مشهد سابق, بعد تفجير السلطات الإسرائيلية لـ»المدفن«, عرفنا بأن »الهيكل العظمي« لا يخص السيد المسيح, بل »داود« أحد أتباعه.
»أحمد« الذراع اليمنى لـ(ابي يوسف« نراه في بداية الفيلم مختبئا يلتقط صورا لما يحدث في موقع »المدفن«, كما ينفذ إرشادات معلمه بدقة, وبدون أخطاء, ولكنه في أكثر الحالات حساسية وخطورة, يفقد صوابه, ويحاول التخلص من الطفلين, مما أثار حمية الفلسطيني الطيب »حميد«, الذي حاول منعه من ارتكاب جريمة حمقاء, فراح ضحية سوء الفهم والتنسيق.
بالإضافة لذلك, نشير الى مشهدين:
الأول: محاولة عناصر فلسطينية الدخول الى »المدفن«.
والثاني: هجوم القوات الاسرائيلية على موقع اللقاء بين الباحثة »شارون« و»«أبي يوسف« لمقايضة الطفلين بـ»الهيكل العظمي«.
وفي المرتين, يموت المقاتلون الفلسطينيون الواحد بعد الآخر »مثل أفلام رعاة البقر«, ما عدا واحد ينجو بنفسه, بفضل توسلات الكاهن »مات جوتييريز« للجندي الاسرائيلي بألا يقتله.
السم في العسل
يستدرج الفيلم متفرجه الى خلاصات استفزازية:
يهتم »الفاتيكان« بالاكتشاف الخطير, ويرسل رجل دين يسوعي مسالم, وباحث في علوم الأديان, بهدف معرفة حقيقة »الهيكل«, الحصول عليه بشكل سلمي.
تعمد السلطات الاسرائيلية العليا لمعرفة الحقيقة علميا, واستغلال الحدث لابتزاز »الفاتيكان« للحصول على اعتراف بالقدس عاصمة أبدية لاسرائيل, واظهار بعض العناد والتعصب لعدد قليل من رجال الدين اليهود المتشددين.
في الطرف المقابل, هناك تجاهل تام (وربما متعمد) باشراك السلطات الدينية الاسلامية (وعلى رأسها الأزهر مثلا), في الوقت الذي لم ينس المخرج عبر شريط الصوت أن يسمعنا أصوات الآذان لأكثر من مرة تتهادى في سماء »القدس«.
وتحجم هذا التمثيل بأحد نشطاء السلطة الفلسطينية التي حشرت نفسها بدون دعوة من أحد, فكانت عقبة تمنع »اسرائيل« من امتلاك سلاح ديني سوف تستخدمه ضد الدولة الفلسطينية.
وفي مقابل »شارون« التي تتصرف كباحثة أثرية حقيقية وجادة, والكاهن »مات جوتييريز« رجل الدين اليسوعي المتخصص أكاديميا بعلوم الأديان, فان »أبي يوسف« ليس أكثر من زعيم فلسطيني مجهول الهوية, لا يمتلك من وسائل غير الارهاب والعنف.
ومع ذلك, يختفي في نهاية الفيلم, أو بالأحرى, يقتل مع أعوانه الآخرين, بينما يعود الكاهن »مات جوتييريز« الى »روما« مطمئنا, وقد تخلص من أوهامه السابقة عن شفافية وصفاء السلطة الدينية المسيحية المتمثلة بـ»الفاتيكان«, هنا يتذكر بحنين »شارون« الباحثة الاسرائيلية التي تستمر تنقيبا وحفرا للعثور على حقائق, أو أكاذيب جديدة.
وبينما لا يقدم الفيلم حوارات مباشرة, صريحة, وفجة عن الارهاب الفلسطيني, إلا أن قراءة الصور وما بينها, وتأمل الشخصيات والأحداث, تشي بخبث شديد.
وفي الوقت الذي يريد الفيلم أن يكون محايدا ومناهضا لكل أشكال العنف (ربما لأسباب تجارية تفتح له أبواب صالات السينما في الوطن العربي, وتفادي التورط مع مقصات الرقابة), لا يتورع عن (دس السم في العسل), بهدف تمرير »صورة« عن الفلسطيني, يختزنها عقل المتفرج, فتصبح يوما بعد يوم, وفيلما بعد آخر, حقيقة لا جدال فيها.
البطاقة التقنية والفنية للفيلم:
انتاج: الولايات المتحدة/ 2001- اخراج: »جوناس ماك كورد«.
تمثيل: انطونيو بانديراس/ الكاهن مات جوتييريز- اوليفيا ويليامز/ الباحثة الاسرائيلية شارون جولبان- مكرم خوري/ حميد- محمد بكري/ أبويوسف.
»المدفن«, هو الفيلم الروائي الأول لمخرجه »جوناس ماك كورد«, بعد إنجازه مسلسلات تلفزيونية, وأفلاما تسجيلية, وأغاني مصورة بالفيديو, وكتابته العديد من السيناريوهات.
المدفن
صلاح سرميني
مترجم سوري مقيم في باريس