قطراتُ ماءٍ تنزُّ من ثقب الجدار الصلب، قطراتُ ماء دفعت ثمنها أجسادٌ مُفعمة بالحياة والأمل. أصواتٌ مُعارضة نبتت من أصل هذا الجدار ومادته، لتصير شوكًا في خاصرة الأكاذيب. فأمام مشهد يُعيدنا لقطعان الوحشية الهمجية البدائية في البراري الأولى، تتهاوى أسطورة المُثل وديباجاتها الرصينة، ويُماط اللثام عن وجه العالم المتحضر، فيتغذى الشك فينا من مكان غامض، إذ يغدو الإنسانُ وكأنّه على شفا هوة سحيقة. ينتابه ذلك الشعور بالتضاؤل إزاء تشويه المبادئ والقيم، فيبزغُ سؤاله الحارق حول إمكانية نجاة مُحتملة من مشيج الكارثة التي تُحدق بنا جميعا!
ثمّة ما يجعل المثقف اليوم يظهرُ بصورة العاجز على محكات الراهن المحتدة، فهو ليس طبيبًا يداوي أنين الجراح وليس خبّازًا تمتدُ يده لإطعام الجياع، وليس بناءً يُعيدُ للبيوت المُهدمة نشيدها. يكمنُ بداخله خوف مضطرب بأنّ خصوبة مخيلته لن تُخصب الأرض المحترقة! وسفر كلماته لن يفتح الحدود المُغلقة، وصخب أسئلته لن يُعيد الحقيقة المكفنة بالموت والدموع.
«يُواجه المثقفون لونًا من الإحساس بالعجز، بسبب وضعهم الهامشي»، كما قال عالِم الاجتماع الأمريكي سي. رايت ميلز، عام 1944، وهذا الإحساس بالخزي ينتابُ المثقفَ العربي في يومنا هذا، لاسيما أمام المسؤوليات المُلقاة على عاتقه، باعتباره نازعَا للأقنعة ومُحطمًا لنمطية الأفكار البالية!
إدوارد سعيد في كتابه «المثقف والسلطة»، ترجمة وتقديم محمد عناني، يُشير إلى عدم إمكانية اختزال المثقف في دور مُحدد بحيث يُصبح مهنيا أو مجهول الهوية أو مجرد فرد كُفء يُمارس عملا ما، فهو يراه يتمتعُ بموهبة خاصة تُمكنه من حمل رسالة ما، أو تمثيل وجهة نظر أو موقف أو فلسفة ويتمتع بقدرة على الإفصاح عنها لمجتمع ما. فما يُبرر وجود المثقف من وجهة نظره القدرة على تمثيل القضايا التي تذهب عادة إلى النسيان والتجاهل والإخفاء، وكأنّ حياته –أي المثقف- خليطٌ مُعقدٌ من عالمه الشخصي ومن الشأن العام الأشد تعقيدا، فلا يمكنه أن يستقيل من مآزق التوتر، كما لا يمكن لجريان السياقات العامّة ألا ترتطم بزجاج حياته وفوران أسئلته.
فمن أشق الأمور على المثقف -في وقت مُلتهبٍ كهذا- اتخاذ «موقف الناقد» الذي يُشير إليه سعيد، إذ يرى أنّ من الخطر بمكان أن يبقى المثقف حبيس خيارين: العزلة أو الانحياز، «فإذا لم يرتبط المثقف بقيمة الحقيقة فلن يستطيع تلبية متطلبات الحياة الواقعية»، إذ لا يبدو الحياد في وقت شديد القتامة كهذا ذا معنى، «فإذا كنت مُحايدا في مواقف الظلم، فقد اخترت الوقوف إلى جانب الظالم»، كما يقول ديزموند توتو.
«أجل أنا مثقف، ويغيظني أن نجعل من هذه الكلمة شتيمة»، هذا ما قالته سيمون دو بوفوار في كتابها «المثقفون»، إلا أنّ ذلك لم يكن ليمنع طرح أسئلة مُحايثة عن الخيار السياسي الذي يجدر بالأديب أو الصحافي أو المثقف أن يتخذه دون أن يتخلى عن استقلاليته، أو طرح أسئلة أخرى من قبيل: كيف يمكن للأدب والفن أن يحتفظا بمعنيَيْهما وسط أنقاض التاريخ؟
يؤمن إدوارد شيلز عالم الاجتماع، بوجود أشخاص في كل مجتمع يتمتعون بحساسية فذة للقداسة وبقدرة خاصة على تأمل طبيعة الكون الذي يعيشون فيه، والقواعد التي تحكمهم، وتوجد أقلية أخرى من الأشخاص ممن يتمتعون بمقدرة تفوق سواهم من البشر العاديين على التساؤل والبحث، ويحتاجُ أفراد هذه الأقلية إلى تجسيد بحثهم في كلام شفوي ومكتوب.
فبينما نرى المثقف المتنائي، الذي يقفُ على حافة الأشياء، مُرتعشًا من انغماسٍ ما، من نزوع يجعله في توصيفات مُحددة، نرى الآخر الذي يوقعُ نفسه في حرائق الراهن غير مُنفصل عن ذهول اللحظة ومأزقها شديد الجلاء، فنتذكرُ إدوارد سعيد الذي يُرينا نوعين من المثقفين، المثقف الذي يزعم الابتعاد والانفصال عن اتخاذ موقف ما نُشدانًا للموضوعية -ذلك الذي يستمد قيمته من اعتبارات السلطة-، والمثقف الآخر الملتزم بالاشتباك بأفكار الحياة العامّة.
يظهرُ المثقفُ على نحو مخيف وعبثي في صورة شديدة التذبذب، وهنالك من يكيل التهم للمجتمعات التي جرّدته من إمكانية الدفاع عن معتقداته وأفكاره بحرية، المجتمعات التي شغلته بشكل عنيف ومكثف بما يُقيم أوْدَه وحسب! تلك التي طحنته في صورة الموظف، وشنقته بمشانق لقمة العيش.
في كتاب «دفاعٌ عن المثقفين» لجان بول سارتر، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب. يشيرُ سارتر إلى أنّ العدو الألدّ للمثقف هو المثقف المزيف، كلبُ الحراسة الذي تُطلقه الطبقة السائدة للذود والدفاع عن الأيديولوجيا الخاصة بها. المثقف المُباع، ذاك الذي عندما يرغبُ في نقض شيء ينقضه بشكل مغشوش ومأجور، على نقيض المثقف الآخر الذي لم يوكله أحد لمهمة ما، لم يُفوض لممارسة معينة، المثقف الذي يُحرر نفسه في وقت لا يتحرر الآخرون فيه، ذاك المأخوذ بنزعته الأخلاقية المثالية، المذنب الذي يقع عليه اللوم والتقريع عند السقوط في مستنقع الخذلان!
فالنظارة الشفافة التي يضعها المثقف على أرنبة أنفه، لا تغدو كافية لسبر الخبايا، لا سيما خبايا تناقضاته شديدة السُمية، فالتعفن -كما يصفه سارتر- هو السمة العميقة التي يتوجب على كل مثقف أن يتمرد ويثور عليها بمجرد أن يكتشفها في ذاته، إذ من واجب المثقف أن يناضل ويكافح -بلا انقطاع- الأيديولوجيا التي تتولد وتنبعث دومًا وأبدًا في أشكال جديدة. فهو -أي المثقف- مشبوهٌ في نظر الطبقات العاملة، وخائنٌ في نظر الطبقات السائدة، فلا تحتويه طبقة ولا تعانقه، وكأنّه فائض عن الحاجة، ترغمه عيوبه ونواقصه على أن يحيا على هامش الطبقات المحرومة من دون أن يلتحم بإحداها!
لقد كُتبتْ هذه الجملة بعدّة صيغ: «بينما تتحرر فلسطين نتحرر نحن بطريقة أو بأخرى». إذ نحنُ منذ السابع من أكتوبر نُعيد التفكير في سلوكنا اليومي، ابتداء من الوقوف أمام معرض المشتريات لانتقاء منتج لا يدعم العدو، وليس انتهاء بأنماط تفكيرنا وأسئلتنا تحت مجهر المُتغيرات، نعيدُ اكتشاف الخِدر الذي أنهك الجسد، فسُلب استلابا كاملا من مأكله ومشربه وأدويته، وحتى التقنيات الأشد تعقيدا والتي قد تُفني أعمارنا من مسافة بعيدة، عندما يتم اختراقنا بعبوة ناسفة!
يشيرُ سعيد إلى خطر تحول المثقفين في العالم إلى جوقة تُردد صدى النظرة السياسية السائدة، دون تفنيد أو تمحيص. فعلى سبيل المثال لا يمكن اختزال العالم الإسلامي الذي يُشكل ثلث المعمورة، بكل مشتركاته العميقة، وبتنوع لغاته، لا يمكن اختزاله من قبل الآخر في كلمة «إسلام!»، لا سيما عندما تُكسى هذه المفردة بالمعاني المُخجلة «باعتبارها الخطر الذي حلّ محل الشيوعية»، والأكثر غرابة ألا يمتلك -المثقف الآخر- في الجهة الأخرى من العالم حيزًا يسيرًا من التشكيك العقلاني الأخلاقي ناهيك عن التشكيك في المنهجية!!
منذ ظهور العولمة وتطور وسائل الاتصال الحديثة بشكل مُرعب، بتنا نسمع صوت «الفرد» بكل ضجيجه وعشوائيته وفرادته أيضا، فلم تعد الصدارة مُهيأة لدوائر «النخب» وحسب، ولذا تحول «الرأي العام» إلى رهان أساسٍ، تنفقُ الحكومات في سبيل استمالته الأموال والأفكار. وهذا ما ينبغي أن تعيَه وسائل الإعلام الحديثة وأدوار المثقف الجديد، وذلك عبر طرح هذا السؤال: كيف يمكن لخطابنا الرصين الذي نزعمُ بأنّه يُفندُ وجه العالم وانعكاساته في مرايا الحقيقة أن يغدو أشدّ قربًا ومعاصرةً؟
باسكال بونيفاس في كتابه: «المثقفون المزيفون»، ترجمة روز مخلوف، يُشيرُ إلى أنّنا ننتمي إلى زمن تنظيم الأحقاد السياسية، وخيانة المثقف تظهَرُ عند التزامه الصمت وعدم الاكتراث بقضايا المجتمع والحياة الحقيقية.
وبحسب بونيفاس فقد نما -بموازاة تأثير الرأي العام- صعود عمليات التضليل الإعلامي بكثافة أيضا، بل إنّه جرى «استخدام الأخلاق لشرعنة العمليات العسكرية»، لذا يبدو مفهوم ما هو أخلاقي مفهومًا غير ثابت، مفهومًا متغيرًا على الدوام بتغير موضع المصلحة، «فالفهم الجيد للأحداث قد يشوّهه الاستخدام البلاغي للأخلاق»، ففي المعركة الأيديولوجية يتحول الكذب إلى وسيلة مشروعة!
من مكان ما يلوحُ خطر اختفاء المثقف أو احتجاب مكانته، كما يقول إدوارد سعيد، خطر النظر إليه باعتباره أحد المهنيين وحسب. إذ «يقف المثقفُ حائرا بين الانضمام لاستقرار المنتصرين أو السير في الطريق الشاق». فصراع المثقف الأول يبدأ مع تناقضاته الذاتية التي تنبتُ بداخله، ذلك التشويش العبثي، وانتفاء الغايات التي ينشدها، وهو الذي يفترضُ ضمنا أنّه أحد حراسها الشرعيين. هكذا ينكمش المثقف على نفسه كقنفذ مُكتئب، فيسهل تقويضه، ومحو أدواره.
يرى سارتر بأنّ التناقض بين الحقيقة والمعتقد وبين المعرفة والأيديولوجيا وبين الفكر الحر والسلطة ليس نتاج ممارسة قصدية بل هو رد فعل داخلي، نتاج الصلة والارتباط بين بُنًى متنافية. تناقضاتُ المثقف هي أيضا تناقضات المجتمع بأسره عندما تُسرق منه غاياته.
الكاتب الأمريكي راسل جاكوبي وصاحب كتاب «آخر المثقفين»، يتحدثُ عن المثقف المشغول بعزلته المتمتع بمصدر دخل مضمون، ذلك الذي لا ينظر إلى العالم خارج غرفة الدرس أو الصحيفة التي يكتب فيها أو التلفاز الذي يخرج عبره إلى العالم، المشغول بالترقي الوظيفي لا بالتغيير الاجتماعي. «فقدنا جيلا كاملا من المثقفين، حلّ محله تقنيو قاعات الدرس، الذين يحسبون لكل شيء حسابًا والذين تستأجرهم اللجان، الحريصين على إرضاء أصحاب العمل، المدججين بالشهادات الجامعية والسلطة الاجتماعية التي لا تشجع المناقشة بل ترسخ ذيوع الصيت». وليس بعيدا عن هذا الرأي، يذهبُ سارتر إلى خطأ ارتهان المثقف إلى البيئة والأوضاع، باعتبارهما المُحددين اللذين يتحكمان بمصيره، فالواقع يُرينا حركة دؤوبة بينهما – المثقف وبيئته- فيشيرُ سارتر إلى خطر تدخل الجمهور -بعاداته ورؤيته للعالم- في الأدب مثلا، وخطر أن يُحيطُ الجمهور بالمثقف فيُطبق عليه من كل جانب!
يبدو هذا الكلام مُخيفا بعض الشيء، لأنّه ينقضُ صورة المثقف المألوف بالنسبة لنا، والذي يُجَر جرًا لانتماء ما، لوظيفة ما، لراتب شهري، لالتزام بفواتير وسداد أقساط، وأحيانا لرؤية معينة. إذ يبدو الانفصال الكلي عن أي شكل من أشكال السلطة، ضربًا من البوهيمية المُفزعة التي تُبقي المثقف خارج ديناميكية الحياة كما نختبرها اليوم!
لم تعد صورة المثقف تقتصر على البوهيمي الذي يطلقُ شعره ولا يهتم بهندامه كما تروج الدراما في تصوراتها القاصرة، لم تعد تقتصر على مشردي المقاهي، المُحلقين خارج السرب بلغتهم وأفعالهم، بل باتت تمثل ضروبا وأشكالا لا حصر لها، ولذا لا يمكن أن تبقى صورة المثقف ثابتة في الأفهام على مر العصور.
فالخطر الذي يُهدد المثقف في العالم اليوم لا يتمثل في الجامعة ولا في الضواحي ولا في الطابع التجاري البغيض الذي اكتسبته الصحافة ودور النشر -على حد قول إدوارد سعيد- ولكن في صفة الاحتراف المهني، بمعنى أن ينظر المثقف لعمله الثقافي باعتباره شيئًا يقوم بتأديته لكسب الرزق، أن يغدو قابلا للتسويق ومن ثم يُصبح لا خلاف عليه، يصبح غير سياسي، يصبح موضوعًا!.
في الحقيقة لم يطلب سارتر أيضا أن يخرج المثقف من الجامعة على سبيل المثال، وإنّما رأى ألا تتوطد مكانته الفكرية مثلما تتوطد حين يُحيط به المجتمع ويُحاصره ويُغريه بالوعد والوعيد، جابرًا إياه أن يتخذ تلك الصورة أو تلك، وألا تتمثل حوافز المثقف أو المفكر في الربح أو الفائدة.
ليس بالضرورة أن يتمثل المثقف صورة الخامل بالمعنى المُقلق أو صورة المتمرد الجامح، فالغرض من تمكينه هو إعادة تفكيك بُنى الأفكار الجاهزة لخلخلة ثوابتها، وليس تنصيب المشانق لمراقبة من هو المُصيب ومن هو المخطئ! محاولة إحداث تغيير في المناخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي المُنطلق من فهم واعٍ لما يدور حولنا، لمواكبة التغيرات الجوهرية التي تُصيب العالم وتعصف به بصورة مطَّردة، لكيلا نبقى مجرد بيادق تعيسة خارج القصّة الكبيرة!
في كتاب «إرادة العجز» لباسكال بونيفاس نلحظُ مفارقة تُظهر قوة الزيف، واضمحلال الموقف الأخلاقي، والكيل بمكيالين:
«سنُلاحظ أنّ تعاطف مثقفينا البراقين الشديد إزاء الشعب البوسني، ليس له معادلًا سوى لا مبالاتهم الصامتة والقديمة والثابتة بالقدر نفسه إزاء شعب آخر يتعرض بدوره للظلم بالقوة، أي الشعب الفلسطيني. التعاطف مع المأساة البوسنية والذي يُقدم بوصفه دفاعا عن المبادئ العالمية، ليس على الأغلب سوى نتيجة تأنيب ضمير غير معترف به أو يصعب الاعتراف به على صمت إزاء قمع وحشي آخر»!
إنّنا نلجُ حقا إلى عصر يُهدد بانحطاط سماتنا وخصائصنا -وهذا ما ينبغي أن ننتبه له-، فقد بدأ الأمر منذ العلامة الأولى التي أشار لها إلياس خوري في كتابه الأخير «النكبة المستمرة»، عندما فشل الوطن العربي في احتواء النكبة ومحاصرتِها، فمنذ تلك العلامة، ذهب المشرق العربي إلى الحضيض، بينما امتدت يد العدو حرّة في التصرّف في المناطق المحتلّة وفينا!.
إضفاءُ الطابع العالمي الصريح على الأزمات السياسة، يُضفي المزيد من الأبعاد الإنسانية على ما عاناه جنس مُعين أو أمّة معينة، بحيث ترتبط تلك الخبرة الخاصّة بمعاناة الآخرين أيضًا. هذا ما يذهبُ إليه إدوارد سعيد في محاولة لرفع كفة القيَم العالمية على الأخرى الضيقة والمحدودة. فهو يذهب إلى أهمية أن تُربط ألوان المعاناة بعضها ببعض، وهو بذلك لا ينتقص من الخصوصية التاريخية ولكنه يُعلم الناس درسًا ما.. رغم أنّ هذه الصورة التي ينشدها بالغة الرهافة والمثالية إزاء واقع شديد الهمجية والافتراس، عنيف المحو والتقويض!
يُنكرُ إدوارد سعيد على المجتمعات أن تنظر في مثالب وخفايا المجتمعات الأخرى، تلك التي تلتمسُ العذر لنفسها لو وقع ما يفضح عوراتها في ظل غياب القيَم العالمية. ذلك الإنكار المشين الذي يرى الآخر بمرتبة أدنى عندما ترتكب بلدانهم فظائع لا إنسانية، تلك المحاولة لتقديم صورة أفضل لما ينبغي أن يكون عليه الواقع لتخفيف معاناته.
يُغادر بعض المثقفين منطقة السجال والجدل الفكري ليزجوا بأنفسهم في أوحال التشاجر أو التخاذل، وكأنّ شجرة الأخلاق المورقة الوارفة شديدة الخضرة والبهاء -التي يدعونها- ليست أكثر من غطاء شديد البراجماتية، تتخفى خلفه غابة الفظائع اللاإنسانية، التي تنمو فيها قذارات الخديعة والزيف في سبيل السلطة المطلقة، وكما يقول باسكال بونيفاس: «علينا ألا نستسلم لفيض الانفعالات، فربما تكون طريق جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة»!.
«نحن راؤون لأنّنا مرئيون» هذا ما يقوله سارتر، مُشيرا إلى أهمية أن نعقل هذا العالم. فنحن جزء من عملية تجميع جارية.. كل حركة من حركاتنا مهما بدت بسيطة ترسم الخطوط العامّة لمغامرة التغيير الجارفة.
ولذا وفي مواجهة تراخي المثقف -المشغول بالبقاء في حدود الثرثرة- مُعطلًا أدواره المنوطة به من قبيل: التماس مع التحليل والنبش والتفنيد، في سبيل اكتساب الصلابة العميقة التي نأملُ أن تحول دون إشفاقنا المميت على أنفسنا، يؤكد سعيد بأنّ: «التضامن لا يسبقُ النقد بحال من الأحوال»، فالنقد يأتي أولا، ولكن لا يتحصل هذا دون فسحة المعرفة والحرية. فليس من المصادفة المحضة الوقوف خارج الدائرة المسحورة “دائرة السلطة” من أجل انتصارات ضئيلة في ظل واقع كئيب كهذا، ففي هذا العالم المُتدفق بصورة كارثية ومتسارعة لا يعود بحوزتنا سوى التسلح بموقف نقدي مما يعتمل فيه.
وفي وقت شديد الحساسية كهذا، كل ما نستطيع تربيته فينا وفي أبنائنا هو: «الشك، والسخرية اليقِظة التي تستريبُ بما ترى».