كاتب وقاص من عُمان.
ألمّ به ألم.
قال للمرآة أن الشظايا كانت لوجه مكتمل، كمال المرآة هو كماله، حلم بامرأة يواجهها لكنه وفي حالة تساقط أحلامه اكتفى بالمرآة.
حينما يستيقظ يعبر أمامها يتأكد من أمر ما.
وقبل أن يخلد للنوم يعتقد أنه للمرة الأخيرة يرى ما يشكّل بقاءه على قيد الحياة، يخشى دائما فكرة الموت في فراش بائس وحقير، ستعبث به صراصير غرفته، تلك التي يخافها جدا، منذ أن وجدها طفلا تعبر المسافة الضيقة بين جسده وفانيلته المتعرقة.
اللوح الزجاجي المصقول وجهه الآخر، المرآة تدعوه أن يقف كالمأخوذ أمامها، ويرى في مواجهتها الكائن وهو يواجه كائنا يشبهه، وتزداد اقترابا حينما يفعل هو نفس الشيء.
اللعبة غارقة في إغرائها..
لا تريه سوى وجهه، تكذّبه حينما يدّعي بأن هذا الوجه ليس له، يفطن أحيانا إلى أن المرآة تلبسه إياه حينما يقترب منها، ربما لأنها لا تمتلك وجوها أخرى كي تعطيه واحدا في كل مرة، مرة قال انها ضنينة عليه سوى بوجه واحد، وقد تعب منه.
يخرج من الحمام يفرّش أسنانه في مواجهتها، يتأكد أن شريكه في المرآة من الجانب الآخر يفعل الأمر ذاته، قلّب في مرات ماضية أسنانه أمامها ليتأكد أي شيطان هذا الذي يفجّر الألم داخل تجاويفها، أزال الطبيب بعضها ونصحه بفكرة المعجون والفرشاة مرتين في اليوم، وجدها متعة أن يقف أمام شبيهه لينظفا أسنانهما معا، ولا يفصلهما سوى لوح زجاجي بالغ الرهافة.
لا يتذكر كيف وصلت المرآة إلى هنا، قبل عدة اشهر انتقل من غرفته في الخوير إلى غرفته هذه في وادي عدي، قال له زملاء الأمس أنه لا يطاق، وأفكاره غريبة، انسلّ عنهم ذات ليلة، وضرب الباب بقوة كعادته منذ الطفولة حينما يغضب، ووجد هذه الغرفة، وفرح جدا بالمرآة، قال صاحبها ان عليه دفع الإيجار قبل نهاية الشهر بخمسة أيام، الرواتب تأتي في الأسبوع الأخير دوما، حدثه عن الشركة التي تعطيه شهرا وتؤجل الآخر، سمع الرجل وهو يغلق الباب وراءه: هذه مشكلتك.
اكتفى بمعاقرة العمل اليومي والمرآة..
الفتيات اللاتي يرمقنه بنظرة لم يجدن في جيبه ما يكفي لبطاقة شحن لهواتفهن ومراهقتهن، المطاعم والكافتيريات المحترقة بروائح العمال الآسيويين شاغبته كثيرا وهو يعبرها عائدا إلى غرفته، في السكة الضيقة صعودا إلى مرتفع يوصله إلى مرتفع آخر، حيث السطح ضالته وضلاله، الشغالة الفلبينية التي وهبته لحظات أنس، واكتفت بخمسة ريالات، لم تغامر ثانية، وبقي يقاوم ثورة جسده مسترجعا الريالات التي نقدها، والوظيفة الواجفة بين ذراعيه.
يعود، لأنه اعتاد العودة، ويمضي كحافظ لمسار الخطوة، قال له المدير أن الشركة لن تحتفظ به لأن العملاء يأنفون من رائحته، يدخل المكان حاملا معه رائحة لها طعم الحموضة، التاكسي لا يوصله إلى باب الشركة، يمشي نحو ربع ساعة كي يصل، والشمس بالغة الحدّة، حاول شرح الأمر للمسؤول الذي سعى ليؤكد جانبا إنسانيا يكاد يتوارى خلف زجاج الواقعية العملية.
أغلق باب الغرفة بقوة، بكلتا يديه دفعه ليدفع ثورته كما اعتاد، اهتزت جدران المكان، تساقطت المرآة متشظية، لم ير وجهه، تمنى أن يرى شبيهه في السطح الأملس، يبحث في العينين المتشابهتين مع عيني السطح الألمس.
وكان عليه أن يجمع طوال المساء الفتات، جرحا جرحا، لا يدرك أي شرط قاس أوجب جمع التشظي، يقترب الليل عليه ولما يزل يحلم برؤية تخفف توتره المزلزل، كأنه بالحلم يستعيد قوته، وبالرؤية يستجمع حياته.
حطّ الصباح وئيدا، عبر الجبال الملتفة في وادي عدي وطرق باب الساكن وحيدا في غرفته، مع الصباح جاء شاب وفي يديه رزمة أوراق متشابهة، بحث في عيني الشاب عن وجهه لكن الآخر تجاهل كل شيء وتوجه إلى وحدة قياس معلقة على زاوية في الغرفة.
في حذاء الشاب البائس الذي ناوله ورقة اختبأت شظية صغيرة، صغيرة بحيث لا يشعر العابر بها، اندست في الحذاء الفقير للشاب الذي يحمل أوراقا يوزعها تحت وهج الشمس على بيوت المكان، يعيش دوره.
مرت أحذية أخرى، أخذت حصتها من الشظايا، لم ينتبه القابع في متاهته لها جيدا، وهو يجمع شظايا مرآته اختلط عليه الأمر، حاول تجميع المرآة كي يرى وجهه وقد تشظى، اختلف نهاره، ولما لم يجد ما يفعله وقد مرّ عليه الرجل مالك الغرفة، والشاب حامل الفواتير، ورجل الكوابيس الذي وزّع عليه ما في حقيبته من مخاوف، وصديق قديم يطالب بعشرين ريالا اقترضها منه قبل أكثر من عام، وآخر جاء لاقتراض مبلغ مشابه، فخشي على حذائه الجديد من شظايا المرآة، وغادر مسرعا.
ألصق شظية على بقعة من الجدار.. رآى بعضا من ملامحه، كطفل يركّب لعبة من قطع مضى في لعبة الوقت والزجاج المحطم.
الشظية الأخرى على بقعة تالية مواجهة للأولى، تكاثرت الشظايا، لها وجه ما، وجه غير مكتمل، القطع الناقصة غيّبت نواقص، رآى شظايا الوجه، حرّك وجهه بين القطع، إغراء اللعبة موح، ومسل.
ونام..
اعتقد أنه نام، يخيل إليه على أن ثمة أصوات تتساقط، ما عاد بوسعه أن يرى هشيم زجاج تفتت حوله أكثر، بين مشهدين غامت الرؤية، لم يعد بإمكانه أن يرى أي بقعة واضحة من وجهه، كأن وجهه كبر فوق احتمال الشظايا المتصاغرة عما كانت عليه البارحة، وكأن الشظايا عجزت عن تدارك حطام الوجه.