ان حيز التفكير أو الغرفة المظلمة في سراديب التفكير لا يمكن فتحها من أي امرء كائن ما كان إلا إذا أعاد صياغة منظومته الفكرية وهذا ما دعى اليه الراحل محمد عابد الجابري أو يسير بحسب العقلية أو العقل الجماعي المتكون من التفاعلا ت المتناقضة للشخصيات على اختلاف مشاربها في المجتمع الواحد والتي كونت وحدة مستقلة من التفكير والقيم سواء في اللباس من لون وطول وعرض أو التصرفات التي تعتبرها بعض المجتمعات من خوارم المروءة لكن ذاك المجتمع لا يراها إلا خربشات هامشية لا تلامس شيئا من شخصية فاعلها.
إن المشكلة التي تعانيها مجتمعاتنا – في نظري – تجاه التجدد والتجديد في الفكر والتفعيل الصحيح للهوامش المتاحة للفكر ذاته ليس في الفرد ذاته فهو في قد نشأ وتطور نوعيا في السنوات الأخيرة وخرجت نماذج من رحم المجتمع لا يستهان بها ولكن الإشكالية تكمن في أمرين، أولهما وباستخدام اسلوب المخالفة – كما يسميه الفقهاء الأصوليون – يلخصه الشاعر الأمريكي (هنري دافيد ثورو) بقوله: الأشياء لا تتغير أما نحن فنتغير لكن الواقع الآن بأنا نرى الأشياء تتغير أما نحن لما نزل نبرح مكاننا، فدخلنا في صراع بندوليا ما هو الثابت وما هو المتغير، وما هي علاقة الدين بالفرد والجماعة؟ وما هي حدود التفكير الذي على أساسه وبسببه أخرج الفكر الإعتزالي من نطاق الفكر الإسلامي بسبب الجبروت الأشعري، كل ذلك أحدث شرخا في العقل الجماعي فأدخله في ازدواجية غريبة بل في دوامة ما زالت مستمرة في دورانها فالعقل الجماعي لدينا أضحى راغبا بتغيير العالم بأسره لكنه عاجز عن تغيير أو تجديد كينونته – وليعذرنا تولستوي على اقتباس تعبيره – أصبح العقل الجماعي لدينا– رغم إيجابياته المشرقة في بعض الجوانب– ينظر الى كل مشكلة أو خروج على العادة او المألوف بفكرة ما ليس إلا مسمارا بحاجة الى مطرقة وهنا تكمن الخطورة فالعقلية أو العقل الجماعي كثير التعقيد والتقعيد اللامبرر سواءا في على مستوى الوعي او اللاوعي، فهناك الكم الهائل من التراث الذي تسربلت سلبياته لتطغى على السطح فتكون هي المسيطرة والموجهة أو اظهار الجوانب المشرقة فقط دون سواها وخداع الذات انها تناسخت في كل العصور لتشرق شمسها في كل زمان ومكان ولا يوجد ما ينبغي الحذر منه حتى لا نقع فيه البتة.
ثانيا: وهي مشكلة انثربولوجية تحتاج الى دراسة معمقة من قبل جيش من المتخصصين، فكل فرد منا يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة اذا ما حاول التحرك في فراغ المتبقي من الفكر ( بتعبير الأستاذ العدوي ) وهذا ما يسمى بالدوجماطيقية أي الزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة خاصة اذا كانت مساحة الفكر التي قام المفكر بالتسخين الجيد فيها جافة من رذاذ الكوامن الإنسانية والتي يدعوها البعض بـ(الإيزوتيريك) علوم باطن الإنسان، سيجد المرء نفسه سابحة في بحيرة قد جف ماؤها لكنها تحمل اسم بحيرة، ولتوضيح المعنى بصيغة سلسة تجد ان العقل الفردي عادة ان كان متحركا في التغيير سواء بالقراءة او الثقافة او التجارب الإنسانية يصاب بالنشوة والسكر وعندها سيتهم الآخرين ادعاءهم بامتلاك الحقيقة– وقوله صائب– لكنه يكرر نفسه بديلا لتلك الحقيقة المدعاة وانها انحسر مدها في بحره وأشبه الأمر كمن يدعو الى الحرية والشفافية لكنه اكبر ديكتاتور في بيته، اذن نحن بحاجة ماسة الى التغيير والتجديد دون شك من العقل الفردي الى العقل الجماعي، واذا بقينا على ما نحن عليه الآن فلن نستطيع تقديم أنفسنا للعالم أبداً وسنظل دوما ندور في حلقة مفرغة وبهوية مشوهة وفكر عاثر والحل يكمن في الحراك الفكري الذي استعيضه بدلا عن المتبقي من الفكر (وليسمح لي مفكرنا العدوي)، بيد أن هذا الحراك لا بد أن يضبط بمنهج علمي عملي يضمن الديناميكية والإستمرارية والديمومة وهذا ما نلقي بكاهله على مفكرينا وعلمائنا الفضلاء في الوقت الحاضر من جهد وتفان، نحن بحاجة الى منظرين والى فلاسفة يقعدون هذا الحراك لا يقيدونه ليكون بعدها ناجعا مفيدا لا منغمسا في المنطق الديالكتيكي الهيجلي يناقش ما لا فائدة منه أو يقدس ما لا يقدس ليدجن جيلا ينصاع لكل عاطفة جياشة مخضبة بالدموع والصوت الأشج وهي في الأساس لا علاقة لها بالدين او الفكر الحضاري لكنا وحتى لا ننزلق في متاهات متناثرة لا بد من أقننة الامر بطريقة حازمة فنحن لا نريد مسخا من الناس منسلخين عن دينهم ومغيرين لجلدتهم كما تغير تغير الأنوف بعمليات التجميل هذه الأيام فينادوا بالتغريب كما فعل طه حسين ولا نريد كذلك أناسا مقيدي الفكر باسم الدين والتقاليد وأزعم ان التجديدات الفكرية التي بدأت من لدن ابن رشد والفارابي وابن سينا ووصولا الى رفاعة الطهطاوي فالأفغاني ومحمد عبده ومصطفى عبدالرزاق الخ…، لم تصل الى المرحلة الحسمية المجردة وانما هي أفكار تطورت ونشأت بالتعاطي مع متغيرات الحياة لكنها اصطدمت مع العقلية الجماعية فانسحقت أو صمتت وهي في نظري ليست إلا حراكا فكريا تآكل من الداخل لغياب عناصر القوة فمثلا الإمام محمد عبده اذا تتبعنا فكره المتحرر سنجد انه لم يأت بجديد فهو يدور في فلك ابن رشد وهلم جرا لدى سائر المجددين وممن مارس التفكير خارج السرب ونحن هنا لا نريد أخصرة شخصية محمد عبده فله الكثير من الإنجازات الفكرية والإجتهادات، وبما اننا نعيب المنهج الإختزالي الذي اصبح تطبيقه لدينا في شتى أمور الحياة والذي أدى بالتالي الى ابطاء العقلية الجماعية في مجتمعاتنا لكننا ندعو الى الإكثار من المشاكسات الفكرية التي ولا شك بأنها سترمم الحطام الفكري الذي نعانيه هذه الأيام في شتى مناحي الحياة المتقلبة والمتغيرة وستكون النتيجة تحريك الراكد مما تبقى في الفكر وتوسيع رقعته الشطرنجية التي صغرت بانهيار البيادق عليها.
كاتب من عُمان