عبد الحميد الحسامي *
المبدع ابن زمنه، والتجربة الإبداعية اليوم هي إفراز لاعتمالات الحاضر، وهواجس التحولات التي تكتنه بها اللحظة الراهنة التي شهدت ثورات عميقة في بنية الفكر الإنساني المعاصر، ولعل أهمها الثورة الرقمية التي فرضت سطوتها وسلطتها على الحياة بما فيها ومن فيها.
وقدر المثقف اليمني أن ينحت حياته في الصخر، وأن يبني منجزه الإبداعي في أزمنة الجدب، دون مؤسسات، ولا تحفيز، ولا مظاهر حياة.
يُكتب النص الشعري في اللحظة التي يبحث فيها عن الرغيف، والماء، وقنينة الغاز، وإيجار المنزل.
يكتب المثقف اليمني، والمبدع اليمني اليوم شجونه، ويبحث عن أحلامه في لحظة غابت فيها الدولة التي كانت، وضاعت الدولة التي صاغها المبدع في أحلامه ورؤاه، ونسج لها صورة في خيالاته. فكانت المتاهة متاهات، وغدا المسار ظلمات بعضها فوق بعض.
ينتظر المبدع اليمني مطر الشبكة العنكبوتية، ولحظة استقرار «النت» لديه هي لحظة غيث، وهي أمنية فيها يلتقط المبدع لحظة النفاذ من أقطار السماوات والأرض بسلطان الشبكة العالمية التي تتعثر في سيرها إليه، أو إطلالتها عليه، وقد تهجره أيامًا وعودتها في أجل غير معلوم.
سيزيف لا يبلغ قمة الجبل حاملا صخرته، إلاّ وتنسل من بين يديه، هاوية إلى الأسفل، ليعاود الكرة في معاناة لا تنتهي.
الحياة كلها عناء بلا حدود. مع كل تلك المعاناة، يتمرد المبدع اليمني على المعوّقات، وينطلق من بين رماد الحرائق فينيقًا لا يعرف الهزيمة، ولا يعترف بالموت.
يكتب، يؤلف، يسابق، يشارك، يتمرد، يقيم الفعاليات، ينفذ من بين الرصاص بقلم الرصاص ليرسم لوحة، وليؤسس صحيفة، يطبع ديوانًا، يفوز في مسابقة، يتحدى العدم، ويبدّد من معاجم اللغة مفردات اليأس والإحباط والعجز.
أكلت الحرب كل مظاهر الحياة، وسلبت ما تبقى من رمق حياة، ولا تزال أيها المبدع اليمني تشعل أسئلتك في مضمار الفن، والجمال لا تفتأ تعشق الوردة، وتصرّ على أن تسرق من الحرب راءها، لتخطّ قيم الحب ومعاني الحياة.
جيل صاعد من الشعراء الشباب من شبابيك مواقع التواصل يطلون باحثين عن الذات، يسترقون السمع، ويصوتون بما لديهم من حرف في ملأ المبدعين، قائلين: مازلنا على قيد الحياة، نتحدى السجن والسجان، ونقهر الحرب، نكتب الشعر على ضوء القمر.
جيل استثنائي بكل المقاييس، تغمرني الفرحة كلما أطلت دندنة أحدهم في «الفيس بوك»، أو في مجموعة بالواتس آب، وكلما غرد على غصن في تويتر، أو أصدر ديوانًا شعريًا أو مجموعة قصصية، أو رواية.
جيل المعاناة والإبداع، ألا يولد الإبداع من رحم المعاناة كما يقال؟
ليست معاناة مفردة بل معاناة مركبة يتمرد عليها المبدع اليمني في أزمنة الموت والرماد، ويسجل حضوره في المشهد مبدعًا مواكبًا للحياة والإبداع والأمل.
سلام على كل من يتحدى الصعاب، وسلام على من يشعل في أفقنا ولو شمعة واحدة، تحيي في أعماقنا الأمل، وتدفعنا إلى أن نطمئن أننا على قيد الحياة.
المبدع ومواقع التواصل
إننا نعيش مرحلة جديدة من مراحل التاريخ، أعادت مفْهمة الإنسان والحياة وعلاقات الإنسان بكل ما حوله، بل علاقته بذاته أولا.
ولا شك في أن لمواقع التواصل الاجتماعي أثرًا عميقًا في التجربة الإبداعية عمومًا، والتجربة الشعرية على وجه الخصوص؛ فالإعلام الجديد يشكل متغيرًا مهمّا في اللحظة الراهنة، وقد أخذ يفرض حضوره في مجالات الحياة المختلفة، كما أخذت سلطته تمتدّ وتتسع بازدياد أنماطه ومساحة حاجة المجتمع إليه وارتباطه به في زمن نعيش فيه «مرحلة الانقلاب في الخطاطة المعرفية… وباشرنا نعيش أوقات الحيرة التي أشار إليها عالم اجتماع المجتمع الشبكاتية مانويل كاستيلس.
ولم يكن الخطاب الشعري بعيدًا عن هيمنة هذه السلطة؛ فقد أخذ الأدباء ينشرون إنتاجهم الإبداعي على وسائل الاتصال الجديدة؛ أو يلقون هذا الإنتاج مباشرةً؛ ليصلوا إلى جمهور تحولت طرائق تلقيه للإبداع بفعل مستجدات التقنية، وتعدد منافذها التي استقطبت كل اهتمام، واستحوذت على شرائح المجتمع بمختلف مستوياتها الثقافية؛ وتحول جمهور الشعر في ضوء الإعلام الجديد من جمهور نخبوي محدود إلى جمهور عام.
الإعلام الجديد ومستويات الإبدال
وقد شكل التواصل الذي أتاحته التقنية إبدالًا مهمّا على مستوى الحياة الاجتماعية، وعلى مستوى الذات الفردية حتى أضحت عبارة: «أنا أتواصل، إذنْ أنا موجود» تعبر عن عمق هذا التحول، «فنسخت (الكوجيتو) الديكارتي الذي بقي مهيمنًا على تفسير الخطاطة الوجودية لبضعة قرون، بعد أن ربط الحضور الإنساني بممارسة عمليات الفكر والسجال الفلسفي».
لقد أخذ الخطاب الأدبي/ الشعري المنشور عبر هذه الوسائط الرقمية يتشكل ضمنًا تحت ضغط التلقي وفاعليته، فيتحكم فيه بشكل مباشرٍ متلقٍّ صريحٌ، وبشكلٍ غيرِ مباشرٍ قارئٌ ضمنيٌ جديدٌ ذو خصائص يقتضيها الواقع الجديد، وتمليها العلاقة الجديدة بين أطراف العملية التواصلية في هذا الواقع؛ ليهيمن هذا المتلقي على عملية إنتاج الخطاب في لحظة تشكله، ويحدد -قبلًا- خصائصَه، ويهيمن عليه، فيكيفه حسب ما يتناسب معه أو يجيزه، ويقمع ما لا يجيزه، ولا يستجيده في أنساغ رؤيته وفي بنيته: لغة وإيقاعًا، وصورة، فضلًا عن التحكم في حجم الحيّز الذي ينبغي أن يكون فيه هذا الخطاب الشعري؛ إما مراعاة لما يسمح به الحيّز التقني كما هو الحال في تويتر، أو مراعاة لطبيعة المتلقي (الجديد) الذي لا يجيد الانتظار، والمحكوم بإيقاع الحياة الذي يميل إلى الإيجاز، في عصر (الوجبات السريعة).
إننا أمام معطيات جديدة من شأنها أن تدفع بالظاهرة الإبداعية إلى مواقع متقدمة، بما تضمن لها من الذيوع والانتشار والتلاقي والتلاقح والتفاعل المستمر، ولكن من ناحية أخرى نجد أن مواقع التواصل الاجتماعي قد أسهمت بشكل جليّ في الجناية على مستوى التجربة الإبداعية من زوايا متعددة؛ أهمها: تراجع خصوصية المبدع، فالتجربة الإبداعية اليوم غدت تجربة عامة وعائمة، ويتجلى ذلك في شعر الشباب الذين تداخلت أصواتهم تداخلا كبيرًا، ففي الوقت الذي نلحظ فيه تمايز أصوات الشعراء في الأجيال السابقة، إذ لكل شاعر صوته الإبداعي المميز لكينونته الإبداعية، أصبح لدينا صوت واحد أو ما يشبه الصوت الواحد لدى عددٍ من المبدعين في الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه، فالأصوات يشبه بعضها بعضًا في المعجم اللغوي وفي الصورة الشعرية وطبيعة الرموز الموظفة في النص الشعري وفي نمط الإيقاع وفي البنية العامة للقصيدة، فضلًا عن مضامين القصيدة، فكيف تستطيع أن تفرق بين شاعر وشاعر طالما أن الشاعر يتماهى في تجربة أو تجارب مُجايليه ويتماس معها بنقرة زرّ من جهازه الرقمي، وكيف يستطيع الشاعر الشاب نفسه أن يفرّ من فضاء رقميّ يستحوذ على كل شيء في حياتنا؟
مواقع التواصل واستنزاف المبدع
كما أن مواقع التواصل الاجتماعي أخذت تستنزف المبدع اليوم فيظلّ على مواقع التواصل يقضي جلّ وقته، فيزهد في القراءة المعمقة؛ والتثقيف النوعي الواعي، فتتشكل لديه ثقافة أفقية سطحية، وتظلّ التجربة الشعرية تلوك نفسها، وتكرّر وجهها، ونقرأ الإصدار تلو الإصدار والتجربة تراوح مكانها، ولا نكاد نعثر على نقلة مثيرة للاهتمام إلاّ في ما ندر؛ إن الوعي لدى الشاعر لم يحقق نقلته المرجوة.
من نخبوية التلقي إلى جماهيريته
ويمكن أن نشير إلى مسألة مهمّة من مسائل التلقي، فالتلقي النخبوي يكاد يغيب، وأصبح المبدع والإبداع مسكونين بمتلقٍّ آنيٍّ يتفاعل مع النص باستحسانٍ ومدحٍ بإشارة أو تعليق أو أيقونة، أو غير ذلك، كما أن مواقع التواصل تقتضي من المبدع أن يراعي هذا النوع من التلقي، وهذا بالتأكيد يفرض عليه بشكل ضمني أن يكتب بلغة واضحة وفي قضايا يشاركه فيها الجمهور، وهي تلك القضايا الحية القريبة منه وله، وهذا يسهم في تكييف مضامين القصيدة لدى الشباب، فأكثر القضايا أهمية لدى الجمهور ليست تلك القضايا العميقة -في الفكر والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والفكر الأدبي والتأمل في الحياة وسَبْر هواجس الذات وأغوارها- إنما تستهويه القضايا اليومية الأكثر حضورًا وجدلًا في الساحة السياسية والاجتماعية، وربما القضايا المبتذلة في الحياة، وهذا يصرف المبدع عن الإصغاء للعمق، والانشغال بما وراء الظواهر الاجتماعية والسياسية، والحياتية عمومًا.
وهذا يذكرني بمقولة للشاعر اليمني محمد محمود الزبيري حين قال: «فروحانيتي جنى عليها الأدب، وأدبي عوقب بالسياسة، فزججْت به في المعارك المريرة طويلة المدى، وانتقمت منه شرّ انتقام».
أي أن التلقي أسهم في تشكيل الخطاب الشعري لدى الزبيري، وانتقم منه مستواه الجمالي شر انتقام إذ سلبه قدرًا من جماليته التي كان عليه -من وجهة نظر الشاعر- أن يتحلى بها، وإذا كان ذلك لدى الزبيري الذي استشهد في 1965م، فكيف يكون الشأن بالنسبة إلى الشعراء الشباب اليوم الذين استهلكتهم قضايا اللحظة، وجنت على تجاربهم مواقع التواصل الاجتماعي.
مواقع التواصل من ديمقراطية التفاعلية إلى النزعة الفردية
كما أن مواقع التواصل الاجتماعي حينما أسهمت في إضفاء صبغة ديمقراطية تفاعلية على الحياة ومنها الحياة الإبداعية -بوجه من الوجوه- يعبَّرُ عنها بالتشارك المباشر في كتابة النص أو قراءته أو بالعلاقة المباشرة بين المبدع والجمهور أو بالتفاعل بين المبدعين وتبادل وجهات النظر أو بعقد صلات حميمية ترفد الصلات الإبداعية، فهي -كذلك- قد أسهمت بدور كبير في بروز (النزعة الفردية) وأعني بها اعتداد الفرد بذاته، وإمكانية تحققه دون مؤسّسات تقوم بتصديره، كما كان في السابق، إذ كان المبدع يحتاج إلى وقت طويل حتى يُسمِع صوتَه للآخرين، ليتعرفوا إليه أو ليعترفوا به، وربما يتعثر إن لم يجد مؤسسة تطبع إصداره، أو جهة تتبناه في الوسط الثقافي، لكن الأمر اختلف اليوم في عصر الإنترنت، فكل فرد وكل مبدع قادر على التواصل مع العالم عبر جهازه الذكي، قادر على تشييد منبره الخاص الذي يروق له: على تويتر أو على الفيس أو الواتساب أو غيرها، ويمكنه أن ينشئ قناته الخاصة ويستقطب من شاء من الأصدقاء أو المؤسسات، ويكتب ما يشاء وينشر ما يشاء، دون حاجة إلى مؤسسة ترعاه أو إلى جهة تتبنى طباعته أو الاعتراف بكينونته الإبداعية، بعيدًا عن رقابة مباشرة أو سياسة معينة لهذه المؤسسة أو تلك، وهذا الأمر أسهم في تسرع بعض الشباب في نشر إبداعهم، قبل أن تصل إلى مرحلة النضج، فتجد مبدعًا متواضعًا في تجربته ينشر كل ما جادت به قريحته، وربما دون تنقيح أو تعديل أو نظر في مستوى هذا العمل المنشور، ومدى ما يمثله في خارطة الإبداع.
وهنا يمكن القول: إن وسائل التواصل الاجتماعي قد حققت نقلة مهمّة في حمل المنجز الإبداعي ونشره في الفضاء الرقمي، وحققت التواصل بين المبدعين على اختلاف أقطارهم، ومستوياتهم الإبداعية، ومكنت المبدع -الذي كان يعيش في الهامش- من الحضور والتفاعل، لكنها في الوقت نفسه أسهمت في تسطيح التجارب الإبداعية، وجنت جناية كبيرة على خصوصية المبدع، وعلى مستوى التجربة، فأخذ ينصت للخارج أكثر من إنصاته لصوته الخاص، وإصاخته إلى أعماق الروح.