يحيى سلام المنذري
أتذكر جيدا التاريخ والمكان، وتقريبا الوقت، حين تعرفت على الصديق المبدع الراحل عبدالعزيز الفارسي، وهو التاريخ الوحيد الذي أتذكره، لأنه ارتبط بحكاية جميلة ظلت في الذاكرة. وأعتقد بأن أغلب الناس لا يتذكرون التاريخ الذي جمعهم وعرفهم على أصدقائهم، سوى التاريخ المرتبط بموقف أو حدث لا ينسى.
ذكّرته ذات مرة بالموقف فتنفسنا حنينا إليه.
عبد العزيز الفارسي درس الطب، ولم يدرس الأدب، ولكنه أبدع في كليهما، واستطاع في عمر مبكر أن يكون استشاريًّا أوَّلَ في طب الأورام ومتخصصًا في سرطان الرئة، وكاتب قصة قصيرة ورواية، كما اشتغل في برامج طبية وثقافية إذاعية، منها مع الصديق الكاتب والإعلامي سليمان المعمري في إعداد برنامجين إذاعيين، حاورا فيهما مبدعين ومثقفين عُمانيين، وبعدها نقلا محتواهما في كتابين: “ليس بعيدا عن القمر” (بيروت، 2008) و”قريبا من الشمس” (بيروت، 2008)، ويعتبران من أهم الكتب التي صدرت في هذا الجانب لتوثيقهما مرحلة هامة في الكتابة والإبداع في سلطنة عُمان، كما لا نغفل إنجاز عبدالعزيز في مجال الرواية، الذي تجلى في صعود روايته “تبكي الأرض.. يضحك زحل” (بيروت، 2007) إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى، وأيضا إنجازه لرواية مشتركة مع سليمان المعمري بعنوان “شهادة وفاة كلب” (بيروت، 2016).
وكل ذلك يقودنا إلى التأمل في مدى الفقد الفادح الذي ألمَّ بأهله وأصدقائه ومرضاه وبلده، والتفكر في إنجازاته الإبداعية في الأدب، وفي الوقت نفسه نبوغه وعطائه في مهنته الإنسانية البالغة الصعوبة. وهذا الترابط بين العطاءين أشار إليهما في شهادة له بعنوان لافت وهو “حكاياتي تتغذى على المشاعر التي تثيرها مهنتي”، المنشورة في مجلة : “ليس أجمل من أن تمد يدك في العتمة ليد أخرى لتقودها إلى ممر مضيء، ما أروع أن تبذر الأمل وتسترجع ابتسامة إنسان، ما أقوى أن تتحدى الألم وتلغيه، ما أعمق أنك تمشي كل يوم دروبًا متوازية كثيرة تقاتل مع أخيك وألا تستسلم. تستطيع أن تغيّر وجه العالم لمريض واحد أو مئات المرضى، وقد لا تستطيع فعل شيء وتواسي نفسك بأنك حاولت بصدق قلبك. والآن: أليس كل هذا ينطبق على الكتابة أيضًا؟”1. ونلاحظ تساؤله العميق والذي أجاب عنه في مقدمة شهادته المذكورة أعلاه رغم تأكيده بأن إجاباته كانت مختلفة في كل مرة لسؤال وجِّه له مرارا وهو “ما الذي يربط الكتابة بطب السرطان؟”2. وما تبقى من شهادته الثمينة والمفيدة تلك كان تفسيرا ذكيا للترابط الشديد بين طب السرطان والكتابة الأدبية.
وفي تلك الليلة الاستثنائية، ليلة الثامن من أغسطس من عام 2000، هل كنت أتأمل الأطباء بمعاطفهم البيض وأراهم كتَّابا عاشقين للأدب، ويظهر بينهم تشيخوف ويوسف إدريس؟ هل فعلا كنت أفكر في ذلك قبل رؤيته في مطعم مستشفى جامعة السلطان قابوس؟ كنت أنتظر ولادة ابنتي وجد التي ولدت في الساعة 10:45 مساء، وقبل ذلك الوقت بساعة ناداني بابتسامة مشرقة، وعرفني بنفسه، هكذا ظهر كملاك بلباس أبيض، فقلت له: “أعرفك، لم نلتقِ قبل الآن.. لكنني أعرفك من كتاباتك. فرصة سعيدة”، كان في سنة التدريب بالمستشفى3، تحدث إليَّ دون أن تفارقه الابتسامة، كان من النوع الذي ترتاح له من اللقاء الأول، تشعر بأنك تعرفه منذ زمن بعيد، يشع بساطة وذكاء اجتماعيًا، وتأكد لي ذلك بعد سنوات في رحلة سفر معه إلى القاهرة للمشاركة في فعالية ثقافية (شارك معنا في الرحلة سليمان المعمري وجوخة الحارثي وعلي المانعي وعبدالحكيم عبدالله) حيث أحب الجلوس مع الناس في الأماكن العامة وخاصة المقاهي الشعبية ليتحدث معهم بعفوية، منصتًا إلى حكاياتهم. قلت له: “أنت جريء .. وصياد حكايات”. قال لي: “استمتع بالجلوس مع الناس وارتاح إلى عفويتهم”.
وبعد أن خرج من مطعم المستشفى في تلك الليلة، تاركا لي بهجة التعرف عليه، ذهب ليقتفي أثر تشيخوف ويوسف إدريس وعبدالسلام العجيلي ومحمد المخزنجي وآخرين غيرهم ممن عشقوا الطب والأدب. وليشق طريقه، ويبدع في الأدب والسرد، حيث إن معظم أعماله الإبداعية في القصة القصيرة عبر نشره سبع مجموعات في الفترة (2003-2016)، عبرت عن رؤى إنسانية ناقدة، متأملة الوجود والواقع، سُردت بلغة رصينة راقية وشعرية، ونضحت بالفلسفة والحكمة في مواضع كثيرة، ووظف فيها الخيال بمهارة. كما أن أسلوب السرد فيها لم يخلُ من السخرية على لسان شخصيات القصص تجاه الكثير من القضايا والأحداث المتناقضة التي سيطر عليها الوهم بالمعتقدات الدينية والعادات الاجتماعية البالية، وسطوة الشر والأمراض والبؤس.
وهناك ثيمات تكررت في مجموعاته كالحنين والجروح والموت والمرض والاستغلال والوسواس والقهر الاجتماعي والعنصرية والطبقية ومعاناة الفقد والعوز والتعصب الديني. وطبيعي جدا أن يتأثر الكاتب والطبيب الإنسان بما يشاهده ويشعر به يوميا، ولا أنسى أبدا بعض الجلسات التي جمعتنا مع أصدقاء آخرين في مقاهي ومطاعم مسقط عندما يغادرنا في أولها أو منتصفها، بسبب حالات طارئة استدعته.
وثيمات كالموت والحنين والمعاناة من المرض كانت بارزة في تجاربه الأولى، ولكنها خفتت بعد ذلك ليتعمق أكثر في حكايات بلدته شناص، وتحديدا في مجموعتيه “وأخيرا استيقظ الدب” (بيروت، 2009) و”الصندوق الرمادي” (بيروت، 2012)، ليرجع بعدها في مجموعته القصصية الأخيرة والسابعة “رجل الشرفة؛ صياد السحب”(بيروت، 2017)، طارحا فيها أجواء مختلفة عن المجموعات الست التي سبقتها.
وعند مقارنة أول قصة في أول مجموعة قصصية له “جروح منفضة السجائر” (عمّان، 2003)، بعنوان “المسيرون”، مع آخر قصة عنوانها “حب” في مجموعته الأخيرة، نجد أنهما اشتركتا في هاجس ترقب الموت. فقصة “المسيرون” جاءت في رسالة السارد إلى صديقه سليمان، شارحا له خطته على الانتحار، ومعاناته ومعاناة آخرين مع تحديات الحياة، مؤكدا له بأن “ليس في الحياة ما يستحق كل هذا العناء”4. ونستنتج نحن القراء أن كاتب الرسالة شاعر، كتب أحاسيسه الصادقة بلغة شعرية راقية خالية من الزوائد: “تعصر قلبك إرضاء لآخر، فتجده أول من يسلم ظهرك للريح. تراهم على شفا جرح وتنقذهم فيدفنوك في جرح آخر غير مبالين باستغاثاتك. العالم يتآكل بسرعة الحزن حين يلج إلى القلب، ونحن لا نعي ذلك إلا على أعتاب القبر.”5. ويختم السارد رسالته المؤثرة بسؤال إلى صديقه: “أسألك: إن كنت تولد لتموت والعالم لا يأبه بك، لِمَ تحيا؟ أليس الموت أجدر بك؟ دعني ألملم أوراق الرحيل. لي مع الأقدار حكاية، وحكايتي على فم الزمان. من يغلق فم الزمان فيلغي حكايتي؟”6.
أما قصة “حب” فكانت عن طبيب كشف لمريض بالسرطان -في حضور زوجة المريض- عن انتشار المرض في جسمه، مركزا السارد بعد ذلك على حوار قصير جدا ومكثف وإنساني حزين بين المريض وزوجته، التي حاولت مرتبكة طرح طريقتها للعلاج في سبيل إنقاذ زوجها من الموت: “اسمع دكتور. أظن أنه بالإمكان استئصال الضلع الأيسر رقم خمسة من صدر إدوارد، واستبداله بما تشاء من عظامي”7.
وهناك قصة عميقة ومؤثرة جدا، تناولت الهاجس نفسه، ومن يقرأها يستشعر بأن عبدالعزيز تنبأ فيها برحيله المبكر، وهي قصة “أخائف من الموت يا أبا هاجر؟” من مجموعته القصصية “لا يفل الحنين إلا الحنين” (مسقط، 2006)، وهي عن علاقة طبيب بمريض سرطان في آخر أيامه، ويمكن القول بأن حكايتها تقترب من السيرة الذاتية للكاتب، لمعرفتنا بعبدالعزيز عن قرب، ولكنها في نفس الوقت ليست كذلك، لأننا كقراء نقرأها قصة قصيرة، جاءت على شكل مقاطع، وأولها كان بعنوان “نبوءة”: “السحابة الأولى جاءت بالأمس لتحملني إلى السماء، واكتشفت عدم اتساعها لروحي.. جاءت اليوم تجر السحابة الثانية الأكبر. أنظر.. أظنها كافية لروحي”8، “أنسيت أن روحي ملتصقة بروحك؟ لن تكفي السحابة”9. وازدادت العلاقة بينهما حينما اكتشف الطبيب بأن المريض محب للشعر وللقراءة ولسماع أغاني فيروز، واكتشاف المريض بأن طبيبه كاتب قصة قصيرة.
رصدت القصة مشاهد مؤلمة من معاناة المريض مع مرض السرطان بتعبير صادق، نستشعر فيه معاناة وألم عبدالعزيز وهو يكتب القصة، كما تناولت القصة شجاعة المريض ومحاربته اليأس، إضافة إلى تناولها معاناة الأطباء في مهنتهم: “وخرجت قبل العيد بيوم. كانت المناوبة مزدحمة ومرهقة جدا، وتعذر نومي فيها لمدة 32 ساعة متواصلة”10. وفي تصاعد الأحداث وعد الطبيب المريض بإهدائه مجموعته القصصية الجديدة، ولكن المريض استعجل الرحيل، وبذلك قادنا السارد إلى نهاية مؤثرة جدا حينما أشار إلى الإهداء الذي لم يتسنَّ للمريض قراءته:
“خالد: كيف وجدت الغريب؟
أشعر أني لم أفارقك..
سحابة واحدة كفتنا..
أحبك..”11.
ويختم السارد القصة بسؤالين: “ما أفعل بهذه النسخة؟ أأضعها على قبره؟”12 وهذه النهاية كمعظم نهايات قصص عبدالعزيز تترك أثرها في القارئ؛ قاسيا تارة، ومضحكا مبكيا تارة أخرى، وكلاهما يولِّد قشعريرة في الجسم.
وتختفي تقريبا بعد ذلك ثيمة الموت13، في مجموعتين هما: “وأخيرا استيقظ الدّب”، و”الصندوق الرمادي”، حيث يمكن القول بوجود تأثر بقصص تشيخوف وغسان كنفاني ويوسف إدريس. وجاءت الحكايات عن شناص وبعض أماكنها كالشوارع والسوق والدكاكين والبحر والمساجد ومجالس البلدة والمزارع، وبطل هذه الأماكن هو مطعم ألطاف (الذي كان موجودا أيضا في مجموعته الأخيرة) حيث يجتمع فيه شباب البلدة للسهر ولتمضية أوقات ممتعة، ولعجن “دقيق الحكايات” ولشرب الشاي مع الحليب والخبز الساخن: “لو أن ألطاف يكتب سيرة الليالي في مطعمه الذي يعجن دقيق حكاياتنا، وأفراحنا، والأمل، ليسلمه إلى أفواهنا خبزا ساخنا نخاتل به أحلامنا الجائعة”14، وكان الشباب يعتبرونه من أفضل الأماكن لديهم، “كانت جلسة مطعم ألطاف عند خميسوه الأغبر أفضل بألف مرة من الجلوس أمام التلفزيون”15.
أبدع الكاتب في إبراز عنصر التشويق وتصاعد الأحداث والمفارقات الاجتماعية، ورسم بنجاح الجانب النفسي لأبطال القصص؛ الشناصيين. ولن تستطيع أن تتخلى عن قصة فور البدء في قراءتها، يسحرك بتفاصيلها وأفكارها، وحواراتها التي كتبت باللهجة الشناصية بأسلوب مبسط ومفهوم لم يخلُ من السخرية والنقد في معظم الأحيان. وفي قصة “المستثمر” من مجموعة “وأخيرا استيقظ الدب” نجد اشتغالا على العامل النفسي لشخصية خليل وتردده في استثمار أمواله البسيطة مع تجار (البانيان) في شناص، وتفاقم قلقه ووسواسه من هروب البانيان بأمواله، والذي أدى في النهاية إلى موته.
ومن القصص التي اعتمدت على مواقف وقضايا اجتماعية وكتبت بأسلوب ساخر وفكاهي وممتع، قصة “أبو عيون”، وجاءت على لسان أربعة ساردين، الأول مجهول، والثاني شيخوه زوجة الحشمير، والثالث الحشمير؛ بطل القصة المتهم بالحسد بعينيه، والرابع الشيخ عبدالله. وفكرة القصة فنتازية، استمدها الكاتب ولا شك من واقع اجتماعي فنتازي، جعلت من عينا الحشمير موضع اتهام بالحسد بسبب تعرضه لمواقف اجتماعية غريبة، وكل ذلك بسبب زوجته ونشرها لأسراره حينما كان يعمل خارج البلد. ومن القصص الممتعة قصة “عمتي تعرف نجيب محفوظ”، وجاء ساردها على لسان شخصية العمة وهي تخاطب ابن أخيها، وتعبّر له عن غضبها لأنه كتب قصة عنها، وقال فيها بأنها لا تعرف نجيب محفوظ، “اسمعني يا ابن أخي. اضحك على غيري وقل لهم بأنك مثقف وتكتب وتعرف الكثير عن الأدب.. أما أنا فسأظل أقول لك: أنت قليل الأدب.. نعم.. قليل أدب وإلا لما كتبت عن عمتك قصة ووضعتها في كتاب.. وقلت للناس: عمتي لا تعرف نجيب محفوظ.”16. وهكذا كل القصة تحكيها العمة بطريقتها، وهي الطريقة نفسها أو الأغلب عند النساء العمانيات الكبيرات في السن كالجدات والأمهات، وطريقتهن في التندر والسخرية من الأحداث والمواقف، وغضبهن المسالم البريء الطافح بالحنان والأمومة، وفتحهن لصندوق حكايات قديمة وجديدة عاصرنها وسمعن عنها. ونجح الكاتب في سرده الحكاية على لسان العمَّة، وتقمص سردها بذكاء. ومعظم الحكاية التي سردتها وبأسلوب أقرب إلى الفكاهة عن مريوم وتجربتها السيئة مع شغالتين، بالأسلوب نفسه في قصص مجموعته، ليتحفنا بخاتمة جميلة للقصة تمثلت في تحذير العمة: “حذار أن تقول للناس أني لا أعرف نجيب محفوظ!!!”17.
في قصة “الحريق” بدأها الكاتب بحادثة حريق منزل غلام، ولكن حبكة القصة تجلت في الخطة التي وضعها بعض شباب القرية في الانتقام من تأخر مجيء سيارات إطفاء الحريق، رغم أن السبب الأكبر كما ذُكر في أحداث القصة يعود إلى طريقة إبلاغ أهالي القرية عن الحريق، حيث لم يذكروا اسم المكان، فقط الوحيد الذي ذكره هو الشيخ أحمد، ولكن رغم ذلك تأخرت سيارة الإطفاء لأن بيت غلام تحول إلى “ساحة من رماد وجدران سوداء”. فجاء اقتراح غريب من أحد الشباب وهو “بصراحة عيب المطافي يجوا عدنا جايبين ماي، ويرجعوا به. شو رايكم شباب نقويهم؟”18. ومعنى القهوة هنا الانتقام منهم، فوضعوا خطة كان من أهم عناصرها ماء وسباخ، على أن تنفذ بواسطة فريقين منهم، وفي النهاية نجح الشباب في إحداث أعطال جسيمة في سيارة الإطفاء. وكانت النهاية كالتالي: “منذ ذلك التاريخ.. ورجال الإطفاء يدعون باستمرار: “اللهم جنب أهل شناص الحرائق..”19.
أما مجموعة “الصندوق الرمادي” فيمكن اعتبارها جزءًا ثانيًا ومكملًا للمجموعة التي سبقتها، فمن القصص الفريدة قصة “المطوع”، برزت فيها شخصية خليف بن قويسم المتقاعد من العمل ودخوله في أحداث تحوله من رجل لم يكن يعرف الصلاة إلى إمام في المسجد. وقصة “رمانة”، عن خميسوه وعلاقته برمانة، ودور الجنّي ومسلسل تلفزيوني في هذه العلاقة، كما تجلت عذوبة السرد وتصاعد الأحداث في قصة “ما سمعت أذان الملايكة؟”، وموقف خسوف القمر الذي تعرض له خميس وجمعة. وهناك قصة “عيسى عدو الصليب” ناقشت التعصب الديني والتخبط الفكري العقيم لفئة المتعصبين دينيا، تخلل أحداثها مفارقات لم تخلُ من غرابة ممزوجة بالفكاهة، واصفا فيها الكاتب حياة بطلها بأنها كانت “تمضي كما قُدر لحيواتنا أن تمضي ككرة ترابية تتدحرج من أعلى التل، تكبر بالتراب كلما تسارع تدحرجها، ويغريها حجمها المتزايد بالمضي نحو الهاوية”20.
وتأتي المجموعة الأخيرة “رجل الشرفة؛ صياد السحب” التي احتوت على 19 قصة قصيرة كخاتمة لإصدارات عبدالعزيز الثمينة، إذ حضرت شناص في بعض منها، والبعض الآخر، وبالخيال الجميل تراوح أسلوبها بين الذاتي والتأمل، في مشاهد اقتنصت من الواقع الغريب، فمثلا قصة “النقطة” حضر فيها الطب وحلم بطلها بجائزة نوبل للطب. وقصة “صمام الشيخ” من أروع القصص، ولها أبعاد اجتماعية عميقة ورمزية، دلت على خصوبة خيال كاتبها. ولا بد من ذكر قصة ” الرائحة” التي اعتمدت على الإبداع العلمي الشيق، والتنبؤ باختراع خاصية شم الروائح من الشاشات، تماما كفكرة سماع الأصوات.
وعبر عبدالعزيز عن فكرة الكتابة الإبداعية القصصية والروائية على لسان إحدى شخصيات قصصه: “أعجبني خيال الكاتب لديك. أنتم تفترضون كثيرا، ثم توسعون افتراضاتكم، وتصنعون أشياء كثيرة ممتعة، لكنها ليست بالضرورة تمثل الحقيقة”21.
وهذا الاستعراض السريع لبعض قصص عبدالعزيز الفارسي في هذه الشهادة، لا يوفي حق منجزه الإبداعي العميق، ولا بد من دراسات معمقة تناقشه، وتتناول عالمه الفكري والإبداعي والإنساني.
وفي الختام، عبدالعزيز رحل بهدوء، وبسرعة فائقة، الصديق الذي عانق الإنسان ورحل.. تاركا لنا ذكرى هدوئه وابتسامته وطيبته، وأثر نبوغه في الطب والكتابة.. تاركا لنا وجع رحيله وأسئلته التي سطرها في حكاياته وحِكَمه ومواقفه الإنسانية الرائعة. ولرحيله خسارة بمعنى الكلمة.