إعداد وحوار:محمد شاهين- أكاديمي وباحث أردني
ترجمة:محمد عصفور- مترجم أردني
ساهم في الإعداد: وليام وكيلة وفرانشسكا فوردري
أفرزت حرب إسرائيل على غزة أبعادًا لم تكن في الحسبان. هل كان في تقدير إسرائيل نفسها أن تطول الحرب أشهرًا بدلًا من أيام أو أسابيع على الأقل، كما هي الحال في حروبها السابقة! لقد اعتقد ساسة إسرائيل وعلى رأسهم بن غوريون أن الحرب الخاطفة هي السبيل الوحيد للنصر، وأن أي حرب طويلة ستعرض كيانها للخطر.
هل كانت إسرائيل تتوقع أن تصدر محكمة العدل الدولية في لاهاي قرارًا يدينها بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي وإلقاء القبض على نتنياهو ورفاقه ومحاكمتهم وملاحقتهم.
ومن قبيل المفارقة، أن الحرب التي تدور رحاها في غزة أضحت وسيلة اطلع العالم من خلالها على حقيقة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وأن الحرب على غزة والفظائع التي ارتكبتها إسرائيل لم تعد خافية على أحد، كما تجلى في المظاهرات الحاشدة التي قامت في أرجاء المعمورة والتي شملت الاحتجاجات التي قام بها طلاب الجامعات الأمريكية وغير الأمريكية. لقد كانت القضية الفلسطينية مغيبة نسبيًا عن قطاع كبير من سكان العالم، وذلك بسبب الدعاية التي كانت إسرائيل تمتلكها والتي كانت تهيمن عليها إسرائيل منذ إنشائها عام 1948 إلى السابع من أكتوبر!
ولمزيد من التوضيح لأفق الأبعاد الرحبة التي رافقت الحرب على غزة، يحدثنا آفي شلايم في الحوار المرفق عن المستنقع الذي زجت فيه إسرائيل نفسها فيه نتيجة حربها الغاشمة، بل ويكشف النقاب عن الكثير من مكوناتها التي آلت أصلًا إلى الحرب بطريقة أو أخرى عبر تاريخها في المنطقة.
يؤكد شلايم على أن إسرائيل كيان عنصري من نوع خاص؛ إذ إنه يسعى في الدرجة الأولى إلى الاستيلاء على الأرض ومن ثم إقصاء أهلها عنها. ونرى كيف ينظر ساستهم الذين بيدهم قرار الحرب إلى الفلسطينيين على أنهم حيوانات بشرية على إسرائيل واجب استئصالها. فقد سبق وأن كتب تشومسكي مقالة عن حرب إسرائيل على غزة قبل السابع من أكتوبر عنوانها “اجتث الحيوانات” (Exterminate the brutes) وهي عبارة مشتقة من رواية كونراد قلب الظلام، حيث مارس الاستعمار البلجيكي نشاطه الاستعماري. وقد لاحظ شلايم أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو صراع استعماري بامتياز لأنه يسعى إلى احتلال الأرض بعيدًا حتى عن صراع الثقافات أو الحضارات أو الأديان. ويبدو أن إسرائيل في حربها على غزة وصلت إلى قناعة أن احتلال الأرض لا بد أن يتبعه اجتثاث أصحابها، وما إعلان إسرائيل عن أنها تسعى فقط للقضاء على حماس إلا غطاء على نيتها المبيتة لاجتثاث الشعب الفلسطيني، كما يؤكد شلايم الذي لم يتوقع أن تصل إسرائيل إلى هذا الحد من ممارسة القتل والتدمير رغم توجهاتها الاستعمارية المسبقة منذ البداية. لهذا يقول لنا شلايم أنه سيضيف إلى مذكراته جرائم التطهير العرقي إلى ما ورد في مذكراته من ممارساتها الفصل العنصري وابتعادها عن الديمقراطية والإيمان بحقوق الغير.
يروي لنا شلايم في مذكراته كيف استطاعت الجمعيات الصهيونية القيام بترحيل الجالية اليهودية من العراق والجاليات الأخرى من الوطن العربي بحجة أن استمرارهم في العيش بين العرب يهدد حياتهم كما أنه يؤكد على أن الانفجارات التي سبقت ترحيل اليهود من بغداد كانت الموساد تقف خلفها، وقد وصل في بحثه مؤخرًا إلى هذه الحقيقة الدامغة التي كانت تسعى إلى إقناع اليهود العرب بالرحيل في حين أنهم -كما يؤكد شلايم- عاشوا بأمن وسلام مع جيرانهم العرب كمواطنين لهم حقوق المواطنة.
والجدير بالذكر أن مذكرات شلايم ظهرت قبيل الحرب على غزة بقليل، وأن من يقرأها يدرك على الفور أن جزءًا كبيرًا منها يحاكي أوضاع الحدث المرعب وكأن شلايم كان قادرًا على أن يستشف سلفًا برؤيته الثاقبة منظور الحدث الجلل ومكوناته في الدولة العبرية خصوصًا أجندة الصهيونية التي ظلت مهيمنة على مسيرة الحياة في إسرائيل منذ إنشائها. كل ما حصل ويحصل في غزة يتجلى في سيطرة اليمين المتطرف الذي ما زال يرعى بوصلة الحرب في غزة بثقة عمياء تتحدى صوت الحق.
* يسعدني يا أستاذ شْلايْم أن أتحدَّث معك بمناسبة صدور أحدث كتاب لك وهو عوالم ثلاثة: مذكِّرات يهودي عربي الذي صدر في العام الماضي ولا يزال يتلقّى مراجعات رائعة. جاء هذا الكتاب في أنسب موعد ممكن. ففي خضمّ هذه الكراهية وهذا الانقسام الذي يدفع إسرائيل لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية تكتسب الأصوات المخالفة كصوتك أهميةً بالغةً في إظهار الحقيقة القائلة إن العرب واليهود لم يكونوا أعداء على مرِّ الزمن، وإن السلام بين الأمَّتين ممكن. فاليهود العراقيّون في قصَّتك عربٌ ويهودٌ في الوقت ذاته، وهذه ظاهرةٌ غدت الآن شيئًا يناقض نفسه بسبب ما تعرضت له هذه الهوية المركَّبة من تدمير متعمَّد من جانب المشروع الصهيوني الذي نجح في السنوات المبكِّرة من عملية بناء الدولة في وضع العرب واليهود في موضع العداء. هل بإمكانك أن تخبرنا عمّا حدا بك لأن تكتب هذه المذكِّرات؟
– شكرًا يا أستاذ شاهين على هذا التقديم الكريم. كان الدافع لكتابة هذه المذكرات هو رغبتي في إطلاع الناس على تاريخ اليهود في العراق وما مرّوا به من تجارب، إذ كانت لهذه الفئة من الشعب العراقي جذورٌ عميقةٌ ومساهماتٌ مهمة. وهذه المذكِّرات لا تقتصر على سيرة حياة عائلتي، بل تشمل أيضًا سياق الشرق الأوسط، وهو أمرٌ كثيرًا ما تُهمله الروايات الغربية. وأنا لم أبدأ الكتابة وفي نيَّتي أن أكتب مذكِّرات، على الأقل مذكِّرات أردت أن أنشرها. كان الهدف من وراء كتابة سيرة حياة عائلتي أن أعطي تفاصيل ذات معنى خاص لابنتي تامار وغيرها من أفراد عائلتي. لكنني بعد أن اندمجت في العملية وسافرت إلى إسرائيل لإجراء مقابلات مع والدتي وما إلى ذلك أخذت أدرك القيمة الممكنة لتحويل ذلك إلى كتاب، وبخاصة بسبب الشُّحّ النسبي للروايات العربية اليهودية. فبدأت العمل على استعادة الحضارة اليهودية الفريدة في الشرق الأوسط التي بعثرتها الرياح القومية الباردة في القرن العشرين، وعلى بعث الحياة فيها. حاولت باختصار أن أدمج قصةً تخصُّ العائلة بالقصة الأشمل التي تخصّ المجتمع اليهودي في العراق.
* هنالك حادثة مؤثِّرة معيَّنة في مذكِّراتك تتعلَّق بخروج اليهود من العراق. كنتَ في الخامسة من عمرك آنذاك. أتساءل عما إذا كنت ستعارض ذلك الخروج لو أنك كنت أحد كبار الشخصيات في مجتمعك آنذاك.
– كان الخروج حتميًّا في الظروف السائدة آنذاك مع الأسف. فاضطهاد الحكومة العراقية لليهود بعد الحرب العربية اليهودية في سنة 1948، وهزيمة العرب في تلك الحرب جعل الحكومة تستغل اليهود لتعليل فشلها. وكان العامل الثاني، كما أشرتُ في كتابي، هو التفجيرات التي استهدفت اليهود في بغداد، وهي تفجيرات كانت المخابرات الإسرائيلية تقف وراءها لإرهاب اليهود للإسراع في الخروج. ولذلك لم يكن بوسعي، حتى لو كنت أكبر سنًّا، أن أفعل شيئًا لمنع اليهود من مغادرة العراق. كان ذلك جزءًا من عملية تاريخية أشمل بكثير.
* تذكُر في مذكِّراتك أن جدلًا مهمًّا جرى داخل عائلتك حول البقاء في العراق أو المغادرة. هل يمكنك إحاطتنا بالمزيد عن ذلك؟
– ما يثير الاهتمام حول النزوح هو أن العائلات في جميع أنحاء المجتمع اليهودي كانت تنقسم إلى قسمين: قسمٍ يريد البقاء وقسمٍ يريد المغادرة. تذكَّر أن جذورنا في العراق عميقة، بوجود يهودي يعود إلى ألفين وخمسمائة سنة، إلى زمن النفي البابلي. ولذلك فإن النهوض للذهاب إلى بلد غريب كان خطوة كبيرة جدًّا. خذ عائلتي على سبيل المثال. كان والدي رجلَ أعمالٍ ناجحًا جدًّا ويتمتَّع بمكانة اجتماعية عالية. ولم يكن يتكلَّم إلا بالعربية، ولم يكن قد غادر العراق على الإطلاق، وكان يريد البقاء، رغم المخاطرة وانعدام اليقين. أما والدتي، وكانت أصغر سنًّا وأفضل تعليمًا منه، فقد كانت ترى أن الوضع أصبح محفوفًا بالمخاطر للأطفال. ولذلك فإنها هي التي دفعته للمغادرة فوافق في آخر المطاف.
* ما دمتَ قد ذكرت المنفى البابلي فإنني لا أفهم السبب الذي يجعل اليهود يتركون بلدًا لهم فيه وجود طويل للذهاب إلى بلد أسطوري (بالمعنى السلبي) لا تربطهم به أيَّة رابطة. كيف تفسِّر ذلك؟
– هذا سؤال ممتاز، فقد كانت هنالك مجتمعات يهودية في جميع أنحاء العالم العربي في سوريا ولبنان، وفي مصر، وفي جميع أنحاء أفريقيا الشَّمالية. لكن المجتمع اليهودي في العراق كان أقدمها وأبرزها وأغناها وأنجحها. وهو مجتمع ساهم في بناء الشعب بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى على المستويات كلِّها. لقد كنّا عراقيّين أولًا ويهودًا ثانيًا. وكان هنالك تراثٌ طويلٌ من التسامح الديني ومن التعايش بين الأقلِّيّات المختلفة، ولم نتميَّز بصفتنا يهودًا. لم نكن سوى أقلية واحدة من بين أقلّيات عديدة أخرى خلافًا لما كان سائدا في أوروبا. كنا مواطنين كاملي المواطنة إلى أن ظهرت الحركة الصهيونية وغيَّرت كلَّ شيء. أما النزوح اليهودي فلم يكن في أغلبه نتيجة لاختلافات في اللغة أو الثقافة أو الديانة عن بقية فئات المجتمع العراقي، بل نتيجة البيئة السياسية العدائية التي نتجت عن استيلاء الصهاينة على فلسطين والتطهير العرقي الذي تعرَّض له سكّانها. لقد خضع بعض اليهود العراقيين لإغراء صهيون، ولكنهم كانوا أقلِّيَّة صغيرة. وانتهى الأمر باستقرار أغلب يهود العراق في إسرائيل مضطرّين وليسوا مختارين. كان الدافع وراء النزوح قوى خارجة عن سيطرتنا.
* كيف أثَّرت الحركة الصهيونية في هوية المجتمع اليهودي في العراق والأفكار المتعلِّقة بالوطن والانتماء؟
– كان ظهور الصهيونية بالغ الأهمية لنظرة اليهود لأنفسهم ولإحساسهم بهويتهم، لأن تلك كانت هي المرَّة الأولى التي أعطي فيها اليهود بُعدًا مكانيًّا. فقد حصل اليهود على دولة تخصُّهم بعد ألفي سنة من الافتقار إلى دولة. أما من الناحيتين الثقافية واللغوية فإننا نحن اليهود العرب كنا نرتبط بجيراننا المسلمين بروابط أكثر بكثير من شركائنا في الدين في أوروبا حيث ولدت الصهيونية. والدتي مثلًا كثيرًا ما تحدَّثت عن صديقاتها المسلمات الرائعات في بغداد. سألتها يوما عما إذا كان لدينا أصدقاء صهاينة فقالت: “لا، الصهيونية شيء أشكنازي، ولا يربطنا بها أيُّ شيء.” ومما يثير الاهتمام أن اليهود المزراحيّين في إسرائيل هم أشد اليهود معارضة للفلسطينيين، ربما لأنهم يشعرون بالحاجة للمبالغة في التعويض عن شعورهم بأنهم مختلفون.
* هل أصيبُ إذا افترضتُ أن الحلَّ الأمثل الذي تتبنّاه -أي دولة واحدة ديمقراطية يتساوى فيها الجميع- هو صيغة من حياة اليهود السابقة في العالم العربي التي عاشتها عائلتك وغيرها من اليهود فعلًا؟
– نعم. دعوتي الحاليَّة لحلّ الدولة الواحدة مستمدَّة من تجربتي الشخصية في بغداد في الأربعينيات من القرن الماضي. لقد قضيتُ ما يزيد عن ثلاثين سنة في دعم حلّ الدولتين، ولكن إسرائيل قتلتْ حلَّ الدولتين بإنشاء المستوطنات، وبضمّ القدس الشرقية، وبإقامة ما يُدعى بالحاجز الأمني في الضفة الغربية. فما تبقّى ليس سوى عدد من المناطق الفلسطينية المتفرِّقة في الضفَّة الغربية تحيط بها مستوطنات إسرائيلية وقواعد عسكرية. إن كثيرًا من العرب الذين ولدوا بعد سنة 1948 لا يعلمون أن وجه الشرق الأوسط كان مختلفًا تمامًا، وأنه كانت ثمة مجتمعات يهودية في كل مكان. يعرف كل من ينتمون لجيل الشباب عن وجود إسرائيل من ناحية والعرب من ناحية ثانية، وعن الصراع بينهما. أما تجربتي المتضمنة لتعايش عربي يهودي في العراق فتشجِّعني على تصوُّر بديلٍ لوهم الدولتين. إن البديل الديمقراطي الوحيد هو دولة واحدة من النهر إلى البحر يتمتَّع فيه المواطنون كلّهم بحقوق متساوية دون النظر إلى الدين والانتماء العرقي.
* أخذت إسرائيل توصف مؤخَّرًا بأنها دولةُ فصلٍ عنصري. ما رأيك بهذا المصطلح؟ هل يعكس الوضع القائم على الأرض أم تُراه قاصرًا عن وصف وحشية النظام القائم في إسرائيل؟
– ينطبق مصطلح الفصل العنصري على إسرائيل، وليس هذا رأيي وحدي. ففي السنوات الثلاث الأخيرة أنتج عدد من جماعات حقوق الإنسان الدولية تقارير استنتجت أن إسرائيل دولةُ فصلٍ عنصري، جماعات من أمثال منظمة العفو الدولية، ومنظمة الرقابة على حقوق الإنسان، ومنظمة بِتْسِلِم، وهي منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية. وفي التقرير الأوَّل الموجَّه لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتَّحدة أعلنت فرانْسِسْكا أولبَنيز، مقرِّرة اللجنة الخاصة بحقوق الإنسان في المناطق الفلسطينية المحتلَّة، وهي لجنة تابعة للأمم المتَّحدة، أعلنت أن إسرائيل دولةٌ تمارس الفصل العنصري. وأشارت إلى أن ذلك القول لا يكفي. فمن الضروري أن نفهم كيف أصبحت إسرائيل دولة فصل عنصري. وقد جاءت أولبَنيز بالإجابة: لقد حوَّل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني إسرائيل (مُنْتَجَه السياسيَّ الأهم)، إلى دولة فصلٍ عنصريٍّ تحويلًا حتميًّا. لقد كانت إسرائيل مرتبطة بحبلٍ سُرّيٍّ بالاستعمار الأوروبي. وكما قال نُوَم ﭼﻮمْسكي: “إن الاستعمار الاستيطاني هو أشد أنواع الإمبريالية تطرُّفًا ولُؤما.” وقد ظلَّ الفلسطينيون طوال القرن الماضي ضحايا الاستعمار الصهيوني من ناحية وضحايا الإمبريالية الغربية من الناحية الثانية -تحت الحكم البريطاني في البداية-، والحكم الأمريكي بعد ذلك. ونحن نرى في هذه الأيام أن بريطانيا وأمريكا شريكتان شراكة كاملة في نظام الفصل العنصري القائم في إسرائيل.
* قال توني يُتّ (Tony Judt): إن يهود أوروبا قد حملوا معهم أوروبا في هجرتهم إلى فلسطين. هل توافق على أن الصهيونية كانت مشروعًا أوروبيًّا؟
– نعم. كانت الصهيونية حركة أنشأها يهود أوروبا من أجل يهود أوروبا. لم يكن قادة الصهيونية يهتمّون بيهود العالم العربي إلى أن حلَّ الهولوكوست. أما قبل ذلك فقد نظر القادة الصهاينة إلى اليهود العرب على أنهم متخلِّفون بدائيّون. أما الهولوكوست فقد أزال المصدر الأكبر من مصادر الدولة المرتقبة. لذلك نظر الآباء المؤسِّسون لإسرائيل إلى اليهود العرب لأن الدولة الجديدة كانت بحاجة ماسَّة للمزيد من القوى البشرية لدعم الاقتصاد والجيش. غير أن شخصية الدولة بقيت أوروبية. وكما قلتَ، جاء يهود أوروبا بأوروبا معهم ولم يكونوا راغبين أبدًا في أن تكون إسرائيل جزءًا من الشرق الأوسط؛ لقد أرادوا أن يبقوها جزءًا من العالم الغربي.
* أين يرى اليهود المزراحيون من أمثالك أنفسهم في هذه الأيديولوجيا الأوروبية؟ هل جرى التعبير عن رواياتهم وطموحاتهم تعبيرًا كافيًا في الخطاب المتعلّق بإسرائيل وفلسطين؟
– أبدًا. لقد نَحَتَ المؤرِّخ الأمريكي اليهودي سالو وِتْـمايَر بارون عبارةً هي “الصيغة الدامعة للتاريخ اليهودي” بمعنى التاريخ اليهودي بوصفه سلسلة لا تنتهي من الكراهية والتحيُّز والتمييز والاضطهاد الذي توَّجه الهولوكوست. لكن حتى لو صدق ذلك عن أوروبا (وأنا لا أصدِّقه) فإن هذه الصيغة من التاريخ اليهودي لا تنطبق على يهود الشرق الأوسط على الإطلاق. غير أن تاريخنا دُمج بالصيغة الدامعة التي تلفّ الصورة بالغموض. وعندما كتبتُ مذكِّراتي كنت أطلب الإذن بالسماح لي أن أروي قصَّتنا كما عشناها (باستعمال عبارة إدْوَرْد سعيد) وليس للسماح لليهود الأشكناز بكتابة تاريخنا لنا بما يتَّصفون به من هوى أوروبي. لقد انشغلَت النخبة الأشكنازية في إسرائيل بتجريد اليهود العرب من الخصائص العربية تجريدًا منظَّمًا. وما إعادة كتابة تاريخنا سوى مظهر واحد من مظاهر هذه العملية.
* لقد تحقّق لدينا أنك تؤيد استعمال مصطلح “الفصل العنصري” على أنه وصفٌ صحيح لدولة إسرائيل، ولكن ماذا عن مصطلح “الإبادة الجماعية”؟ هل هو وصف دقيق لما تفعله إسرائيل في غَزَّة؟
– كنتُ قد كتبت في مذكِّراتي أن إسرائيل “لم ترتكب جريمة الإبادة الجماعية رغم كل ما ارتكبته من ذنوب.” لكنني اضطُرِرْتُ لإعادة النظر في ذلك الرأي لأن إسرائيل ترتكب جريمة الإبادة الجماعية في هذه الأيام. إن مصطلح الإبادة الجماعية مصطلح خطير، وكنت متردِّدًا في استخدامه، ولكن حُسِمَ الأمر عندما مَنَعَتْ إسرائيل المساعدات الإنسانية والطعام والماء والوقود والمتطلَّبات الطبِّيَّة من الوصول إلى المدنيين في غَزَّة. وكنتُ قد تتبَّعت الهجمات العسكرية في قطاع غَزَّة منذ عملية الرصاص المصهور في سنة 2008. كانت تلك العملية حسب إحصاءاتي هي الثامنة، وكانت أشدَّها تدميرًا وتخريبًا وتقتيلًا. نحن نشاهد عرضًا رهيبًا جديدًا إلى أقصى حدّ، حتى بالمعايير الإسرائيلية. فقد قتل جيش الدفاع الإسرائيلي قرابة 40 ألف إنسان أكثرهم من النساء والأطفال، ودمَّر 70 بالمائة من البيوت والبنية التحتية المدنية في غَزَّة، وهجَّر أكثر من 90 بالمائة من السكّان من أماكن السكان الذين يبلغ تعدادهم حوالي مليونين وثلاثمائة ألف إنسان، وجرى ذلك لبعضهم ثماني وتسع مرّات. إن هذا النقل التعسُّفي للمدنيين جريمة حرب. وإسرائيل ترتكب جرائم الحرب على مستوى ضخم، وعلى أساس يومي. إن لم تكن هذه إبادة جماعية فإنني لست أعرف ما يستحقّ هذه التسمية.
* ما سبب العنف الذي تمارسه إسرائيل في غَزَّة؟
– منطق الاستعمار الاستيطاني يقضي بإزالة السكان الأصليين. هو لا يؤمن بالتعدُّدية، ولا بالحلول الوسط، ولا بالتعايش بل بالإبادة. هذا ما كانت تفعله إسرائيل طوال القرن الماضي للاستيلاء على أراضيهم ومصادرهم الطبيعية. ومن بين الأحداث الأساسية لم تكن النكبة حادثًا منفردًا وانتهى الأمر. إنها عملية مستمرَّة للقضاء على الشعب الفلسطيني وحرمانهم من ممتلكاتهم. وقد وصل الاستعمار الاستيطاني الذي تمارسه الصهيونية في غَزَّة أقسى مراحل عنفه ولؤمه. إن لدى الحكومة الإسرائيلية خطَّة سرِّيَّةً بإخلاء غَزَّة من سكّانها عن طريق إجبار السكّان على الذهاب إلى شمال سيناء. وقد نجحت مصر لحدِّ الآن في تعطيل هذه الخطَّة. وبما أن التطهير العرقي قد فشل لحدِّ الآن فإن إسرائيل انتقلت إلى مرحلة أخرى – إلى الإبادة الجماعية. فالإبادة الجماعية هي آخر ما يلجأ له القائم بالتطهير العرقي.
* هل تعتقد أن نتانياهو هو المسؤول عن استمرار هذا العنف وأن الأصوات المعتدلة في إسرائيل تتعرَّض للتجاهل، أم إنك ترى أن الشعب بكامله مسؤول عمّا يحدث؟
– يؤدّي نتانياهو دورًا مهمًّا في هذا الهجوم الرهيب على سكان غَزَّة. إنه شخص كريه، يعاني من مرض الكذب، وهو سياسيٌّ يتَّصف بالأنانية المفرطة. وسياسته في غَزَّة تمليها عليه مصالحه السياسية والشخصية. وهو يخضع للمحاكمة في بلده بتهمة الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة. وعندما تنتهي وظيفته رئيسًا للوزراء سيكون مضطرًّا لمواجهة المحكمة، وأغلب الظن أنه سيودع في السجن. ولذا فإن من مصلحته إطالة أمد الحرب. وهذا هو السبب الذي يجعله يمضي في تعطيل كل الجهود للتوصُّل إلى وقف لإطلاق النار وإطلاق الرهائن الذين هم بحوزة حماس. غير أن نتانياهو ليس العقبة الوحيدة، فالمجتمع الإسرائيلي أخذ يتّجه بخطى ثابتة نحو اليمين منذ خمسٍ وعشرين سنة مضت. ومن علائم هذا التحوُّل باتجاه اليمين ظهور حزبين صهيونيين ينتميان إلى اليمين المتطرِّف: حزب الصهيونية الدينية الذي يقوده بيزاليل سْموتْرِتْش، وحزب القوة اليهودية الذي يقوده إتمار بن-ﮔﭭﻴﺮ. وهذان الحزبان حزبان فاشيّان يدعوان إلى تفوُّق اليهود، ويهدفان إلى التطهير العرقي في كلٍّ من الضفَّة الغربية وغَزَّة قبل ضمِّ الضفّة وإعادة استيطان القطاع رسميًّا. وليس نتانياهو مجرَّد سجين لشركائه المتطرِّفين كما يعتقد كثيرون، بل هو نفسه متطرّف قوميٌّ يرى أن رسالته في الحياة هي منع ظهور دولة فلسطينية. وليس الهجوم على غَزَّة سوى فعل من أفعال إرهاب الدولة. ونتانياهو هو الذي يقود تفاصيل الهجوم، غير أن المجتمع الإسرائيلي كلَّه مسؤول عن هذا الهجوم في التحليل الأخير.
* كيف تجيب عن الفكرة القائلة إن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني فريدٌ من نوعه ويصعب تحريكه بالمقارنة مع غيره من الصراعات العالمية؟ تأمَّل الصراعات المشابهة في هذا القرن. أقصد في أيرلندا وجنوب أفريقيا على سبيل المثال. لفد جرى التوصُّل إلى حلٍّ ما. لماذا لم يحصل ذلك في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني؟
– لا أتَّفق مع الرأي القائل إن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني فريد من نوعه ويصعب تحريكه مقارنة مع الصراعات العالمية الأخرى. أنا أرى أنه صراع جغرافيٌّ سياسيٌّ عاديٌّ يتعلَّق بالأرض في جوهره. كانت هنالك حركتان قوميَّتان: حركة قومية فلسطينية وحركة قومية يهودية أو الصهيونية، وهنالك أرض واحدة، ولذا نشأ الصراع. هذا في الأصل والجوهر نزاع بين حركتين قوميَّتين. هذا أحد الآراء. لكن هنالك مدرسة فكرية أخرى منتشرة بين الإسرائيليين اليمينيّين الذين يدَّعون أن هذا الصراع فريد من نوعه لأنه لا يقتصر على صراع على الأرض بل هو صراع أوسع بين حضارة يهودية مسيحية من ناحية والإسلام من ناحية ثانية. هذه المدرسة الفكرية تؤمن بالمقولة المشهورة التي جاء بها البروفسور سامْيُوِل ﻫَﻨْﺘِﻨْﮕْﺘُﻦ والتي تتحدَّث عن “صراع الحضارات”. وهذه، في رأيي المتواضع، مقولةٌ ضحلةٌ تبسيطية. فالصراع الإسرائيلي- الفلسطيني لا يقوم على أساس عوامل دينية أو ثقافية، ولا يقوم على أساس صراع الحضارات. الصراع مستمرّ لأن إسرائيل مستمرَّةٌ في احتلال الأرض التي تعود للفلسطينيين، وترفض بكلِّ عناد أن تعترف بحقِّهم في تقرير مصيرهم القومي.
* إلى ماذا نحن ماضون في رأيك؟ هل هناك بصيص من الضوء في آخر النفق؟ كلُّ الناس هنا محتارون حول النهاية، متى ستحصل وكيف.
– هنالك من بين الناس الذين يبحثون عن بصيص أمل، من يقول إن هجوم حماس في السابع من أكتوبر سبَّب صدمة للمجتمع الإسرائيلي ستنتهي بأن يعودوا إلى صوابهم ويدركوا أن الصراع السياسي ليس له حلّ عسكري. لكن لسوء الحظ أدّى هجوم السابع من أكتوبر إلى نتيجة عكسية، فقد دفع الإسرائيليين إلى مزيد من التطرُّف ضدَّ الفلسطينيين وأثار في أنفسهم الرغبة الشديدة في الانتقام. والخطاب السائد الآن في إسرائيل مرعب: إنه خطاب الإبادة الجماعية. إنه لا يكتفي بالحديث عن حماس بل يصف الشعب الفلسطيني كله بأنه شعب إرهابي، بأنه يتكون من متطرّفين، بل حتى من نازيين. إن شيطنة العدوّ ظاهرة بالغة الخطورة لأنها تمهِّد الطريق للإبادة الجماعية.
* هنالك حديث الآن عما سيحدث في اليوم التالي للصراع المسلَّح. هل لديك أية أفكار عن ذلك؟
– نتانياهو شديد الوضوح حول رفضه لأي حكم ذاتي للفلسطينيين، وأن على إسرائيل أن تحافظ على السيطرة الأمنية على غَزَّة إلى ما لانهاية له، وأن حماس لن تكون جزءًا من نظام الحكم في غَزَّة. وهو يعارض معارضة شديدة فكرة إنشاء دولة فلسطينية. عادت أمريكا للحديث عن حلّ الدولتين وهي تريد أن تعيد السلطة الفلسطينية لحكم غَزَّة ولتحل محلّ حماس. وهذا شيء لا يقبله الغزيّون وذلك لسبب وجيه. إذ لا يحقُّ للمحتلِّ أو لداعميه من الإمبرياليين بل يحقُّ للفلسطينيين أنفسهم أن يقرِّروا كيف سيُحكمون. في كانون الثاني من سنة 2006 كسبت حماس الأغلبية المطلقة في انتخابات عادلة وحرّة، ومضت لتشكيل حكومة، وعرضت على إسرائيل إجراء مفاوضات عن هدنة طويلة الأمد. لكن إسرائيل وداعميها الغربيين رفضوا الاعتراف بهذه الحكومة وأخذوا يمارسون الحرب الاقتصادية لتخريبها. هذا مجرد مثال على ازدواج المعايير الغربية عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل وفلسطين، وهذا سبب آخر لما أشعر به من تشاؤم حول المستقبل.
* شكرًا يا عزيزي آﭬﻲ لتفضلك بإطلاعنا على أفكارك النيِّرة، ليس فقط فيما يتعلَّق بمذكراتك بل أيضًا فيما يتعلَّق بطبيعة الصهيونية والوضع الفظيع السائد في غَزَّة الآن. لقد زوَّدتنا بصورة كاملة غنية عن الديناميات الاجتماعية والسياسية التي تعاني منها المنطقة، وأنا واثق من أن كثيرًا من القرّاء سيرغبون في اقتناء مذكراتك إن لم يكونوا قد اطَّلَعوا عليها بعد.
– كان من دواعي سروري أن أتحدَّث إليك أستاذ شاهين. غير أنني لا أريد أن أنهي الحوار بهذه النغمة التشاؤمية. فمع أنني سأظلُّ أحسُّ بالشك حيال القوى الغربية فإن الأمل يحدوني بالمجتمع المدني، ولا سيما في موضوع حركة المقاطعة، والتخلّي، والعقوبات، وموضوع التأثير المتعاظم للبلاد الواقعة في الجنوب من الكرة الأرضية. فأنا أري بصيصًا من الأمل في أن تؤدّي العدالة الدولية دورها في تحقيق العدالة للفلسطينيين. فالاتِّهام بارتكاب الإبادة الجماعية الذي وجَّهته دولة جنوب أفريقيا لإسرائيل في محكمة العدل الدولية في لاهاي، واستعداد المحكمة للقول إن الاتِّهام بأن إسرائيل قد ارتكبت هذا الجرم اتِّهام مقنع أمر بالغ الأهمية. فالأحياء ممن ساهموا في الهولوكوست النازي يتعرَّضون الآن للاتهام بالإبادة الجماعية في المحكمة الدولية. أضف إلى ذلك أن النائب العام في محكمة العدل الدولية أصدر أوامر اعتقال بسبب ارتكاب جرائم ضد نتانياهو ووزير دفاعه ورئيس هيئة أركان جيش الدفاع الإسرائيلي (وكذلك قادة حماس). لقد أخذ الرأي العالمي يتحوَّل تحوُّلًا صارخًا ضدّ إسرائيل ويقف إلى جانب الفلسطينيين. ما تزال إسرائيل تتمتَّع بتأييد الحكومة الأمريكية، ولكنها لم تعد تتمتَّع بتأييد الشعب الأمريكي. ولذا، وعلى الرغم من تشاؤمي فيما يخصُّ المستقبل القريب، فإنني متفائل فيما يخصُّ المستقبل لأنني أعتقد أن الفصل العنصري في القرن الحادي والعشرين لا يمكن الدفاع عنه.
* نحن كلُّنا فخورون بصوتك: صوتِ العدالة وصوتِ الحق. شكرًا ثانية إذن. وأنا أقدِّر كلَّ التقدير ما سمعتُه منك، ونحن جميعًا ننتظر استمرار هذا الكفاح المشترك من أجل الحرية والعدالة والسلام.