لم أعد أعرف ان كنت "الإنسية " أو شبح امرأة لا وجود لها.. كل الذي بت أدركه أنني أعاني حالة مخاض متعسرة لحدث كوني يدور في خلدي.. ينبجس مع غبشة فجر الليلة السابعة.
كانت ليلة مسكونة بالأهوال تحول فيها الضحك والبكاء، الصمت والعويل الدهشة والرهبة الى توأمين سياميين ملتصقين يسكنان صدري ويلتصقان معي برحم الأرض.. الطقوس النارية تزداد حدة، سبع ليال حالكة الظلمة يرقص فيها الشيطان يملأ الأرجاء نزقا وعربدة، هياجا وصمتا… يتسلل كزئبق مخادع في أطراف المرأة المجهولة يحملها حملا أن ترقص معلنا بدء الطقوس الفجرية. لست على يقين من كان منا حقيقي الصورة أو الأصل، الجسد أو الروح كل ما استطعت ادراكه أن مجموعة أمور تحاك ضدي وأنا في غاية الرضا، الطقوس بدائية وبوهيمية تمارس في صخب تحت أضراء قمر يتسلل من تحت غيمة مثقلة برذاذ المحيط تحملها ريح الشمال الى حيث تتساقط باكية فتستحيل الى عينين في وجه السماء، تبكي هلعا من الطقوس الموبوءة بالفجيعة..
ترعد الطبيعة وتبرق في نغم واحد مع عويل المرأة القربان التي يخيم عليها وهج كفقاعة مستنقع ضحل، عويل المرأة ورعد السماء يشكلان أهزوجة صاخبة تملأ الأرجاء فوضى… في ذلك المساء القرمزي الملطخ
بدماء لا مرئية وروائح تنبث من عمق الأرض.. يثار في السكان جنون أخر، فتبدو الأرض وكأنها تنفسن فيفتضح كبرياؤها المصطنع، فإذا هي مجرد كوكب صغير تملؤه الفوضى والضجر. سبع ليال والشيطان يحيك خيوط مؤامرة القربان لتقديمها في الليلة السابعة، والتي لم يتوان في أن يجلب فيها الآف الأشياء المخيفة والمفزعة… تلك "الإنسية" التي يؤرقها الخوف لا يمكن أن أميز ما إذا كانت هي شخصا أخر غيري أم أنها
"أنا"..
لا يمكنني التمييز بعد كل هذا التلبس غير أنها تعشق التجديف في وجه الموت على بشاعته بغير اكتراث، بغير خوف… غريبة الأطوار، متقلبة الأهواء، لم تمد تخيفها الأعين المتلصصة، أو تضيعها الطرقات الموحشة.
لذا فهي تحث الخطر باتجاه طرقات مجهولة، لم أعد أعرف بحق ما إذا كنت تلك المرأة أم أنه هيولي ضوئي يدور حولي، أم أنه حلم ليلة مؤرقة.
ثم ماذا أدراني إن كان الحلم هو الحقيقة، أو أن الحقيقة هي الحلم.. إذ لا فرق بينهما.. كلاهما حياة أعيشها بكامل تفاصيلها المتناقضة في كليهما نور وظلمة، حزن وفرح… كلاهما عالم حقيقي. ما أنا متأكدة منه أن تلك كانت الليلة الثانية حيث مكث الظلام طويلا، واستحال المساء إلى دهور غابرة تتلكأ وتسير في تؤدة وكأنها تعبر ممرا متعرجا الى الأعلى… أفاق من ضياء بعيد يضيء.. ويضيء.. يومض بخبث ثم يتوارى..
وفي مساء الليلة الثالثة ينطفئ الضوء وتتسابق أطياف من الخوف والدهشة والحنين، تمتد إلى أفق ناري، زي لون قدن، اقتربت منه كثيرا فإذا هو يبدو كمخلوق غرائبي يصرخ مفزوعا ينبعث من حمرته هلع حقيقي..
حالة من الرهبة والرغبة تتشكل كخيوط مغزل لساحرة تسكن كهفا في زاوية الوجود.. تتمدد.. وتتمدد بعنكبوتية نزقة تنسج حولي ألف ألف ثوب ناري مخاتل..
تلك الإنسية تنفصل عني.. أو أنفصل عنها.. لست أدري فقط أعرف أن لها عينين تشبهانني..
هي الأن شخص أخر غيري.. يفني لها الشيطان ويحدق في عينيها المتعبتين..
تسقط في خضم التوغل في اللحظة القدرية.. ساحرتان ومخيفتان تلك العينان اللتان تحدقان في خوفهما.. ينبعث منهما مجهول بشع ينسكب في مساماتها خوف حقيقي ممزوج برعشة فرح مكلوم، وشيء ما يتسلل بخبث يثير قشعريرة مختلطة برائحة الدهاء.. ربما هو قربان الليلة السابعة، أو ربما رهبة مكبوتة تحاول أن تنسق من صمتها..
صمت.. مجرد صمت، صمت…
تمر ليلة وليلة وليلة… وأخيرا ها هي الليلة الأخيرة مقبلة وكأن لها صرير الريح، تقترب أكثر وأكثر..
الطقوس النارية تزداد.. وريح تزمجر تشبه عراء الذئاب، وصوت بعيد لامرأة تصرخ وتصرخ تستغيث أو ربما تمارس فرحا من نوع خاص، يد واحدة تمتد، يد الشيطان، انها هي يد الشيطان لا سواه.. كل الأيدي تشبه يده… لا إنسان هل فقد البشر أيديهم ؟ أم فقدوا الطرقات واضاعوها.. أين هم..
لقد انقضى زمنهم.. بل انهم لم يولدوا.. بعد.. لا مفر… ليس أمامي أنا وهي غير يد الشيطان تمسك بها أو طريق مجهولة لا تؤدي إلى أي مكان…
الطقوس مستمرة في نسق متوازن من الى تم المتواصل لصوت واحد ورقصة غجرية مجنونة..
تتهاوى وتتمايل على أصوات زمجرة الريح وعويل الذئاب المشردة ولمعان نجم يتوارى بهلع وراء غيمة باكية…
السماء ترقب القربان المسكين يعانق الموت تحت وطأة الطقوس يموت ليحيا ويحيا ليموت مرة أخرى.. إنها اللعنة ذاتها.. أنا لم أعد موجودة أصبحت هناك بعيدا حيث التبس الزمن اللامرئي وشيء ما يدحر الحياة والموت بداخلي ويدحرجهما الى أفق مجهول.. ها هي الليلة السابعة وكأنها كد الحياة.. والزمن.. والخوف الممزوج بالرهبة، انها تقترب أكثر وأكثر نتوء بثقل يثن تحت وطأة البحث عن الطرقات المجهولة، والزمن المستحيل الذي لم يشر عليه أحد ما حتى هذه اللحظة.
"الإنسية" الوحيدة في المكان كانت "انا" وامرأة أخرى لا ملاح لها لكنها موجودة في مكان ما… تتعطر بروائح جبلية نفاذة وتغتسل بماء البحر ينبث منها العبق… وربما الأسن.. لا شيء مهم فقط إتمام الطقوس هو سيد الموقف، القربان يعول يحدق في الفجيعة فتدب فيه رعشة الموت الأن تقترب الأشياء من بعضها البعض في حميمية بالغة.. البرق والرعد، وعويل الذئاب وفجيعة القربان والقمر المتواري خلف الغيمة الباكية، لابد ان حدثا ما سيحدث، لابد أن شيئا ما سيولد في الليلة السابعة في الأرض.. أو السماء.. أو الماء.. ربما زوس أو هيفاتيوس أو حتى بروميثيوس وربما "أنا" لها ذات ملامحي.. جميعهم ربما ينبثق من العدم في تلك اللحظة الحاسمة.
سالمة الموشي (كاتبة من السعودية)