ليست اللغة مجرد تشكيل رمزي لمقاطع صوتية، كونت نظاما اصطلاحيا يصف الاشياء من حولنا، كما يصف حركتنا وأفعالنا بحياد بارد، وهي ليست تلك الابجدية التي اختزل بها الكنعانيون الكتابة الهيروغليفية (1) كما انها ليست تلك الكلمات التي تتشكل منها الرموز الابجدية المجردة خارج سياق منشئها ودلالتها. فاللغة كما يرى علماء الدراسات اثنولوجية اللغوية: أداة مشكلة للواقع تمفصل التصور اليه حسب مستعمليها، وتكون في استخدامها شبكة تعبير عن تصور خاص للعالم. ونظاما رمزيا يلزم فرض علاقات اجتماعية ليس من اجل تسهيل عملية التواصل فقط، بل بامكانها ان تقوم بالرقابة، الكذب، العنف، الاحتقار، القمع. كذلك الرغبة، المتعة، اللعب، التحدي، ايضا في مجال الكبت عن طريق الاستبطان والتابو. كما انها مجال التفريغ (2) ثم ان اللغة ميراث حضاري وتاريخي بأكمله، في جوانبه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. لانها دائمة الانتقال عبر كل الحلقات التاريخية لاية مجموعة بشرية، فإنها الشكل الاكثر كفاءة وفرادة في حمل الموروث الكلي وجعله معاشا في تضاعيف الواقع اليومي.
وهي لا تعبر عن صفة الاشياء والافعال وأسمائها فقط، بل تحمل تأثيراتها أيضا، ثم ان اللغة تعبير عن مفهومنا الشخصي للعالم، للذات، وللآخر، وهي حامل معرفي يصلنا بما قبلنا،وينسج شخوصنا وطباعنا ورؤيتنا وسلوكنا بما تحمله من تأثير ايمائي لحركة الشعور والانفعال والغايات، ومن خلال اللغة تمتص دون وعي منا آراءنا ومواقفنا من الحياة وتفاصيلها وعلاقاتها. وعلى سبيل المثال: حين نقرأ رواية او قصة فإننا نعيش انفعالات شخوصها ونتأثر بأحداثها فنكره او نحب، نفرح أو نحزن، نقف مع هذا ضد ذاك ونناصر تلك الشخصية ونعادي غيرها. ويحدث أيضا أن نتبنى موقفا او سلوكا لإحدى الشخصيات ونمارسه في حياتنا الواقعية، كما لو انه موقفنا او سلوكنا الشخصي، وهذه الحالات التي نمر بها اثناء القراءة تتباين بين القوة والضعف، والانحياز أو الحياد، وفق روح اللغة ومفرداتها وتراكيبها، واسلوب صياغتها الذي سبك بها الكاتب روايته. فالعلاقة بين الصياغة والموضوع علاقة وشيجة وحقيقية، لا ندركها بسهولة في علاقتنا العابرة باللغة والقراءة. والانسان عامة حين يستخدم اللغة كوسيلة تعبير وتفكير، لا يولي حركة الكلمة وايحائها، وما يتولد عن علاقة الكلمات والادوات ببعضها من تأثير انفعالي أي اهتمام. اذ يسلم عادة بحكم التلقين والتداول، وثبات المصطلح والدلالة، ويتجاهل التأثير الايمائي للفة في اهتمامه بالموضوع. ودون ان يتساءل عما اذا كانت الكلمات والاساليب تخدم غاياته وتصوراته ومبادئه، هذا ما نلاحظه في حياتنا الثقافية العامة، حين نجد شخصا يقول بأمر ويفعل غيره. أو يستخدم في كتابته صيفا واساليب لغوية وهو لا يقصد معناها بدقة، وقد تتعارض مع مقصده او تربكه (3). وفي حضارات نظرية في اغلبها وميتافيزيقية في رؤاها وموقفها من الوجود والكون والتبدلات. تصاغ قيم هذه الحضارات وروحها، في لغة واساليب لغوية، تحمل في صياغتها وظائفها الاجتماعية وقيمها وايديولوجيتها، التي تسعي الى ترسيخها بواسطة النقل والتلقين والحفظ والثبات والتداول، لذا نلاحظ أن كل حركة تغيير في مجتمع ما تسعي الى محاولة تغيير في بنية اللغة وعلاقاتها الداخلية.
واذا كان من المتعذر تغيير مفردات اللغة في الاغلب، فان التغيير يمس علاقات المفردات وما يترتب على هذا التغيير من دلالات تحمل وتصف التغيير الذي طرأ على البنى الاجتماعية والحضارية في اطارها العام. وقد يفسر هذا الامر، صراع الاجيال او صراع المراحل، اذا صح التعبير، حول التمسك بالثوابت اللغوية عند ذي النزوع السلفي، والرغبة في خلخلتها واكسابها دلالات جديدة، عند دعاة التجديد والتطوير.
اللغة في الادب بوصفها مؤرخا
في المفاصل التاريخية الكبرى، يحدث غالبا أن تستنبط قوى اجتماعية ذات نزوع مهيمن، قواعد واساليب لغوية تكتسب سلطتها وثباتها من سلطة وموقع تلك القوى، وهي اذ تؤطرها بقوالب راسخة تنقلها عبر حواملها الثقافية، الى مراحل تاريخية لاحقة، ضمن انظمة واساليب معرفية واجتماعية، فهي بذلك انما تسعي لترسيخ قيمها وامتدادها في الزمن، حتى بعد اندثارها الشكلي. اذ تبقى روحها منقولة وحية، في تضاعيف اللغة وبناها الاسلوبية.
في كتابه (جذور الاستبداد) يدرس د.عبدالغفار مكاوي، نصوص الادب القديم في التاريخ البابلي، في سعيه لتحديد معاني المصطلح الذي اطلقه الغربيون منذ ارسطو ونظريته عن الاستبداد والطغيان الشرقي، التي عرضها في كتابه (السياسة) حتى هيجل وكثيرين بعده، فهم يرون ان هذا الطغيان والاستبداد كان قد خيم على تاريخ هذه المنطقة من العالم، منذ الالف الثالثة قبل الميلاد (4). واذا كان د. عبدالغفار مكاوي قد اعتمد القراءة في نصوص الادب القديم، فلأن الادب أدق صيغة لغوية واسلوبية تكشف وتعبر عن الخصائص الاجتماعية والحضارية للزمن الذي ينتجه.
يقول احد النصوص الادبية: أن معاناة الانسان البابلي تكمن وتتركز في غياب العدل وسط جور واستبداد مجمع الآلهة، الذي كان يحكم البلاد، وينشر الظلم والطغيان والجوع. وهذه الآلهة،يقول النص "لا يمكن ان تفهم / وطريق الآلهة لا يمكن ان يعرف / وأي شيء عن الالهة يستعصي على الكشف".
وفي مقطع من نص آخر، ننصت الى حوار بين سيد ضجر، متردد، متقلب، وعبده الذي تتركز عبوديته في الطاعة العميا، لنزوات سيده وتقلباته:
"قال السيد للعبد: قررت أن الزم الصمت.
– الزم الصمت يا سيدي، الزم الصمت.
– لا يا عبدي لن ألزم الصمت لن اصمت.
– لا تصمت يا سيدي، لا تصمت فاذا لم تفتح فمك فسيقسو عليك مضطهدوك.
– سأقود ثورة.
– قد ثورة يا سيدي، انك ان لم تفعل / فمن اين تأتي بملابسك / ومن يساعدك على ملء بطنك. – لا يا عبدي لن اقود ثورة لن افعل أبدا.
– لا تفعل يا سيدي. لا تفعل / فالثائر إما أن يقتل أو يسلخ جلده / أو تسمل عيناه / أو يلقى القبض عليه / أو يرمى في السجن".
يعود هذا النص الى 627 قبل الميلاد، زمن الملك الآشوري (اشور بانيبال)، ويكشف الى جانب موهبة الكاتب في الحوار، عن الحساسية المرهفة لنبضات حضارة انتفت فيها القيم واصبح الاضطهاد وظلم الابرياء حدثا يوميا لا يثير الدهشة والغضب بقدر ما يدفع الناس الى اليأس والتسليم".(5)
هذا النص الأدبي حمل روح عصره عبر اللغة، وأبدها منذ العصر البابلي الى الازمنة الراهنة والممتدة في تاريخ الشرق.
بالنسبة للغتنا العربية المنحدرة من سلالة اللغات الاولي للحضارات العربية القديمة، الا تبدو وكأن وهجا من روح تلك العصور قد انسل الى بعض اساليبها، وتضمنت خصائصها الاجتماعية، كحافظ ومبلغ، ممثلا في سطوة البلاغة، واسرارها، كما في سطوة التداول وطرائقه ؟ لنتأمل ذلك فيما يذهب اليه د. مصطف ناصف، من ان البلاغة عاشت على اساس واضح: الكلمة عبارة عن مجموعة مقررة من الامكانيات، أمكن تسجيلها في تعريفات وافتراضات ثابتة، وهي (البلاغة) تنظر الى الكلمة باعتبارها نظاما مفلقا له اسراره، لذا علينا أن نعود في فهم الكلمات الى تسجيلات فقهاء اللغة! وليس علينا- بسبب من المرجعية الثابتة – ان نستيقظ يقظة كامنة في القراءة، فعلم البلاغة يفترض ان الكلمة التي تواجهنا قد عرفناها من قبل.. كانت آبدة، فقيدت واستراحت، واسترحنا منها!(6)
لكن المسألة لا تكمن في المفردة، اذ ان القواعد الكامنة في البلاغة هي (قواعد العبث بالفكرة، فكرة المتكلم والمخاطب معا.. في خفة!)(7) وقد سميت هذه القواعد باسم (الصنعة)، وهذه الصنعة في البلاغة هي التي يمتحن فيها طلاب اللغة العربية في أعلى مراحل التحصيل العلمي! والتي لقنوا أياها منذ مراحل الابتدائية – بتدرج – عبر مناهج اللغة وعبر دروس الانشاء والتعبير، بل عبر كل وسائل التعامل بالفصحى!
وعلى الرغم من سعي تيار الحداثة في مشروعها الثقافي- والشعري على الاخص – لتغيير بنى اللغة ودلالاتها التقليدية، وعلاقاتها المؤبدة – في اطار رسوخ البلاغة وقواعدها الثابتة – وانتشار بعض صيغ التغيير تلك بين المثقفين والمبدعين من الاجيال الحديثة، الا أن ذلك الرسوخ بقي عصيا على الاستجابة لدواعي التغيير، وربما يعود السبب الى الثوابت في القيم الاجتماعية والسياسية، وغيرها من الروا سخ! فاللغة على اهمية دورها وقوته، تظل أداة تعبير، وليست أداة تغيير!
ويمكننا بقليل من التأمل ان نلمح ذلك الترسخ في الكثير من الصيغ المحصنة بأساليب المناهج التعليمية، والتي بات علينا أن فتمثلها، ونعيدها كما هي في لغتنا التعبيرية عبر كل الازمنة، دون أن نعيد النظر في صنع تلك (الصنعة) أو حتى في اعادة صياغتها وفق متغيرات أفكارنا الشخصية على الاقل، وثقا فتنا ومواقفنا من ذاتنا والعالم!
صيغ البلاغة المستبدة
تتضمن صنعة البلاغة العربية جملا متداولة، راسخة، أبدية! يشيع استخدامها بين الخاصة من الكتاب والعامة من الكتبة، هذه الجمل ندعوها: (جملا استهلالية) نفتتح بها الحديث او الخطاب بالفصحى، سواء كان مكتوبا او شفافيا ونضمنه اياها.
هذه الجمل، اذا تأملناها وحللنا أبعادها ومراميها، تكشفت لنا عن تعارضها مع ما نسعي اليه – اذا كنا حقا نسعى- من اقرار بحق الآخر في الاختلاف، والتأكيد على حرية الانسان، وحقه الطبيعي في ابداء رأيه، والتعبير عن مواقفه، واختياراته، الممثلة بالرفض او القبول، بالنقض او الاقرار.
ثم أن هذه الجمل ليست مقتصرة على فقهاء اللغة، أو دارسيها الاكاديميين فقط، بل تنتشر بشكل واضح في كل اشكال الكتابة النثرية، وفي كل المنابر والوسائل الناقلة للخطاب المعرفي والاعلامي، ومن قبل كل اصحاب القلم: الصحفي المحترف، والاديب، والباحث الرصين، والدارس في العلوم الانسانية، بل حتى الذي يدون تقريره العلمي!!
المصادرة الخفية
في هذا البحث الموجز، سأتناول هذه الجمل الاستهلالية لمحاولة الكشف عن مضمونها التعسفي ودلالتها اللغوية والاجتماعية.. وسوف أعتمد أساسا على التفسير المعجمي- حيث أبدت الكلمة – وعلى التأثير الايمائي لصيفتها ومعناها، لذا سيكون هذا التحليل قابلا للنقاش والجدل والاضافة.
وسأبدأ بهذه الفقرة كمثال:
"مما لا شك فيه.. أن الخطاب العربي يحوي من صيغ البلاغة والاساليب اللغوية الجاهزة، ما يؤكد روح الاستعلاء، والرغبة في منع الآخر من النقد والاختلاف". "ولا ريب في ان هذه الروح تعبر من (رغبة الانسان في استيلائه على ما حوله (8) فمن المؤكد أنها تحمل صبغته وشرطه الاجتماعي، وتنقل الى الاشياء والمعاني، مواقفه من الحياة والآخر.. ولا جدال في أن اللغة بهذا المعنى، هي وسيلة الانسان لتسخير كل شيء لتناوله، اذ لا يمكن الا ان تكون (تعبيرا عن انعكاس المحيط والعالم على وعي الانسان)(9).
تلك فقرة قصيرة، بدأت بجملة استهلالية جاهزة، متداولة يوميا في خطابنا المعرفي والاعلامي، وتضمنت جملا لا تختلف في جاهزيتها ودلالتها عن الاولي، لكنها سوف تمر على القارئ دون انتباهه الى تأثيرها الايمائي الخفي بحكم التعود والتداول.
لكن المتأمل لهذه الجمل سيلاحظ ان (مما لا شك فيه) (ولا ريب ان..) (ولا جدال في أن..) (ومن المؤكد..) (ولا يمكن الا ان تكون..) تتضمن معنى جائرا يستلب حق الآخر (القارئ، المستمع) في الاختلاف معي، حول أن الخطاب العربي يمتلئ بصيغ تؤكد المصادرة والالغاء او تشي بهما، فقد قطعت بعدم امكانية الشك في قولي هذا وأكدت ومنذ أول الكلام على ان هذا الموضوع هو من الموضوعات التي لم يتطرق اليها الشك، دون ان اشير او أوضح، شك من ؟ وهذا التأكيد جاءت به تلك الجملة الاستهلالية (مما لا شك فيه). ثم اني قدمت هذا التأكيد- في محاولة للمزيد من احكام السيطرة على القارئ- بجملتين تماثلانها في الدلالة والتضمين كما تماثلانها في القوة والحجة.
بهذه الصيغ الجاهزة اكون قد احلت القارئ دون وعي منه، والمفترض دون وعي مني- الى حالتين متلازمتين: التصديق التام لقولي ذاك. والكف عن التفكير في صحته او عدم صحته او وضعه موضع النقد والتحليل. لقد قطعت على القارئ اذن محاولة الشك في كلامي بجملة بسيطة في تركيبها اللغوي، ومألوفة في تداولها الى الحد الذي تبدو معه انها لا تعني شيئا على الاطلاق، او انها مجرد صيغة من صيغ اللغة او قوالبها، اعتاد الناس استعمالها دون الاهتمام بما تتضمنه دلالتها وايحاؤها الخفي، وما يكمن وراءه من تعسف، وسواء بدأت الكتابة او الخطاب المسموع بمثل هذه الجمل او جعلتها ضمن متن النص فان دلالتها لا تتغير، فهي صيغة ثابتة، ذات دلالة ثابتة، بسبب ما تولده الكلمات والاشارات المكونة لها من علاقات تعبيرية ذات محتوى اجتماعي وسياسي، اذ ان صيفا كهذه تحيل المستمع والقارئ الى مصدر مجهول وجمعي، وهو في مجهوليته وجمعه، يصير غير قابل للطعن من جهة ويهيئ القارئ للتسليم بمصداقية الموضوع، انني أقول للقارئ ضمنيا- حين استخدم هذه الجمل – أن الموضوع الذي سوف أتحدث فيه هو من الموضوعات التي لم يشك بها احد، فلا يحق لك اذن ان تشك فيه، او انك لست جديرا بالشك فيه أو نقده!
أليس هذا ما توحي به مثل هذه الصيغ حين نقرأها في بداية أي موضوع او في تضاعينه ؟
الا تبدو تلك الصيغ انها تسقط في لا وعينا نوعا من الرهبة الخفية التي تشكل سياجا شائكا دون تمعننا في الموضوع المطروح وتحليله او نقده ؟ ثم، الا تبدو هذه الصيغ والجمل كما لو انها صيغة تهديد، تشبه ديباجة الفرمان والسلطة الكامنة خلفه ؟ والا فمن هم اولئك الذين لم يشكوا في كلام لم نعرف بعد مضمونه وابعاده ؟
الدلالة والايحاء
ليست تلك الجمل التي وردت في الفقرة السابقة هي وحدها مما يحتويه الخطاب العربي في سياق اللغة المتداولة، بل هناك عدد من الجمل والصيغ المتشابهة والمتضمنة نفس الدلالات مع اختلافات طفيفة ولدها العصر وحركة التجديد واساليب التعبير، منها (مما لا مختلف عليه اثنان / مما لا غبار عليه / لا محالة / من المسلم به / مما لا جدال فيه / لا بد انكم تتفقون معي/ لا خلاف على أن / لا يماري أحد/ لا غرر أن../ وغيرها مما يعرفه المتخصصون في علوم اللغة العربية أكثر مني.
هذه الصيغ في اللغة اذا حللناها قليلا فقط ستكشف لنا الالتها مجتمعة، عن روح خفية تسعي الى مصادرة حق الآخر مسبقا، ورفض الاختلاف مع الخطاب المطروح، كما تفرض ضمنيا ونفسيا على الآخر الاخذ بالخطاب، وتمثله دون انتقاء او اختيار او مجادلة.
وبالرغم من شيوع فكرة الحرية، وحق الآخر، ودعوات التجديد، والتطوير، والتنوير بين الدعاة والمثقفين والمفكرين، الا اننا نلاحظ ان النير من قوالب اللغة وصيغ البلاغة التي يستخدمونها في خطابهم الداعي، لم ينتبه الى ضرورة النظر فيها على الاقل، وكأن اللغة شيء، والموقف والوعي شيء آخر!
ان نقد الفكر والواقع، لا يمكن ان يتم دون التبصر الكافي في استعمال الالفاظ، والبحث عن معانيها في ضوء الصراع والتجاوز، والنفاق والبراءة، وسائر ما يؤلف اتجاهاتنا ومواقفنا.(10)
قلت ان تلك الصيغ البلاغية والجمل الاستهلالية، في احسن احوال استخدامها، تصادر حق الآخر في الاختلاف مع الكاتب او المتكلم، وتنطوي على رفض خفي لحقه في الشك او الجدل في موضوع الخطاب، لكن ما الذي يؤكد صحة استنتاجي هذا او بطلانه ؟
شخصيا قمت باستقراء دلالي يعتمد التأمل فيما توحي به اللغة والمفردات حين استخدامي لها اثناء الكتابة، كلغة سائدة، ووسيلة تعبير وايصال، ثم علاقتي باللغة اثناء القراءة، كوسيلة تلق وتكوين معرفة، وسوف اسمي هذه المحاولة، تفسيرا دلاليا- ايمائيا، باستعارة مفهوم التفسير من المعجم (11)، ومفهوم الايحاء من علم النفس:
1- مما لا شك فيه: مما تت من، تفيد التبعيض / التعليل / التفضيل. ما.. تفيد الابهام / أي شيء/ أمر من الامور. لا.. نافية / وناهية / فتفيد الرفض او المنع، شك: الريبة / الالتباس / خلاف اليقين.
فيه: تفيد معنى حوله / عنه / مضمونه / وتشير الى موضوع الخطاب.
الدلالة: هذا موضوع من الموضوعات التي لم يشك بها احد/ صدقها/ آمن بها الجميع
الايحاء: رفض الشك في الموضوع المطروح / فرض التصديق.
2- لا محالة: = لا: نفي/ نهي/ نقض. محالة /: جمع محال /، ماحل محالا، ومماحلة: كايده، ماكره، جادله، تماحل القوم: تجادلوا.
الدلالة: لم يتجادل احد او يماحل حول هذا الموضوع. الايحاء: منع الجدل والساحلة والمكايدة حول هذا الموضوع.
3- لا ريب في أن: الريبة: الشك / الظنة / التهمة.
الدلالة: هذا الموضوع لم يرتب او يشك او يوجه اليه تهمة من أحد.
الايحاء: لا ترتاب / لا تشك / لا تظن / ,لا تتهم.
4- مما لا يختلف عليه اثنان = يختلف: لا يتفق / لا يقبل. اثنان: أدنى حد من الجماعة.
الدلالة: هذا الموضوع / الرأي/ لم يختلف عليه وحوله حتى اثنان / اتفق الجميع حول صحته.
5- لا مراء في أن = مراء: مارى مراء ومماراة: جادل ونازع ولاج (بتشديد الجيم)/ والمرية: الشك في الامر. الدلالة = لا جدال أو نزاع او ملاجة حول هذا الموضوع / الرأي.
الايحاء= منع المجادلة او النزاع حول الخطاب المطروح.
6- مما لا جدال فيه = جادل جدالا ومجادلة + خاصمه، تجادلا تخاصما، الجدل شدة الخصومة / المهارة في الخصومة، وعند المنطقيين: هو القياس المؤلف من مقدمات مشهورة او مسلم بها، أي قياس مفيد لتصديق، لا تعتبر فيه الحقيقة او عدمها، بل عموم الاعتراف والتسليم، كقولك (فلان يطوف في الليل فهو لص) والفرض منه الزام الخصم وافحام من هو قاصر عن مقدمات البرهان.
الدلالة: هذا الخطاب لا يحتاج الى المجادلة والبراهين والاختصام حوله.
الايحاء: منع المجادلة / التخاصم / الاختلاف / تقديم البراهين التي تناقض الخطاب.
7- من المسلم به: سلم بالأمر= رضي به، انقاد اليه.
الدلالة = هذا الخطاب / الرأي، قد سلم بصحته، رضى به، تم الانقياد اليه.(؟)
الايحاء= منع الشك في صحة الخطاب، فرض الرضى به، فرض الانقياد الى افكاره او غايته.
8- لا مندوحة: لا = للنفي، المندوحة والمنتدح = السعة والفسحة، يقال (لك عن الامر مندوحة او منتدح) أي يمكنك تركه والميل عنه.
الدلالة: لا سعة لك ولا فسحة للخروج عن الرأي الذي تضمنه الخطاب.
الايحاء= منع التوسع في تفسير مضمون الخطاب وتأويله بغير ما جاء به.
9- مما لا غبار عليه: لا للنفي. الغبار= التراب او ما دق منه، الغبرة: لطخ الغبار، سنة غبراء: سميت بذلك لاغبرار آفاقها من قلة الامطار، واراضيها من عدم النبات والاخضرار.
الدلالة: هذا الخطاب واضح لا غموض فيه.
الايحاء: لا تحاول الطعن فيه او الشك في مضمونه او صياغته.
10- من المؤكد أن: من: تفيد التبعيض / التعليل / التفضيل، المؤكد: أكد الشيء: قرره، الاكيد: الثابت.
الدلالة: هذا الخطاب قد قرر مسبقا، وثبتت صحته. الايحاء: منع التحليل / التفسير/ التشكيك. 11- لا غرر: لا عجب.
الدلالة: هذا الخطاب لا ينبغي ان يثير العجب (العجب او التعجب، رد فعل انفعالي يثيره لدينا رؤية امر او سماعه، لم نألقه، ولا نحسن تفسيره، والتعجب يتضمن سؤالا يحتاج الى اجابة لتفسير (غرابة) هذا الامر حتى نقر به ونألقه، فلا يعود يثير لدينا التعجب).
الدلالة: هذا الخطاب ليس فيه ما يثير العجب والسؤال.
الايحاء: منع التساؤل والبحث عن التفسير. ولأن هذا البحث من القلة بحيث لن يتسع لكل ما جاء في اللغة العربية من صيغ بلاغية تشي بالقمع وتتضمنه، فسوف احيل القارئ المعني الى البحث والتنقيب. وسوف يرى ان كل تلك الجمل والصيغ البلاغية، تفيد معنى المصادرة، والمنع ورفض التحاور والاختلاف حول موضوع الخطاب.
الضمير المستتر
ان الجمل الاستهلالية التي عرضت لها بالتحليل والتفسير والتأويل، لا يبدأ بها الخطاب فقط، بل تتوزع في متن النص، وتبدأ بها اغلب فقراته، وحيث إنها استهلالية، فان الموضوع لم يطرح بعد، والقارئ او المستمع لم يعرف فحوى الخطاب بعد فهي اذن تقوم بمصادرة مسبقة لحقه في الجدل والاختلاف، وتهيئة نفسيا للقبول والاذعان، اذ تسقط في وعيه الخوف من طرح وجهة نظر مغايرة، ناقضة، ومختلفة، في موضوع الخطاب، ذلك الخوف الذي سوف يترسب عبر تراكم الازمنة والتكرار والتداول في العقل الباطن، ويتماهى بالاختيار الشخصي. وحتى اذا تجاوز المرء الخوف بتأثير الثقافة وخصائص الشخصية ويقظة الوعي، فان وجهة نظره، سيشربها الحذر والتردد، والارتباك.
ثمة جمل أخرى تقارب الجمل السابقة في الالتها وروحها، لكنها اختلفت قليلا في صياغتها، شاع استعمالها بين خطباء المحدثين من ذوي الاتجاه الليبرالي، نلاحظ في صياغتها قدرا من المداهنة، والدماثة، والتماهي، فيبدأ الخطاب بها هكذا:
"لا بد انكم ترون معي.." او "الابد انكم تتفقون معي" أو "كما لا يخفى عليكم" او "من البديهي أن..". وفي هذه الصيغ يبدو الخطيب او الكاتب وكأنه يقول للمتلقي: ان هذا الرأي الذي أطرحه، هو رأيك أيضا، لذا لا يجوز ان تشك فيه.
ان الشرك في هذه الصيغ يكمن في تماهي المتكلم برأي المتلقي، ذلك الرأي الذي لم يتكون ولم ينكشف بعد، لا للمتلقي ولا للمتكلم!
ويمكننا ان نلاحظ ان في كل الجمل الاستهلالية وصيغها، يكمن مجهول ما.. ضمير مستتر تقديره (هم).. وهم، اولئك، كائنات خفية، اعطت موافقتها، ويقينها لكل خطيب وكاتب وباحث، كما قدمت البراهين والادلة على استحالة ان تكون الامور على غير ما يرونها! وبعا ان المخاطب يخاطب الجموع، فان الكائنات الخفية تلك، ربما تكون هي الجموع ذاتها، وقد اعطت موافقتها مسبقا، فيما يشبه (العقد الاجتماعي) على حد تعبير جان جاك روسو! لذا لا يحق لها ان تنتقد او تجادل بعد!!
ان أي قارئ متمعن، يستطيع ان يلاحظ هذه الاستهلالات في أي مقال في صحيفة، او حديث شفاهي، او كتاب يتضمن بحثا او دراسة، أدبية كانت، ثقافية عامة، او علمية، فهذه الجمل لا تستثني من أي خطاب معرفي، عربي التأليف، او مترجم الى العربية، ويمكننا الا نستثني لفظتي (يجب) و(ينبغي) في دلالتهما الوعظية والجبرية!
ان عدوانا يقع على الموضوع من وظائف بعض الصيغ المتداولة، وهذا (العدوان يسمى بأسماء قاسية مثل النفاق، او يسمى احيانا باسم الكياسة والتلطف، واقامة الود بين الناس. (12) لكن هذا العدوان لن يقع على الموضوع فقط، بل سيقع على الكاتب الذي يهدف الى ايصال معرفة ما للقارئ. كما سيقع على القارئ ايضا، ويحيله الى حالات مترابطة: الاولي: تصديق كل ما يقال ويكتب، وما تنقله وسائل الاعلام والاتصال، ايا كان مصدرها، والثانية: الكف عن التفكير والتحليل والنقد والفرز، أي القبول، الاقتناع، الاذعان، ثم التمثل، أليس من منطق المألوف، ان ما نصدقه.. ما نوافق عليه،لا نشك فيه ؟
الاسلوب بوصفه وظيفة اجتماعية
قد يذهب البعض الى الاعتقاد بأن هذه الجمل الاستهلالية، ليست اكثر من كونها مفتاحا للاسترسال في الحديث، او انها مجرد صيغ بريئة، اعتاد الناس تداولها دون ان يقصد من ورائها غاية ما، لكن هذا الاعتقاد سيلفي حقيقة الترابط بين اللغة والتاريخ. كما سيلغي الوظيفة الاجتماعية للغة والاسلوب، ويجعل منها مجرد أدوات حيادية باردة، وتبدو الفكرة والخطاب هما المعول عليهما، وليس لهما علاقة وثيقة بالاسلوب.. وهذا الاعتقاد يرفضه الاسلوبيون الذين يرون (ان كل ظاهرة اسلوبية، تحقق وظائف اجتماعية، كما ان كل ظاهرة اسلوبية، هي من بعض الوجوه، موقف واختيارات، واللغة لا يمكن ان تشرح بمعزل عن سائر اختيارات الحياة (13). وحين نكتب موضوعا عن العلم والمعرفة والحرية والعدل والحق، فليس من المنطق اذن ان نستخدم صيغا تتضاد في وظيفتها مع وظيفة الموضوع. وحين نريد ان نبلغ الآخر معرفة ما، فليس من قيم المعرفة، ولا منطق العدل ولا خصائص العلم ان نفرضها عليه فرضا، او نحيله بالايحاء وفيما يشبه التهديد الى انسان مذعن، خائف، او حذر من الجدل والنقد والاختلاف. وتفعيل الخيال، وهي ردود الفعل التي تبني شخصية وفق خياراته، وغاياته في الوجود، ان القول الذي يروجه بعض االاعلاميين وبعض المثقفين الذين اصدروا كتابا ولم تنفد مبيعانه في السوق، بأن الناس لا تقرأ ولا تهتم بتداول المعرفة ومناقشتها، تعوزه الدقة والمصداقية. فالناس عادة معنية باكتساب المعرفة، مقروءة ومسموعة ومرئية، والا ما شاهدنا شخصا واحدا يذهب الى ندوة ليستمع ويتساءل.. ولم نر غير الاعلاميين بتوجهاتهم المختلفة، للقيام بوظيفتهم التزاما. ولأغلقت كل المكتبات،. دور الصحف، ولما رأينا هذا الكم من المجلات الاسبوعية والشهرية. الدورية، التي وان كانت لها غايات اخرى، الا انها تستطيع الا ان تلبي رغبة الناس في معرفة ما يحيط بها، وما يعني شؤون حياتها واهتماماتها المتنوعة. ولما رأينا معارض الكتاب التي تقام هنا وهناك. وتشترك فيها المئات من دور النشر، وتعرض عشرات الآلاف من الكتب في شتي المعارف الانسانية.. وتسعى لتطوير وسائلها وفق معطيات العصر. وتبيع وتشتري، وتدخل في صفقات ومداولات، كما تتسع وتزداد، حتى صار نشر الكتب والترويج لها، أحد أوجه الاستثمار والتجارة! لذا فان القول بكساد سوق الكتاب وخسائر دور النشر، نتيجة انصراف الناس عن القراءة، واهتمامها بالسلع والتسلية الفارغة، وموقفها الساخر من الثقافة والمثقفين.. الى غيره، قول لا يستقيم لتضاده مع وقائع الامور، كما انه لا ينبى على تقص موضوعي دقيق.
التلازم التلقائي بين التلقي والنقد
اذا كانت المعرفة بمعنانا الواسع هي رغبة الناس عامة، فان الثقافة المتخصصة ليست مطلب الجميع، شأن أي نشاط مختلف يمارسه البعض دون البعض الاخر، واذا استثنينا (172) مليون أمي عام 2025 في واقع الامة العربية وفق احصائيات المنظمة العربية للتربية والعلوم لعام 1995 (14) والفروق الفردية بين الناس في القدرات والطاقات والمنشأ والبيئة الاجتماعية وأنماط المناهج التعليمية التي لا تربي قارئا ومثقفا بسبب وسائل التطبيق القسرية، ووسائل التسطيح والتهميش الشائعة، فان الانسان العربي بصفته انسانا معنيا باكتساب المعرفة بفطرة الانسان، كما انه معني بنقد واقعه بالفطرة ايضا، وفعل النقد ينهض في الآن ذاته الذي يتلقى فيه خطاب المعرفة. وسيتخذ هذا النقد تعبيراته المختلفة وفق الشروط الموضوعية التي يعيشها المتلقي، فقد يتخذ شكل النقد الصامت او الشفهي، او المكتوب – اذا سمح المناخ العام – في اطار حياته الخاصة والعامة. وهذا الملكة النقدية عند الانسان هي سر فرادته وتميزا عن ساتر الكائنات التي تعيش وفق فطرتها المجردة. وبهذه الملكة يغير شروط واقعه الانساني عن حال الى حال.. لذا فان آية وسيلة تحد من تفعيل هذه الخاصية، تعني في دلالتها، التدجين والترويض والتطويع وما يقاربها من مفردات، وهذا الترويض سيتماهى مع وسائله المختلفة المتمثلة في بعض وجوهها في اللغة واساليبها، اضافة الى الانماط المتكلسة من القيم الاجتماعية والمعرفية، واجناس الثقافة المقننة!
ان التأمل العميق في كيفية اتخاذ رغبة العرفة ورغبة النقد وسيلتهما في التحقق، سيوضح لنا تلازما تلقائيا وضروريا يتم في ذهن المتلقي، بين رغبة المعرفة ورغبة النقد، فحيق يستعن المتلقي او يقرأ او يشاهد خطايا معرفيا ما فانه يدرك ان المخاطب (بكسر الطاء) يريد ان يبلغه امرا ما وهو في استخدامه اللغة مفردة واسلوبا يريد ان يثير انتباهه لموضوع الخطاب. والمتلقى في تتبعه سير الموضوع يشعر بالاهتمام من خلال صيغ البلاغة وما تبثه من انفعالات وصور وافكار وايحاءات، فيزيد اهتمامه او يقل حسب اقتراب موضوع الخطاب من حياته وتجربته وطموحه. ومواقفه من الحياة، أو ابتعاده عنها، وشعور الاهتمام هذا يولد رغبة في تحليل وفحص مضمون الخطاب واشاراته، ثم يتخذ موقفا منه سلبا او ايجابا نتيجة قيامه بعقلية النقد المصاحبة في الوقت نفسه لعملية التلقي. وهذا النشاط النقدي يقود الى التكذيب او التصديق، الايمان او الشك، الاقتناع او الاختلاف، الصمت او الجدل.
هذا ما يحدث حتى في قراءتنا الخاصة، اذ يقوم البعض بتدوين رأيه وملاحظاته على هامش الكتاب، وهذه الملاحظات في معناها نقد صامت لا نقصد نشرة كما اننا ننساه بمجرد انتهائنا من القراءة، الا انه يكون قد حدد موقفنا ورأينا في الكتاب، البعض الآخر لا يقوم بعملية التدوين لكنه ينشط ذهنيا وينتبه لما يقرأ وتتم عملية النقد الصامت في الآن نفسه وتنهض ردود الفعل في النفس والذهن، ويتم التقييم الذي بدوره يؤدي الى ما أدت اليه الطريقة السابقة.
هاتان العمليتان المتلازمتان يقوم بهما الانسان وفقا لطبيعته الانسانية الطلقة، اذن ما الذي يضعف هذه الطبيعة ؟ و كيف يصاب الذهن والنفس بالوهم والسكون؟.
البلاغة بوصفها ترويضا
الى جانب وسائل كثيرة، ستقوم اللغة بفعلها الترويضي عبر صياغتها الثابتة على المخاطب والخطاب والمتلقي. فالمخاطب سيطرح موضوعه الذي يعتقد انه مهم، وهو معني به، ويريد ايصاله الى المتلقي عبر الصياغة البلاغية للغة. وأيا كان فحوى الخطاب، اجتماعيا أم سياسيا أم علميا أم أدبيا، فان المخاطب قد لا ينتبه الى نوايا اللغة بحكم التعود، اذ ان صيغها الجاهزة متداولة (ولا غبار عليها!) لكن خصائص البلاغة اللغوية لا تقول ذلك، فالكاتب لابد ان يدرك خصائص اللغة وغايته من استخدام هذه المفردة او تلك. يقول ابو عثمان الجاحظ (كلام الناس طبقات كما ان الناس طبقات، فمن الكلام: الجزل والسخيف والمليح والقبيح والثقيل، وكله عربي، وتنزيل الكلام هذه المنزلة يحتاج الى تمام الآلة واحكام الصنعة واقناع المتكلم بأن سياسة البلاغة اشد من البلاغة) (15) وهكذا فان المتكلم يعرف كيفية التبليغ، فان كان يريد فرض معرفة ما يعتقد ويؤمن بأنها صحيحة ومؤكدة و(لا شك فيها!) ولا تقبل بالاختلاف فسوف يجد في صيغ كتلك غايته، وتؤدي كل من اللغة والنية وظيفتهما. أما اذا اراد ايصال معرفة يرغب في التأكد من صحتها باستطلاع وجهة نظر الآخرين فيها، وفي فيته طرحها للتحليل والجدل، فان صيفا كتلك لن تسعفه. ولن ينفعه اعتماده على ذبذبة نواياه الخفية التي يأمل ان يلتقطها المتلقي، فالمتلقي قد تم ترويضه مسبقا عبر سياسة البلاغة، على حد قول الجاحظ.
افقار الحس التحليلي
يأخذ الحراك الاجتماعي والثقافي في مجتمعاتنا العربية اشكالا عديدة من الانشطة، أكثرها شيوعا وانتشارا، هي الندوات التي تقام لأسباب وغايات متباينة، منها الندوات العلمية، والندوات الثقافية التي تتسع بسبب شمول المصطلح لخدمة كافة التوجهات، والتطرق لمختلف أشكال المعرفة والعلوم النظرية. والمتتبع لهذه الندوات، سيلاحظ ان روحا من القبول والتوافق، والانسجام تخيم على الجماهير التي تحضر الندوات او كأن ليس في الخطاب – محور الندوة – ما يختلف عليه اثنان (!)
الا ان المتأمل لسير الندوات سيدرك أن سر هذا الانسجام التام، يكمن في لعبة خفية يشترك فيها كل الاطراف. اللغة والمحاضر والشخص الذي يدير الجلسة والمتلقي، فبعد انتهاء المتكلم من تقديم خطابه، يفتح باب النقامق لمعرفة وجهات نظر الحضور في حيثيات الخطاب، لكن باب النقاش لن يكون سوى طقس يحكم اطار الندوة على المتلقي، فالترويض قد انجز مسبقا بما تضمنته روح الصيغ الاستهلالية من مصادرة لحق الجدل والشك، والالتباس والاختلاف، والمتلقي اذا استرسل في كلامه وتضمن سؤاله نية النقد والجدل فسوف يتم تذكيره بضرورة تحديد سؤاله بدقة، حتى يتسنى للمحاضر ان يقدم له الجواب. ويفترض في الجواب ان يحسم السؤال والمتسائل! لكن بعض المتلقين يكونون قد اكتسبوا – الى جانب الثقافة والوعي والخبرات، والقدرة على تحديد الموقف والرؤية – روح المشاكسة التي تجعل من سؤالهم مضمرا بروح النقد والجدل. فيسخن جو النقاش ويدخل مساحة التشكيك والاختلاف الذي سيستفز المحاضر للرد، فينشأ الاحتدام.. لحظتها سينهض الشعار- طيب النية – (الاختلاف لا يفسد للود قضية) وتكمن المداهنة في هذا الشعار، في مضمونه الذي يشي بالخوف من الاختلاف، كما يشي برفض اثارته، لذا سيصبح النقاش بعيدا قدر الامكان عن موضوع الخطاب وتناقضاته، ونقاط تعارضه مع وعي المتلقي، وسيتم تحاشي تقاطعات آراء بين المتلقي والمحاضر، اذ ان الاختلاف قد قنن مسبقا وتاليا، بصيغ البلاغة والمجاملات الاجتماعية!
هكذا نصير الى بشر لا اختلاف بيننا، وأمة تشيع بينها روح الاخاء والمحبة والتسامح والتصالح. وليس في واقعنا صراع على أي صعيد، ولا تسيد ولا خضوع.
هذه الروح المعممة عبر وسائط اللغة والثقافة المقننة، وأشكال حواملها، ستفعل فعل المروض والكابح لتطلعات الانسان وقدرته على تمحيص الامور، كما تفقر حسه التحليلي والنقدي، وتضعف روحه التائقة للارتقاء والتغيير. والفادح في الامر ان استشراء هذه الروح المروضة لن يتم لحساب المجتمع نفسه والامة نفسها، بل ستمتد الى كل ما يندس اليها من خارج هذين التحديدين. وتصبح اية معرفة ومقولة مستسلما لها بحكم تعود القبول والتسليم، وتحاشي الصدام والاختلاف. بل سيصير أي تسيد خارجي لا يختلف عن التسيد الداخلي- وفي الحياد- ليس أسوأ منه. فليس النظام العالمي الجديد بأسوأ من النظام العالمي القديم، وليست الهيمنة العالمية بأسوأ من الهيمنة العربية، وليست العولمة بأسوأ من السولفة (اشتقاق من السلفية)… الخ. هكذا سيكون القياس هو الاسوأ وليس الافضل.. وطالما أننا لا نستطيع ان نبدي رأينا في السوء..فلن نستطيع ان نجهر برأينا في الأسوأ. ومثلما اننا لا نستطيع ان ننتقي الافضل، فلن نستطيع ان ننتقي الافضل منه.
جمود الخطاب القياسي العربي
اذا كان اكتساب المعرفة وحاسة النقد هي ممارسة البشر عامة وتعبيرا عن طموحهم للارتقاء والتطور، فان هذا الطموح لا يتحقق الا بمنهجية تتسم بالمرونة والحيوية والمعاصرة، وفي عصر يلهث لاكتشاف الكون بخطي ممنهجة ومتسارعة، لن يتحقق هذا الطموح، في بعض جوانبه، الا بتطور الخطاب المعرفي عبر لغته، واساليب صياغتها المتطورة، واي تغيير يطرأ على حركة المجتمع يقتضي بحكم الضرورة، تغييرا في البنى التعبيرية الاساسية، والا فسوف يتخلق ما يشبه الفصام بين واقع المجتمع واساليب تعبيره.. بين القول ومدلوله.
ان القيم التي تتبدل لضرورة العصر والمتغيرات، ستبحث عن وسائلها واساليبها التعبيرية حين لا تجد ما يلبي شرطها في بينتها، سواء كان هذا الشرط لغة او سلوكا، او رؤية او موقفا من المحيط والحياة والعالم. وهذا ما يفسره شيوع استخدام اللغة الاجنبية – بانتسابها الى حضارة اكثر تطورا وتقدما- في حياتنا الخاصة والعامة، ليس فقط بسبب من الشعور بالدونية تجاه الاجنبي، بل بسبب انغلاق وسائلنا التعبيرية على قيم ماضوية تفتقر الى المرونة والحيوية الامر الذي جعل اغلب الاسر العربية التي نالت شهاداتها العليا في الدول الاجنبية، او انجزت تخصصاتها باللغة الاجنبية، بل من هم أقل من ذلك مستوى تعليميا، يرضعون أبناءهم اللغة الاجنبية، ليس تعبيرا عن مرتبة في السلم الاجتماعي فحسب، بل سعيا خفيا، لايجاد بديل للتفكير والتعبير والثقافة والشرط المعيشي، والاحترام والاعتبار!
كتب الشاعر المغربي محمد بنيس، حول بروز خطاب جديد بين بعض الكتاب المقاربة الذين يكتبون اللغة الفرنسية، يتحدثون فيه عن وضعية اللغة العربية ويرون ان التعبير بها اصبح ضرب من العبث، لأنها لغة مشروطة بمنع التعبير عن الحياة البشرية في تعاملها مع اليومي المعاش، وخطابها الفكري والجمالي. وهذا المنع يجد مرجعه في جمود القيم من جهة كما في القواعد النحوية والدلالية والبلاغية. ويرون انها لغة زمن مضى لمجتمع مضى. وليس لهم الآن غير مواجهة الحقيقة والكتابة باللغة الفرنسية كسبيل لانتاج خطاب معرفي حديث، يعبر عن حياتهم ورؤيتهم وموقفهم من الواقع والوجود.(16)
في رفضه هذه الدعوة يفند بنيس تلك الظاهرة، ويفسر اسبابها وحججها، ويذكر: ان قبل أكثر من قرن، كانت مسألة اللغة العربية من صميم المشاكل الاساسية المطروحة على التحديث العربي. الا ان خطا أحمر لم يمكن تجاوزه في تحديث اللغة. وقد ترافق مع النقاش حول قابلية او عدم قابلية العربية لاكتساب معرفة حديثة والتعبير عنها،ولم يكن العرب غافلين عن وضع لغتهم موضع النظر والصراع معا. ويرى بنيس ان ذلك علامة مثيرة الى انشداد أمة الى حيريتها وضرورة التخلص مما يعرقل اندماجها مجددا في الحياة، ولا معنى لذلك سوى جعل العربية لغة لزماننا. فتخلقت لغة ثانية اخذت تشع من بين الرميم، والذهاب والاياب بين الماضي والحاضر، وبين الحاضر والمستقبل، طريق ليست سالكة على الدوام المنعرجات والعراقيل.. السرعة والتراكم، الذات والآخر.. الحرية والاستبداد، كلها حاضرة في اللحظة الواحدة وفي النص الواحد أحيانا.(17)
حاولت الحداثة في مشروعها الثقافي والابداعي كشط الجلد المتيبس من جسد اللغة العربية، ومدها بدفق من دم جديد لتفعيلها واكسابها حيوية ومرونة تؤهلها لهضم المعرفة الجديدة. وتمثلها في صياغة تلائم الطموح والتغيير وتعبر عنه، الا ان الحداثة جوبهت بمتاريس السلفية ورماح السخرية واللمن والشبهة. وجعلت من المعبرين عنها بشرا غرباء في واقعهم وغرائبيين في شطحهم، كما جعلت منهم كائنات ملتبسة تهبط من فضاء آخر، وتحمل رسالة عدوانية، غايتها تغريب المجتمع، وهدم المرتكز الاساسي للهوية العربية.
ان ظواهر من نوع دعوات الكتاب المقاربة، ستبرز دائما، طالما هناك اصطراع بين الثابت والمتحول بين وجدان يتطلع ولسان ساكن، واذا كان الكتاب المغاربة استطاعوا التعبير والاعلان عن التناقض، باختيار الوقوف على الضفة الاخرى، في واقع هيأته ظروف تاريخية ومعاصره..0فان الكثيرين من كتاب المشرق العربي، ينتخبون الموقف ذاته دون اعلان، فهم يحملون ويفكرون ويقرأون ويرون العالم من خلال لغة وثقافة أخرى، لذا، حين يعبر بعضهم عن أفكاره بلغته الأم، يبدو التعبير (الكتابة) وكأنها ترجمة حرفيا عن تفكير بلغة اخرى، فالترجمة الحرفية تتسم عادة بالالتباس والتشتت، وتفتقر الى السلاسة والوضوح والترابط!
ومن أبرز الظواهر غير المعلنة في حياتنا الثقافية، ما نلحظه من لجوء دائم وكبير الى المراجع والاسنادات الاجنبية لتفسير الظواهر والعلل التي تنبع من الواقع العربي وتصب فيه، فالخطاب القياسي العربي لم يتطور حتى يستطيع ان يفسر الظواهر المعاصرة بلغة معاصرة، وحتى حين يجري الاستناد على رأي مفكر عربي معاصر فان ذلك المفكر قد استند في موضوعه وقياسا على المرجعية الاجنبية، لذا تبدو البحوث في اغلبها وكأنها عملية قص ولصق يغيب عنها رأي الباحث الصريح، ووجهة نظره الخاصة!
صحيح ان اية معرفة انسانية تنبع من حضارة ما، تصب في مجرى الحضارات الانسانية عامة، الا أنها حين تصير هي المصدر والموئل الاساسي لفهم وتفسير حضارة أخرى، فان فجا عميقا يكون قد شطر الحضارة تلك عن منبعها!
الهوامش
1 – (تشير اللغة الهيروغليفية الى المعاني ومقاطع الكلمات بصور واشارات، اخذ الكنعانيون مقطعا من صوت لفظ كل صورة واشارة ورمزوا اليه بحرف، فحرف الالف مثلا هو رمز لصورة رأس الثور في الهيروغليفية، اغفل الكنعانيون لفظها باللغة المصرية، واطلقوا ما يقابله في لغتهم الخاصة بهم، فصار حرف الألف، وبهذه الطريقة عالجوا صورة البيت، فاختزلوها، واطلقوا عليها ما يقابلها في لغتهم، واعتمدوا على الحرف الأول من اسمها وهو الباء. وهكذا حتى تكونت الابجدية التي تعد، اقدم ابجدية معروفة حتى الآن، شرقا وشمالا وجنوبا، كما يذكر ((ولفنسون)) في كتابه (تاريخ اللغات السامية) حضارة العرب ومراحل تطورها عبر العصور- د. احمد سوسة / الجمهورية العراقية -وزارة الاعلام – 1979).
2- المرأة والكتابة – رشيدة بنت مسعود/ افريقيا الشرق / 1994.
3- استطلعت جريدة الخليج في ملفها الثقافي (العدد-6938) آراء بعض المثقفين العرب حول (المثقفون العرب والعولمة) من بينهم المفكر الدكتور عابد الجابري، وقد لفت انتباهي قوله في نهاية رأيه: (نحن – العرب – قطيع غنم من دون راع) وقد رأيت في هذا القول استخداما لغويا درج الاخذ به كجزء من ثوابت اللغة العربية، منحدرا من الروح الرعوية التي لا ترى في البشر الا بهائم لا تنتظم الا بعصى الرعاة، وهو قول لا يتسق مع ما يذهب اليه الجابري في اطروحاته الفكرية عامة، ولا مع ما يرزأ به الواقع والامة العربية.
4- جذور الاستبداد – د. عبدالغفار مكاوي/ عالم المعرفة / العدد 192/ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب / الكويت / 1994..
5- نفس المصدر.
6- اللغة والتفسير والتواصل / د. مصطفى ناصف / عالم المعرفة /الكويت.
7- نفس المصدر.
8- نفس المصدر.
9- نفس المصدر.
10- نفس المصدر.
11- المنجد في اللغة والاعلام / الطبعة الرابعة والثلاثون / 1994/ دار المشرق – بيروت.
12- اللغة والتفسير والتواصل / د. مصطفى ناصف / سلسلة عالم المعرفة / المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب / الكويت.
13- الاتجاهات اللسانية ودورها في الدراسات الاسلوبية / د. مازن الوعر/ مجلة عالم الفكر/ الكويت / العدد 3+4/ 1994.
14 – مقال / محمد الشرايدي/ جريدة البيان / 2مايو 96/ دبي.
15 – الجاحظ (ابو عثمان / البيان والتبيين – الجزء الأول الاتجاهات اللسانية../ د. مازن الوعر/ مجلة عالم الفكر/ الكويت.
16- محمد بنيس / جريدة الحياة / العدد 11963 / 1995.
17- نفس المصدر.
حمدة خميس (شاعرة من البحرين)