سعيد بنگراد
ناقد وأكاديمي مغربي
1
لا دخل للأشياء والكائنات في ما تقوله الكلمات، فحقائق الوجود مودعة في كلام الناس لا في تفاصيل الطبيعة. “فلكي نعيش ونضمن بقاءنا نحن دائما في حاجة إلى التسلل إلى وجدان الآخر والتعرف عليه بواسطة الكلام. وبفضل هذا الكلام أيضا يُكشف عن أسرار النفس وأهوائها”(1). ذلك أن الواجهات المادية لهذا العالم شيء سابق على التجربة الإنسانية ومفصول عنها في الوقت ذاته؛ إنه حِس صامت ممتدٌّ في ذاته وحدها. لذلك لا نُبدع في الحدس الوجداني، إننا نتمثل ما تسمح به اللغة وتبيحه.
“إن الأساسي في الوجود هو الكلام، أما الباقي فمجرد ثرثرة ” (يونيسكو)، لذلك كانت الكلمات” أطولُ عمرا من الأشياء التي تمثلها”(2)، وكانت بذلك أغنى منها في الذاكرة وأشد وقعا من حيث الاستعمالات الرمزية أيضا. “فبفضل اللغة استطاع الإنسان أن يتخلص من الإدراك الخام، ومن التجربة الخالصة، كما استطاع أن ينفلت من ربقة” “الهنا” و”الآن”(3)، وبفضل هذا التوسط استعادت “الأنا” صوتها واستقلت عن محيطها.
وهذا معناه أننا “في” العالم لا “داخله” (هايدغر)، إننا فيه مع الآخرين. فلكي نستوطن ذاكرته علينا حشوه بالمعاني لكي يصبح دالا علينا وحدنا، ذلك أن الكينونة تكشف عن نفسها في المعنى وبواسطته، فذاك شرط وجودها وشرط الزمنية فيها أيضا. إن حضورنا في العالم يقتضي انفصالنا عنه، فهذا الانفصال هو السبيل إلى التأنسن. يتعلق الأمر بالإمساك بمعنى الأشياء في اللغة لا الإحالة على الأشياء في ذاتها. ذلك أن التمثيل الرمزي، بكل أسناده، ليس استنساخا حرفيا لعالم، بل هو في الأصل تقليص لكل أشكال الحشو والتعدد والتنوع بغية الاحتفاظ بما يمكن أن يشكل صورة ذهنية عامة تستوعب كل النسخ الممكنة.
فلا منفذ إلى العالم دونها، فهي وحدها تُحيي وتُميت وتَبعث من رماد ما “التهمته نيران الزمن” (شلايرماخر)، وما ضيعه التباعد والغربة الثقافية. “فلا شيء واضح قبل ظهور اللسان” (سوسير). “فبواسطة العلامات نتحكم في الأشياء… وتلك هي السلطة السحرية للكلام الإقناعي أيضا”، “لذلك ننظر إلى الأشياء والكائنات كما علمتنا الثقافة فعل ذلك دائما”(4)؛ والأصل في هذا أن أدوات الترميز ذاتها موسومة. فاللغة لا تسمي وتصف فقط، إنها أداة للفصل والتمييز والتدقيق والتبرير والتضليل؛ إنها تكشف وتداري وتدقق وتفصل وتميز. وذاك مصدر سلطانها، إن حقائقها لا تُبنى انطلاقا من تقدير موضوعي لأشياء الكون وكائناته، بل تُستمد من مواقف اجتماعية لا تكترث في الكثير من الحالات لحقائق الوجود الفعلية.
فقد تكون “اللغة حاملة لرؤية للعالم، ولكنها مشحونة أيضا بقيم هي ما يحدد بشكل قبلي التوجيه الإيديولوجي للكلام”(5). فالمتكلم داخلها لا يستطيع تجاوز الأطر، الدلالية والتركيبية، التي تتحكم في تحقق الخطاب داخلها. وهذا معناه أن القول هو مستودع القيم وحاملها، فقد يكون اللسان صامتا في القواميس، إلا أنه لن يكون أبدا إطارا فارغا تملؤه الممارسة الكلامية بشكل لاحق في انفصال كلي عن احتمالات تحققه؛ إنه، على العكس من ذلك، يتضمن مواقف سابقة على الكلام وهي المحددة لتحققاته. وتلك طبيعة كل حالات الترميز الإنساني، كما تتحقق في أشياء العالم وظواهره، وكما تتجلى في الطقوس الاجتماعية وفي طاقات الجسد وإيماءاته. إن النفس تستعير من محيطها غطاء لانفعالاتها، بل قد يكون شكل هذا المحيط واجهة من واجهات انتمائها (الألوان التي اتخذتها الأحزاب والمذاهب بل والدول أيضا رموزا لها).
وذاك هو الفاصل بين حدس الجماليات وحسيتها وبين مفهمة التفكير المنطقي. يتعلق الأمر بالفاصل بين ما كان يسميه كروتشيه “المعرفة الحدسية” التي تتم عن طريق الخيال والمولدة للصور، وتلك هي وظيفة النوافذ الحسية التي نطل من خلالها على الأشياء ونتعرف عليها، وبين “المعرفة المنطقية” التي تتم عن طريق الذهن وهي المولدة للمفاهيم، وذاك سبيلنا نحو التمكن من ضبط العلاقات التي تجمع بين هذه الأشياء ضمن نسق بعينه. فنحن لا نرى الأشياء فقط، إننا ندرك ما يفصل بينها أيضا. فالشجرة تستوطن اللغة عندما تُصبح بديلا عن كل الأشجار الممكنة، وعدا ذلك، فإنها تظل حسا عارضا في الذاكرة. ما كان يسميه بورس” التجربة الصافية”، ما يمكن أن يختفي بعد اختفاء الشروط التي أنتجته.
وتلك خاصية من خاصيات التمثيل البصري أيضا. فـــــ “الزهرة” في اللوحة أو الصورة لا تحيل على الزهرة كما هي في حقيقتها، أي على ما يقدمه نظيرها في الطبيعة، إنها تستثير في النفس مشاعر شتى من قبيل الحب والود والصداقة أو الهدية والتسامح أو ما شئتم من المشاعر التي تجمع وتوحد وتصالح بين الناس. بل قد يصل الأمر إلى حدود إسقاط مراحل من العمر، حين تصبح الزهرة موضوعا نُسقط من خلاله زمنية يكون فيها الربيع دالا على شباب هو أجمل ما في الحياة. إن الإبصار عابر في العين، أما النظرة فخالدة فيها. لذلك يُقال إن أزهار ليني Linné لا تشبه إلا قليلا أزهار اللسان (وليني هذا هو عالم طبيعة سويسري من القرن الخامس عشر). إن ذاكرة الزهور تولد وتنمو في المعاني لا في المروج والحدائق.
وهذا معناه أننا لا نتداول في شأن الزهرة كما هي في التجربة الفعلية، بل نستمد قيمتها من كل الأزهار التي تسربت إلى عوالم الرمز والمتخيل والاستعمالات الاستعارية. إنها صياغة جديدة لنصوص محتملة تُحيل على ما توحي به وتستثيره في الوجدان فرحا وحزنا: يضع الغربيون الزهور على القبور، وهي ذاتها التي تُهدى في أعراسهم وتكون عربونا للمحبة في الزيارات. ولن تكون التجربة الأولية، استنادا إلى ذلك، هي أصل المضامين التي يتداولها الناس، فمضمونها هو كل الأشياء والكائنات التي استوطنت التجربة الإنسانية. إن العالم يصبح دالا في اللغة لا في ماديات أشيائه، فداخلها يولد وينمو ويتحلل أيضا. فمن خلال اللغة (المعنى) أصبح الإنسان واقعة في التاريخ، لا مجرد حدث عارض في الطبيعة.
وتلك صيغة أخرى للقول، إن اللغة لا تكتفي بتخليص العين مما يشدها إلى أفق محاصر بأشياء وكائنات وظواهر، إنها تقوم بأكثر من ذلك، إنها تفتح أمامها أفقا لمعان تنتشر في كل الاتجاهات، فالكلمة تُعين شيئا ليعرف الناس عنه أشياء أخرى، ذلك أن “معرفة الكلمات هي سبيلهم إلى معرفة الأشياء”، كما كان يقول أفلاطون. إننا لا نكتفي بإنتاج ما يمكننا من تعقل محيطنا وإدراك النفعي فيه، إننا، بالإضافة إلى ذلك، نُطلق العنان لسيرورة تدليلية تتم داخل النص الثقافي بممكناته وإكراهاته. وسيكون مصدر جزء كبير من هذه الدلالات هو الذات التي تَعْرِض أفقها على عالم يأتيها من خارجها. ذلك أن “الأنا التي تأتي إلى النص هي ذاتها مزيج من النصوص السابقة”، كما كان يقول رولان بارث.
2
لذلك لن تكون المضامين التي تكشف عنها النصوص الفنية، نصوص اللفظ والبصر وطقوس الجسد وإيماءاته، سوى سياقات تُبنى في تنوع القراءات وتعاقبها في الزمان وفي المكان. يتعلق الأمر بتجارب جديدة تُبنى على هامش الحياة الفعلية وضدا عليها في الكثير من الأحيان. ذلك أن اللغة ليست واسطة محايدة بيننا وبين ما نُدركه، أي ما يلتقطه وعي لا يمكن أن يكون إلا من خلال أشياء تهفو إلى استيطانه. ” فأن تقول شيئا ما عن شيء ما، معناه أن تقول شيئا آخر، أي تؤول”، كما كان يقول أرسطو. فلا أحد منا قادر على استحضار العالم في ذاكرته قبل أن يستوطن اللغة ويحيا داخلها.
استنادا إلى ذلك كان المعنى فيها قائما على فرضيات مصدرها التأويل، فهي ما يؤسس حقائقها في ذاكرة المتلقي. فالتعدد هو الأصل في تمثيل الظواهر وتداولها. لذلك لا يمكن الإمساك به إلا من خلال استحضار قصديات مستحدثة في النص، أي ما يجعل منه كيانا مستقلا يُمثل عالما يُحيل على دلالة أو دلالات بعينها. يتعلق الأمر بقصديات تتشكل انطلاقا من معطيات أولية هي مصدر البناء التخييلي، ولكنها منفصلة عنها من حيث قدرتها على توليد غايات جديدة ليست مدرجة بالضرورة في الوجه الصريح للنص. فلا شيء يُستنسخ في الوجود، كل شيء يُعاد بناؤه وفق إكراهات التمثيل الرمزي وضوابطه.
إن ما نقرأه حقا هو تجسيد ممكن لسلسلة من العلامات هي حاصل هذه القصديات، وليست كشفا عن “حقائق” لا يعلم سرها سوى صاحبها. يتعلق الأمر بـــ”محميات دلالية” تنمو على هامش تجربة المعيش اليومي وفي انفصال عنه. وتلك هي المناطق التي نُهرع إليها عندما تحاصرنا الحياة بوجهها النفعي البشع. هناك دائما هوة كبيرة بين ما نوده ونجري وراءه وبين ما نحصل عليه فعلا، ومن هذه الهوة تنبثق سلسلة من الصور التي تتخذ أشكالا متعددة وتتحول إلى وعاء لكل ما ضاع منا أو ما نتوهم أنه كان في ملكنا واختفى. وذاك هو مصدر الحاجة إلى نصوص الفن في كل المجالات. إننا نعيد إنتاج إرث الإنسانية كلها في سلوكنا؛ لقد اختفت أصنامنا وتماثيلنا، “واختفت الآلهة والطقوس الوثنية واختفت في تفاصيل الماضي، ومع ذلك مازالت حاضرة في العطور والفساتين الطويلة والحفلات التي مازالت تُقام إلى يومنا هذا”(6)، وحاضرة في السلوك السياسي وفي العلاقات الاجتماعية والكثير من طقوس الدين أيضا.
لقد تراجع التفكير الأسطوري، ولم يعد أداة لتفسير أي شيء، ومع ذلك لم نتخلص أبدا من طقوس هي في الأصل بقايا هذا التفكير في سلوكنا: إننا نلعب ونرقص ونتسلق الجبال ونستحم في البحار، نفعل ذلك للتعبير عن رغباتنا الدفينة في التسامي وتجاوز حدود الفرد فينا، أو عن رغبتنا في البعث والتجدد والتطهر. ولن تكون مجمل الطقوس الاجتماعية سوى محاولة للتحايل على أعراف وعادات وممنوعات نرغب في خرقها. إن خرق المحظور جزء من شرط وجودنا، تماما كما أن الامتثال له سيكون سبيلنا لكي نتعلم من خلاله كيف ننتمي طوعا إلى ثقافتنا.
لذلك كانت النصوص “بناء خاصا” ينمو ويتطور على هامش التجربة الحياتية المألوفة. إنها نافذة نُطل من خلالها على المنسي فينا، أو على ما تسرب إلى الداخل المظلم خارج كل أشكال الرقابة. إن العالم يصبح فنيا عندما يحتمي بالمستهام والمستعار وما بني وفق آليات الممكن والمحتمل. فما يأتي من الرواية مثلا ليس سياسة أو إيديولوجيا تفسر العالم، إنها عوالم تبنى في التخييل وفق مقتضيات خصائص النوع وإكراهاته. وقد تكون هذه النصوص أداتنا في استعادة زمنية روضها السرد، فالسرد احتفاء بالزمن. لذلك لا يمكن للعالم الروائي أو الشعري أن يبنى من خلال حدود الكلام المألوف.
إن النصوص الدينية ذاتها لم تسلم من هذا المضاف الفني، فترتيل القرآن، أي منح الكلمات بعدا صوتيا لا معادل له في الصيغة الكتابية، أمر مستحب، إنه يمنح النص “طاقة إقناعية” مضافة تتحقق في ما يضاف إلى الكلمات، ما كان يسميه بورس “العلامات النوعية”، تلك الأحاسيس التي تشتغل بصفتها علامات دون أن يكون هناك ما يجسدها بشكل صريح في وقائع بعينها. فما يستهوي ملايين المؤمنين ليس المعنى الذي تحيل عليه الكلمات، فهؤلاء لا يفهمون إلا في النادر مضمونها، بل ما سيضيفه هذا الترتيل، أي ما يأتي من الصوت الناطق في الذات التي تقرأ لا في النص المقروء. ولم يُختر بُلال ليكون أول مؤذن في الإسلام لذكاء أو لتقوى تفوق ما كان عند الآخرين، بل لأنه كان يتمتع، كما يُقال، بصوت جميل.
وذاك ما تؤكده “الحاجات الجمالية” عند الإنسان أيضا. فبإمكان المرء أن يقضي الكثير من حاجاته النفعية بلائحة قصيرة من الحركات، ولكنه إذا أراد أن يقول لامرأة: في عينيك أشعة شمس تدفئني وأنا قش لا تذروه رياح، فإنه لا يستطيع القيام بذلك إلا من خلال اللغة: في الحالة الأولى هناك استعمال جدي لإيماءات تحل محل كلمات بمضمون نفعي مباشر، إنها وثيقة الصلة بما يتطلبه البعد الغريزي في الإنسان؛ أما في الثانية فهناك لعب بكلمات لا مضمون لها سوى التعبير عن انفعالات لا معادل لها في الاستعمال “الجدي”. إننا ننزاح بالكلمات عن استعمالها المألوف لكي تصبح دالة على شيء آخر قد لا تهدي إليه النفس أبدا. وذاك هو الفاصل بين الضروري في حياتنا، وهو الفن، وبين العرضي فيها، أي إشباع حاجات لا تثير فضولنا.
وهي صيغة أخرى للقول، هناك في الداخل النفسي رغبة حرَّى في التخلص من زمنية موجهة ومحدودة بغايات مرتبطة بالحس المشترك وحده، لاستعادة أصل أول يكون خاليا من كل الإكراهات، كائنا بلا ذاكرة وبلا وسائط يعبث بالأشياء قبل أن يسميها أو يصبها في مفاهيم تحول بينه وبين دفء الطبيعة في وجدانه. وهذا ما يؤكده سلوك البدائي نفسه، فهذا الكائن لا يُعير في الغالب أي اهتمام “لما يميز بين كينونته وبين لحظات لَهْوِه، فلا علم له بالهوية والصورة والرمز(7). لم يكن الفن لحظة خارج كده وكدحه، إنه سابق على النفعي في حياة الناس. لقد تعلم الغناء في الحقول والمراعي، وتعلم الإنشاد لمواجهة خطر الموت أو قبوله.
وتلك هي كل حالات المضاف الفني، إنه انزياح عما ثبتته الثقافة في السلوك وفي التداول في أشياء الكون وكائناته. إن الفن حاجة، أو هو ضرورة دونها يصبح العالم موحشا. فالإنسان يلجأ إليه من أجل استعادة حريته وانطلاقه، أو إيهام نفسه بذلك على الأقل. وهي صيغة أخرى للقول، إن كل عمليات التخيل -وهو أساس الفن- تُعيد صياغة مجموعة من الرغبات التي لم تجد طريقها إلى التحقق الفعلي، أو لم تتحقق بشكل سليم، أو هي التعبير عما كان يهفو إليه الإنسان. يُقال إن الأساطير هي استعارة كبرى فيها يرقد فيها كل ما لم يجد طريقه إلى المفاهيم أو ما استعصى على الإدراك العقلي.
وبذلك تكون “الرغبة هي المنتِجة للصور” (لافو)، وهي مادة التخيل وموضوعُه المفضل، وبذلك يكون الإنسان” مُنتَجا من منتَجات الرغبة، لا إفرازا للحاجة وحدها”(باشلار). وقد يكون مصدر الفن (التخيل عامة) أيضا هو الخوف والرهبة من عالم لا نَعرف عنه أي شيء. فنحن لا نحيا فقط بالحاجات كما يوردها علينا الوعي، بل ننسج محكيات ونرسم صورا هي واجهة من واجهات حضورنا في الوجود، أو هي شكل من أشكال امتدادنا في محيط أودعناه جزءا من انفعالاتنا. وتلك هي مادة الفن في القول والبصر والإيماءات.
فلا أحد علَّم الإنسان المشي، فهو وظيفة في الجسد، ولكنه تعلم الرقص، ولا أحد أوحى له بالغناء سوى الرغبة في التخلص من محيط نفعي. ولا أحد علمه كيف يضحك، فالضحك عنده، على عكس ظاهره، طاقة انفعالية مصدرها بواعث فسيولوجية خالصة، إنه شبيه بالبكاء والصراخ، ولكنه تعلم كيف يبتسم، والابتسامة منتج لاحق، فلا وجود لكائن غير الإنسان يعرف كيف يبتسم، وهو الفرق بين حالة من يكتفي بركوب شريكه ومن يُقبله. ذلك أن الابتسامة وَعْد، إنها مضاف ثقافي موجه إلى المستقبل: وَعْد الحب والصداقة والتودد، بل وَعْد العداء أيضا، عندما تكون الابتسامة “صفراء” أي ساخرة.
وقد تكون هذه التفاوتات في الحاجات الوجدانية هي التي دفعت بارث إلى التمييز بين ما يُطمئن الذات في قناعاتها وتصوراتها ويحثها على الاستكانة إلى ما ارتضته الأمة لنفسها أو قبلت به قسرا، وتلك هي طبيعة النصوص التي تأتي بالمتعة، وبين ما يُثير القلق والحيرة والتشكيك فيها، إنها منفذ الذات إلى استعادة نفسها وتخليصها مما ورثته في غفلة من الزمن، إنها نصوص الالتذاذ. إن المتعة حسية يمكن أن تتحقق في الأكل واللعب وغيرهما، أما الالتذاذ فنشوة روحية نادرة الحدوث.
لذلك لا تشكل مجمل طقوس الإنسان، في أغلب الأحيان، سوى ذريعة من أجل خرق ما استنته الجماعة لنفسها وما تبناه الفرد من عادات وأعراف أو ما فُرض عليه بحد السيف أو بحد القانون. فاستنادا إلى هذا الإرث المرئي وغير المرئي في الكثير من الأحيان ينتج الناس معانيهم وينوعون من حضورهم في نصوصهم. إننا نُصرف الرفض والطاعة والتبرير في النكتة والحكايات والمرويات والكثير من المواقف التي نتخلص من خلالها من “ثقل الحياة”، أو نبحث عما يجعله مستساغا في سلوكنا أو في سلوك غيرنا. فنحن نستهلك في نصوص الإشهار مثلا الكثير من مواقفنا “الحقيقية” الخاصة بالنميمة والعنصرية والشوفينية والتفاوت بين الرجال والنساء.. إلخ. إن الإشهار ملاذ آمن لكل ما يخفيه الناس أو يريدون نسيانه. وتلك هي البضاعة الحقيقية التي تبيعها الوصلة.
وهذا أمر يشير إلى طبيعة الروابط الممكنة بين “الحقيقة” و”المعنى”، أو ما يمكن أن نتصوره باعتباره “حقيقة” تتبلور ضمن ملفوظات تقريرية صريحة تصف موضوعات وظواهر قابلة للتصديق والمعاينة، وبين أخرى تمثل لحالات غير خاضعة لمقياس الحقيقة والخطأ (لا تَعِد كَريمات النساء بالنظافة، إنها تَعِدهن بالجمال، ولا يعد الصابون سوى بالنظافة. ويشتري الناس البرتقال من أجل الحيوية، ويشربون الحليب بحثا عن الكالسيوم). وتلك حالة كل النصوص الإشهارية. إنها لا تبيع منتجات جاهزة، إنها “تبيع المعاني في واقع الأمر” (إنه “صناعة للمعنى”، كما يقول جورج بينينو).
وتلك هي الروابط الخفية بين مقتضيات المعنى، وبين تصوراتنا “للحقيقة”. إن التعدد ميزة المعنى، أما الحقيقة فبحث عن توافق بين ما تقوله الكلمات وبين ما تقوم بتعيينه. لذلك لا يمكن أن يستقيم وجودها إلا من خلال ردها إلى سياق تتخذ داخله شكلا أو أشكالا. وهو ما يعني أن الحقائق ليست أحكاما سابقة، كما يتصور الأصوليون، في الدين والإيديولوجيا، بل هي بناء يتم وفق مقامات القول والفعل. فما هو أساسي في المعنى هو السيرورة لا الغايات النهائية من فعل التمثيل.
إن “الحقيقة” ليست واحدة الآن، ولم تكن واحدة في ما مضى، ولن تكون بالتأكيد هي ذاتها في ما سيأتي من الأيام. إن ما يأتينا من “الحياة هو خبرة أو حكمة” قد لا تجد طريقها إلى النصوص أبدا، ولكنها ستظل، مع ذلك، هي مصدر كل النصوص الشفهية أو المكتوبة. إن الناس لا يتعلمون الشعر في المدارس، كما لا يتعلمون الثقافة، إنهم في الحالتين معا يتعلمون كيف ينتمون إليها وفق ما تلتقطه حساسيتهم لما يحيط بهم.
لذلك لن يكون المعنى واقعة علمية خاضعة للتشريح المخبري، كما هي الحقيقة في العلم، بل هو كيان ثقافي يتغذى من كل واجهات الممارسة الإنسانية، لذلك لا يكشف عن نفسه إلا ضمن السياقات المولدة له. فمن يبحث في القصيدة عن معانيها سيضل سبيله إلى الفن أو يخطئ ما يحدد طبيعته حقا، فالشعر لعب بالكلمات، كما كان يقول فاليري، إن الأفكار لا تصنع شاعرا، إن الشاعر يروض الكلمات ويدفعها إلى التخلي عن معانيها المألوفة، أي التخلص من حقائق الأشياء في الطبيعة. فلكي تصبح “الكلمات واضحة فعلى المرء التزحلق فوقها، فمن تعب فقد فهم” (فاليري). إن الشعر بناء رمزي يُعيد صياغة أهواء الخوف والرهبة والقلق وفق مقتضيات استعارية لا يشكك فيها أحد، لأنها جزء من شرط الإنسان على الأرض. “لقد منح آدم الأشياء أسماءها، ولكن الشاعر هو من خلق الكثير منها بعد ذلك” (هولدرلين)، وذاك هو الفاصل بين وجود الأشياء في الطبيعة وبين التحكم في صبيبها الرمزي.
وقد يكون ذاك من الأسباب التي تجعل النص الأدبي تصريفا مشخصا لانفعالات تستهويها الوضعيات الملتبسة والغامضة والمشبوهة والهاربة من العين والوجدان، وذاك جزء من حقائق السلوك الإنساني ذاته، إنه لا يقول كل شيء في ظاهره. لذلك كان “البحث عن مدلول نهائي في النص أمر مناف لطبيعة المعنى” (رولان بارث)، فلن يقود هذا البحث سوى إلى تقليص ذاكرة القارئ وذاكرة النص في الآن ذاته. فقد يكون العالم أوسع من رؤانا وقد يكون أسرع من خطانا، ولكنه لا يمكن أن يكون كذلك، في هذا وذاك، إلا في واجهاته الرمزية، أي في ما يمكن أن يحتضن شرط الإنسان على الأرض باعتباره كائنا فانيا.
3
يتعلق الأمر في كل حالات النصوص بلقاء “خفي” بين نظرة تأويلية لا تكتفي بالمرئي في ظاهرها، وبين عوالم تختفي في “الزيف” التشخيصي لكي تستعيد ما غطى عليه المعنى الظاهر. لذلك كان “التأويل تعرفا على المعنى المزدوج” (ريكور)، أي نقلا ” للفظ عما اقتضاه ظاهره” (ابن حزم) “إلى ما يحتاج إلى دليل” (لسان العرب). إنه، في جميع هذه الحالات، محاولة لاستعادة معنى ضل طريقه وسط تفاصيل لا جامع بينها، أو هو محاولة للتشكيك في بناء الوقائع ذاتها.
فما يودع في العلامة ليس دلالات منتهية، بل سياقات تنتشر في الوجه المشخص للحياة. فالبحر ليس دالا على الكرم أو العلم في ذاكرته القريبة أو البعيدة، بل يشير إلى وضعية إنسانية يشبه فيها بعض الناس البحر في “الكرم” أو “العلم”. إننا ندفع بالمعنى الحرفي إلى التراجع لكي تتحرر العلامة من التعيين والوصف. وفي هذه الحالة فقط سيكون التأويل “كفاية موسوعية”، ودون هذه الكفاية لن يكون سوى تعليق عارض يأتي إلى النص من خارج ذاكرته. هناك فاصل بين نواة دائمة هي ما يضمن تواصلا سليما بين المتكلمين (يجب أن نعرف معنى البحر حقيقة، لكي نتحدث عن الاستعاري فيه)، وهناك ممكنات دلالية هي ما يشكل الوحدات الإيحائية المضافة التي يتحدد مضمونها وفق السياقات.
وذاك هو منطلق التأويل والأساس الذي يستند إليه كل تحليل يذهب بالواقعة إلى أقصى حالات التجريد فيها. فالتأويل لا يُقيم سندا لحقائقه انطلاقا من تأمل ذاتي بلا ضفاف، وإنما يحاول استعادة ما تسرب في غفلة من الوعي الصاحي إلى داخل مظلم تنتفي فيه الحدود بين الكائنات والأشياء. يقتضي التأويل إذن النظرَ إلى ما أنتجته المخيلة أو أُودع في “صخب” الثقافة و”ضجيجها”، أو ما تضمنته الكتابات المقدسة عن الموت والحياة والتراكب بين العوالم، الممكنة منها والحقيقية، باعتباره صورا تشخص ما استعصى على الإدراك المفهومي، أو ما نما وترعرع على هامش العقل وإكراهاته.
إنها حقيقة النصوص كلها، قديمها وحديثها، فالنص المفرد منها هو “نزهة خالصة، كلماتها من المؤلف أما معانيها فمن القارئ ” (تودوروف). إنها وسيلتنا وسبيلنا إلى “استيطان عالم يأتينا من مكان قصي لا نستطيع التحكم فيه أبدا “(غادامير). وفحوى هذا المبدأ أن النص ليس كتلة صامتة من المعاني، إنه احتمال دلالي فقط. وبهذه الخاصية يستقبله الناس ويحتفون بأسراره. فلا وجود إذن لمعنى مودع فيه خارج ما يمكن أن يتسرب إليه من ذات “فاهمة” تفهم ذاتها وهي تحاول فهم ما يود النص قوله. إن أشد المناطق إغراء في الذات هي تلك التي يستوطنها الغريب والغامض والملتبس والمستهام. وتلك خاصية من خاصيات النصوص الفنية، إنها لا تحدثنا عما نعرف، إنها تستثير فينا مشاعر تؤكد أو تشوش على ما نعرف.
وهي صيغة أخرى للقول إن النص مشروط في وجوده بوجود “حاضن ثقافي” يصدِّق عليه ويمنحه مضامينه. ولا يمكن لهذا الحاضن أن يستمر في الوجود خارج تحققات سياقية تمده بعناصر الحياة: إنها دائرة لا يمكن فيها فهم الفرع دون استحضار الأصل، ولا يمكن أن يتحدد الأصل دون استحضار كل الفروع التي تشكله. إنها “الدائرة الهرموسية” الشهيرة. فلا يمكن فهم “العالم الصغير” الذي يبنيه النص في انفصال عن النص الثقافي الذي يولد داخله، ولكن العالم الكبير ذاته قد يستعصي على الإدراك دون الاستعانة بالعوالم الصغيرة التي تنمو وتكبر داخل النصوص المخصوصة.
فما نسيمه “خارج النص” لا يشير إلى وقائع فعلية قابلة للرصد والمعاينة، كما تصورت ذلك الواقعيات بكل أنواعها، بل هو علامات “ضالة” في الذاكرة الكبيرة للغطاء الثقافي، وهي سبيلنا إلى تلمس ما يبنيه النص من دلالات في غفلة منها أو ضدا عليها. وتلك هي غاياته وتلك ضروراته. إن الفن لا يحدثنا عن الحياة التي نعرف، بل يعلمنا، من خلال هذه الحياة ذاتها، كيف نكتشف ونتعرف على ما أصبح مألوفا لدينا.
لذلك لا تُعد هذه العناصر الأولية فائضا عرضيا، إنها، على العكس من ذلك، تحدد المشترك بين القارئ والنص في سيرورات التلقي؛ إنها تشير إلى بعض الثوابت الأساسية التي يقوم عليها المعنى، وهي أيضا الطريقة التي يُقاس بها حجمه وامتداداته في الذاكرة الجماعية. فالنص لا يمكن أن يستقيم إلا إذا كان مستودعا “لإمكان دلالي”، يتحقق بعضه استنادا إلى “نوايا” المؤلف، ويتحقق البعض الآخر ضمن توجيهاته الأولية، وما تبقى هو حصيلة ما تأتي به الذات التي تقرأ وتؤول.
إن النص ناطق في الوجدان الحي، لا في ممكنات ما يصف بشكل مباشر، إنه يحيل على ذاكرة أخرى تتطور على هامش الزمنية الفعلية وضدا عليها في الكثير من الأحيان: فلكي يقبل الناس هزيمتهم في الحاضر، يسارعون إلى استحضار كل انتصاراتهم في الماضي، القريب أو البعيد. لقد خسرت أمريكا حربها في التاريخ، ولكنها كسبت كل معاركها في هوليود. إننا نتعلم كيف ننتمي إلى الوطن من خلال الأناشيد لا من خلال دروس التاريخ وحدها. “إننا نفكر داخل عالم سبق أن فكر فيه غيرنا بلغتنا أو بلغات غيرنا، وبذلك لن تكون كل ممكنات الحياة سوى سلسلة من النصوص الكامنة التي تنتظر التحيين. ففي كل فعل أو في كل صفة يرقد سيل هائل من الأفعال الممكنة القابلة للتجسد في وقائع تتخذ شكل نصوص مكتفية بذاتها”(8).
بعبارة أخرى، لن يكون المعنى في النص مجرد مضمون يلتقطه قارئ ينتشي بالظفر بغنيمة هي زاده في بناء الحقيقة ذاتها. فالمعنى قد يظل سرا مستعصيا على الضبط إلى الأبد، وقد لا تكون الغاية من القراءة هي الاستقرار على جزئية دلالية قابلة للعزل، فما يستهوي القارئ أحيانا هو اللهاث وراء إحالات قد لا تنتهي إلى معنى يمكن أن يعود إلى واقعة بعينها. لقد أعلن بول ريكور، في ذروة الحماس الهرموسي، أنه لا يثق بشيء ثقته بالتيه والتلاشي: “آه أيها القارئ لا أجد نفسي إلا في الضياع”.
الهوامش
A Kibedi Varga : Discours, recit,image, éd Pierre Mardaga éditeur, Bruxelles , 1985 ;p.7
Pierre Guiraud : Sémiologie de la sexualité , éd Payot, 1978, p.183.
أومبيرتو إيكو: العلامة ، تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي 2007، ص 203
نفسه، ص 206
Olivier Reboul : Le slogan , éd Complexe ;1975, p.118
John Dewey : L’art comme expérience, éd Gallimard, 2010, p.524
Hans-Georg Gadamer : Vérité et méthode, éd Seuil, 1976-1996, p.122
سعيد بنكراد : سميائيات النص، مراتب المعنى، منشورات: ضفاف، الأمان، الاختلاف، 2018 ن ص48