وأنتَ مشغولٌ في عالمِك الذي ينمو، مقتطعاً من رقعتنا كلَّ يوم مساحةً جديدةً، يرافقُني طيفُك بعناد، حتى وأنا أبدِّدُ سأَمَ انتظارِ دوري بالعبثِ بهاتفي، متجوّلةً بين مواقع الأخبار.
أنا محاصرةٌ بكَ بطريقةٍ مقلقةٍ! في الغبار والصحو، مع وجبة الإفطار وعلى وسادة النوم، في الانستجرام والشارع والفضائيات، في أحاديثِ الناس عن عناكبِ الفساد ومافيا المناقصات وغطاء المحسوبيات.. ملامحُك تقفز حولي جالبةً معها سيرتَك الباعثةَ على الشك.
هل تجد زوجتُك الأنيقةُ ثراءَكَ طبيعياً؟ هل قاطعك أحدٌ من عائلتكَ عندما صعدتَ بمهارةِ لاعبٍ يترك فراغَ قفزاتِهِ لجمهورٍ مندهشٍ؟ هل خاصمك أصدقاؤك القدامى بعد تسلّقِك طوابقَ الحظِّ في عقْدٍ من الزمن بحبالٍ سيئة السمعة؟ هل تسكن والدتُك معك؟ هل تأكل من طعامك المسموم؟ هل تظنُّ أن الرفاهية التي تعيشها بسبب دعائِها لك؟ أسئلةٌ بودِّي أن أمرّرَها لك بدافع زمالتنا القديمة التي لم تتماسكْ بسبب ورقةٍ.
سمعتُ أنّك ذهبتَ للحج رغم أنك تعملُ بغسيل الأموال، وقرأتُ أنك تنتقدُ الحكومةَ رغم أن جزءاً من ثروتِك جاء عبر تجارة الإقامات التي تغضُّ الحكومةُ الطرفَ عنها، علمتُ أنّك عضوُ مجلسِ إدارةٍ في أهمِّ الشركات رغم أنك لم تكن ضليعاً لا بالاقتصادِ ولا بالإدارةِ. الشكوكُ تغمر الجميع بشأن ثروتك، وأنا أولهم، لا أتوقّعُ أنَّ الأمر يَعنيك كثيراً، فشوارعُنا مكتظةٌ باللصوصِ والمرتشين وعديمي الذمّة، وأنت واحدٌ منهم بمظهرٍ جذّابٍ وأسلوبٍ مقنعٍ، بأظافرَ مقلّمةٍ وأسنانٍ ناصعةٍ وابتسامةٍ ساحرةٍ، بدشداشة بيضاءَ ورائحةٍ جميلةٍ وخطوةٍ واثقةٍ.. علاقاتُك المتشابكةُ تؤمّن لك ظهراً فولاذياً تستندُ عليه في مدينة قضاتُها تجّارٌ، وفرسانُها يقامرون بها على طاولة الحظِّ، بينما نستثمر نحن كلَّ علاقاتنا في محاولات إنجاز معاملاتٍ صغيرةٍ؛ تقديمِ موعدِ طبيبٍ، حجزِ رحلاتٍ بأسعارٍ مناسبةٍ، توفيرِ مقعدٍ في مدرسةٍ خاصةٍ.
لا أتذكّر شخصيتَك القديمةَ! مموّهةٌ معرفتي بك قبل عشرين عاماً، رغم زمالتنا التي انتهتْ بقطيعةٍ كبرى، الآن تبدو واضحاً لي رغم أني تلاشيتُ في ذاكرتك بكلِّ تأكيدٍ.
ذكرياتُ الجامعةِ.. ورقةُ الامتحان التي غششتَها بالكامل من زميلِنا.. ثورتي عليك.
مجردُ امتحانٍ.. ورقةٌ لن تعني أحداً.
أجبتَني بلامبالاةٍ.
كلُّ الأشياء الرسمية والمهمة في حياتنا تبدأ وتنتهي بورقة. أنتَ سرقتَ مجهودَ غيرِك.
كنتُ مستاءةً جداً.
كلُّ ذلك تمّ برضا زميلنا.
وأخذتَ تضحكُ ببرودٍ!
رضا زميلِنا ومن بعده مديرك في العمل ومفتش البلدية وموظف الشؤون ورجل الأمن ومدقّق الحسابات ورئيس تحرير الصحيفة وعضو مجلس الأمة، رضاهم المغموس بالوحل هو عتبة صعودك المدوّي بيننا. بينما عدم رضاي لم يسهم سوى في طيِّ صفحةٍ مرتبكةٍ، يومها لم أشتكِ نجاحَك المزيّفَ، قلّةٌ من اكترثوا بموضوع غشِّك كحادثةٍ صغيرةٍ يمضغونَها في مقهى الجامعة.
في طريقي للعمل يستوقفُني منزلُك العصريُّ ذو الواجهةِ العريضةِ، نوافذُ عاكسةٌ وحديقةٌ كبيرةٌ مزيّنةٌ بالنخيل، اقتطعتَها من الساحة العامة كي يلعبَ فيها أطفالُك. لوحةُ المبنى قيدَ الإنشاء قربَ مقر عملي تشير إلى شركة مقاولاتك التي قفز سعرُ سهمِها في البورصة، في الشوارع الجانبية إعلانات الانتخابات تتوسطُها صورتُك بنظرةٍ مترفّعةٍ، صورتُك تُبَثُّ لنا طوال اليوم -نحن مشاريعَ الضحايا- ونحن نقودُ مركباتنا صباحاً متجهين للعمل وغارقين بزحام أنت أحدُ أسبابه، في المكاتب ونحن نتحدث عن أسعار الأسهم وخبايا لعبة الحيتان، في الراديو وإعلان شركتك يصدحُ كفاصلٍ مزعجٍ، مساءً ونحن نقف أمام رفوف السوبر ماركت نلعن الغلاءَ وندفع عرباتٍ مكتظةً، في المنزل ونحن ندرّس أبناءنا ونعلمُ يقيناً أن أبناءك سيكونون أفضلَ حالاً منهم، قبل النوم ونحن نلتهمُ أدويةَ الضغط ونخشى صراصيرَ المستشفى الحكومي الذي لن تجرّبَه يوماً.. بتنا نألفُ دهشتَنا من نموِّك السريعِ!
ليتَك تتبخرُ كسائلِ مزيلِ طلاءِ الأظافرِ.. تهاجرُ كطيور الخطاطيف.. تصدمُكَ شاحنةٌ.. تهاجمُك السحايا.. فقط كي تتوقف عجلةُ جشعِكَ العملاقةُ عن الدوران محيلةً مستقبلنا لرقم حائرٍ في سجلّات الفقر والبطالة. أنت تريد المزيد ونحن نهادن الحاضر بقلوبٍ متوجّسةٍ، أنت في الكفّة العليا من ميزان يستخفّ بنا؛ تمسكُه يدٌ مجعّدةٌ، بينما نبدو جميعاً كممثّلي الأدوار الهامشية، نصعدُ ونهبط من الخشبةِ دون أن يلحظَنا أحدٌ. أنت مظلَّلٌ بغيمة سوداء، ونحن مصلوبون بشمسٍ حارقة، وهو ما يُقحمُنا في سباقٍ خاسر.
وجهُك يدور في قاع فنجان قهوة العمل وأنا أجتهدُ كي لا أقع في الخطأ فيتمُّ فصلي، بينما تتوالى أخطاؤك بلا حساب، فنغرقُ في طرقٍ باغتَها المطر، ونتورّطُ بنفاياتنا، ونسكنُ أراضيَ ملوثةً ينتحرُ المحارُ على شطآنِها.
صورتُك تبلّلُ يومي برغوةِ التواجد، أنت حولي دون قصدٍ منك، بل أنتَ حولنا جميعاً، تصريحاتُك تلتهمُ ورقَ الصحف، مشاريعُك تتناسلُ، نظارتُك الشمسيةُ تصبح موضةً، عائلتُك تحاطُ بهالةٍ من الجاذبية، مزاحُك يمسي مادة تويتر، والنميمةُ لا تطيب سوى باستدراج اسمِك لها.
أنتَ حاضرٌ بشدةٍ في تفاصيلنا، وأنا بتُّ أكرهُ هذا الحضورَ المزعجَ، لكني لن أتخلصَ منك، صعبٌ جداً، منذ اليومِ الذي سخرتَ فيه مني وأنتَ تكتبُ خلف ورقة الامتحان القديمة: “فات الأوان”، إلى هذه اللحظة، وأنا أنتظرُ دوري في العيادةِ التي تقعُ في مجمّعِك الاستثماريِّ الجديدِ!