1- إشارات لا بد منها
تقع هذه الدراسة في منزلة بين منزلتين، بين أطروحتين: سياسة الرواية، وفكر الرواية. الأطروحة الأولى هي شعبة من دراسة لـ»جاك رانسيير» موسومة «سياسة الأدب»، والثانية لـ»بيار ماشيري» في كتابه الشهير «بمَ يفكّر الأدب؟».
أوضح الأول في قسم خاص من الكتاب سمّاه «فرضيات» أن سياسة الأدب ليست سياسة الكتّاب. فهي «لا تتعلق بالتزاماتهم الشخصية في صراعات عصرهم السياسية والاجتماعية. كما أنها لا تتعلّق بالطريقة التي يصوّرون بها البنيات الاجتماعية والحركات السياسية أو الهويات المتنوّعة في كتبهم. إن تعبير «سياسة الأدب» يعني أن الأدب يمارس السياسة بوصفه أدباً.»(1). إذن سؤالي هو: كيف مارست الرواية السياسة بوصفها روايةً؟ وكيف فكّرت بوصفها روايةً؟ إن اقتصاري على سؤالين من هذا الصنف كافٍ للوقوف على خصائص روائيين من عصر الحروب، مثلما ظهر تماما في فرنسا في القرن الثامن عشر سياسيون من عصر الأدب، يقف في مقدّمتهم المؤرخ الفرنسي»جيل ميشلي»(2). و«في عصر الأدب تتكلّم الأشياء البكماءُ أفضل من الخطباء الجمهوريين.»(3). فهل من حقّنا التساؤل: هل في عصر الحروب تتكلّم الأشياء بصوت يعلو على صوت الرواية؟. هل تصبح الرواية بكماء والأشياء الصامتة ناطقة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه.
لكن دعوني قبل الإجابة عن السؤالين، وستكون الإجابة مدعومة بنماذج من الرواية العالمية والعربية، توضيح حدود القضايا التي أودّ طرحها.
قال أرسطو إن البشر مخلوقات سياسية نظراً لكونهم يتمتّعون بميزة الحديث عن الظلم والعدل، بينما لا تملك الحيوانات سوى الصوت الذي يعبّر عن اللذة أو الألم(4). ويؤوّل «جاك رانسيير» كلام أرسطو إلى كون النشاط السياسي كله صراعٌ من أجل تحديد ما هو كلام وما هو صراخ(5). بين مجموعة تفكر في عالم مشترك وبين حيوانات هائجة أو متوجّعة. إننا أمام تقسيم جديد للمواقع والهويات والكلام. إنه «تقاسم لعالم محسوس» يعمل النشاط السياسي على إعادة صياغته، «فيضمُّ إلى ما هو عالمٌ أغراضاً جديدة وأفراداً آخرين، ويجعل مرئياً ما لم يكن كذلك ومسموعاً ككلام كائنات ناطقة ما لم يكن يُعتبر إلا صخب حيوانات صاخبة.»(6). إن هذا المنطلق يوضح جيداً معنى مفهوم «سياسة الرواية» التي تتدخل بوصفها رواية في هذا التمييز بين الصخب والكلام.
كما يدفعنا إلى الرجوع إلى التفكير من جديد في المعنى الدقيق لـ «الرواية بوصفها رواية». الأمر نفسه دفع «ج. رانسيير» إلى التساؤل عن معنى «الأدب بوصفه أدباً». إذ لا تُعدُّ «الرواية» مصطلحاً عابراً للتاريخ، فالمصطلح لم يكتسب معناه المعروف اليوم إلا في وقت متأخر، ولم يتمّ الاعتراف به كجنس أدبي. فمثلاً «بوالو»(7) في كتابه «فن الشعر» سنة 1674 لم يذكر الكلمة ولا الشيء. رغم أنه قبل سنوات من ذلك التاريخ أعطى «هييت»(8) ، صديق ومستشار مدام دي لافاييت، وأحد الأوائل الذين حاولوا وضع حدٍّ للرواية كثيراً ما يتمُّ الاستشهاد به: إنّ ما نسميه رواية هي عبارة عن قصة مُختَلقة من المغامرات العاطفية، مكتوبة نثراً وبفنية، من أجل متعة وتكوين القرّاء(9).
لقد استمرّت الرواية قصّة مختلقة، ونثرية، ومازالت تخلق المتعة للقراء وتعمل على تكوينهم. لكن ما هو أساسي في التعريف هو تحديد الرواية في علاقتها بالواقع (التخييل في مقابل الحقيقة)، بواسطة نمط من الكتابة (النثر في مقابل الشعر)، وموضوعة مّا (قصة حبّ)، ضمن هدف جمالي وفكري (المتعة والتكوين). غير أن هذه المكونات ظلت خاضعة للمراجعة. وقد اعتبرها «ديدرو» خطراً على القارئ والتقاليد والفكر إن استمرت، إذ أنه رفض الرواية إذا استمرت فقط بوصفها نسيجا عاطفياً، فأضاف عنصر الفكر والفائدة. ولم تكن هذه القوة الفكرية لتعرف طريقها إلى الرواية إلا مع «لاكلو» و«صاد» و«روسو».
«فكر الرواية العربية»، أو بمَ تفكر الرواية العربية؟ سياسة الرواية، أو كيف تدخل الرواية ساحة المعركة، تلك محاور محاضراتي أثناء زيارتي للتدريس في جامعة بيكين. قد يكون هذا السؤال فرعاً، أو شُعبة، من سؤال طرحه الفيلسوف الفرنسي «بيار ماشيري»: «بمً يفكر الأدب؟ تطبيقات في الفلسفة الأدبية»(10)، وحمل عنوان كتاب صدر سنة 1990.
نعم، الرواية تفكّر، والشعر يفكّر، والفيلسوف الألماني مارتن هيدجر شاهد عل ما أقول: «يجب أن لا نمارس الفلسفة إلا بشكل قصائد». وفيتغنشتاين أيضاً أشار إلى «الشبه المدهش بين البحث الفلسفي والبحث في علم الجمال»(11).
أما موقف «ب. ماشيري»، رغم أنه على مسافة من الآراء السابقة، فيمكن تلخيصه في كون الفلسفة تجد حقيقتها النهائية في الأدب. الفلسفة ليست سوى أدب، وحسب هايدغر الفلسفة ليست سوى شعر. لكن اليوم، لابد من الاعتراف بذلك، أصبحت مثل هذه الأفكار وضعاً تقليديّاَ، لكن مع ذلك لا ينبغي تجاوزه، فلربّمّا قد يتمّ التنديد بالرواية، وبالأدب عموماً، بكونها تسيء إلى التفكير، وإلى تقاليد التفكير. أو تسيء إلى السياسة، وإلى تقاليد المعارك والمواجهات السياسية. إن هذا الشك نابع أصلاً من سؤال قد يكون هو السؤال نفسه الذي طرحه الفيلوسف الفرنسي «جاك رانسيير»: كيف يعمل الأدب خارج نفسه؟ كيف يتحوّل إلى خطاب مختلف؟(12).
بدأ الروائي العربي اليوم يتخلّى عن شهادة الأشياء الصامتة: الثياب، الأثاث، الجدران، الطرق…كما كان الأمر في بداية القرن التاسع عشر مع بلزاك مثلا. وعاد إلى الأشياء الناطقة، إلى الإنسان الذي يبوح بكل شيء بواسطة لسانه وعقله وذاكرته. عاد الروائي إلى الكلام السياسي المقصود والمتعمّد. بدأ شيئاً فشيئاً يضيع إرث فلوبير: الأسلوب هو كل شيء والموضوع غير مهمّ. كم هو ثقيل هذا الإرث: الأسلوب هو الطريقة المطلقة في رؤية الأشياء.
إن تمييز فلوبير بين الأسلوب (الشكل) والمضمون يُجاري مقولة «أسلوب القول» التي وضعها الأسلوبيون. و«أسلوب القول» مفهوم ينطلق من مجموع خصائص القول الشكلية(13). إنه تمييز قديم منذ أفلاطون الذي ميّز الأمور التي تُقال من طريقة قولها(14).
2 – سياسة الرواية
تحفل العديد من الروايات بعروض جيّدة لمظاهر العمل السياسي. نبدأ بمجموعة هائلة من الروايات لأنور يدي بلزاك (أكثر من تسعون رواية، وقصص، مقالات، وحكايات) أطلق عليها عنوان «الملهاة الإنسانية»(15). في إحدى روايات هذه السلسلة، وعنوانها «عقد الزواج»(16) يطمح «هنري دي مارساي» إلى السلطة. فما هي وسائل تحقيق هذا الطموح؟ الثورة؟ لا. الانتخابات؟ لا تحقّق ذلك. الاغتيال السياسي؟ بتحريض الشعب ضدّ الحاكم؟ لا يفكّر في ذلك. هل بالاعتماد على الدعاية؟ أم على عقيدة معينة؟ مارساي لا يمتلك عقيدة. فهو لا يؤمن بشيء. «الحزب»، يقول عن الحزب الليبرالي الذي ينتمي إليه. إن الوصول إلى الحكم يتطلّب، بالنسبة إليه، تجميع بعض الرؤوس المفكّرة، بعض الإرادات القويّة. وهي تقنية ليست ثورية، بل تتعلّق بالمؤامرة، والانقلاب.
الأشياء المحسوبة، وغير المحسوبة، في ذهن «مارساي»، جرت أيضاً، وإن بشكل مختلف، في ذهن «نيقولا روستوف»، الشخصية الروائية التي سطع نجمها في رواية «الحرب والسّلم» لتولستوي. نيقولا مثل مارساي انشغل بفكرة دفع الجماهير إلى غريزة الحرب. لتصبح، الجماهير، كما سيُقال بعد قرن، هي البطل الحقيقي(17). وذلك بفعل النزعة البطولية التي تعود إليها، بعد غياب قد يطول أويقصر.
لقد استثمر تولستوي شخصية القائد الروسي التاريخي ميخائيل كوتوزوف (1745-1813)، الذي هزم الغازي الفرنسي نابوليون. لقد رأى تولستوي في كوتوزوف شقيقاً فكرياً وإيديولوجياً بمجرد اتخاذ قرار الانسحاب من موسكو وتركها بين يدي الغازي، الذي هزمه الفلاحون الذين كانوا يقومون بعمليات صغيرة بشكل يومي، إلى أن تحقّق النصر، وانهزمت أسطورة الرجل العظيم(18). في مثل هذه الموضوعات يتحدّث الأدب عن نفسه، «حين يُقابل تاريخ العظماء بتاريخ الجماهير. والحقُّ أنّ الرواية تُقابل وجهة نظر المؤرّخين بوجهة نظر الأدب الخاصّة.»(19).
وجهة نظر الرواية الخاصة تبدو واضحة في روايات عربية، بعد الثورات العربية، اعتمدت وثائق كثيرة ومتنوعة، وهي كثرة وتنوع مصدره وفرة القصص والرسائل والشهادات. هده هي وثائق الأدب الأخرى التي تحدث عنها تولسوي.
3 – الرواية العربية الحداثية والعالم الواقعي
اشتهرت الرواية الحداثية بشغفها بالانشغالات الجمالية، وقد تساءل نُقّادها هل هذا الشغف أبقاها بعيدة عن الانغماس بشؤون العالم الواقعي؟(20)
إن هذا الشغف جعل هذه الرواية، من جهة أخرى، تتّسم بالغموض والصعوبة، فتحطّمت قدرتها على تناول الموضوعات الكامنة خارج انشغالاتها الذهنية. هذا ما جعل بعض الروائيين، ممن كتبوا روايات ذات سمات حديثة، يستشعرون انعدام مسؤوليتهم الكاملة تجاه المعضلات الاجتماعية والسياسية.
هنا نستشهد بجوروج أورويل الذي وصف هؤلاء الروائيين بعَبَدَة اللّامعنى، في إطار ما يُعرف ب»نظرية الفن للفن». وهي نظرية عرفت استجابة قوية من طرف الحلقات المثقّفة التي كانت ترى أن مساءلة موضوع الرواية هي «خطيئة كبرى عصية على الغفران.».(21)
لكن هذا الأمر يدعونا إلى أن نتساءل: هل فن الرواية لا يستطيع أن يتعايش مع السياسة؟ هل هو أمر مفروض علينا أن نختار بين واحدٍ من الأمرين: الرواية أو السياسة؟
لكن الرواية العربية عبر تاريخها، أظهرت قدرة على التأقلم مع التحولات، فظلّت تجد الوسائل الأكثر ذكاء والأكثر فعالية لتأكيد مكانتها في الثقافة العامة. هذا رغم قصر عمرها.
ومباشرة بعد 2011، أي المنعطف الجديد الذي دخلت إليه المجتمعات العربية (وهو ما عُرف تحت اسم الربيع العربي)، أُضيف إلى الرواية العربية فكرٌ آخر، انشغال واقعي أكثر حساسية من كل الانشغالات السابقة. ومع هذا الانشغال الجديد جاءت لغة جديدة. وهنا علينا أن نطرح هذا السؤال: هل وافقت الرواية العربية، في هذا المنعطف، بين الانشغال الجمالي والانشغال الواقعي (التاريخي)؟ هل انغمست في معضلات المجتمعات العربية باعتبارها فنّاً؟
هذه أسئلة كُبرى نبدأ بها . وبدون شكّ ستتولّد عنها أسئلة أخرى مختلفة الأحجام، ومتباينة، لكنها كلها تؤكّد على هذه التركيبة الثنائية: الرواية فن، الرواية انشغال سياسي، اجتماعي، تاريخي، أسلوبي.
لابدّ من التأكيد هنا أن الانشغال السياسي( أو الفكري، أو الفلسفي) ظل باستمرار يحفز الرواية العالمية. فالحروب كانت هي «المحفّز الأكبر الذي خلق الحاجة لمساءلة الواقع.»(22). وبطبيعة الحال لا يمكن نسيان محفّزات أخرى: الإمبريالية، الحياة المدينية، ظهور ثقافة الاستهلاك…
هناك روايات عربية عدّة اهتمّت كثيراً بأبطالها التاريخيين. في سنة 2011 نشر الكاتب الجزائري أمين الزاوي رواية «حادي التيوس أو فتنة النفوس لعذارى النصارى والمجوس»(23) افتتحها بصفحات بدا جيّداً أنه حسبها جيّداً في ذهنه: بَنَت ساكنة مدينة «الغزاوات» من أموالها الخاصة مسجداً صغيراً اختلفوا بعد الانتهاء من تشييده حول تسميه، فالعرب أرادوا تسميته «موسى بن نُصَيْر»، فيما رأى أبناء المدينة من البربر الأمازيغ أن من الأنسب تسميته «طارق بن زياد». وكل فريق يقدّم المبررات والدوافع التي تجعله يقترح تسميته:
«…فإذا كانت طائفة العرب ترى بأن اسم «موسى بن نصير» هو الأنسب لأن هذا الأخير هو من أوصل راية الإسلام إلى بلاد شمال إفريقيا التي كانت غارقة في الظلمات والضَّلال على حسب تعبيرهم، ففي المقابل يرى أهل المدينة من البربر الأمازيغ بأن هذا الرجل العسكري كان مريضاً بالغيرة من بطولة وشجاعة فرسان البربر، وبالتالي أراد أن يسحب من طارق بن زياد شهوة الانتصار على الإسبان ولذّة عسل الغزو…»(24).
لا يظهر الأمر في السرد باعتباره صراعاً طائفياً، كاد يتحوّل إلى حرب، حول تسمية المسجد، بل هو أقرب إلى غريزة دينية. لذلك نجد كل طائفة تقدم مبرراتها الإضافية:
«…كان موسى بن نصير هذا بشعاً ونَهِماً يلتهم نصف خروف في غذائه والنصف الباقي في العشاء على خلاف طارق بن زياد الذي يُقال إنه كان وسيماً ولجماله كان يُدعى يوسف نسبة إلى سيّدنا يوسف الذي عُرف بجمال أثار فتنة في بيت فرعون. وهروباُ من العين الحاسدة كان يخفي طرفاً من وجهه المشعشع بعَصابة بيضاء حتى اعتقد المؤرخون الأسبان الذين كتبوا لاحقاً عنه بأنه كان أعور، وإن الخرقة التي يغطّي بها على نصف وجهه هي لإخفاء عينه المفقوءة، وقد أطلق عليه المؤرخون الأوروبيون جميعاً اسم «طارق الأعور»…»(25).
تحفل رواية أمين الزاوي بمثل هذه المشاهد ليدفعنا إلى التفكير من جديد في صورة العظماء الذين يصنعون التاريخ:
«ففي الوقت الذي كان فيه طارق بن زياد يبحث عن مجدٍ في الوصول بالإسلام إلى الضِّفة الأخرى من المتوسط، كان الأمير الأموي موسى بن نُصير لا يبغي من ذلك سوى مغامرة الوصول إلى نساء إسبانيا الشقراوات…»(26).
تكشف الرواية أن في ذهن كل قائد فكرة تاريخية أو شخصية (غريزية). فدافعية طارق بن زياد دينية، ودافعية موسى بن نصير إيروسية. إن الأدب هنا يستبقُ الحقيقة التاريخية. الرواية تقدّم نفسها باعتبارها خطاب حقيقة تُقابل أفعالاً قام بها عظماء معروفون. وقد ظل الأدب مستمرّاً في خلق هذا الجدل. في هذا السياق يؤكّد جاك رانسيير:» ومن ثمّ فقد حدثت ثورة علم التاريخ أولاً في الأدب، وهي الثورة التي تجعل الأدب يستمرّ.»(27).
يُكمِل الزاوي هذا النزاع حول تسمية المسجد بجدل ساخر من الطائفتين انتهى مزدوَجاً:
«وحين اشتدّ الخلاف حول تسمية المسجد وقبل أن تندلع الحرب اجتمع العقلاء من البربر والعرب وتدارسوا الأمر بهدوء وحكمة وتوصّلوا إلى حلٍّ يرضي الطرفين: للعرب من ساكنة المدينة الحق في رفع لافتة على مدخل المسجد نهاراً تحمل اسم موسى بن نُصير، وللبربر وانطلاقاً من صلاة المغرب وحتى انتهاء صلاة الفجر لافتة تحمل اسم طارق بن زياد مكتوبة بأبجدية التيفيناغ. وبمرور الزمن أصبح المسجد باسمين فهو مع صلاة الصبح والظهر والعصر مسجد باسم موسى بن نصير، ومع صلاة المغرب والعشاء والفجر مسجد طارق بن زياد، أما صلاة الجنازات واتقاء لأيّ خلاف فقد اتفق الجميع أن تُقام في المقبرة.»(28).
لقد ظلت الرواية تخلق تاريخها الخاص من خلال حكايات الشخصيات العظيمة. ذلك أن الأدب عموماً «ظل باستمرار يتعرّف التراتبية التمثيلية التي تربط مقام النوع الأدبي بعظمة الشخصيات»(29). إن من صارع من العرب أو البربر حول فرض تسمية مزدوجة لمسجد واحد هي شخصيات ظلت تقاوم من أجل الاسم مثلما قاومت الشخصيات العظيمة من أجل النصر. التاريخ يثور على نفسه في الأدب.
يبدو واضحاً إلغاء التراتبية بين الشخصيات التاريخية وشخصيات التخييل الروائي. وهذا الإلغاء ليس وحده ما يقف وراء «التعارض بين الآداب الجديدة وتخيُّلات العظمة القديمة. فالأمر يذهب أبعد من ذلك، إنه قلبٌ لفكرة الشخصية والحدث.» يقول «ج. رانسيير». بل إن إلغاء التراتبية هو مسعى التخييل الروائي بين الشخصيات التاريخية ذاتها؛ ليصبح موسى بن نصير في نفس الدرجة مع طارق بن زياد.
إن ازدواجية الاسم تولد، في السرد، ازدواجيات أخرى لعلّ أهمها تحوّل الهوية التاريخية لكل من طارق بن زياد وموسى بن نصير إلى هوية دينية. فالمسجد يسمى باسم موسى بن نصير أثناء صلاة الصبح والظهر والعصر، ومع صلاة المغرب والعشاء والفجر يحمل اسم طارق بن زياد.
لقد تمَّ، من جهة أخرى، إلغاء التراتبية بين النصر والهزيمة. الكل منتصر، العرب والأمازيغ في حرب إطلاق الاسم على مسجد صغير بالمدينة. فأصبح المسجد أيقونة حياديةً، تارة للعرب وأخرى للأمازيغ. تُطلق أسماؤها على الأماكن دون أن تدري الشخصيات التاريخية العظيمة ما يجري. دون أن تقاوم أو تختار. دون أن تدرك وظيفتها الجديدة بعد موتها. وظيفتها التي يحدّدها أناس من قرن آخر، لا صلة لهم بها. دون أن يعني ذلك التقليل من إعجاب الناس بها ولا من احترامها لقيمتها التاريخية الأصلية. إن الصراع حول إطلاق اسم على المسجد هو مجرد لافعل مقارنة مع فعل تلك الشخصيات الاستثنائية. هنا مرة أخرى تُلغى التراتبية بين الفعل واللافعل. وهذا الإلغاء المتعدّد يؤدي مباشرة إلى المزج بين البطل التاريخي وأشخاص من الهامش يتعاركون من أجل إطلاق الأسماء، من أجل تسمية الفضاءات المنحازة وجعلها، قصريّاً، فضاءات محايدة، أو على الأصح محايدة بالتناوب؛ فالمسجد في النهار هو لموسى بن نصير، وفي الليل لطارق بن زياد.
4 – درس الكلمات
الروائي يولي سخريته الروائية عناية فائقة. إنها سخرية ترتبط بالتاريخ، الماضي والحاضر. وأمر السخرية هذا، سواء كان واضحاً أو مجرّد تلميح، لا يكتمل استيعابه إلا من خلال العمل الذي تقوم به الكلمات. ولعلّ أول سؤال يمكن أن نطرحه ونحن أمام الكلمات: ما الذي تحاكيه؟ وليس فقط ما الذي تشير إليه؟ إن الكلمات التي سنضع أمامنا الآن غير قابلة للتحوّل، إنها ثابتة وبقوة لأنها تحاكي السجّل اللفظي الديني ، وكأنها تريد أن تحيل إلى مبدئها الأساسي. ما هو هذا المبدأ؟ إنها ألفاظ كثيرة ومتنافسة على أداء أفضل للمعنى، ومبدؤها هو توجيهنا نحو طهارة وخطيئة الكائن. إنها على هذه الشاكلة، وقد يبدو أم مظهرها لامبالٍ: نية المؤمن قلبه. غريزته. السماويتين. الفتنة. الملاك. إغراء. فتنة الشيطان. مدرسة الرعي. جنة الله على الأرض. الرعاة إخوة الأنبياء. اليوم الموعود. النازل من السماء. إمام المسجد. المصلون. العربية. الزكاة. آيات كتاب المسلمين. القرآن. الصلوات. الرب. سدرة المنتهى. اسم الله. الفاتحة. ما شاء الله. سبحان الله. «القروش» وهي جريدة تنقل الأخبار الدينية…
بجوار ذلك تظهر كلمات أخرى غير مناسبة، في الظاهر فقط، للكلمات السابقة. ويبدو أيضاً أن الروائي، مثل الكلمات السابقة، يعاملها بلامبالاة هي الأخرى: الشبقي. جسدي. الشيطان. العشيقة. الملابس الداخلية. العادة السرية. الشبق. السرير. الأصوات الجنسية المجنونة. رائحة الجسد. صوت الشبق. جنون الجنس.
إن هذا الفصل الذي يحمل عنوان «زلال مارتين» يُحدث أثراً فريداً سيتطوّر أكثر مع قراءة بقية الرواية، أو على الأصح مع الإنصات الديني/ الشبقي لهذيانات شخصية مارتين.
ورغم أنها مجتزأة من جمل وتعبيرات، إلا أنها تبدو وكأنها تمارس تبادلاً فعلياً فيما بينها. لكن الأهمّ أنها تحمل المعنى نفسه بالنسبة إلى الجميع. فلا يعود مجالا للالتباس. إن لغة الدين والرغبة يحيط بها وعيٌ إجماعيٌّ. لكن هذا الوعي لا يحول ذلك العودة إلى الكلمات وفحصها من جديد. سنجد انها تشير إلى شيء غير إجماعي. فما يسمّيه أسعد حبيب ديناً ليس سوى نفاق، انفصام، انقسام مرضي في الوعي. ربما للتركيز على هذه الدلالة تم ربط قِرانٍ بين الدين والرغبة. لقد أثار الروائي زوبعة الكلمات ليدفعنا إلى فهم ما يجري على الواقع. إن الإنسان يسعى إلى استعمال اللغة بهذه الطريقة حتّى يصوّر واقعه هو، كما يراه(30).
هنا، لا تحلّ كلمة محلّ أخرى. لقد استعمل الروائي الكلمات التي يمكن أن تدل على صراعات التاريخ، وصراعات الثقافات، وصراعات العقول. وهو في الأخير صراع الأشياء المختلفة على حلبة ضيّقة جدّاً. بحيث يمكن للمعركة أن يشاهدها جمهور يصفّق للنصر ويأسف للهزيمة.
كلّ ما يُحكى في رواية أمين الزاوي هو عن الجزائر، التي عانت من مذابح المتطرفين الإسلاميين. وحين يعرف بلد ما مذابح أو حروباً من هذا النوع تختفي من أدبه اللغة الإيحائية لصالح اللغة الإجماعية. فتصبح اللغة، من جديد، عوالم من المعتقدات. كل جماعة عقدية تؤمن بشيء، فتخلق، من أجل هذا الشيء أو الفكرة، لغة عقدية، فتتحوّل إلى جماعة لغوية في النهاية.
5 – الفحص السردي للغة
«إنها المائدة التي تنصبّ حول كتاب سيئ. إن كل المواضيع الكُبرى التي تخصُّ
البشر تثار فيها بكل فخر. ومتى أصغى المرء لثلاث دقائق تساءل عمّا يغلب فيها،
أهي حماسة المتكلّم أو جهله الفظيع.»(31).
إذا أخضعنا اللغة للفحص السردي في رواية أمين الزاوي، سنجد أن اللغة تتشابك مع السرد. كل قول يعمل على إيصال دلالة قول آخر، ومن شأن ذلك حسب الباحث الفرنسي «فيليب ديفور» أن يدفع القارئ في الانخراط في العملية(32). لنقف هذا المقطع:
«ركبت الطائرة في اتجاه باريس محطتي الأولى ومنها سأطير وفي اليوم نفسه إلى بغداد. لأول مرة أركب الطائرة. حين طارت نظرت من فوق كانت تحوم فوق مدينة وهران: قرأت دعاء المسافر من كُتيّب أهذاني إيّاه شيخي. كانت الطائرة مملوءة على آخرها، عائلات بأطفال، نساء ورجال عليهم علامات الكآبة والخوف وكأنّ الجميع يستعجل الهروب من هذه المدينة، يريد مغادرة هذا البلد المجنون الواقف على حافّة جهنّم الأولى.»(33).
يحتوي هذا المقطع، وهو أمر سائد في الرواية كلها، على سخرية خفيفة. وهذه السخرية تمسّ أيضاً الأفكار الجاهزة التي أصبحت تهيمن على عقل المسلمين. إنهم يكادون ينطقون بالكلام نفسه، ويستدلّون بالأفكار ذاتها. ولنا أن نتخيّل أن هذا الاجترار استمرّ قروناً عديدة.
«مرات كانت (زوجتي) تنزعج من خطيب الجمعة الذي يُطيل خطبته التي يرسلها من مكبّرات صوت تصل أطراف المدينة، فتقول متذمّرة: هذا كلامٌ سمعناه وسمعناه، عليه أن يختصر أو يغيّر موضوعه.»(34).
يقصد الروائي إيراد قاموس من الكلمات والأفكار الجاهزة التي لا تؤدّي أي وظيفة ثقافية أو حضارية. إن المكان الذي تؤدّي إليه هو الفراغ، هو «حافة جهنم الأولى.» إنه تلخيص مدهش للمآل. وإن الروائي نفسه غيّر موضوع روايته، وغيّر الخطاب الروائي المباشر الذي لم يكن يتحدّث سوى عن الفقراء والطبقة المتوسطة والمثقفين. تراجع هذا الكلام وحلّ محلّه خطابٌ جريء وذكي يعتبر الدين معضلة ثقافية وحضارية واجتماعية شاملة ومدمّرة. ويزيد من حِدّة هذه القضية أن الروائي طبع روايته في دار نشر جزائرية تشتغل داخل البلد اسمها «منشورات الاختلاف».
لقد أصبحت تلك الجمل والكلمات تخيّم بظلالها على العديد من الروايات العربية. لكنّنا لا يمكن أن نستمرّ هكذا نعلّق على كل كلمة أو جملة أو ملفوظ في الرواية. إنها عملية لا أوافق عليها لأنها ستُميتُنا من الملَل. عِلماً أن الروائي ينتظر من نُقّاده ومحلّلي خطابه أن يقفوا عند كل ملفوظ بصبرٍ وحماسة مثل حماسته. والدليل على هذه الحماسة وهذا الصبر هو ان الروائي لا يستعمل كلمة «إلخ»، التي هي دليل على نفاد صبر الراوي(35).
6 – القول والإصغاء للقول
لغة تسيء إلى لغة. ومهنة تسيء إلى مهنة. والشيخ مرتبه المعرفية أعلى من مرتبة المريد. يتحدّث الراوي بقول جديد، وهذه العملية تتضمّن استمراره في الإنصات للقول القديم. أحرق الكتب الإنجليزية، كتب همنغواي وشكسبير، وانتقل من أستاذ للّغة الإنجليزية إلى أستاذ لمادة التربية الإسلامية، ثم إلى خطيب في مسجد، ثم إلى مترجم لأمريكي يريد إجراء حوار صحفي مع الزعيم أحمد شاه مسعود بأفغانستان. هكذا يقدّم الراوي وضعه الجديد:
«حين تولّى الحزب الإسلامي سلطة إدارة البلدية في مدينتي الصغيرة بعد انتخابات مدخولة كثر فيها التهديد ووُزّعت فيها الوعود ورُفعت فيها شعارات تجعل باب الجنّة مفتوحاً لكلّ من أعطى صوته لقائمة الحزب الإسلامي، وجدت نفسي أحرق كل كتبي الأدبية المكتوبة باللغة الإنجليزية، فاللغة الوحيدة التي يجب أن تظلّ في البلاد وعلى ألسنة العباد هي العربية لغة الكتاب والرسول والجنّة، بحزن كبير وبحُرقة عميقة أحرقت بعض ما كانت تتضمّنه مكتبتي الصغيرة من روايات هنري ميللر المجنون: «مدار الجدي» و«مدار السرطان» والتي صرفت في قراءتها الساعات والليالي وتلذذت بجنونها وعوالمها الخارقة والمثيرة وأحرقت أيضاً روايات فولكنر وهمنجواي هذا الأخير الذي كنت أحفظ مقاطع كثيرة من روايته «العجوز والبحر»، وأحرقت مسرحيات شكسبير باستثناء مسرحية «تاجر البندقية…»(36).
هذا مثال أقصى قدّمه الروائي عن شخصية تصغي إلى انتقالها إلى وضع جديد. إصغاء إلى الاقتلاع. المثقّف هو القائل والسامع في نفس الآن. يبدو المتكلّم كأنه شخصٌ مختلفٌ تماماً عن الشخص الآخر الذي يستمع للكلام. والذي يُصغي للكلام لا يُجيب المتكلّم. القول يذهب في اتجاه واحد. المستمع يقوم فقط بوظيفة التقاط القول. وهذا ما يسمّيه فرويد «الإنصات العائم». باستطاعة الراوي أن يستمر في مثل هذا القول، وهو ما قام به فعلاً على امتداد صفحات كثيرة، فلا احد سيوقفه لأنه هو مصدر القول والمصغي إليه(37).
7 – في أي ساعة من فضلك؟
هناك اعتقاد سائد بأن الثورات تمسّ اللغة وطرائق استعمالها بالسوء. في سنة 1843 جرى حوار بين فكتور كوزان(38) وهو عضو في الأكاديمية الفرنسية، وفكتور هيغو(39)، وهو كاتب وشاعر فرنسي اشتهر بروايته «البؤساء». قال فكتور كوزان: «إن انحطاط الفرنسية قد بدأ في سنة 1789». فأجابه فكتور هيغو: «في أي ساعة من فضلك؟»(40). وقد ساور مدام دي ستايل نفس القلق الذي عبّر عنه فكتور كوزان، فقالت متسائلة:»لماذا تضرّرت الفصاحة وتدهورت منذ سنوات الثورة الأولى في فرنسا؟»(41). لا يقف الأمر فقط عند ف.كوزان و م. دي ستايل، بل هناك العديد من الفرنسيين، الطهرانيون على الخصوص، الذين صُدموا بحجم التغيرات التي طرأت على أشياء كثيرة، منها اللغة الفرنسية. لقد شاعت جمل بدت فارغة من المعنى، بل حقيرة، لكنها أصبحت جزءاً من لغة الناس الذين عُرفت عنهم أناقة وجودة التعبير. كان التعبير الفرنسي بمثابة «عيد للكلام» تخّلى الناس عن الاحتفال به، فضاعت حسب «مارك فيمارولي»(42) روح المحادثة الاجتماعية. فشاع التحسّر عن المحادثة المتحضّرة التي هي «ابنة الأرستقراطيات المتبطّلة والملكيات المحتضرة، «محادثة الأمس، مجد الروح الفرنسية الأخير وقد أُجبِرت على الهجرة أمام العادات النفعية والمنشغلة في عصرنا هذا»(43) حسب تعبير «جيل بارباي دوروفيلي(44).
دخلت ألفاظ غريبة إلى اللغة الفرنسية تمت المطالبة بالتصدّي إليها. وقد أحصى «جاك سيلار»(45) ألفي كلمة محدَثة جاءت بها الثورة، وأكثرها في مجالات السياسة والإدارة والقانون(46). فقد أُطلق لقب السبتمبريون على الذين شاركوا في مذابح سبتمبر من سنة 1792.
وقد كان علماء النحو أول المعترضين على هذه الاستعمالات اللغوية الجديدة، التي رأوا فيها طوفاناً مهدّداً للغة الفرنسية، فهو ممتلئ بأساليب غريبة، وعبارت متكلّفة، وتراكيب مضحكة «يرشّ بها المتحدّثون الثوريون خطاباتهم». إن لغة باسكال(47) وراسين(48) في خطر.
لنقرأ هدا المقطع من رواية الموت عمل شاق(49) للروائي السوري خالد خليفة:
مشهد مؤثر لن ينساه بلبل طوال حياته…أتوا به نظيفاً، من الواضح أنهم اعتنوا برفيقهم، اختار البقاء معهم برغم الحصار المفروض على البلدة مند أكثر من ثلاث سنوات. ودعوه بتعاطف كبير، قبلوه بحرارة، أدوا تحية رفاقية، أوصوا بلبل برعايته بطريقة لائقة، وغادروا بلمح البصر عبر طريق فرعي محروس جيداً، ومفتوح على بساتين تؤدي إلى البلدة. كانت عيناه تشيعانهم للمرة الأخيرة، حاول رفع يده ليلوح لهم لكنه لم يستطع، كان منهكاً وجائعاً، فَقَدَ أكثر من نصف وزنه، مند أشهر لم يأكل وجبة طعام كاملة، ككل المحاصرين في البلدة.
للرواية زمانها ومكانها، هو حاضر أولئك الذين شاركوا فيه بالفعل، وعانوا من حصارات حروبه. كما لها حقيقتها: وهي حقيقة المجهولين الذين شكلت أفعالهم العديدة المتحدة وجه الحدث(50). هناك قانون روائي يربط بين الشهود وبين الشخصيات يدعمه فعل الأفراد وأثر الواقع.
تذهب الشخصيات إلى أبعد ما تقودها إليه إرادتها، حسب جاك رانسيير. هكذا تدخل الرواية مقاماً آخر يختلف عما تكتبه كتب التاريخ أو التغطيات الصحفية أو الأخبار المتفرقة القصيرة المدعومة بالصور. إن الرواية، والأدب عموماً، يتعرف تاريخه من خلال حكايات الشخصيات العظيمة والأحداث التي تتتابع بانتظام(51).
تبدأ حبكة الرواية في تقديم جثمان والد بلبل بطريقة متصلة بمقامه كشهيد. فتظهر أمامنا أسرار مجهولة، ومهارة أشخاص لم نكن نعرف منهم سوى أسمائهم. حسين شقيق بلبل يُظهر خبرته في الحياة.
4-1 التخييل الاجتماعي
التخييل داخل رواية جيدة يبتكر نفسه. فهو تخييل مختلط، يجمع بين الاجتماعي والأدبي والمونولوغي. هذا النوع من التخييل يجد نموذجه بقوة في رواية «مدام بوفاري» لفلوبير. الروائي يقضي سنوات من عمره في معاينة الحوادث والناس. فلوبير فضل الإجابة عن أسباب انتحار امرأة اسمها «إيما». ونجد أيضا الروائي الفلسطيني غسان كنفاني يكتب رواية «من قتل ليلى الحايك؟». إن أمام الموت، كما نعرف بشكل محدود دوماً، تقف دروس اجتماعية: عدم القدرة على تسديد الديون، الفشل أمام مفاوضة الدائنين…لكن كيف ينكبّ روائي اهتم جيّداً بالأدب الخالص على طرح أسئلة ونماذج اجتماعية. هنا طبعا يختلف كنفاني الفلسطيني عن فلوبير الفرنسي.
4-2 الحقيقة تسلك دروباً غريبة
الروائيون على وعي بأن الحقيقة التي تمتلئ بها رواياتهم لم تخطر قطّ على بالهم من قبل، ولم يبحثوا عنها كما يبحث الفلاسفة والعلماء باتباع طرق معيّنة. تصل الحقيقة إلى الرواية عبر قاعدتين أساسيتين: الأولى باعتبارها معادلاً لواقع بعيد، والثانية تحضر كبديل لضدّها. إن الحقيقة، لانها كذلك، تسلك دروباً غريبة(52). لنتأمل مثلا هذا المقطع من رواية «بكارة»(53) للروائي التونسي الحبيب السالمي:
«…سيقول له إنّ كلّ الرجال أو معظمهم اعترضتهم هذه المشكلة لجأوا إلى أصابعهم. الصغيرة منها أو الكبيرة على حدّ السواء…وهناك من يردّد أنّ بعضهم استعان بأشياء أخرى. أشياء لا تخطر ببال، إلا من أصابه الهلع، فلم يعد قادراً على التفكير والتمييز بين الأمور. عود ثقاب. مبرد. قلم. وحتى مسمار.»(54).
ما ذكره السارد هنا يتحدّى العديد من الحقائق، يتحدّى حتى الفكر بسبب هذه الغرائبية التي تنقل حكاية نفس مذعورة. فهل الحقيقة إذن ووجهت بالتشوه حين قطعت مسالك ملتوية، ودروباً غريبة؟ إن الجواب على هذا السؤال يفترض البحث عن مكان تلك الدروب. أين توجد إذن؟ وكم من حقيقة اجتازتها؟ وفي أي زمن؟
إن من يقرأ المقطع أعلاه يحيله على حقيقة لاواعية. إن الإصبع، وعود الثقاب، والمبرد، والقلم، والمسمار…أدوات غير متوقعة، بل تصبح مخيفة حين تُعرَف أنها أصبحت بديلة للعضو التناسلي للرجل لحلّ مشكلته ليلة دخوله على زوجته لإحداث ثقب في غشاء البكارة.
وما يثير الانتباه أيضاً هو أن السارد قام بجردها مع مراعاة ترتيبها من الأقلً إلى الأكثر ضرراً: من الإصبع إلى المسمار. إنها سبع أدوات إذا أضفنا إليها العضو. إنها تدخل في مجال العدد وتثير الخوف. والعدد ذو معنى هنا، ولينقص واحد أو يزيد.
حدث ذلك في زمن ما بعد الثورة. زمن الإخصاء، الزمن الذي كشف عيوباً كثيرة. نقرأ في الصفحة 22:» لم تتوقّف (منّوبية») عن شتم كل الرجال الذين يحسدون سي البشير، والدعاء عليهم. وما يؤلمها حقّاً هو أن هؤلاء الحسّاد تكاثروا بعد الثورة. وبعضهم صار يجاهر بحسده لسّي البشير بل ويتطاول عليه، في حين أنّه لم يكن يجرؤ حتى على النظر مباشرة إلى عينيه قبل الثورة.»(55).
سلكت الحقيقة دروباً ودخلت من النافذة في رواية الروائي السوري فيصل خرتش «دوّار الموت ما بين حلب والرقة»(56)، مثلما دخلت سنة 1909 غرفة «رجل الذئاب»، كما جاء في كتاب فرويد «خمس محاضرات في التحليل النفسي». هكذا دخلت الحقيقة:
« لقد استيقظت من النوم في هذا التوقيت بالضبط. كانت الكهرباء مقطوعة، نظرت إلى نافذة المدرسة التي تقع أمام بصري مباشرة، فرأيت النور قد غاب عنها وحلّ محلّه سواد داكن. كلّ ليلة تكون المدرسة منارة، وهذه النافذة بالذات، تبقى منارة حتى الصباح. ويظهر أن السكان نسوا أنّ هناك زرّاً لإطفاء وإنارة ضوء النيون الذي يقدح في عينيّ.»(57).
لنقارن هذا المقطع بما جاء في «رجل الذئاب»:
«فجأة فُتحت النافذة من تلقاء ذاتها، ويا للهول. رأيتُ عدداً من الذئاب البيضاء جالسة على شجرة الجوز المقابلة. كان هناك ستّة أو سبعة منها.»(58).
الحقيقة في الحالتين غير متوقعة، ومخيفة، وغير مفكَّر فيها.
5 – الرواية وقول كل شيء
هل اختلف وضع الروائي بين الأمس واليوم؟ هل هو اختلاف بين طريقة لوضع المسافة مع الرواية وعامة الناس، وبين الروائي السعيد الذي يسعى إلى أن يفهم عامة الناس قوله حول حال العالم اليوم. قال فلوبير هذا الاختلاف بشكل ناجح في رسالة وجّهها إلى الروائية الفرنسية المعروفة جوروج ساند:» تتحدّثين عن أصدقائي، وتضيفين مدرستي(…) يسعى أولئك الذين غالباً ما ألتقيهم، وأنت تشيرين إليهم، إلى كلّ ما ّأحتقره ولا يأبهون لما يعذّبني(…). إذ يسعد غونكور، على سبيل المثال، عندما يلتقط في الشارع كلمة تصلح لأن يضعها في كتاب. أما أنا فأشعر بالكثير من الرّضى عندما أكتب صفحة خالية من الجناس الصوتي ومن التكرار.»(59).
الهوامش
1 – Jacques Rancière, Politique de la littérature, éd. Galilée, 2007.
2 – Jules Michelet (1798-1874).
3 – جاك رانسيير، سياسة الأدب، ترجمة: رضوان ظاظا، المنظمة العربية للترجمة، 2010.
4 – نفسه، ص. 16.4
5 – نفسه
6 – نفسه.
7 -Boileau, Art poétique, 1674.
8 – Huet
9 – Yves Stalloni, Dictionnaire du roman, éd. Armand Colin, 2012, p.257.
10 – Pirre Machery, A quoi pense la littérature? Exercices de philosophie littéraire, éd. PUF. 1990.
بيار ماشيري، بمَ يفكّر الأدب؟ تطبيقات في الفلسفة الأدبية، ترجمة: د. جوزيف شريم، المنظمة العربية للترجمة، 2009.
11 – نفسه، ص.ص. 19-20.
12 – Jacques Rancière, Politique de la littérature, éd. Galilée, 2007.
13 – بيار لرتوما، مبادئ الأسلوبيات العامة، ترجمة: محمد الزكراوي، المنظمة العربية للترجمة، 2011، ص.16.
14 – أفلاطون، الجمهورية، الكتاب الثالث.
15 – Honoré de Balzac, La comédie humaine.
16 – Le contrat de mariage.
17 – جاك رانسيير، سياسة الأدب، م. س. ص. 110.
18 – نفسه، ص. 111.
19 – نفسه، ص. 112.
20 – جيسي ماتز، تطوّر الرواية الحديثة، ترجمة: لطفية الدليمي، دار المدى، 2016، ص. 187.
21 – نفسه، ص. 187.
22 – نفسه، ص. 188.
23 – أمين الزاوي، حادي التيوس أو فتنة النفوس لعذارى النصارى والمجوس»، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2011.
24 – نفسه، ص. 14.
25 – نفسه، ص. 14.
26 – نفسه، ص. 14.
27 – جاك رانسيير، سياسة الرواية، م. س. ص. 113.
28 – حادي التيوس أو فتنة النفوس لعذارى النصارى والمجوس، م. س. ص.15.
29 – سياسة الرواية، م. س. ص. 113.
30 – فيليب دوفور، فكر اللغة الراوئي، ترجمة: هُدى مقنَّص، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2011، ص. 26.
31 – Stendhal, Le rouge et le noir, dans: Romans et récits, t. 1, p. 607.
32 – فكر اللغة الراوئي، م.س. ص.59.
33 – أمين الزاوي، حادي التيوس أو فتنة النفوس لعذارى النصارى والمجوس، م. س. ص.64.
34 – نفسه، ص. 62.
35 – وردت هذه الإشارة في دراسة «فيليب دوفور» لرواية ستاندال «الأحمر والأسود». المرجع كاملا في الهامش (32) من هذه الدراسة.
36 – أمين الزاوي، م.س. ص. 57.
37 – Gérard genette, Proust et le langage direct, أنظر في هذه المسألة
38 – Victor Cousin.
39 – Victor Hugo.
40 – Choses vues, p.838. – ملاحظة وردت عند فيليب ديفو. يمكن الرجوع إلى كتاب فكتور هيغو:
41 – Germaine de Staël, De la littérature, éd. Garnier,1998. p. 395.
42 – Marc Fumaroli, Trois institutions littéraires, éd. Gallimard, 1994, p.111.
– فيليب دوفور، م. س. ص.17.43
44 – Jules Barbey d’Aurevilly.
45 – Jacques Cellard.
46 – Max Frey, Les transformations du vocabulaire français à l’époque de la révolution (1789-1800), éd. PUF, 1925.
47 – Pascal
48 – Racine.
49 – خالد خليفة، الموت عمل شاق، دار العين، مصر، 2016، ص. 9.
50 – جاك رانسيير، سياسة الأدب، م.س. ص.112.
51 – نفسه، ص. 113.
52 – فكرة وردت عند فرويد في تحليله لشخصية سيرغي بانكيجيف، أحد مرضى فرويد الذي عرض تحليلاً مفصّلاً لحالته في كتاب «خمس محاضرات – في التحليل النفسي»، ويسميه رجل الذئاب.
53 – الحبيب السالمي، بكارة، دار الآداب، بيروت، 2016.
54 -نفسه، ص.18.
55 – نفسه، ص. 22.
56 – فيصل خرتش، دوّار الموت بين حلب والرقةـ رياض الري للكتب والنشر، بيروت-لندن، 2017.
57 – نفسه، ص. 9.
58 –
Sigmund Freud, L’homme au loups, éd. PUF, 2009.
59 – Gustave Flaubert, « Lettre à George Sand, 31décembre 1875, » dans: Gustave Flaubert, Correspondance, bibliothèque de la Pléiade, éd. Gallimard, 1998, p. 1000.
محمود عبد الغني *