علي البزّاز *
لا يخلو أيّ بيت، أو قاعة اجتماعات أو صالات السينما والملاعب من الكراسي، ولا يمكن الاستغناء عنها لا وظيفيًّا ولا جماليًّا كجزءٍ من الديكور وكتعبير عن الحاجة والسعادة والاسترخاء، بحسب الوظيفة المرجوّة منها. وقد حظيت الكراسي في التصميم على دور كبير، فثّمة كراسي دوّارة، وأخرى طويلة بمساند للرأس كما في المسابح، وكراسي على شكل طبل موسيقي، وبمجسمات حيوانات وأشجار، فتعدّدت أشكالها وخلفياتها وأحجامها، مثل كراسي المدراء الوثيرة والضخمة، تعبير عن القوّة والجبروت، مقارنة بكراسي الأطفال الصغيرة والمتنوّعة هي الأخرى، صغيرة في داخل السيارة برباط، يحمي الطفل، وأخرى أكبر حجماً للأكل.
في هولندا مثلاً، يراعى في تصميم الدرّاجة الهوائية، شكل وحجم كرسي الطفل في دراجة كلّ من الأب والأم، كي يصطحبانه معهما، وهو مشهد تاريخي ومألوف في ذلك البلد. كما أصبحت للكراسي، بفعل التربية والقوة والجاه أماكن ثابتة خاصة بها لا يمكن تغييرها، أو إزاحتها لما لها من مكانة تاريخية وماليّة؛ فكرسي الأب يقع في المنتصف من الطاولة، تمييزاً لمكانته، بمعنى الأب هو مركز العائلة، وهو مدبّرها الاجتماعي والمالي، وكرسي المدير الدّوار والضخم في منتصف المكتب أيضاً في أثناء العمل والاجتماعات ، وبجانبه كراسي تدلّ على الضيوف أو خاصّة بالموظّفين. لكلّ كرسيّ إذن، مركز اجتماعيّ وقياديّ يُعبّر عن القوّة والهيبة، فيدير رجل الأعمال شؤونه من كرسي المال والأعمال، مستمدًّا سلطته من مكانة رأس المال ذاته. أي الآمر الناهي، وهكذا، يختلف كرسي مدير البنك، عن كرسي الموظفين الأقلّ شأنًا منه.
وقد انشغل الفنّ المعاصر منذ بداية القرن العشرين، بتصاميم الكراسي بحسب تطوّر مفهوم المرء للسعادة، مُنتجاً آلاف التصاميم، فمن منّا لم يحمله الكرسي الهزّاز طفلاً ، مرتبطاً بترنيمات الطفولة،( ثمّة مسرحيّة عراقية شهيرة بعنوان ترنيمة الكرسي الهزّاز) وبحضور الأم راعيةً ومُربّية، وكان الغرض منه، أن يكون بديلاً عن حضنها، لانشغالها في الأعمال اليومية. وراهنًا، في الوظائف العامّة، ومن الكرسي الهزّاز، انبثقت فكرة دور الحضانة، كبديل عن الأسرة، لكن سيعود في الشيخوخة، مسليًّا الإنسان في كبره، ومعيدًا إياه إلى سنوات الطفولة. يمكن القول، بأنّ الكرسي الهزّاز، هو دورة حياة المرء الطبيعية، طفولة- شيخوخة، ومنه استلهمت الكراسي الدوّارة لاحقاً، التي هي بحقّ تعبير عن فكرة مالية وعصرية، وذلك لأنّ الكرسي الدوّار، يسمح بالحركة نحو الاتجاهات كافة، مما يسهل على الشخص، تناول الملفّات بسهولة، ولفت أنظار مُشاهديه إلى مركز القوّة عند الحركة الانسيابية والسريعة، لكن الأمر يختلف في كراسي المسابح العامّة، التي تشبه الأرائك، اهتداء إلى السعادة والاسترخاء، والهروب من مسؤولية العمل والضغط اليومي.
عندما يختلف المكان، يختلف شكل الكرسي تلقائياً، فمن غير المعقول، أن توضع الكراسي الدوّارة في المسابح، وكراسي الأرائك في الدوائر الرسمية.
الكراسي في الديكور المنزلي : أشكال حيوانات ووجوه بشرية، تقول وداعاً للكرسي التقليدي:
ينبغي عدم تجاهل الكرسي لا شكلياً ولا وظيفيًّا في ديكور المنزل، وينبغي إعطاؤه الأفضلية على سواه، لما للكرسي من تأثير على النظر، وجذب العين كليًّا إليه، وذلك بسبب وجوده ككتلة قائمة بذاتها، تتسع لشخص فقط، مما يميّزه عن الأشكال الأخرى كالطاولة والكنبة، وهكذا، ينبغي إعطاء الكرسي في المنزل لونًا صارخًا غير متفق مع باقي الأثاث، من أجل كسر الرتابة والروتين، ونفسيًا من أجل تعزيز المكانة الشخصية للمرء. وعليه، يُحدّد موقع الكراسي أولاً، ثم مواقع الأثاث الباقية تالياً، وهو أسلوب معاصر وحديث في الديكور، الذي يقتضي عدم التكديس، ومنح فضاء واسع للعين، فكل قطعة في البيت، تنوجد، من أجل اظهار القطع الباقية، وليس على إلغاؤها، وراهنًا، تكاد الكراسي التقليدية ذات الأرجل الأربع تنحسر وتختفي، فهي ليست عملانية وناقصة جماليًا، فقد تمّ تعويضها بالقاعدة العريضة، ذات الاشكال المختلفة، أو كرسي بقاعدتين عموديتين. يسمح الكرسي ذاته بالاشتغال عليه فنيّاً نقشاً وحفراً، فقد صمّمت الفنانة الأسترالية فيونا روبرتس كرسياً بخلفية وجوه بشرية تنظر باتجاهات مختلفة، وأسنان في الوسط، مع قاعدة على شكل وجه بفم غائر، ويشي المشهد العام للكرسي بالوجه البشري. أمّا كراسي الفنانيَن الثنائي تشارلز وراي إيمز، فهي توحي بالبساطة والحداثة معاً، فكلنا نتذكر، الكراسي المصنوعة من حبال النايلون المتشابكة، وهنا استعيض عن النايلون بالكروم ومعادن أخرى ، وعمِلا على كراسي ذات قاعدة عريضة، وقاع منخفض يسمح بالغطس فيه، يحاكي السباحة بمسندين عريضين، وفي واجهته رسومات لنساء ووجوه بشرية. كثيرة هي الكراسي ذات الأشكال والمواد الغربية، بعضها مصنوع من ورق الجرائد والمجلات القديمة، والأخرى على شكل طبل موسيقي مع أشكال ومجسمات لحيوانات مختلفة.
ومثلما اقترن الكرسي بالحديث والبوح بالأسرار، مثل كرسي الاعتراف، أو كرسي الطبيب النفسي، وبالعقوبة مثل الكرسي الكهربائي. بالمقابل، يدعو الكرسي إلى التأمّل والكتابة، وقد حرص الشعراء والكتّاب والفلاسفة على انتقاء كراسيهم بعناية، والتغنّي بها، إلى الحدّ الذي أنشأوا علاقة معها من أمثال بلزاك ودوستويفسكي وتولستوي . هناك كرسي لنابليون بونابرت وجنرالاته، في مقهى “السلام “في باريس، كذلك كرسي الروائي صموئيل بيكيت في مقهى هوتيل” سان جاك” وآخر لهمنجواي، في مقهى ” كليفيه” في باريس أيضاً، كما اشتهر سارتر بالجلوس على كراسي مقهى” لوفلور” كلّها طيلة الثلاثين عاماً، بحسب الطرفة التي يرويها صاحب المقهى ذاته، وكرسي سيمون دو بوفوار في المقهى “لي ديماغو” بمعنى، إنّ الكرسي بشكله وبمكانه ساهم، في انتاج الأدب ، فاشتهرت الكراسي بحسب أسماء الشعراء والروائيين وقادة الجيوش، من هنا جاءت ولا تزال مكانة الكرسي، فبعض الكتاب، لا يستطيع الكتابة إلّا على كرسيّه ذاته، وفي مقهاه ذاتها. اخترعت السينما الهوليوديّة كرسي المخرج مرتبطاً بالسيجار دائماً، في إشارةٍ إلى البذخ والشهرة والجبروت، وقد خصّصت كرسيًّا لكلّ مخرج باسمه، فها هو المخرج جون فورد ( صاحب أفلام الوسترن -رعاة البقر- الذي أخرج ما يقارب 145 فيلما،ً منها منذ وقت السينما الصامتة،) مرتبط بكرسي المخرج مع السيجار في فمه، ومن حوله الممثّلين كمستمعين مطيعين. والجدير ذكره، أنّ الكرسي هو تعبير عن سلطة وتحكّم، وليس حاجة في السينما، فلم يُعرف عن مخرجي التنوير مثل فلّيني وتاركوفسكي وآخرين، تعلّقهم بكرسي المخرج أبدًا، بل كانوا يأنفون منه حتى. وتشتهر متاحف السينما، باحتوائها على الكراسي للشخصيات التاريخية، أو للممثلين والمخرجين، فيصير الكرسي، شاهداً على حقبة زمنية معينة، وعلى أسلوب سينمائي معين.
هكذا، صار الكرسي حاجة ماسّة لا بدّ منها، كالأسماء، مرتبطاً بالعائلة والأحاديث والمال وأساليب الحكم، ومشاهدة كرة القدم ولمّ الشمل؛ ويمكن مقارنة الكرسي، بدور الأب أو الأم لجهة الدعوة إلى اجتماع العائلة بشكلٍ حميميّ، إلى الأكل أو الحديث اليومي. لقد اقترن الكرسي بالطاولة دائماً، طاولة الطعام، التي تشكّل مع الكراسي، ثنائياً مرتبطاً بطقوس وعاداتٍ كثيرة، ومنها الأكل. هناك عادات للشعوب، ساهم الكرسي بانتشارها، فشكله وحجمه ووجوده، يحدّد نوع الأكل أكان صحّيًا، أم أنّه غير مفيد مثل الوجبات السريعة؛ فجلسة الشاي مثلاً، لما لها من مواعيد محدّدة، لدى بعض الشعوب، غالبًا بعد الظهر، تختلف عن السندويش، الذي لا يحتاج إلى كرسي، ويُعتبر السندويش، مُمثّل العصر السريع والحب السريع والتربية السريعة.
وأهمّ إيحاء رمزي للكرسي هو السلطة، فيُقال، لا يُترك الكرسي، كناية عن التشبّث بالحكم. وللكراسي أيضاً حكايات، ولها أسلوب معيّن من السرد، فحكايات كرسي الحلّاق الموسومة بالثرثرة والنميمة، تختلف عن حكايات كرسي موظّف الدولة، الموصوفة بالصرامة.
كانت الأرض، هي الكرسي الأول للإنسان، يجلس على الصخور، ويفترش البسيطة، أو على فروع الأشجار. ومن الخبرات السعيدة البريئة، جاء الكرسي إليه باعتباره تفكيرًا بالراحة، بعد ما اكتسب القوّة والرفعة، فالقوّة والسلطة والجاه، من أسباب تطوّر الكرسي.
نبذة تاريخية:
الكرسي : تعبيرٌ عن السلطة.. وإشارة إلى القوانين في الحضارات القديمة
لم تعرِض رسومات الإنسان الأوّل على جدران الكهوف، صورًا للكراسي، بجانب الرماح والحيوانات السائدة عليها، فقد كانت علاقة الإنسان بالجدران وثيقة، أكثر من الكراسي، وذلك، لأن الجدران كانت تُمّثل له فكرة الخصم والمواجه، التحدّي والسعي نحو النجاح، لما للجدران من أشكال وهيئات تقف أمام العين مباشرة، وهكذا توحي بالمواجهة والتحدّي، ولذلك استعملها الإنسان للرسم عليها، ثم تعلّم من وجودها لاحقاً مقارعة الخصم والعدو، بينما لم يستعمل الأرض للرسم، لأنها منبسطة (تسمّى الأرض البسيطة كذلك)، لافتقادها فكرة المواجهة التي يحتاجها المرء في حياته، علاوة، أنّ الإنسان كان ولا يزال ينظرُ إلى الأرض بعين التكبّر، فيمشي عليها مُنتعلاً تضاريسها، يهينُ الأرض ولا يحترم وجودها، بيئياً ومعرفياً.
والسؤال : متى بدأت علاقة الإنسان الأول بالكرسي؟ بُنيت هذه العلاقة بشكل تراكمي، من المحاكاة الأولى، حتى شعور الإنسان بكينونته، وقد ساهمت الطبيعة بذلك، منذ شعور جدّنا الأوّل بالسعادة، من جهة، وحاجته إلى السلطة من جهة أخرى.
ظهر أوّل كرسي في الحضارات القديمة، مُعادلاً للسلطة، وموازيًا للقوانين وهو: صورة الملك حمورابي البابلي، جالساً على الكرسي، وبيده شريعة القوانين، التي سُّميت باسمه، من أحد الكهنة.
اللافت، لم يظهر الكهنة قطّ، في كلّ رسومات الحضارة الرافدينية، وهم جالسون على الكراسي، بل ظهروا واقفين أمام الملوك، أو في أثناء تأدية واجباتهم في المعابد. والمعروف أن الكهنة كانوا وسطاء فقط بين الملك ورعيّته، ولم ينالوا القوّة إلّا بوصفهم تابعين للملك، بمعنى، لا سلطة، ولا كرسيّ إلاّ للقوي. من هناك وكما سنأتي لاحقاً، جاء مفهوم الكرسي، إذ انبثق من السلطة، أو السلطة قد مهّدت له. نستطيع القول إنّ شريعة حمورابي التي تسلّمها جالساً على الكرسي، وارتبطت به أوّلاً، ثم بكرسي السلطة تالياً، تعني، عملية ترتيب قانوني للحكم، أي، تجليس (من الكرسي) لأسلوب الدولة بين الملك ورعيته، ألا يعني فعل (جلس، يجلس) سيميائيّاً، الكرسي، وما يثيره من مشاعر التحكّم والبوح والزهو والنجاح؟ مُعبّرًا عن الأحاسيس الإنسانية، كالغضب، والبكاء والاعتراف، وصولاً إلى كرسي السلطة؛ التشبّث بالحكم والزهو بالأوامر. الكرسي هو، قدرة ممنوحة لمن يُحسِن استعمالها، قدرة على القيادة والتأمّل والنجاح.
إنّه قُدرة تغادر الشكل والتصميم، إلى طاقة متعدّدة الغايات، وهي من الطاقات النادرة المتجاوزة وجودها، مثل الأسوار وما تثيره من مشاعر العزل والصدّ والدفاع، ثم الشعور بالأمان المؤدّي إلى سلطة مؤمّنة وعيش مؤمّن خلف الأسوار.
جاءت الحضارة الفرعونية، بتصوّرات كثيرة عن الكراسي، وتشير الرسومات الفرعونية كذلك، إلى صور الملوك وكراسيهم، وما أسلوب الدفن الفرعوني الخالد، إلّا تعبير عن الكرسي وتطوّر للقبر الأول، أيّ قبر هابيل. وما تزال القبور والكراسي الفرعونية خالدة وحاضرة أمام الملأ، لأن الحضارة الفرعونية هي صخرية، وخلّدتها الصخور ممّا لها من مقاومة لعوامل التعرية والتآكل، بينما حضارة بلاد ما بين النهرين، طينية، والطين لا يدوم مقارنة بالصخور، فضلاً عن أنّ حضارة بلاد ما بين النهرين هي كتابية وأدبية، خلّفت كما يقول المؤرخون ما يقارب المليون نصّاً مع الرسومات والتماثيل. وهكذا، ظهر الكرسي الأوّل الحمورابي مرافقاً للكتابة، أي الشريعة والقوانين.
كرسي الباري عزّ وجلّ العلم والحضور
كرسي النبي محمد(ص) المنبر الإسلام والدولة الجديدة
كرسي المسيح الوداع – الوصيّة
كرسي آدم البسيطة
كرسي حمورابي القانون والشريعة
كرسي الاعتراف البوح والذنوب- القصاص أو المغفرة
كرسي الحلّاق الثرثرة
كرسي الإعدام العقوبة
كرسي ستيفن هوكينغ الإعاقة الناجحة
كرسي الحكم علم السياسة
في القرآن
من أعظم الآيات فضلا في القرآن الكريم الآية رقم 255 من سورة البقرة، والتي يُطلق عليها آية الكرسي، “وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم”. وثمّة اختلافات كثيرة بين المفسّرين حول معنى الكرسي في الآية، فمنهم من قال:
“هو عِلم الله”، وذلك أنّ علم الله يَسَع السماء والأرض وما بينهما، ورُوي عن سعيد بن جبير ما يلي: “قال ابن عباس: كرسيه هو عِلمه، وفي رواية أخرى أنّ ابن عباس أكمل قائلاً: “ألا ترى إلى قوله: ولا يؤوده حفظهما؟”، ويُقصد بذلك بقيّة الآية في قوله عزّ وجلّ: “وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ “. فالله سبحانه وتعالى لا يؤوده حفظ ما علم من علمٍ واسع لا ينتهي، وأحاط به ممّا في السموات والأرض، وكما أخبرنا يُقال أنّه من كلمة كرسي جاءت كلمة كرّاسة، وهي الصحيفة التي نُسطّر فيها العلم المكتوب. وقال آخرون، معنى الكرسي هو موضع القدمين؛ فإنّ السموات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش، وهو موضع قدميه عزّ وجلّ.
لكن النبي سليمان، صاحب الملك العظيم، وقصّته مع بلقيس ملكة سبأ، كان قد ارتبط بشكلٍ وثيق بكرسي الحكم، لامتلاكه الجاه والرفعة والنفوذ، فلمّا دخلت عليه بلقيس، أرادت أن ترفع طرف ثوبها، لئلّا يبتلّ بالماء، لأنّها حسبت بلاط أرضيّة القاعة التي جلس فيها سليمان وكأنّها مياه جارية، وهكذا، كان كرسيّه من الترف والرهبة. ولسليمان وسائل كثيرة في الحكم، أي كراسي يستند عليها في تسيير شؤونه (لِما للكرسي من معانٍ ودلالات عديدة) وهي، الهدهد، وتسخير الجنّ له. }وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ{
اختلفت صورة الكرسي مع الأنبياء، بمجيء النبي محمد(ص)، فقد تغيّرت صورته تماماً، بل واستبدلت وظيفته جماليًّا ووظيفيًّا؛ وحلّ المنبر مكان الكرسي.
اقترن المنبر بالنبوّة، بعدما بنى النبي محمد بعد وصوله المدينة أوّل مسجد في الإسلام، وهنا بدأ تاريخًا من الوعظ والإرشاد، بل وبناء الدولة الحديثة، فقد ساهم المنبر بالتعريف بالدين الجديد، وجمعَ الأنصار والمهاجرين بعضهم إلى بعض، وكذلك تعليمات الغزوات والإدارة الجديدة، كلّها انطلقت من المنبر. وعليه، اقترن المنبر بالدولة الحديثة، بما يسمّى حالياً مجلس الحكم أو القيادة. يختلف المنبر شكلياً عن الكرسي، وهذا الاختلاف الشكلي، أفرز شروطًا خاصّة به، وشكّل وظائف أخرى للحكم، تختلف عن وظائف الكرسي، فالمنبر، يَسمح بالخطابة الجماهيرية خلافاً للكرسي، وعليه، أصبح المنبر مُنتظراً من قِبل المسلمين للاستماع إلى النبي تبليغًا وتوجيهًا. إضافة إلى شكل المنبر المميّز في المسجد، في مقابل المُصلّين تماماً، حيث تتوجّه إليه الأنظار مباشرة. ثمّة أحاديث كثيرة للنبي محمد (ص) حول منبره منها، “ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنّة، ومنبري على حوضي”.
قالوا في منبر النبي (ص):
ذكر السمهودي فقال: “وأشهر الأقوال أنّ الذي صنع المنبر”باقوم الرومي” الذي بنى الكعبة لقريش، وقيل غيره”. وقال ابن النجّار في وصف المنبر: “طول منبر النبي – أي ارتفاعه- ذراعان وشبر وثلاثة أصابع، وعرضه ذراع راجح، وطول صدره -أي ارتفاع مسنده- وهو مستند النبي ذراع، وطول رمانتيه اللّتين كان يمسكهما بيديه الكريمتين إذا جلس، شبر وإصبعان”. وروى يحيى عن ابن أبي الزناد: أنّ النبي كان يجلس على المجلس، ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولّي أبو بكر قام على الدرجة الثانية، ووضع رجليه على الدرجة السفلى، فلما ولّي عمر، قام على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولّي عثمان، فعل ذلك ستّ سنين من خلافته، ثم علا إلى موضع النبي. وكان عثمان أوّل من كسا المنبر قُبْطية (الثوب الرقيق الأبيض من ثياب مصر).
نستنتج، أنّ تصميم المنبر وقتذاك، كان ملائمًا لجسد النبي وطريقة خطابه، وأسلوبه الشخصي في ملاقاة الناس، بما نسميه راهنا بـ” ديزاين” ، فجاءت وظيفة المنبر ملائمة للمسجد. وكان المنبر بمثابة وسائل الاتصال الحديثة الراهنة؛ تبليغ أمر جَلل، كما في العبارة الشائعة في التراث العربي “صعد المنبر فخطب بالناس”، كناية عن أمر هامّ، يصدره الخليفة أو الوالي. لقد استحوذ المنبر على الكرسي في عهد النبي، الذي كان يفترش الأرض في اجتماعه مع المسلمين، إشارة إلى التواضع، لكن عندما توسّعت الدولة الإسلامية وكبرت شؤونها السياسية، ظهر الكرسي كوسيلة حكم، واقتصر المنبر على المسجد، هنا تجلّيات وتحوّلات الكراسي في عهد الخلافة الإسلامية.
من الزهد.. إلى انتصار مُتجلٍّ في كرسي
أقيم في مدينة أمستردام الهولندية، معرض بعنوان “السلطان والمدينة”، يصوّر تاريخ سلاطين بني عثمان، وما يهمّنا هنا، هو تجلّيات الكراسي بحسب نوع الحكم وشخصية السلطان حصرًا، شكليًّا ورمزيًّا:
يظهر كرسي السلطان عثمان مؤسّس الدولة، بسيطًا للغاية وخاليًا من النقوش، بل ومساويًا لحجمه وعلى مقاسه تماماً، ومن دون رفاهية ولا مبالغة، بسبب، أنّ الحكم، كان يعني لديه ممارسة دينية، تتطلّب الزهد والتقشّف، وليس ممارسة مدنيّة لها تأثيرات شخصية، وتدريجياً، تحوّل كرسي السلطنة العثمانية من الممارسة الدينية (تقشّف- زهد) إلى ممارسة مدنيّة، وإن كان الدين لباسها. هكذا، سنرى كرسي السلطان مراد الأول، والسلطان سليمان القانوني، كرسيًّا ضخمًا وثيرًا وقد نُحتت في خلفيته، السفن والأبواق والرماح، التي كانت وقتذاك من وسائل الحرب، بمعنى، الكرسي هو مُماثل لشكل الدولة وتطلّعاتها، الحربية والاقتصادية، فالدولة العثمانية لم تكن غنيّة في عهد السلطان الأوّل عثمان، ولم تكن دولة فتوحات، فجاء كرسيه مماثلاً لها، وبعكس كرسي السلطان سليمان القانوني. حيث تطوّرت الدولة، وتطورت بالمقابل أساليب الحكم، مجلس شورى، رئاسة وزراء مثلاً، وتجدّدت بنياتها بحسب الضرورة، وعليه، تغيّرت النظرة إلى الكراسي، بل، وتمّ ترحيل غاياتها، من كرسي للحكم زاهد ومتقشّف، إلى كرسي حربي مدني فخم ، يُعبّر عن الدولة وجبروتها، وهذا ينطبق على كراسي القياصرة والأمراء: الوجه الثاني المزدوج من السلطة والانبهار، فالانتصار متجلّيًا في الكرسي، لهو انتصارٌ دائم، وذو بريق لا يخبو، بعكس إشعاع الحروب الذي يتقادم ويندثر.
الكراسي في الفن التشكيلي.. فكرة السعادة، هي فن العيش
لم تساهم ثورة الفن الحديث في بداية القرن العشرين، بأشكال فنّية وتعبيرية جديدة فحسب، إنّما تحسّست أيضاً بعض المفاهيم، منها التذوّق الجمالي، واستبطان فكرة السعادة عند الإنسان، تجلى ذلك، بإنتاج أشكالٍ عدّة للكراسي، تتّفق ومفهوم السعادة، بعيداً عن المفهوم التقليدي للكرسي، وهو السلطة. وهكذا، تغلّب الفن هنا تحديداً على السياسة، عندما سار إلى عكس مفاهيمها.
في المعرض الاستعادي لتكريم روّاد الفن الحديث 1920- 1960 في متحف فان خوخ بأمستردام، ثمّة موديلات لتطوّر الكراسي، بحسب توجّهات الفنان ذاته، وطبقًا لتطوّر فكرة السعادة، التي يسعى إليها الجميع:
الكرسي “الأحمر الأزرق” في عام 7191 للفنان الهولندي خيرت ريتفلد، عريض القاعدة ذو ذراعين يتّكآن على الأرض عبر مستطيل، ومسند مائل طويل يسمح بالاسترخاء يحاكي القاع، وهو يختلف جذرياً عن كرسي مائدة الطعام. وهو، تكعيبي الأسلوب. أما كرسي لودفيك ميس فان ديرو، فلا يستند على قاعدة خلفية، بل يرتكز على قاعدته الأمامية، ما يجعل الفراغ الذي يحتلّه شاسعاً يسمح بمقارنته مع الأفق. وجود المساند في الكرسي، يُعبّر عن الارتكاز، عن التشبّث بطريقة معينة بالجلوس، سواء طريقة ترويح، أو طريقة تسيير لجسد الإنسان، توحي نوعًا ما بطريقة تسيير الحكم، ثم وجود المسند الخلفي، بحسب فخامته أو مادّة صناعته، تشي هي الأخرى بالسعادة، وثمّة خلفيات متحرّكة، تنبسط لتصبح سرير استرخاء، كما في المسابح، إضافة الى وجود آلية معيّنة، تؤدّي إلى ارتفاع وهبوط الكرسي، بل وحتى بالدوران، وتسمح كذلك، بترتيب الكرسي بحسب ما يريده الشخص وضبطه على مقاساته. بمعنى، أصبح للكرسي عالماً خاصاً، مستوحى من عالم الشخص، أو بالعكس، يكتسب الشخص صفات ومميّزات الكرسي الجالس عليه، هل هو كرسي كتابة، أم تأمّل، أم استرخاء؟
اشتغل الفنّان الشهير بابلو بيكاسو على موضوع الكرسي، سلسلة أعمال تسمّى”المرأة والكرسي”، جامعًا سعادتين بعضهما إلى بعض، الكرسي والمرأة، فقام بتغيير خلفية الكرسي في كل لوحة، رمادي، أزرق، أخضر، بينما أبقى على المرأة ذاتها وهي تشبك يديها في اللوحات المختلفة، فضلاً عن لوحة سلفادور دالي الشهيرة بـ”امرأة برأس وردي”.
عربياً، اشتغل الفنان العراقي بشير، المقيم في هولندا، على كرسي، وَجَده على قارعة الطريق، واستعمله في مواضيع عدّة، وبحالات نفسية متنوّعة؛ كرسيّ مجرّد كما وَجَده ذات مرّة، وفي أخرى، الكرسي ذاته، مغطّى بملاءة، وكذلك، جعله في مواجهة مع السلالم، يتصارعُ مع وجودها. صمّم الفنان المعاصر الكراسي لمختلف الغايات ولشخصيات عدّة بحكم اختصاصاتها، فثمّة كرسي هزّاز للراحة والتسلية، وآخر جلدي وثير، وكرسي للحديقة، وكراسي الدرجة الأولى في الطائرات، وللصالات الموسيقية الفخمة، بحيث ينطوي الكرسي حال مغادرة الجالس له، لكي يسمح بمرور الآخرين، وحتى كراسي مُدرّجات كرة القدم. وكرسي المصور خلف الكاميرا السينمائية مخصّص لمدير التصوير، لا ينازعه فيه أحد، وهو أدنى من كرسي المخرج، وثمّة مسرح شهير في العراق، يسمّى “مسرح “الستين كرسيّاً” أنتج المسرحيات الجادّة والمميّزة. استوحى الفنان ذلك كله، من فكرة السعادة ومن التفاوت الطبقي، فكرسي الملاعب الفخمة والقريبة من ساحة اللعب، يختلف في ثمنه وفي راحته عن كرسي الفقير زهيد الثمن، والكرسي تصميماً، لهو المعبّر الجيّد عن التفاوت بين إنسان وآخر، وبين شعب وغيره، بحسب الثقافة والمناخ.
في الثقافة العربية الحديثة
مع الأسف لم نطوّر في عالمنا العربي، أسلوب إنتاج الكراسي، كي يتلاءم مع الثقافة العربية ومع المناخ، ربما تطوّر هذا الأسلوب، في ما يخصّ (الكنبة – المصطبة) وفقاً للحاجة المنزلية، لكن لم نشهده في الكرسي تحديداً. واللافت والمحيّر كذلك، أنّ فن تصميم الطاولات لم يشهد عالمياً تطوّراً مذهلاً مقارنة بالكراسي؟ وأصبح الكرسي مطوّراً، سابقاً كثيراً على الطاولات، التي بقيت تابعة ومرتبطة به، والسبب (باعتقادي) يكمن في تأويل الكراسي المتشعّب، أو، في الحاجة اليومية للكرسي، بل وفي الوظيفة، ذاتها. فالكرسي في الطائرة ضرورة لا بدّ منها، مقارنة بالطاولة الصغيرة أمام المسافر، وعودة إلى كرسي المال والبورصة، تصمّم كراسي الدرجة الأولى التي تختلف عن درجة رجال الأعمال، بشكل يراعي المكانة المالية، وسعر التذكرة المرتفع، بما يشعر المرء بالاسترخاء والسعادة، بل ويوفر له جواً للاشتغال والاستماع بالأفلام والموسيقى، هنا الكرسي هو المال تحديداً، فلكلّ كرسي ثمنه وسعره، وهكذا، يعيّن رأس المال تصوّرًا خاصاً على الفنان الذي يشتغل في التصميم أولاً، يحدّد له أساليب الوجاهة فارضاً عليه شكلا مميّزا للكرسي ومُجبرًا الفنان التماهي معه، وهناك شيء آخر: الكرسي شخصي بامتياز، ولا يسع إلّا لواحد فحسب، بينما تسمح الطاولة بالتشاركية، وهي هكذا، عامّة، لا تستوجب إنتاج تصميمات كثيرة لها، بل وهي محدودة التأويل، الذي يختصّ بالكرسي كثيراً:
عندما تُقفل المقاهي مثلاً، توضع الكراسي فوق الطاولة، هذا الشكل، أصبح دلالة على انتهاء العمل! كما أنّ وجود الكرسي في مكانٍ ما، يستدعي الجلوس، بعكس ما قاله ذات مرّة الفنان البلجيكي رينيه ماغريت، الذي اشتهر برسم الغليون ” نعم هذا غليون، ولكنّه لا يصلح للتدخين”. نعم، هذا كرسي، ويصلح للجلوس، بل ويستدعي التفكير بالجلوس، حتى ولو كان مرسوماً في لوحة. بالمقابل، قد طوّرت العمارة “الوظيفية” وهي عمارة اشتراكية، أشكال ووظائف الكنبة (بحدود ضيقة) من دون الكرسي، كنبة في الصالون تُستعمل للجلوس، وفي الليل، تنفتح كسرير، لكن بقيت الطاولة محصورة في أشكالها وفي غايتها، ما بين الأكل والكتابة والاجتماعات، بعيداً عن التأويل. أمّا تطوّر الأسرّة تشكيليًّا، فله حديثٌ آخر.
الكرسي في السجون والمصحّات: سلب الاعتبار الإنساني
تكاد تخلو الزنزانات من الكراسي تماماً(عدا سجون بعض الدول الإسكندنافية)، وذلك لسلب المكانة من السجين، وتهيئته لقبول العقوبة، إضافة إلى تقويض إحساسه الإنساني ككينونة قائمة بذاتها. فالجلوس على الكرسي الفردي، يعطي إحساساً بالشخصية، يقف المرء أمام ذاته؛ وأمام ميوله الثقافية والسياسية، بينما الجلوس فوق المصطبة في حديقة عامّة مثلاً، تشاركيّ، خالٍ من الفردانية، فكيف بذلك فوق مصطبة السجن؟ فالكل هناك، متّهم ومستعدٌ للعقوبة، وكانت السجون في الماضي أقسى تصميماً وأقلّ رأفة من السجون الراهنة، حيث تنبّهت الدولة إلى فقدان صفة الرأفة في سجونها كما يقول فوكو في كتابه “المراقبة والمعاقبة”. الرأفة هنا تعني السجين في ردّ الاعتبار إليه وإن كان متّهمًا، فالكرسي في الزنزانة، يمثّل رد الاعتبار، والرأفة في القانون، وإصلاح نظام العقوبة جذريًّا، وذاك ما لا تسمح به الدولة الساعية في نظامها وبرامجها إلى العقوبة بوصفها تأهيلاً، وهنا مكمن الخطورة، وعليه، تخلو الزنزانات الجماعية في معظمها من الكراسي، ولكن الحال، يختلف في المصحّات، فالكرسي (إن وجد)، ينتمي للإلغاء، وليس للحضور، بسبب من وظيفة المصحّات، وخصوصاً في عالمنا العربي: يُنظر إلى “المريض” النفسي، على أنّه مجنون، أو على الأقلّ باعتباره مريضًا تجب معالجته، وهكذا، لم تُحقّق المصحّات تلك نتائج إيجابية، بسبب من دونية النظرة إلى المريض، فاستحقّت سجوننا ومصحّاتنا المفاخَرة، بأنها تُؤدي وظيفة إلغاء الشخصية، عندما تسلب السجين أو المريض، إحساسه بالكرسي، ولا تمنحه كينونته كإنسان.
إن أوّل خطوة في الإصلاح هي، إصلاح السجون والمصحات كبنايات، ثم تأهيلها إنسانياً لاستقبال النزلاء؛ الأثاث مثلاً، وعلى رأسه الكرسي، المُعادل لتأهيل الشخصية، التي فقدها السجين ذات مرّة، وإلّا لما قام بفعله. يُعيد الكرسي في الزنزانة إنسانية السجين المفقودة، ويسمح له بالتأهيل.
اللافت، أن بعض الحالات في مجتمعاتنا العربية، تصف الإنسان المتهاون أو العاجز، بالجالس على الكرسي، مقارنة تستعير ما تقوم به الزنزانات والمصحّات من التعذيب والإهانة مع نزلائها. توصيف مذلّ، كان قد تغلّب عليه عالم الفيزياء، ذو المثابرة والصبر الأسطوريين، ستيفن هوكينغ، الذي أمضى جلّ عمره جالساً على كرسيه، وهو الذي استدعى الكون بعلمه وأبحاثه كي يأتيه إلى الكرسي ذاته، لم يعتبر جلوسه إعاقة قطّ، بل دافع نحو الحياة والاكتشافات، يقول: “لا تجعل روحك معاقة مثل جسدك”، فالكرسي رمزٌ ثم تأويل، ونحن البشر من يجعله صائباً أو سلبياً.
الكرسي في السينما: الرمز والشخصية
ليس الكرسي في السينما خصوصًا، مجرّد ديكور، أو جزءًا من الأثاث، كما معروف في البيوت والصالات، إنّما، دلالة رمزية عن الموقف المراد التعبير عنه، وعن الشخصية ذاتها؛ تواضعها، غطرستها، فقرها. فليس معقولاً أن يجلس ثريًّا على كرسي قديم، إلاّ لإعطاء موقف معيّن ليس بالضرورة مشابهاً للكرسي، ولكن غالبًا ما يكون كرسي كابتن الطائرة وقبطان السفينة، مميّزًا وخاصًّا، يؤدي وظيفة كل منهما. وتضمّ القاعة الفارهة، كراسيّ وثيرة بالضرورة، ويجلس الرئيس على كرسي خاصّ بالحكم، وهكذا..
تناولت السينما في أفلامٍ كثيرة، موضوع الكرسي، تارة كمُعادل للقوّة في السياسة، وأخرى كقصاص، كما في الكرسي الكهربائي، وطوراً كموضوع رمزي للحياة. في فيلم “ساكو وفانزيتي.. أو مهزلة العدالة الأمريكية”، يُنفّذ بعد محاكمةٍ هزيلة، حكم الإعدام بالكرسي الكهربائي بالمناضليَن ساكو وفانزيتي، وهو أسلوب أمريكي أوحد في تنفيذ القصاص، والمحيّر لا يزال ساريًا في أمريكا على رغم الدعوات لإلغائه. بينما يتعرّض فيلم “البرتقالة الميكانيكية” للمخرج ستانلي كوبريك لنظرية وزير الداخلية البريطاني السابق، حول ضرورة ترويض الشباب، مُعتمدًا نظرية بافلوف، في الفعل “الشرطي واللاشرطي”: يُعاقَب أحد الشباب (المتهوّر وغير المنضبط) بصعقاتٍ كهربائيةٍ مبرمجة في أوقات محدّدة، وهو جالس على الكرسي، وبعد عدّة أيام، يتعرّض للصعق الكهربائي في ذات الأوقات الذي كان يُعذّب فيه، ولكن من دون ربط السلك الكهربائي، أيّ صعق كاذب، لكن الشاب، يتصرّف كما في المرّات السابقة، وكأنّه مصعوق.
إجبار الشاب على الجلوس على كرسي معين وفي كل مرّة، مع الصعق المتناوب، ساهماً بإشاعة نتائج القصاص الكهربائي وإن كان كاذباً، وهما تكمن خطورة الكرسي، بوصفه مكاناً للعقوبة مثل السجن، إذ يفقد خصائصه كمكان للجلوس، مثلما يفقد السجن خصائصه كبناية، وهنا مكمن الرعب.
ثمّة فيلم سوفييتي ساخر بعنوان “12 كرسيًّا” تمّ إنتاجه عام 1971 من إخراج ليونيد غايداي، شاهده كل مواطن سوفييتي، وهو يستعرض كنزًا ثمينًا من الحقبة القيصرية، مخبّأ في داخل أحد الكراسي، تبحث عنه مجموعة من الرجال، بعدما يتمّ بيع الكراسي إلى تاجر أثاث، وهو فيلم ساخر، والمقصود منه، أن لا ثروة يجنيها المرء إلّا من تعبه الشخصي، وإن الممنوح هو بالنهاية ليس معمّراً. والطريف أنّ ثمّة نصب يخلّد الفيلم في مدينة جيبوكساري في الاتحاد السوفييتي سابقاً، كما أعادت الدراما العراقية إنتاجه بعنوان “ستة كراسي”.
تناولت السينما في فيلم” العرّاب 2″ في عام 1974 للمخرج كوبولا، الكرسي، باعتباره، امتداداً للشخصية، ممثّلاً لها في حيرتها ونقائضها، إذ يحاول “فريدو” وهو جالس على الكرسي النهوض والتخلص منه، لكن الكرسي، يمسك به، وكلّما حاول الانتفاض ومغادرته، كلما أمسك به الكرسي، وكأنه قدره، لا مفرّ منه. يتناول فيلم “وقت اللعب- PLAY TIME” مسألة التعوّد على شراء الكراسي ذاتها والخضوع إلى إرادة الشركات المُنتجة، والتصاميم: يجلس شخص ما على كرسي معيّن، فيصدر الكرسي صوتاً خاصّاً، ثم يأتي شخص آخر ليجلس بجواره على كرسي يشبهه تماماً، فيتعارفان، لأنّهما يجلسان على كرسين متشابهين، وعندما يتكرّر الكرسي ذاته في مشاهد أخرى، يصل الفيلم إلى مبتغاه: البشر على رغم تنوعهم واختلافهم، وبسبب الإدمان الإشهاري، الذي تمارسه الشركات، يشترون السلع ذاتها، من بينها الكراسي.
بمعنى، الخضوع للدعاية شئنا أم أبينا. وهكذا، ففي الحياة، لا بدّ من الروتين إذن، ولا بدّ من الإذعان بإرادة أو من دونها، أقلّه، إذعان اللاوعي. وعلى هذا النحو، يستجيب البشر، إلى نظرية بافلوف الآنفة ذكرها في الفعل الشرطي واللّا شرطي.
مسألة الكرسي والسلطة، شائعة في التوصيفات السياسية وفي النكت الاجتماعية، التي يتندّر بها الناس على الحكّام. تناولت السينما العربية رمزية الكرسي في فيلم “زوجة رجل مهمّ” عام 1988 من إخراج محمد خان، وتمثيل أحمد زكي، الذي جسّد دور رجل مخابرات يتشبّث بالسلطة، على الرغم من إحالته إلى التقاعد، فيقوم بالأدوار ذاتها، عندما كان في الوظيفة، محاولاً إقناع زوجته والجيران، بأنّه لا يزال ذلك الرجل المهمّ: يضطرّ إلى تأجير سيارة، تمتلك مواصفات السيارة ذاتها التي كانت تقلّه سابقاً إلى عمله، وهكذا، استحقّ النكتة الشعبية “لاصق بالكرسي”.
يطرح أوجين يونسكو وهو من روّاد مسرح العبث، في مسرحيته “الكراسي” عام 1952، فشل التواصل الاجتماعي وعدم جدواه، حتى بين زوجين:
تبدأ المسرحية بحوارات وبحركات لا معنى لها بين الزوجين، أسوة بالحوارات في “مسرح العبث”، فيعلن الزوج بأنّه سيستدعي خطيباً متمكّناً كي يُبلّغ رسالته إلى الجمهور حول إنقاذ البشرية. يحضر الزوّار وهم وهميّون، يجلسون على كراسي هي الأخرى وهميّة، لا وجود لها، ثمّة مشهد طريف في المسرحية، وهي أن الزوّار الوهميّين، يبدو الضيق عليهم، بسبب وجود كراسي كثيرة في القاعة، فيمرّون بصعوبة بينها. ثم ينتحر الزوجان، فيكتشف الحضور الوهمي، بأن الخطيب أخرس لا يسمع شيئاً، الذي سيكتب على اللوح الأسود في القاعة “وداعاً”، و”غداء الملاك”، عبارات لا رابط بينها، تُشبه العبارات المفكّكة في بداية المسرحية، إشاعة لفكرة العبث والقرف من العالم.
الكرسي: حالة أشياء بعينيها..
وحالة ذات
يتعامل المرء يومياً مع الكرسي، بوصفه وسيلة من الوسائط، التي يستعملها دائماً، أحياناً ينسى رمزيتها، بسبب التعوّد والمداومة، لكنه سرعان ما يستردّ، حالة الكرسي كمفهوم (سلطة، سعادة، جاه) عندما يريد التعبير عن أناه المستقلّ، بمعنى، يُعزّز من وضعه كفرد بمواجهة العالم، سيمارس حينئذٍ، رمزية الكرسي القابعة في وعيه الاجتماعي والذاتي، فلا يمكن للرئيس مخاطبة وزراءه مثلاً، وهو منبطح (هكذا يفقد صفة الرئيس)، بل بالعكس، يأمر الرئيس الكلّ بالجلوس. يُعطي الكرسي في حالة السلطة للكلام صفة الأوامر، وأحياناً، كلّما كان الكرسي ذا رهبة، كلّما أصبحت الأوامر منفّذة من دون نقاش.
يحتاج المرء دائماً إلى صفات ورموز لتشدَ من إزره، فيحتاج من الأسوار علوّها، ومن الأب صرامته، ومن الكراسي، الاسترخاء لجهة السعادة، والهيبة، لجهة السلطة. بالمقابل، لكل وسيلة، انفعالات معيّنة خاصّة بها، فالانفعالات التي تثيرها الجدران، تختلف عن المشاعر والأحاسيس الصادرة من الأشجار، ومشاعر الحرج تختلف عن الكرم. وبالنهاية فلكلّ إحساس وسيلة تُعبّر عنه، كما ويصدر عن كل وسيلة، أو واسطة إحساساً معيّناً: يمنح الجسر، إحساساً بالعبور، والشجرة بالحياة، والكرسي بالراحة أو بالبيت بحسب الضرورة. هكذا، تتمكّن الوسائل والوسائط من تحديد لغة ومشاعر خاصّة بها، بل وحتى المشاعر والعواطف، تتمكّن من تعيين مسارات لها لا تحيد عنها فحسب، وإنّما يتم التعرّف عليها بواسطتها. فالأطفال هم كناية عن العائلة، وبالتالي الأب والأم. وترتبط المدفأة بالشتاء ثم بالدفء، والراحة بالكرسي، ثم بموقف الشخص من حالة السعادة، وفي النهاية، نحن البشر نستعمل استعداد الأشياء على العطاء، وقابليتها على الجود، يقول غريماس:
“إنّ السخاء، هو استعدادٌ للعطاء أكثر من اللازم. إنّ الكثافة، لا تؤول هنا باعتبارها مبالغة، وسيكون التخليق حينها إيجابياً. يعود عدم تجاوز عتبة الإسراف، إلى أن المُلاحظ الاجتماعي، قادر هنا، أن يضع نفسه مستفيداً من العطاء. وكما هو الحال مع الجود والليبرالية، فإن السخاء، يتحدّد من زاوية المنح”.
الشعراء والكراسي..
ضيافة لا مشروطة
الشعر هو، أكثر الفنون ضيافة للعالم، وأكثرها تأويلاً: يقبلُ بالغياب وبالحضور معاً، في التزام نادر بالرماد وبالوردة في آن، وذات الشاعر نفسها، هي كالكرسي للعالم ولموجوداته، بحيث يستنجدّ الكرسي بها.
لم يتصل الشعراء بالكراسي كثيراً، مثل الارتباط الاجباري به من قبل الروائيين والفلاسفة، فلا تحتاج القصيدة بخلاف الرواية، التسمّر على الكرسي، فبعض الشعراء من يكتب شفاهياً ، ثم يدوّن لاحقاً، وهناك سبب ثانٍ هي شخصية الشاعر المتمردة على الجلوس والانصات، إلى الحد التي توصف بالبوهيمية، ولكن، بتطور شخصية الشاعر الإبداعية، من كتابة الشعر إلى الفنون الأخرى، وعندما أصبح الشاعر كاتباً وصحفياً وناقداً، اشتدّت حاجته إلى الكرسي. تحتفظ مقهى كلوزري دي ليلا، في باريس بكرسي الشاعر السوريالي الشهير، أندريه بروتون، وكذلك بقية الشعراء السورياليين، وكرسي الشاعر العراقي حسين مردان، كان محفوظاً باسمه في مقهى “البرازيلية” في بغداد، وبالتأكيد، فإنّ كرسي الشاعر التشيلي بابلوا نيرودا، كان يختلف في إثناء عمله كدبلوماسي، عمّا هو كرسيّه في بيته كشاعر.
ذلك الكرسي لا يروقني
باسم النبريص
كرسيّ فارغٌ، أكثر شاعرية من آخر ممتلئ.
إذا فرغت الكراسي كلّها، لا شعْر.
لا أرى الكرسي: أرى أنين الشجرة.
كم كرسياً أعجبني على الرصيف، وبقيت حسرة ألّا مكان؟
بعضهم، أتمنى لهم كرسيّاً فقط.
أكره الكراسي ذات القائم الواحد: ابتذالُ المعدن.
في قصيدة” نصيحة من وقع على منفاه” يأتي الكرسي مرادفاً للمنفى وملازماً له، عندما لا يؤدي وظيفته:
“تُربي الشمس فتن الذبول،
يقف منحنياً الكرسي الخالي
فيجد الهجرة ترتدي السواد،
أكتبُ رسائل إلى كراسي عدوّها الجلوس
هنا،
عمرٌ ينكسر يشيّع المرساة”