حسونة المصباحي كاتب شقي ظل صادقا مع قريته يحملها في قلبه أينما رحل ، وصندوق حكاياته مليء بها، وبأملها، وبتقاليدها، وهدوئها، وبكوارثها، لذلك فهو يحكي عن تجربة إنسانية مليئة بالتناقضات ، موضحا من خلالها المكان والزمان والأسماء ومولعا برصد التركيبات النفسية للشخوص في سرد حكائي لا يخلو من غرائبية هي في الأصل قد نبتت على أرض واقع مرير. ورغم البعد الزمني في كتابة قصص الكتاب (حكاية جنون ابنة عمي هنية) والذي ضم ثماني عشرة قصة مؤرخة بين عامي 1976- 1994م ، إلا أن الكاتب ظل متشبثا بجميع أدواته الفنية ، وبأسلوبه ، ولم يفكر في أن يستيقظ ذات صباح على عالم أخر يكتب عنه غير العالم القروي الذي حمله منذ طفولته وشبابه ، والطفولة رسخت في العديد من القصص بكل آلامها وبراءتها وجعلت من القاريء أن يتوقف قليلا عن القراءة كي يتذكر أيام طفولته : ”انتفض مذعورا وأصب الماء الثلج على وجهي وأسير في الصقيع ملتفا ببرنسي الأسود نحو دار المؤدب . في البداية لم أكن أفهم شيئا. حسبت الأطفال وهم يرددون الآيات مجانين . وأفزعتني عصا المؤدب وهي ترقص فوق الرؤوس مهددة ” (قصة تونس، ص 61). ولم تخل الطفولة من آلام، فأراد الكاتب أن يعبر عنها، وجاء تعبيره صادقا: ”ومرة اشتد البرد في الشتاء، وتهاطلت الأمطار بغزارة ، وكان حذائي مثقوبا من كل النواحي، وفي كل صباح كنت أبكي بكاء مرا وأنا في الطريق الى المدرسة . ولم أشأ أن أخبر والدي بالأمر، فأنا أعرف أنه ينهرني ويلعنني شر اللعنات إن أنا فعلت ذلك إرضاء لزوجته العاقر” (قصة سيناريو لجريمة محتملة ، مر 171).
الخوف يقلّب القرية على الجمر، قيتألم الكاتب وأهل قريته ، فكيف لا، والحياة – خصوصا في القرية – مهددة بالحروب والجوع والمرض والهجرة والقحط والجدب ، كل هذه الأشباح المفزعة لعنها الكاتب ، وطرحها بقوة لينزع الخوف أولا من قلبه، وليهدأ قليلا الى أن يتذكر خوفا آخر صادفه يوما ما، والذي لم يكن لينتهي ذلك الخوف بوجود مثل تلك الكوارث ، لذلك جميع أبطال قصصه كائنات خائفة وقلقة جدا. ”أمي خائفة هذا العام . خائفة من الجوع ومن القحط . أكثرت من الصلوات والتفكير أثناء الليل” (قصة العطش، ص 10). ”وفي القرية كانت الأيام تمر ثقيلة مليئة بالخوف والمرارة واليأس . والناس لا يشعرون بالأمن ”. (قصة تونس، ص 61).
فيصبح الخوف واقعا حينما تتحقق الوساوس الباعثة عليه ، فمثلا تتحقق الهجرة والتشتت في سبيل حياة أسمى، فهناك قرية وهناك مدينة ، ومثلما يحدث دائما، القرية البريئة والساذجة تفقد أبناءها لتبتلعهم المدينة التي تشكل متاهة الرزق والعمل والهروب من الفقر. «سرح خياله عبر سنين الجوع والموت والجفاف (…) وتذكر كل الشيوخ الذين اقتفوا وتركوا القرية يتيمة تتوجع» (قصة البئر، ص81). «ماذا نصنع في هذا البر المليء بالغبار والذباب والفقر. ثم راح يصف لي العاصمة وشوارعها النظيفة والعريضة ، والنساء الشقراوات الطويلات» (قصة سيناريو لجريمة محتملة ، ص 177). ورغم كل شي ء فالحب يقفز من آن لآخر بين القلوب ، ممزقا في بعض الأحيان كل خوف وكل كارثة ، فيسطع بقوة مؤكدا أنه السبب في استمرار الحياة ، وأن المرأة مكملة للرجل والعكس، وأنها فتنة له ، وفي المقابل قد تكون هي سبب كوارث إذا زادت شهوة الرجل أو تألقت المرأة في شبقها، ولا يخلو أي مجتمع من كل هذا، فيخبرنا الكاتب عن كل ذلك . «سبحت الغرفة في ظلام كأنه حرير الطيلسان . شم رائحة شعرها ورائحة جسدها فالتهبت ناره. ما أروع النساء!» (قصة هل أتاك حديث قرية م ، ص 30). الشخوص متنوعة في هذا الكتاب ، والتركيز فيه على أولئك المطحونين مثل الفقير أو المجنون أو المعاق أو المكبوت جنسيا… الخ فصندوق حكاية حسونة المصباحي مليء، ويكاد يقترب كثيرا من صندوق حكاية ألف ليلة وليلة ، ولكن مع تبدل الأزمنة والأمكنة وسطوة الحديث في مجمل الأشياء والعوالم الواردة في الصندوق الأول . الكتاب يهيىء لمساحة أكبر بكثير للحديث عنه باسهاب ومتعة وهذا ليس سوى مجرد عرض بسيط جدا (لمحتويات صندوق) أو (حكاية قرية) حسونة المصباحي. التي صدرت عن «دار جلجاهش ، التي أسسها الشاعر السينمائي شموئيل شمعون في باريس.