رشيد المومني *
عن تحوّلات المفهوم
سيكون من الضروري على سبيل الاستهلال، التنويهُ بخاصية التفكك الملازمةِ لمنهجية هذه المقاربة، التي سوف تتمحور حول إشكالية الكتابة في علاقتها باللامتناهي. إنها وبكل بساطة، منهجيةٌ لا تلتزم بالتمفصل الواضح والمعلوم، الذي يتشكل عادة على ضوء تساؤلاته المتفاعلة فيه. بل هي عكسُ ذلك،منهجيةٌ تتحرك هكذا، وكما اتَّفق، في جميع الاتجاهات، بحثا عما يمكن أن يكون أفقا محتملا.
ولربما يكون مردُّ ذلك، إلى أن موضوعها لا يختلف في شيء عن تلك الأجرام العتيقة،المتميزة بهويتها المزدوجة التي تتداخل فيها نداءات السماء بنداءات الأرض، بوصفها ترجمةً رمزيةً لنداءات المرئي واللامرئي، الظاهرِ والباطن، الواقع والمتخيل. وهي نداءات تمارس حضورها وغيابها انسجاما مع طبيعة المنعطفات المعرفية، التي يحدث أن يزجَّ بها السؤال في مضايقها.علما بأن الموضوع ذاته، يُوثِر أن ينزوي في تلك الجهة المنسية من الخطابات المألوفة ، بالوتيرة ذاتها التي يقع فيها فريسةً طيعةً للخطابات المعرفية السائدةِ، سواء بمسوحاتها الفكرية أو الإبداعية.
لذلك سأجدني في هذا السياق،غير مهيأ لاقتراح مقولة جاهزة، من شأنها بلورة تعريف مقنِع لمفهوم اللامتناهي. وهو بالمناسبة مفهومٌ موغل في انفلاته وفي زئبقيته، فضلا عن انفتاحه التام، على ما لا حصر له من الدلالات، انسجاما مع قابليته اللامتناهيةِ للتَّموضع في أكثر من حقل تعبيري ومعرفي، شأنه في ذلك شأن غيره من المفاهيم ذات العمق الإشكالي، التي عوّدتنا على انتقالاتها الطبيعية بين مختلف الحقول المعرفية، استنادا على شفرتها المرنة والمتعددة الوظائف، إلى جانب نزوعها لاكتساح ما هو متاحٌ أمامها من الحقول،باعتبار أن المفهوم الذي يُثبت فاعليته الإجرائية في حقل ما، قد يكون مؤهلا لإثبات الإجرائية ذاتها، في حقولٍ أخرى محايثة.
أيضا هذه الانتقالات الاجتراحية، قد تُكسبهُ دينامية إضافية، بفعل تطعيمه وتفاعله بمفاهيم الحقول التي يحل ضيفا عليها. قد يكون الأمر شبيها بانتهاكٍ مبَرَّرٍ لحُرمة الآخر، وشبيها بميْل إلى سرقة نبتة الخلود، كما هو شبيه بسرقة برومتيوس لنار آلهة الأولمب، كي يرقى إلى تطوير وجوده الإنساني.
من هنا يمكن القول،إن اختراق المفهوم للفضاءات الغريبة عن إشكالياته،يُعد في حد ذاته نوعا من متعة ارتكاب المحظور، وهي متعةٌ يمكن إدراجها ضمن استماتة الذات كي تعدد حضورها الفعلي أو الرمزي، سواء في فضاءاتها الخاصة بها ،أو في تلك المحايثة لها. فالمفاهيم شبيهة بنيازك دلالية تجوب سماوات الفكر، لكن وقبل ذلك ينبغي الإقرار، بأننا منساقون سلفا للامتثال إلى سلطة اللغة، التي تلزمنا بالوقوف أمام مختلف ما تراكمه الحياة من إشكاليات في مساراتنا المجتمعية والمعرفية. ذلك أن تاريخ اللغة، هو بمثابة خزّان، يضم أغلب وأهَمَّ الإشكاليات التي اعترضت طريق الكائن في بحثه عن الحقائق القريبة والبعيدة. كما أن سلالات اللغة تتبادل أسرارها من خلال التلاقحات المتبادلة بين مقوّماتها. بحيث يمكن الحديث عن حضور شفرات سرّية متخفية بعناية فائقة بين تضاعيف وحداتها ، وبين بنياتها التركيبية. والاهتداء إلى هذه الشفرات، كان وسيظل صيدا ثمينا بالنسبة للنخب المتخصصة من علماء اللغة وفلاسفة وشعراء.
هذه الشفرات غالبا ما تأخذ شكل مفاهيم تصبح موضوع بحث واستقصاء وتفكيك، وتنسيل، ومراجعة، وإعادة نظر. إنها تستمر في تأكيد حضورها من خلال مفاهيم مسكوكة، أو اشتقاقية تساهم في توسيع دائرة الدلالة، وفي فتح مداخل جديدة لها. إنها قابلة لأن تضرم النار في ذاكرتها تماما، بحثًا عن صيغٍ جديدة لبناء ذاكرة مختلفة. كما أنها جاهزة في أحوال أخرى، للتضحية براهنها وبصيرورتها، من أجل أن تستمرّ للحظة ما في الاحتفاظ بحياتها.
إن الخطاب الفلسفي يتجه مباشرة وبدون وسيط إلى المفهوم، إنه يلتف عليه بشراسة من أجل إنطاقه. ربما بإيعاز من العقل الذي ربما أيضا وفي سياق احتذائه بالعقل الأول يعتبر أن مسؤوليته الأولى والأخيرة تتمثل في تكليمه، في تحيينه، وفي تجْليته . بينما يحرص الإبداع على إيداعه في خلفية التجربة. وبالنظر لحاجته إلى غير قليل من الشطط الشعري،فإنه يختلق طريقته المغايرة في اجتراح الدلالة. بل فضلا عن ذلك، إن الشعر خاصة، قد يتخذ من المفهوم أداة تعبيرية يتمكن خلالها من فتح مسالكَ لا متوقعة في أرض المفاهيم ، وفي أراضي الكتابة ككل.، مسكونًا بمتعة تقليبها على مختلف وجوهها، من أجل ملء ما يتخللها من بياضاتٍ ، أو من أجل تحويل وِجْهاتها الدلالية ،كي تفرحَ بمصائر جديدة لم تكن حاضرة في ذاكرتها.
تجربة المراوحة بين حدّ المتناهي واللآمتناهي
ولأن السياق الذي نحن بصدده، يخُصُّ مفهوم اللامتناهي في علاقته بتجربة الكتابة، فإننا سنجد أنفسنا في قلب مجرىً ذي طبيعة إبداعية وفكرية. مجرى لا يكفُّ عن التدفق، ممارسًا بذلك لعبة و رهانَ لا تناهيهِ، عبر حفره المستدام لمساراته المتتالية في أراضي القول، وفي أراضي المفاهيم والأسئلة.
لكن وقبل ذلك، تجدر الإشارة إلى أن تعدد وتنوع مستويات الكتابة ككل، يكون منسجما مع تعدد وتنوع زوايا النظر. أولا، تجاه اللامتناهي، وثانيا تجاه نقيضه “المتناهي”. وبين تتأجج أحوال القلق المعرفي المراوحة بين الغريمين ، يحتفي كل من الشك واليقين ، بتكريس تعارضهما وتكاملهما في آنٍ.
ولأن طرح الأسئلة غالبا ما يتم على أساس مرجعية لغوية، سيكون من الضروري توخي ما أمكن من الحذر، خلال المغامرة بالذهاب إلى مسكن اللامتناهي، باعتبار أن اللغة مجبولةٌ على الغواية والإغراء، ولا تتردد في استدراج الكائن إلى تلك المناطق الدلالية البعيدة والنائية من أراضي القول،حيث يتسع مجال معايشة الأضداد والمفارقات، ومعاينة الأطياف الوثوقية، وهي مشوبة تماما أو تكاد بروحها العدمية، وفضلا عن سلطة اللغة التي تتدخل في توجيه مسار الدلالة، ثمة أيضا خصوصيةُ اللحظة المعرفية ، التي تتدخل في توصيف المفهوم.
ضمن هذا التصور الأوَّلي ، سوف تتدخل بشكل حاسم شعرية الذاتي، معتبرة أن اللامتناهي يندرج تماما ضمن ممتلكاتها الجمالية والفكرية، التي لا دخل فيها للذوات الجماعية والمشتركة. والقول بشعرية الذاتي، سيحيلنا طبعا على الرؤية الشعرية في قراءتها لأشياء العالم وأشكال الوجود،،سواء من منطلق انتمائها المباشر إلى جنس الكتابة الشعرية ، أو فقط من منطلق استنادها على الإواليات الشعرية في تفكيكها للدلالات المفاهيمية .
ومن المؤكد أن استحضار الرؤية الشعرية، في تشغيل المقاربة التي نحن بصددها، يعود إلى طبيعة جوهرها الذي يمكن نعتُه بحالة الانخطاف. وهي الحالة التي تعتري الكائن،كلما ألفى نفسه وجها لوجه أمام الظواهر والإشكاليات الموغلة في غموضها وفي التباسها. وبلغة أخرى، الإشكاليات التي تتجاوز حدود ما هو متناه ٍ،لتندرج ضمن اللآمتناهي.
ولأن الشعرية ككل، هي لغة الحُبْسةِ ، أي لغة ما يتعذر بسط القول فيه باللغة العادية ، فإنها تصبح من هذا المنطلق، مؤهلة أكثر من غيرها لمقاربة إشكالية اللامتناهي من منطلق أن الفكر البسيط واللغة العادية ، سيكونان معا عرضة للحبسة في حالة تطلعهما إلى توصيف خصائص ومقومات اللآمتناهي.
بهذا المعنى، سيغادر اللامتناهي مؤقتا مسكن العقيدة، ليحُل ضيفا على شعرية الرؤيا بمفهومها الفكري والإبداعي..
الأبعاد الرمزيةُ لشواهد المقاربة
ولعلّ أهمّ ما يجب التذكير به ونحن نستمتع بمراودة جوهر المقاربة “اللامتناهي” كي يعلن عن احتمال تجليه،هو أن مجموع الشواهد التي قد يستدعي السياق استحضارها، لا تعدو أن تكون علامات رمزية، تهتدي بها المقاربة في حفر مساراتها. بمعنى أن دور الشاهد هنا، يقتصر على الإحالة على بعض تمظهرات فضاءات اللامتناهي ككل، وليس على خصوصياته، كي لا نكون مجبرين على الإقامة الدائمة في خزانة بابل البورخيسية.
إلى جانب ذلك ينبغي التذكير، بأن الشواهد تضيء طريق القول، وليس طريق الموضوع،علما بأن طريق البحث عن الجوهري، هي في الأصل جماع طرق، هي من كثرة تفريعاتها، أداة مثالية للتضليل ليس إلا، أي تضليل خطواتك، كي لا تهتدي إلى الطريق المؤدية إلى فهم ثابت ومعلوم. تترتب عنه أحكام واستنتاجات ثابتة ويقينية، ما يجعل الطابع الظرفي سمة ملازمة لأي تأطير نظري مصاب بلوثة الديمومة والبقاء.
أبعاد الحلول في اللآمتناهي
الاشتغال باللامتناهي، هو في الأصل اشتغال بالأصوات الخفيضة التي تندرج ضمن الإيقاعات المركزية للكينونة. وليست الأصوات الخفيضة هنا سوى التلميحات الإبداعية والفكرية الصادرة عن صفوة القول والكتابة . إلا أنها من فرط ما تعرضت له من عنت من قِبل الخطابات المشتركة، تظل ملزمة بتغييب ذاتها في ظلمة الهوامش المسكوت عنها. إن الأمر شبيه إلى حد ما بقصة حي بن يقظان، حيث تعيش العامة حياتها منفصلة تماما عن المعقولات ، وأسيرة كليةً للمحسوسات. وهي الوضعية ذاتها المعيشة حاليا بالنسبة لإشكالية اللامتناهي، في مرجعيته الإبداعية والفكرية، عربيا، بفعل خضوعه لسلطة الحظر، التي تطالُ الجسد والروح.
فبموازاة التخفي التام للجوهر، نصطدم بحجاب الوثوقية العقدية، مرفقا بحجاب المتناهي الذي يتحوّل بقوة راهنة إلى أفق ثابت، لا يسمح برؤية ما عداه. وكلها عوامل تحول دون تبين الحدّ الأدنى من ملامح اللامتناهي.
ومن المؤكد أن الإبداع المختلف والمغاير، هو الترجمة الفعلية للأصوات الخفيضة التي تتخلص من الوثوقية العمياء، في تعاملها مع اللامتناهي ،بحثا عن تواصل حر ومنفتح على شعرية متوجة بفرادة ذاتيتها . إن الأمر هنا يتعلق بكتمان يشبه الجهر. كتمانٌ يتمتع بجمالية تلكُّئِه التي لا تني تجدّد رؤيتها لهُوية الطريق. للوسائل كما للغايات .عبر مراوحةٍ فرحةٍ ومكابدةٍ، بين نزوة الشك وحتمية اليقين.
هنا تحديدا، يتراجع دور الدليل، المُعلِّم، والوسيط، الذي يعتمده كل من المجهول والمعلوم في الذهاب إلى مسكن ما. وهنا تحديدا يكمن لا تناهي السؤال ، ولا تناهي التلفت إلى كل الأنحاء،للفوز بحظوة الرؤية والكشف والإنصات إلى نداءات الدواخل. وبالتالي، تفكيك سلطة المتناهي، الذي يمتلك قدرته البالغة على تقمص نقيضه.
الحداثة وأطياف اللامتناهي
لن تغيب عن انتباه الملاحظ، فكرة حضور اللامتناهي بأطيافه المتعددة، رغم أن أزمنة الحداثة وما بعدها ، دأبت على توظيف الكائن في عملية بنْينتِها لذاتها وبلورتها لأوالياتها، عبر إغراقه في حمأة الاستهلاك العنيف للعابر والمتناهي. ما أدى عمليا إلى تحجيب اللامتناهي ، على حساب تكريس سلطة العابر فقط، وتكريس جمالية المؤقت والمتلاشي، وإشاعة ثقافة المحو بالمعنى المبتذل والمجاني للكلمة. وهي منهجية تستمد قوتها الإجرائية، من تفجير الأسئلة المغلوطة، التي تستفيد منها الحداثة المختلة، في تعميم الروح الإلكترونية التي تفتح المجال لِلامتناهٍ تقِنويٍّ، يقع الآن خارج اهتمام هذه المقاربة، بفعل ما يطرحه من إشكاليات ليس هنا مجالها.
في رصد أثر اللامتناهي
إن سؤال اللآمتناهي قديم، قدم دهشة الكائن أمام الظواهر الطبيعية بتعدد مستوياتها وإيقاعاتها. حيث يمكن تلمّسه في النصوص التأسيسية التي تغتني بها ذاكرة الثقافات الكونية والإنسانية. إنه يخص تلك الخطابات المنفتحة على محتملها. كما يخص الخطابات المنذورة باستمرار لفهم حقائق الوجود، والتي ينسخ بعضها البعض الآخر دونما انقطاع.
إن استمرارية طرح أسئلة من قبيل القضاء، والقدر، والأسماء، والصفات والبعث والعدم، بوصفها إشكاليات معَلَّقة، تعني استمرارية البحث فيها بكل اللغات، وبكل المنهجيات وفي كل العقائد دونما استثناء. ولعل تقمّص صوت اللامتناهي هو أقصى ما يطمح الإبداع إلى تجسيده قديما وحديثا، بغاية ملء الفراغات والتقطعات التي تطال إرادة الفهم والتمثل البشري. ومن المؤكد أن تفاقم الارتجاجات الداخلية لدى الكائن ،هي ردود أفعال طبيعية على تراكم الفراغات والبياضات التي يستشعرها جرّاء تمنُّعِ اللامتناهي عن الفهم والتأويل. و إذا حاولنا أن نسوق تمثيلا فنيا لهذه الحالة، فإن نموذجها الأكثر تعبيرا ودلالة ، لن يكون سوى لوحة ” الصيحة ” للفنان النرويجي إدوارد مونش 1866/1944.حيث يتعذر على المؤول تصريفها في معنى محدد ومعلوم، حيث ليس له أمام طقس جماليتها المتفرد سوى الاستسلام لامتدادات أبعادها العصية على أي تأطير، سعيد بـ “دقة موضوعيته” و” عقلانيته”!
إن الأعمال الإبداعية، العظيمة ، مهما كانت مغرقة قي رهافتها ورقتها، فإنها تُضمر في عمقها تلك الحيرة المؤرقة تجاه غموض الظواهر، التي هي امتداد طبيعي لغموض اللامتناهي. حتى ليمكن القول إن لوحة الصيحة متضَمَّنةٌ في خلفية كل الأعمال ذات البعد الإشكالي، بما في ذلك لوحة الموناليزا التي في حالة إزاحتنا لقشرتها الخارجية، فإننا حتما سوف نهتدي إلى هويتها الحقيقية المتضمنة لملامح الصيحة. وسيكون من الضروري، التأكيد على أن الأمر يتعلّق بمخاطرة اختيارية، للإقامة على حافة جُرفٍ يتربص فيه القلق، وغياب اليقين، بالمُطِلِّ على ظلماته ،أو على أضوائه التي تعمي الناظر إليها .
ولأننا حريصون على عدم التورط في الشواهد، سنكتفي بالقول أن قسطا هائلا من الشعرية العربية منذ العصور الجاهلية الأولى إلى الآن، قابل لأن يكون موضوع مقاربات، تجترح فيه مستويات حضور اللامتناهي في علاقته بالمتناهي. وهي علاقة تراوح بين التساكن المهادن والسلبي، وبين التفاعل المتعدد الأبعاد الذي يتبادل فيه الطرفان معا، شراسة الإقصاء والنبذ، أو التعايش ضمن صيرورة معقدة ومتشابكة من الاختيارات والقناعات، التي تلعب فيها اللغات والأعراق والمرجعيات الثقافية، دورها النافذ في بلورة الأصوات الناطقة بضمير هذا أو ذاك.
وفي السياق ذاته، يمكن الاستئناس بالمرحلة الهوميرية (( نهاية القرن التاسع ق م))التي كان الشاعر خلالها يستمدّ إلهامه من قبل الآلهة، بما هي رمز للامتناهي ، ومن منطلق أن هذا الإلهام لا يمكن أن يدور في أي فلك آخر عدا فلكها.
ورغم اقتران الإلهام لدى أرسطو (( 384 /322 ق م)) في محاوراته “فايدروس” بحالة “المَسِّ” التي يمكن تأويلها تجاوزا، بحلول اللامتناهي في جسد الشاعر، وفي نصوصه، إلا أن نظريته حول المحاكاة لا تلبث أن تحجم قيمة هذا الحلول. فلها وحدها تعود متعةُ التعلم. كما أن أهمية الشاعر تكمن أساسا في قدرته على استيفاء شروطها ، خاصة بالنسبة لمخيلته التي ينحصر دورها في إعادة ترتيب الواقع الذي يمكن أن يكون معيشا ، أو مستمدّا من الأحداث والوقائع التاريخية . بمعنى أن دور المخيلة هو أيضا يكون معنيّا أساسا بضَخِّ شُحنة جمالية في عملية إعادة إنتاج الواقع ، أو الحدث التاريخي دون تجاوزه إلى ما يحتجب وراءه من أسباب وعلل. و رغم قابلية المخيلة للاشتغال على المحتمل، إلا أن هذا الأخير يظل مقننا بالحكايات والأفعال التي يضجّ بها الواقع دائما ، ضمن شرط الرؤية التراجيدية للعالم. ذلك أن التراجيديا على ضوء هذا التصور،وحدها الكفيلة بالكشف عن دواخل الذات . هذه الرؤية الأرسطية، تستمر إلى الآن في تكريس حضورها ، وفي إحكام قبضتها على حركية القول الشعري في أغلب الفضاءات التي يتواجد فيها،بفضل دعم السلطات التقليدية لها.
فالكلمة الفصل، تعود شعريا لجمالية عالم المحسوسات، الذي هو امتداد لعالم المعقولات، كما تعود لمتعة التعرف عليه،وصياغته فنيا ضمن قوانين المحاكاة. وعلى ضوء هذه الرؤية، يتمّ رسم حدٍ صارم، ليس للشاعر تجاوزه. ما يجعلنا نجزم بأن الشعرية الأرسطية تظل وقفا على المتناهي،كي تختص الفلسفة وحدها بحظوة الاشتغال على المعقولات المنتمية إلى اللامتناهي.
وسيكون علينا أن ننتظر عبور أزمنة طويلة ومتتالية من الهزّات التحويلية ، كي يمتلك الشعر المزيد من الهوامش، التي تتيح له إمكانية التخلص من القيد المحاكاتي ، ومن محنة التكوين والتعلم، ليغدو روحا مسكونة بهاجس البحث عن أفق محتمل للرؤيا.
والقول بالبحث ، يتضمّن إنكارا جذريا لتلك الوظيفة .السكونية والمتناهية، التي تنحصر في بؤس المحاكاة. كما يتضمن وَعْداً باحتمال الكشف عما يتفاعل خارج دائرة المعلوم والمتوقع. إنه كشف بصيغة خلْق، وليس بصيغة محاكاة.
تأسيسا على ذلك، سيصبح البحث إطارا جماليا لاشتغال الشعريات الجديدة.أي البحث في الواقع المعيش، عن العناصر الكفيلة بإضاءة الأمكنة التي يتشكل فيها “الشيء ” الذي هو نوع من” التستر” الهولدرليني. بل يمكن القول إن الشاعر هنا لم يعد يقنع بالاقتصار على البحث، لأنه أصبح إلى جانب ذلك، معنيا بتسمية ما يجده. ونحن نحيل هنا على أن الشاعر عموما، يسمّي المقدس “بتعبير هيدغر”
(( 1889 / 1976 )) ليس من خلال التأمل ، لكن من خلال النشيد. ومن خلال اللعب بالاحتمال اللغوي ومتخيله، و عبر تجاوز اللغة بالمجاز، باعتباره لغة مختلفة عن اللغة. مع الإشارة إلى أن دلالة تسمية المقدّس، تعني تحديده، معْرفته ،و تملُّكَه. وكما هو معلوم فإن هيدغر التقط مفهوم النشيد من مقطع للشاعر ” هولدرلين ”
(( 1770/1843 )) يقول فيه:-
أن نمسك برْقَ الأب بأيدينا
بل الأبَ نفسه
وأن نقدم للناس
الهبةَ السماوية ملفوفة بالنشيد
إن الهبة هنا والتي هي الوجه الآخر للامتناهي، ليست مقدَّمةً في إيهاب الحجاج والجدل، ولكن في إيهاب الغبطة الإنشادية، الفرِحة بما استطاعت أخيرا أن تتملكه وتسميه، بعد طول بحث، وعناء مساءلة.
من هنا تحديدا ، تأتي أهمية قولة هيدغر “ما يدوم يؤسسه الشعراء” فما يدوم هو نفسه ما لا يتناهى. وما لا يتناهى لا يمكن أن يكون إلا خارج الزمن المحكوم سلفا بتناهيه. إن الأمر يتعلق بما يتواجد في الجهة الأخرى من الوجود البشري. أي ما يبقى ويدوم. إنه نسف مباشر للأطروحة المحاكاتية ، و في نفس الوقت انتقامٌ من الرؤية الأفلاطونية التي طردت الشعراء من جمهوريتها.
إن الشعر من هذا المنطلق يصبح له دور تأسيسي، ليس فقط على مستوى الفتوحات اللغوية والجمالية التي يحدث أن يحققها في مساره، ولكن وهذا هو الأهم ،على مستوى تحيينه لما يدوم. وقولنا بالتحيين ،لا يعني بالضرورة تزمين ما يقع خارج دائرة الزمن البشري، بقدر ما يعنى قابلية الزمن الشعري، لتجاوز حدوده الآنية كي ينصهر في المقدس /اللامتناهي، مؤكدا قدرته على تكريس تأسيس مختلف لما دأب النقاد عادة على تناوله والخوض فيه.
ذلك هو العمق الاستثنائي الذي يتميز به الشاعر، أن يديم استحضار ما يدوم، بوصفه سؤالا، وهمًّا معرفيا. وذاك هو أقصى ما يطمح الشاعر إليه، أن يحتفي بحضور المطلق في نصوصه، احتفاءٌ يحيل على متعة البحث عن أفق بشري آخر، مفعم بألوهيته، فيما هو متخف باستمرار و متمنع عن التجلي .
ألا نكون من خلال هذا البوح، قد تحرّكنا باتجاه قلعة الميتافيزيقا ؟ وإذا كان كذلك، فما المانع ؟ ثمة نداء روحي يتخلل القول ” ما يدوم يؤسسه الشعراء “. الانحياز للخالد ، والارتقاء بالذات من زمن تاريخي مصاب ببؤس سيرورته ، إلى آخر أكثر عمقا. يتعلق الأمر هنا بشعرية الكينونة، بعيدا عن أي طقس آخر مشوب بالتباساته.
ذلك ما انتهت إليه نصوص النِّفريِّ ((وفيات 354 هجرية )) لعدة قرون خلت، حيث يتحقّق حضور الوقفة . بما هي عتبة حارقة لمدخل اللامتناهي.أي حضورك في المختلف. في اللغة، وفي أقصى درجات الإيهام ببدء آخر، لا علاقة له بالزمن.
تلك هي النصوص التي تمارس جبروتها على اللغات، العاجزة عن الارتقاء إلى مقام اللغة، التي تمتلك مشروعية اختراقاتها القاسية والمؤرقة لحدود القول، بشقه الشعري والفلسفي والعقدي أيضا. ربما بسبب ذلك ، قد تكون هي النواة الدلالية والضمنية لهذه المقاربة، التي توزع أطيافها على المكان ،دون أن نكون بالضرورة مكشوفة تماما لعيان القراءة.
شعرية القول بهذا المعنى، لا تريد أن تفضي لك بشيء. إنها فقط تريد أن تكون، أن تنتمي إلى الكينونة، أن تكون شكلا من أشكال الحضور . أن تكون الحضور ذاته، أن توحي ، وتوهم بأنها حضور. وبالتالي أن تطرد جيشًا عرمرمًا من الشعراء كي يتراجعوا إلى خِربهم. إنها تقصيهم من فضاء القول والتخييل. باعتبارها تعيينا وتصنيفا لشكل محدّد من أشكال كتابة الاسم. هي تجاهل متعمَّدٌ له، كي يظلّ كامنًا في محتمل المعلوم.
ضمن هذه الرؤية النظرية، يمكن الاستئناس بإضاءات غير قليل من الرموز التراثية، المكرسة في ذاكرة الشعرية العربية. وهي إضاءات تجعلنا أكثر قربا من هوية الشاعر المختلف، المؤهل أكثر من غيره للاقتراب من تخوم اللامتناهي.
يقول “ابن منظور”(( 1232 /1311 م))صاحب لسان للعرب،ابن رشيق على سبيل المثال لا الحصر عن الشاعر الذي يعنينا في هذا السياق، إنه سمي كذلك ” لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره”، ودلالة الشعور هنا، تفيد عند ابن منظور ” العلم ” كما تفيد “الفطنة “، عبر آلية اشتعال “المخيلة “.
ابن رشيق(( 999/1063م )) هو أيضا، يقول بنفس التعريف. بمعنى أن طريق الشعر هي من بين أهم طرق التعرُّف، لكن على عوالم لا تستطيع الطرق الأخرى الإحاطة بها، ومن ضمنها عالم اللامتناهي.
الشعر هنا يفيد، يكشف، يعلم، ويعرف، بمنهاجيته الخاصة به.
وحينما يركّز التعريف على خاصيّة ” ما لا يشعر به غيره”،فإنه ضمنيا يحيل على “ما لا علم له به” و “ما لا يراه’ حيث يتمّ تحديدا الخروج من فضاءات المتناهي إلى فضاءات اللامتناهي ،وبالتالي الخروج من دائرة الوعي البسيط و التقليدي، الموجه بالقيم الجاهزة سلفا، مع التأكيد في نفس الوقت،على استحالة وضع توصيف دقيق للمنهجية التي يوظفها الشعر في تجاوزه للدوائر الدلالية المتداولة والمشتركة. وإذا ما حولنا الاستئناس ، بالرؤية الفلسفية والصوفية للموضوع، فإننا سنجد في الأنساق النظرية لدى كل من ابن سينا والفارابي وابن عربي (( مرحلة بين القرن العاشر والثالث عشر الميلادي))، أبلغ تعبير عن خصوصية الشعري في علاقته باللامتناهي ، حيث تحتلّ المخيلة مكانة جدّ هامة في مدارات الحوار القائم بينهما. ومن المؤكد أن احتفاءهم بسلطة المخيلة على حساب المعطيات الواقعية، وأيضا على حساب الحجاج والبرهنة العقلانية، يفتح الباب على مصراعيه أمام شكل جديد من أشكال تمثل الذات لأسئلة الوجود. لعل أهمَّ سماته أولا، الخروج من معادلة الصدق والكذب. وثانيا رفع حاجز الواقع ،من أجل المرور إلى ما لم يكن من قبل حاضرا في ذاكرة الرؤية والسمع. وثالثا تكييف الطاقات الذاتية كي تتحرّر بشكل تام من إكراهات الواقع، من أجل أن تمارس حقها في تمثُّل ما يشير الحدس إليه.
وبالنظر إلى الطاقة اللامتناهية التي تتمتع بها المخيلة ، ومعها ملكة التخييل،في الخلق والإبداع فإنها حتما ستقود القولَ، الشكلَ أو الحركةَ، إلى أقصى تخوم اللامتناهي. وهي التخوم التي ينتفي إزاءها احتمال أي تصور نهائي لصورة ثابتة تحيل على ذلك الشكل أو هذا المعنى. ويظل صوت ابن عربي الأكثر تقدما في هذا الإطار، من خلال اعتباره للتخييل برزخًا يصل بين المرئي و اللامرئي. حيث يتحقق ذلك عبر تنشيطه للعبة التأويل و الإشارة ، استنادا على ما تفتحه بنياته المجازية والاستعارية، من مسالك جديدة في مجال القول ، الشيء الذي يساهم في مضاعفة قوته البرهانية، لتتجاوز تلك المنتمية إلى العقل.
والمؤكد أن القراءة المتأملة والمتفحصة لهذا الإرث المعرفي ، سوف تدعونا لتعميم غير قليل من خلاصاته على أهم ما أنتجته العصور الحديثة من تيارات شعرية وفنية، و خاصة منها (( الرومانسية 1770 م)) التي كان لها الفضل في تكسير السكونية الكلاسيكية (( 1660/ 1715 م ))بإعلائها من شأن الخيال. ذلك أن نهاية مرحلة الانعكاس ، تعني الشروع في الاقتراب من التجارب الحقيقية ،المؤشرة على بداية مشروع التورط في تجربة اللامتناهي ،حيث سنجد أنفسنا في قلب التجربة الرمزية (( القرن التاسع عشر الميلادي))،وهي إن شئنا القولَ، مدرسةٌ،تتعامل مع الظواهر بوصفها رموزا، يمكن من خلال فهمِها التعرُّفُ على بعض الحقائق التي لا يمكن أن تمدّنا بها الظواهر في ذاتها.
إن التعامل مع الظواهر في ذاتها، و خارج دلالتها الرمزية ،سيفضي إلى حقائق مغلوطة،. إن المرئيات و المحسوسات كلها إشارات، تتطلب منا نوعًا من التفكيك. النظر إليها و الإنصات إليها بصيغة مغايرة ومختلفة، من أجل استكناه ما تريد أن تبوح لنا به.
ثمة تكتُّمٌ يسودُ حقائق الأشياء
بهذا المعنى، تحيل الرمزية على المجهول. لأنها في حد ذاتها تجربة البحث عنه، باعتباره غير معطى. وما يكون غير معطى ، لا ينتمي بالضرورة إلى لغة المعلوم. أي لغة الواقع المتعارف عليه ، إنه ينتمي إلى لغة مطلسمة تستند الى الترميز. إذ لا يمكن توصيف عالم هو في الواقع غير مرئي، بلغة تحيل دلالتها المعجمية على المرئي. علما بأن المعجم، هو أيضا،لا يعدو أن يكون مجرد رمز لشيء آخر . وهو ما يجعل من الواقع جماع بنيات رمزية، يتواجد فيه الكائن كما لو أنه داخل غابة من الرموز.
وإذا كانت الكلاسيكية تنهض على مقومات العقل، والرومانسية على فورة العواطف والانفعالات، فإن الرمزية تستند في توصيل خطابها على الإيحاء. لذلك هي معرفةٌ وخبرةٌ مثقلةٌ بأسرارها المستمدة من عمق الأساطير، ومجازات الأحلام. فعلى ضوء هذه الحقائق، اهتدى الشاعر بودلير من خلال جمالية تراسل الحواس، إلى منهجية إعادة بناء الظواهر، بوصفها رموزا تحيل على المتخفي الذي يتماهى بشكل أو بآخر مع أفق اللامتناهي.
وشأن الشاعر الإنجليزي كالردج((1772/ 1834))، الذي نظَر إلى الخيال بوصفه جالبا للصور، شحن بودلير ((1821/ 1867)) الخيال بدينامية استثنائية، معتبرا إياه “العقل المتحرر من موضوعاته”، وهو تعبير جدّ دال، حيث يوحي مبدأ التحرر، بإمكانية تخلي العقل عن كل تعاقداته الفكرية والنظرية المرتبطة بالأنساق العملية، كي يشتغل أيضا على كل ما يقع خارج هذا الإطار. بمعنى أن العقل بالمنظور الرمزي، قابل لأن ينقلب على ذاته، حالما يستدعي الخيال ذلك. حيث يتعلق الأمر بعملية تدبيرية مختلفة لعلاقة الذات بما يتواجد خارج دائرة معلومها.
أما بالنسبة للمسار الذي اختاره للشاعر أرتور رامبو (( 1854/1891)) كوجهة للرؤية والرؤيا ، فيتمثل في قوله بجدوى ” تشويش الحواس” وبلبلتها بدل فكرة تراسل الحواس التي نادى بها بودلير. فعبر هذا التشويش فقط ، يمكن التوصل إلى ” الجوهر البدائي ” للإنسان. وكما هو ملاحظ، ثمة ميل لدى هذه الرموز الشعرية، بالتنكر للمنجز العقلي الذي دأبت الفلسفة التنويرية على الإعلاء من شأنه،كأداة عملية من أدوات الارتقاء و التقدم الحضاري.
إن فقدان الثقة بسلطة العقل، هو ما ساهم في بلورة أطروحات فنيىة وإبداعية جديدة مناهضة له، حيث رأت فيه رادعا لحرية المخيلة ، المؤهلة لاستشراف عوام جديدة لا قِبل للعقل بها. وليس تركيز رامبو على الجوهر البدائي عند الإنسان في حد ذاته، سوى الاقتناع بالدعوة إلى إيقاظ الطاقات البشرية الخام، التي كان الكائن يهتدي بها قديما في استشراف حقائق الكون السرية والغامضة، قبل أن يتمكن العقل من احتوائها وإجهاضها.
يقول في رسالة الرائي: “كان الناس يجمعون بعض ثمار الدماغ هذه. فانطلاقا منها يعملون، ومنها يؤلفون كتبا.أما المؤلف المبدع الشاعر. لم يوجد قط”. فرسالة رامبو تتلخص في حتمية ظهور الشاعر الرائي، الشيء الذي لن يتحقق إلا عبر إحداث اختلال كبير على كل الحواس، واستنفاد كل السموم، حيث لا يحتفظ بأي شيء آخر عدا الجوهر.
ودائما في سياق الاحتفاء بسلطة الخيال، لدى الشعريات التوّاقة إلى الانعتاق من “عقلانية ” المتناهي ، سيكون من الطبيعي استحضار الشاعر ستيفان مالارميه(( 1842/ 1898)). الذي اعتبر الخيال جدَّ متسلط، بالنظر لتحرره التام من كافة الالتزامات والتعاقدات العملية. لذلك، فإنه من جهتنا يصبح مريبا ” بالمفهوم الإيجابي للكلمة “، بفعل ما يُحتمل أن يحدثه من انقلابات في علاقة الكائن بمتخيله.
إن الخيال بهذا المعنى، يحل محلّ صورة الواقع،كي يمدنا بإمكانية معايشة واقع آخر لا علاقة له بالواقع. هذا الاحتمال، يفتح الباب على مصراعيه لمتتاليات فوق واقعية مغايرة لا حصر لها. وذلك بالنظر للخصوصية الذاتية، التي تتميز بها كل تجربة تخييلية على حدة. هذه الإمكانية، تفتح المجال إلى ما لا نهاية لتوالد مستويات جد متعددة من مستويات اللامتوقع واللامنتظر، واللامتناهي.
إن المتخيل في هذا الإطار، ليس مجرّد أداة لإنتاج متعة عابرة، بقدر ما هو زمنُ حياةٍ مختلفة، موجهة باختياراتها وبأسئلتها. ضمن هذا التصور لا يظل التساؤل والبحث خاصا بالواقع المقيد بحيثياته الزمانية و المكانية ، بل يتجاوز ذلك إلى مستوى متخيل يتضمن أسراره الكبيرة والأساسية، ومن ضمنها أسرار الوجود .
هنا تحديدا، يتم نقل الحضور من عالم المعقول إلى عالم المتخيل، حيث يتسلم الشعر زمام المبادرة، ويصبح المجال الفعلي لتبلور مفهوم الكينونة. وكما هو معلوم فإن أهم الحركات الإبداعية والفنية التي ظهرت بين الحربين، تدين في إشعاعها، لمبدأ التخلص من سلطة العقل، ولنا في صرخة ترستان تزارا،خير دليل على ذلك حينما قال ” لا قيمة للعقل مادام قد عجز عن إيقاف الحرب “. نفس الشيء بالنسبة لبيانات السريالية التي اتخذت من ” أناشيد مارلدورو” للشاعر لوتريامون (( /1846 /1870م))، دليلا لها في استبدالها سلطة العقل بسلطة الحلم. و لعل التتويج المعلن لهذه السيرورة،هو ما عبرت عنه البرناسية، في تأكيدها على أن الحياة هي في الواقع “تقليد للفن ” نكاية في المقولة السائدة التي تمنح الأولوية للحياة. وهو ما يؤدي إلى قلب أطروحة المحاكاة رأسا على عقب.
وبالنسبة لنا،فإن شعرية تفقًّدِ فضاءات اللآمتناهي، تتواجد في جماع ما تقترحه هذه المدارس من استشرافات، بما يشوبها من تناقضات وتعارضات، كما أن استراتيجيته الخفية و المضمرة ، تكمن في الإحاطة النوعية بالكل شيء. أي بآحلال الجزئي في الكلي والعكس بالعكس. في الظاهر كما في الباطن، في المادي، كما في المجرد. في المحسوسات كما في المعقولات. بمعنى أن خصوصيته تتعدّد وتتنوع بتعدّد وتنوع السياق الذي يوجد فيه،حيث يتعايش هومير، سقراط، وأفلاطون، شوبنهاور ونتشه، ابن منظور والجرجاني، علقمة الفحل و ابن عربي هولدرلين ومالك بن الريب.
من هنا تكمن جمالية وقوة الكتابة عن اللامتناهي، وفيه. إنها الاحتفاء بالظواهر التي يتخفى فيها المطلق. هي الاكتشاف البدئي لما وراء الاسم. وقوع العين على اللُّقْيةِ..توحد الموت والميلاد في دم للكائن. الإحساس بالحضور الكبير الرمزي والعاشق، في قلب الغياب الكبير.
أيضا،إن الكتابة باللامتناهي لا تعني بالضرورة التقيد بالإشكاليات الفلسفية الكبرى، بقدر ما تعني القدرة على التناول الشعري العميق ، الذي يمتلك قدرا عاليا من الجمالية. والاختلاف والمغايرة ، و الإدهاش. إنه القدرة على انتزاع المتلقي من زمنه من الرتابة ،من النمطية، من المألوف،كي يشعر بأنه بصدد معايشة تجربة استثنائية، واكتشاف إمكانية جديدة من إمكانيات الرؤية.
أيضا بالنسبة لمنهجية القول أو الكتابة ، ليست هناك كتابة معينة مهيأة أكثر من غيرها لاستحضار المطلق بما هو لامتناه. ذلك أن المطلق.يمكن أن يتحقق من خلال توريط مختلف أنواع الكتابات، بصرف النظر عن توجهها النظري. فدائما ثمة ما لم يُستنفَدُ بعْدُ في كل قول مدرسة أو تيار. ودائما ثمة وظيفة مؤجلة تتحين فرصة انبلاج شمسها.
حتى الخطأ الذي لا يكون بالضرورة مبيتا،هو أيضا يمكن أن يفضي إلى تلك المقامات، لكن شريطة أن يكون خطأ حقيقيا، أي مبطنا بصدفة الإعجاز.
اللامتناهي وجدلية القرب والبعد
ثم إن التفكير إبداعيا في اللامتناهي يجعلك قريبا منه، والقرب هنا ليس بالمفهوم المادي للكلمة. إنه قرب من حيث الاشتياق والرغبة والولع. التفكير في الموجود بموجوداته يجردها من لِحائها ومن تناهيها، لكي يضعها مباشرة في عقل الموجود ،و ليس في ما يحيل عليه العقل. حدثَ ذلك في العهود السحيقة حينما رفع أخناتون(( وفيات 1335 ق م)) عقيرته بالنشيد، مردّدا ترنيمته العظمى.
أنت قريب وبعيد
أنت تجعل ملايين الصور من ذاتك وحدك
ألا فلتعش ولتزدهر إلى الأبد أبدا
حدث ذلك أيضا في العهود السحيقة مع جلجامش ((القرن السادس والعشرين ق م ))، الكائن المتناهي واللامتناهي في آن ، والذي كابد بفعل انتمائه إلى سلالة أمه الآلهة، رعبَ مفارقةِ الحَّدين، حيث لم يستعيد سكينته و كماله، إلا من خلال تقوية أواصر علاقته بأنكيدو، الذي يجسد النموذج و الإيجابي للمتناهي البناء. و بالتالي يمكن القول، إن جلجامش، هو التجسيد الفعلي لرُهاب الكائن تجاه قضاء المتناهي، و تحديدا غِبَّ حالة اليأس من استعادته لنبتة الخلود.
لكني أرفض الموت
أبحث عن حياة غير هذي الحياة
مرساي في سعادة غيري
ومرفئي في الخلود الأبدي
حيث لا بديل له سوى السعي إلى تأسيس لامتناهٍ ذي طبيعة بشرية خالصة ،من خلال الاحتفاء بأبهى وجه من وجوه اللامتناهي، وهو العدل. ثمة فقط يمكن الفوز بحظوة الخلود آخر يستمد شرعيته من قلب المتناهي.
تحضرنا في السياق ذاته، شخصية كلٍّ من “أسال “و “سلامان”، في تجربة حي بن يقظان((ابن طفيل 1105/ م1185)) التي هي الترجمة الفعلية لمسار الخروج من زمن المتناهي.. زمن الجسد العلة والمعلول الشائع لدى العامة إلى زمن اللامتناهي، زمن الروح الذي هو وقف على النخب ، وفيه يتم التخلص من المادة للوصول إلى السعادة القصوى عبر الارتقاء بالوعي إلى أفق الكليات. والمقولات. وهو بامتياز زمن الاتحاد مع اللامتناهي. وبالنظر إلى كون التوجه السائد، يعني أساسا بما ينمحي ولايدوم، فسيكون من الطبيعي، أن يعود كل من “أسال” و”حي” من جديد إلى الجديرة، بعد يأسهم من سطحية الناس وتهافتهم على الظاهر دون الباطن، وعلى المتناهي بدل اللامتناهي،
أما بالنسبة لنا، فليس لنا سوى الإمعان في تقصي مصادر النشيد، الممهورة بالدم والغبطة، في انتظار أن تلوح طلعة نصوصهم أمام عين الرائي، أعني الحلاج، السهروردي والبسطامي، يتوسطهم ريلكه ، هيلدرلين، وهيدغر، وآخرون من أصفياء شعرية الغواية وشعرية اللامتناهي.