حريتي أن أكتب
هو حبيبي القلم
وحده يعرف من أين ألج لجته
من أين يلتهم عواصفي
ومن أين يطلق عصافير روحي حين أبدأ الرقص
مأزق الكتابة مأزق الحرية، ولهذا فهي ليست مأزقي وحدى وإنما مأزق كل الكاتبات والكتاب المهمومين بقضايا الحرية، لذا لا تنفصل تجربتي عن تجارب الكتاب، خاصة الكاتبات في السودان، ولا تنفصل عن تجربة (المهجر) في العاصمة النمساوية فيينا حيث أعيش منذ العام 1993.
لست بمنأى، خاصة في بداياتي، عن مأزق التخويف في أن تنكمش الكاتبة ولا تكتب وليس مهماً أن تكون الكتابة مشروع حياتها وإسهامها الفعّال في الحياة.
عصا الترهيب التي قد تتسبب في إيقاف بعض النساء عن الكتابة والرقابة المجتمعية التي تبدأ من البيت وتنتهي برأس الدولة وعلى رحاها تدور الكاتبة فى محاولة للخروج من هذا المأزق؛ وأخطر أنواع الرقابة هي الرقابة الذاتية.
في بداياتي كنت دائما في صراع ما بيني وبيني، هل أكتب (في غفلة رقيبي)؟ وهل تغفو (رقابة الذات)؟ ولا يفج الطريق نحو أنفاق الذات سوى تمارين العافية اليومية بالقراءة، القراءة حبوب لقاح الكتابة. لقد تصالحت مع هذا (الرقيب) الذاتي بألا يجعلني أحس بأني في حالة فصام، تمارين يومية صاحبت تجربتي إلى أن وصلت لقناعة راسخة بأن الكتابة هي حريتي الخاصة، وأن ثمة علاقة بين الكتابة والرقص، بين القراءة ونشوة الروح وانطلاق الجسد. القراءة هي أس الوعي التي تنعكس على الكتابة. مشروع ينعكس على سلوكنا اليومي، يشذبه ويزرع المزيد من بذور الوعي. إذن الكتابة هي إسهامنا الحقيقي فى رحلة الوعي والاستنارة.
حريتي هي أن أكتب دون رقيب يقف بيني وبيني، عرفت بوعي كامل أن تناولي للمسكوت عنه في تابوهات الجسد سيجلب لي الكثير من المتاعب وألا سلاح لي سوى ما كسبته من معارف وقدرة على التحليل العلمي والموضوعي ما استطعت إلى ذلك سبيلا. هذه الآمال ليست لي وحدي.. إنها لأجل بنات قادمات يجدن في الكتابة متنفسا ومشروع حياة. لأجل كلمة وموقف واضح من التحرش والعنف اللفظى. كل ما عايشته سوى بسبب مواقفي الفكرية أو كتاباتي التي يراها البعض فالته عن السائد والمألوف؛ كل هذا يحفزني ألف مرة لأجد منهجا واطارا نظريا لتحليل هذه العقليات التي تقفز من كتاباتي إلى شخصي، وهذا مثال لأن هناك من يفعل مع نساء أخريات أكثر من هذا في محاولة إخراسهن ولكن هيهات.
في كتاباتي الأدبية أو الفكرية أحاول سبر أغوار العوامل المجتمعية التي تعمل علي تنميط الكاتبات خاصة، فالتي تكتب عن الحب، الخيبات، العذابات فهي لا شك تعني نفسها؟ بل ينعكس مجمل نشاطها الفكري والوجداني عليها وتنميطها. كل التجارب التي مضت بدءا من أول روائية كتبت في المنطقة العربية ومن حسن الحظ أنها السودانية ملكة الدار محمد وروايتها (الفراغ العريض)، التي كتبتها في الخمسينيات ولم تنشر إلا في السبعينات، ويمكنني بقراءة الواقع الذي كتبت فيه ملكة الدار الرواية أن أقول إن التقاليد والمجتمع كان يربطان بخناقهما على النساء، وهي مرحلة ارتبطت بانطلاق الحركات الوطنية النسائية.
ما يعيق الكتابة، إضافة إلى الرقابة الذاتية، أن هناك رقابة المجتمع المتمثلة في التقاليد وفي ما تم صكه من قوانين؛ وما قانون المصنفات في السودان ودوره في حجب عدد من الأعمال الأدبية إلا دليل على ربط الأدب بالسلطات. وهذا القانون يشمل الكاتبات والكتاب ولا ينفصل عن القوانين المجحفة في حق الإنسان في التعبير ولا عن النضال لأجل الخبز والحرية.
تجربتي في النمسا ككاتبة لا تنفصل عن مراحلي الأولى في الكتابة في السودان، بل هي امتداد لتلك التجارب. النمسا بحكم ما تتمتع به من حرية مكفولة بالقانون تتعامل مع الأدب والفنون باعتبارهما ركيزة من ركائز التنمية البشرية، بل وفرت كل ما يتيح للأدب وكل أشكال الفنون من الانطلاق والإسهام في بناء المجتمع. ولا تنفصل كذلك عن تجربة (أدب المهجر) في النمسا. لقد كان لي شرف المبادرة بتكوين منظمة (مدى للنساء المبدعات من الجيلين الأول والثاني من المهاجرات)، وليس آخرها المبادرة بتكوين (لجنة كتاب المهجر) بمنظمة القلم النمساوي التي تحاول عكس صور مغايرة عن انسان دول الجنوب من خلال العضوية التي اكسبت اللجنة عالميتها. الدعم المعنوي والمادي الذي تلقيته من مجلس الوزراء النمساوي، القسم الخاص بالفنون وحكومة فيينا القسم الخاص بالأدب دفع بمسيرتي خاصة بعد أن أصدرت ديواني الشعري الأول (ومع ذلك أغني)؛ الذي ميزه مجلس الوزراء ضمن الخمسة عشرة كتابا التي كانت أفضل مانشر في عام 2003. هنا تتم قراءة النصوص من ناحية فنية من قبل كتاب في حالة الرغبة في الحصول على المنحة.
المشاركة في دوارت الكتابة الإبداعية باللغة الألمانية التي يكون حصادها أنطولوجيا تجمع كل النصوص التي قرأناها وتحاورنا حولها بأفق منفتح. أحرص منذ عام 2010 على المشاركة في هذه الدورات على الأقل أربعة فصول دراسية؛ وفكرتها أشبه بورشة عمل تتم فيه قراءة ما كتبنا والحوار حوله، والعمل لا تقوم فكرته على اللغة وضبطها نحوياً، بل مناقشة أساس الفكرة. بروفيسور ايفا اشيمت التي تدير هذه الدورات منذ عشرة أعوام من أكثر النمساويات وعيا وكثيرا ما تتفق في رؤانا الفكرية والسياسية. ايفا التي عايشت كطفلة التهجير مع أسرتها اليهودية عرفت كيف تمضي نحو الإنسانية بقلب يسع العالم.
عبر هذه الدورات عرفت من انتون ماركو الكثير عن ألبانيا وعن ما يحدث في تلك المنطقة، عرفت رومانيا وحضاراتها، والبرازيل وشجون قهوتها حين تصنعها أسرة فريندناس، عن الدانوب وألسنة العالم عبر النمساوية هيلغا نيوماير صديقتي الإنسانة التي أكدت لي منذ عرفتها أن الإنسان صاحب النفس السوية يظل إنسانا.
آنا التي عاشت سنوات طويلة في رفقة زوجها الأفريقي عكست كتاباتها نظرة المجتمع النمساوي للأفارقة بكل إيجابياتها وسلبياتها.
النصوص التي نقرأها قادتني إلى مسألة الهوية الإبداعية وهل بالإمكان أن تلعب هويتنا الإبداعية دورا فى بناء الجسور بين شعوب الأرض؟ الحوارات تقرب وجهات النظر وكوني الوحيدة من المنطقة الأفريقية والعربية في هذه الدورات فكثيرا ما يمتد النقاش إلى زمن يتجاوز الوقت المحدد؛ خاصة أن هذه الدورات تبدأ بعد السادسة مساءً، حوارات أضاءت أغوارا بعيدة في وعينا، وأذكر أن زميلة من شرق أوروبا تمنت لو أقرأ مرة نصا من غير أن تحس فيه تلك الروح الكفاحية. وطرحت السؤال حول الأرضية التي ننطلق منها حين نكتب؟ وهل فكرة الكتابة نفسها تسقط فجأة من السماء؟ الجدير ذكره أن فكرة هذه الورش المتعلقة بالكتابة الإبداعية بدأت فى السبعينيات من القرن الماضى وهي ثقافة متعارف عليها فى كثير من دول أوربا… هذه التجارب تثمر كل يوم وتتفتح فى الوعى البعيد بسؤال الإنسان.
أكثر ما يُدهشني حين يتم تجسيد مسرحي لنص من نصوصي ليس الكيفية التي تم بها التجسيد بل فيما يثيره العمل الإبداعي ككل من أسئلة وحوارات عميقة، سواء بالصوت أو المسرح أو الموسيقى أو الشعر أو التشكيل المصاحب لكل ذلك. كل مرة أتيقن أن هويتنا الإنسانية يمكن أن تتخلق على يد الأدب والفنون هوية تعترف بالإنسان كإنسان وتتجاوز عقدة اللون والأصل والدين والنوع… إلخ.
كل هذا النشاط المجتمعي نتج عنه كم من الجوائز والحوافز وهي في الحقيقة ليست سوى اعتراف بعوالمنا التي انتمي لها، واختياري كممثلة للأدب العربي من قبل القلم، المركز العالمي بالنمسا الخاص بالأدب والحريات لهو اعتراف آخر ومسؤولية كبرى. أول عمل بادرت به ونفذته هو مهرجان (سيمفونية الربع الخالي الأدبي) الذي شارك فيه كاتبات وكتاب من سلطنة عمان والإمارات، وتم تدشين نصوصهم التي قمت بترجمتها للألمانية مع الكاتب النمساوي يورغن اشتراسر، وكان لهذا العمل دور كبير في تغيير الصور النمطية وما يزال الحوار يمضي في طريق الانفتاح على عوالم أخرى بهدف التشبيك والتجسير، فالأدب بمقدوره تغيير الكثير.
الانخراط في منظومات المجتمع المدني المرتبطة بالأدب والفنون أتاحت لي أن أكون عضوة باتحاد الكتاب النمساويين واتحاد المترجمات والمترجمين النمساويين.
الكتابة عندي هي فعل محبة، المحبة الحقيقية مع الذات حين تغمرها الفيوضات فلا يبقى في تلك اللحظة سواها، جميلة ومتسقة وحنونة ومجنونة فى سلام.